15‏/03‏/2024

ليتني التقيت بالشركسيات في الأندلس

 

ليتني التقيت بالشركسيات في الأندلس

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

....................

    طَيْفُ خُدُودِ الشَّركسياتِ يَتَشَظَّى بَيْنَ الغُيُومِ الوَرْدِيَّةِ وَشَاهِدِ قَبْرِي/وَبَرِيقُ عُيُونِهِنَّ يُنِيرُ طَرِيقي في لَيالي الشِّتاءِ نَحْوَ البَحْرِ الأخيرِ / مَناديلُ الوَدَاعِ تَحْتَ بَسَاطِيرِ الجُنودِ الخاسِرِينَ بَيْنَ أعلامِ القَبائلِ وَأُمَرَاءِ الحُروبِ / رَحَلْنَا إلى رِمَالِ البَحْرِ / وَبَقِيَ وَشْمُ غَاباتِ القُوقازِ عَلى عِظَامِنَا في أزِقَّةِ قُرْطُبَة /

     عِندَما تَصْطَدِمُ قَطَرَاتُ المَطَرِ بِكُحْلِ الشَّركسياتِ/ أهْرُبُ مِن أشِعَّةِ القَمَرِ في لَيْلِ الخريفِ / وَأُهَرِّبُ أشلائي في شَاحِنَاتِ الغُروبِ / وأركضُ في غَاباتِ دَمِي المُضِيئةِ / فَاعْشَقْ بُحَيْرَةَ المساءِ أيُّها السَّرابُ / حِينَ تَصِيرُ أمواجُ البَحْرِ أكْيَاسًا بلاستيكيةً للجُثَثِ مَجهولةِ الهُوِيَّة /

     أحلامُ الطفولةِ دَافِئةٌ كَفِرَاشِ المَوْتِ / والبَدْوُ الرُّحَّلُ يُوَزِّعُونَ الدِّيمُقراطيةَ كالبَطاطا المَقْلِيَّةِ بَيْنَ فِرَاشِ الزَّوجيةِ وَفِرَاشِ المَوْتِ / وَالقَرَاصِنَةُ يَكْتُبُونَ دُستورَ الوَحْدةِ الوَطنيةِ / وَيَنْتَظِرُونَ الإعصارَ /

     مُنذُ وِلادتي / أحْمِلُ جِيناتِ حَبْلِ المِشنقةِ في عِظامي / وَلَدَتْني رِمَالُ الشُّطآنِ البَعِيدَةِ / وَقَتَلَنِي طَيْفُ الغريباتِ في غَاباتِ الدَّمِ والحِبْرِ / فَيَا أيُّها الوَطَنُ المُرَصَّعُ بِجَدَائِلِ الأراملِ / والتَّائِهُ بَيْنَ كِلابِ الصَّيْدِ وَكِلابِ الحِرَاسَةِ / إنَّ شَوَارِعَ الطاعونِ مُعَبَّدَةٌ بأحلامِ القَتْلَى وَطُفُولَةِ البَنَاتِ /

     أنا البَائِعُ المُتَجَوِّلُ في مُدُنِ الخِيانةِ / أبيعُ عِظَامَ النَّوَارِسَ للبَحْرِ القَتِيلِ / كَي أدْفَعَ الرَّاتِبَ التَّقَاعُدِيَّ لِحَفَّارِ قَبري / وَيَنْشُرُ الأمواتُ الغسيلَ عَلى سُورِ المقبرةِ / وَتُعَلِّقُ اليَتِيمَاتُ حَبْلَ الغسيلِ بَيْنَ شَوَاهِدِ القُبورِ وأشجارِ المقبرةِ / وَالمَوْجُ الحزينُ يَبِيعُ هَيْكَلَهُ العَظْمِيَّ في أزِقَّةِ المِيناءِ المهجورِ /

     عِظَامِي بُرتقالةٌ للخناجرِ المسمومةِ / وقَلبي تُفاحةٌ للسَّكاكينِ المُعَقَّمَةِ بِذِكْرَياتِ الوَدَاعِ / التي تَنْكَسِرُ بَيْنَ أرصفةِ الموانئِ وَمَحطاتِ القِطَاراتِ/فَاحْفَظْ جَدْوَلَ الضَّرْبِ كَي تَحْسُبَ عَدَدَ الضَّحايا/ إنَّ أسنانَ القَتلى تَلْمَعُ لِتُضِيءَ أزِقَّةَ المَرْفَأ أمامَ فِئرانِ السَّفينةِ /

     بَعْدَ الشَّركسياتِ / صَارَ جَسَدي تَابُوتًا مِن خَشَبِ المطابخِ في البُيُوتِ المهجورةِ/ وأنا الحُزْنُ الرَّاكِضُ في أدغالِ الذاكرةِ / أنتظرُ شَركسيةً تُخَزِّنُ ذِكْرَياتي في رِئَتِهَا / كَي أصِيرَ نَهْرًا مِن فَضَّةٍ / أنتظرُ شَركسيةً تُحَنِّطُ قَلْبي في قَلْبِهَا / كَي أصِيرَ شَاطِئًا مِن يَاقُوت / بَعْدَ الشَّركسياتِ / صِرْتُ شَبَحًا على زُجاج القِطَارَاتِ البَعيدةِ / بَعْدَ الشَّركسياتِ / صِرْتُ جُثةً هَامِدَةً مَنْسِيَّةً عَلى رَصِيفِ المِيناءِ / وَمَا زِلْتُ أنتظرُ شَركسيةً تَدْفِنُني في قَلْبِها كَي أعُودَ إلى الحياةِ / وأظَلَّ حَيًّا إلى الأبَدِ /

     آنَ لأجنحةِ الصَّقْرِ أن تَنْكَسِرَ في مُدُنِ الخِيانةِ / وأنا المُهَاجِرُ مِن دَمِي إلى دَمِي / أعيشُ مُرَاهَقَتِي المُتَأخِّرَةَ في ثَلاجةِ المَوْتَى / وَأُمِّي تُخَبِّئُ عِظَامي في ثَلاجةِ المَطْبَخِ في مَوْسِمِ الجُوعِ .