العقائد الدينية في شعر المعلقات / الجزء الأول
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
..................................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
..................................
إن العقيدة الدينية حاضرة في شِعر
المعلَّقات على الرغم مِن كَوْن أصحابها وثنيين . وقد وَصلتهم الكثير من العقائد
الدينية ، لكنهم خَلطوها بالشِّرك ، ولم يتمكنوا من جعلها صافيةً . وينبغي ألا
ننسى أن العرب مِن ذُرية إسماعيل بن إبراهيم _ عليهما الصلاة والسلام _ ، وهما
نَبِيَّان كريمان قاما بأداء دورهما في إيصال الرسالة الإلهية إلى الناس . كما أن
العرب عاشوا في بيئة يتواجد فيها اليهود والنصارى . وهذا يعني أن بَعْضاً من
تعاليم موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ قد وَصلتهم . ومن الطبيعي أن يتأثر
الجو العربي بعقائد أهل الكتاب .
ومن المؤسف أن طول المدة الزمنية بين الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام _
وبين عرب الجاهلية قد أدى إلى حدوث تلاعب كبير بالعقائد الدينية في البيئة العربية
ومزجها بالأصنام والأفكار الشِّركية دون وجود بصيص أملٍ ، أو ظهور ضوء في آخر
النفق . ولا يَخفى أننا نتحدث عن الفترة الزمنية السابقة لظهور النبي محمد_عليه
الصلاة والسلام_،حيث كانت الجزيرة العربية غارقة في الظلام العَقَدي.
وعلى الرغم من كَوْن
عقائد شعراء المعلَّقات_بشكل عام_ مضطربة ومشوَّشة، ويَختلط فيها الحقُّ بالباطل ،
إلا أنها متفقة على الإيمان بوجود الله تعالى وتعظيمه ، وتعظيم الكعبة التي
تُعتبَر القِبلة المقدَّسة ، ومركز الوجود الديني في الجزيرة العربية . وقد كان عربُ الجاهلية لا
يبنون بنياناً مُربَّعاً ، ويَعتبرون ذلك خطاً أحمر ، وذلك تعظيماً للكعبة ، لكي
تظل متفردة ومميَّزة عن باقي الطُّرز المعمارية .
وهذا الفصلُ سيتناول عقيدةَ شعراء
المعلَّقات الظاهرة في أشعارهم . ولا يَخفى أن أساس كل عقيدة دِينية هي وجود الله
تعالى . كما أن هذا الفصل سيتطرق إلى كشف الظروف الاجتماعية والأبعاد النفسية ذات
الارتباط الوثيق بالعقيدة والقيم الدينية .
1_ العقيدة في الله :
لم يكن شعراءُ المعلَّقات مجموعةً من البدو العائشين في الصحراء بلا تاريخ.
ولم يكونوا أشخاصاً عاديين محصورين في نظام استهلاكي شهواني . بل كانوا فلاسفة
تَشغلهم الأسئلةُ الكبرى حَوْل الإنسان والجماعة والحياة والموت والوجود والمصنوع
والصانع . وكانوا أصحابَ تأملاتٍ حقيقية في هذه الحياة الدنيا ، وهذا لا يتعارض مع
كَوْنهم أبناء بيئتهم الصحراوية البدائية ، وإفرازاتها المادية الفجَّة .
والشاعرُ الجاهليُّ متعلِّقٌ بالأسباب
الدنيوية ، وغارقٌ في العلائق المعيشية في واقعه اليومي المحسوس. وعندما تُغلَق
الأبوابُ في وجهه، فإنه يتذكر خالقَ الأسباب، ويتعلق بالقوة الإلهية المحرِّكة
للعلاقات الدنيوية. وهذا دَيْدن غالبية الناس في كل العصور .
وإننا لنجد الشاعر طَرَفة بن العبد يعيش
حياته بالطُّول والعَرْض دون حساب . وعندما يغرق إلى شحمة أذنيه في مشكلاته
الشخصية ، وأزماته الاجتماعية والاقتصادية ، فإنه يتذكر قدرةَ رَبِّه اللامحدودة ،
فيقول :
فلوْ شاءَ رَبِّي كُنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن مَرْثَدِ
فحينما اشتد عليه الخِناقُ ، وضاقت عليه الأرضُ بما رَحُبت ، ووَجد نَفْسه
عاجزاً أمام ضغوطات الحياة اليومية ، أخذَ يفكِّر في قُدرة الله تعالى ، ويَبني
عقيدته وفق المشيئة الإلهية . فهو يقول إن الله لو شاءَ لجعله قيس بن خالد أو عمرو
بن مرثد . وهذان رَجلان من سادات العرب في الجاهلية، مشهوران بكثرة الأموال ،
وذكاءِ الأولاد ، وشرفِ النَّسَب ، وعِظَم الحسَب .
لقد أدركَ طَرَفة حجمَ
المأزق الذي يَغرق فيه، فلم يَعترف بتقصيره، أو بأخطائه، أو سوءِ تصرفه الذي أورده
المهالك . بل هربَ إلى الأمام ، وذلك بالتعلق بالمشيئة الإلهية . وكأنه يقول إنه
لا ذَنْب لي في وصولي إلى هذه الحالة المزرية . فلو شاءَ اللهُ لجعلني سيداً من
سادات العرب ، ولكنه لم يشأ ذلك . إذن ، فالمشيئةُ الإلهية لا يمكن مقاومتها،وأنا
لا ذَنْب لي بالموضوع. وهكذا يتملص_وفق منظوره الشخصي_ من كل مسؤولية ولَوْم .
وهنا يَظهر قصورُ الفهم
في موضوع المشيئة الإلهية ، ويبرز الخلطُ بين مشيئة الله تعالى بمعنى تعلُّق
إرادته بوقوع شيء ما ، وبين مشيئة الله التي رَبطت الأسباب والمسبِّبات . فلا بد
من الأخذ بالأسباب لتحصيل المال ، والحصول على الأولاد . فالسماءُ لا تُمطِر ذهباً
ولا فضة . كما أن الأولاد لا يأتون من الهواء ، وإنما يأتون من العلاقة بين
الرَّجل والمرأة .. إلخ. وهذا المعنى المتكوِّن من السبب والمسبِّب غائبٌ بالكلية
عن ذهن الشاعر الذي كان حريصاً على إيجاد" صَك غُفران " يُريحه من عذاب
الضمير ، ويَحميه من نظرات الناس . فوجدَ في فهمه المغلوط للمشيئة الإلهية خلاصاً
له ، ونهايةً لآلامه ، وتبريراً لأخطائه . كما أن فهمه المغلوط يَعكس المرارةَ
العميقة التي تتأجج في ذاته ، واعترافاً ضمنياً بانهياره وسوءِ حاله ، وفقدان
الثقة بمن حَوْله . ومن الملاحَظ أيضاً أن نظرة طرفة _ في هذا السياق _ كانت
ماديةً بحتة، فقد اعتبر هذين الرَّجلَيْن ( قيس بن خالد وعمرو بن مرثد ) مثلاً
أعلى، وقُدوةً سامية تَرنو إليها الأنظار ، وتنتهي إليها الآمال . وهما رَجلان
مشهوران بالمال والأولاد، ولَيْسا مشهورَيْن بالعِلم أو الثقافة أو الشِّعر_على
سبيل المثال_. وهذا يشير إلى أن المال والأولاد كانا الرُّكنين الأساسِيَّيْن في
بناء المنظومة الاجتماعية الجاهلية ذات الصبغة المادية المنبثقة من البيئة
الصحراوية القاسية .
إن الفهم المغلوط
للمشيئة الإلهية يتماهى مع الفهم المغلوط للقضاء والقَدَر، حيث إن الكثيرين يَضعون
فشلَهم ، وفقرَهم ، وعجزَهم ، وخطاياهم ، تحت مظلة القضاء والقَدَر لكي يَرتاحوا
من تأنيب الضمير ، ووخزِ الواقع المؤلم ، ولَوْمِ الناس الذي لا يَنتهي . وهذا يدل
على وجود ثقافة تبريرية منتشرة على نطاق واسع ، لا تعترف بالخطأ والخطيئة ، وإنما
تظل تَدور حَوْلهما للإفلات من تأثيرهما . وهذا إن دَلَّ على شيء ، فإنما يدل على
وجود ضغط هائل _ مِن قِبَل عناصر البيئة الاجتماعية_ على الفرد والجماعة . وفي
كثير من الأحيان يكون الوقتُ الذي يستغرقه تبريرُ الأخطاء كافياً لإصلاحها .
والعربُ في الجاهلية _
بشكل عام _ كانوا يَرفضون الاعتراف بالخطأ، ويَعتبرونه خطاً أحمر . فهُم يَنظرون
إلى " الاعتراف بالخطأ " على أنه إهانة للفرد ، وتدنيس لرمزية القبيلة
ومكانتها، وتدمير للمنزلة الاجتماعية ، وخضوع للآخرين ، وتسليم بشروطهم . لذلك كان
العربُ يترفعون عن الاعتراف بالخطأ، ويتكبرون على الحق، بدافع العصبية القَبَلية
وعوامل أخرى ذات صبغة شخصية ومجتمعية . وهكذا تتجلى حَمِيَّةُ الجاهلية في أعنف
صورها، وتبرز في المرجعية الذهنية ، وتَظهر في التطبيقات الواقعية .
ونجد الشاعر زُهير بن
أبي سُلمى قد وصلَ إلى حقيقة أن اللهَ محيطٌ بكل شيء ، وأن عِلْمه شامل لكل
الأشياء ، ولا يمكن أن يحدَّه حَد . فاللهُ مُطَّلع على خبايا النفوس. والإنسانُ
هو كتابٌ مفتوح أمام خالقه ، ولا يمكن إخفاء شيء عنه .
يقولُ الشاعرُ زُهَيْر
بن أبي سُلمى :
فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم لِيَخفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ
وهذا البيتُ يشتمل على موعظة دينية وأخلاقية في آن معاً . والشاعرُ يُطالِب
بعدم إضمار الغدر ونقض العهد، وتبييتِ نية الخيانة . وهذا الإضمارُ _ إن حَصَلَ_
فإن الله يَعْلمه ، لأنه عالِم بالسرائر ، وكاشفٌ لضمائر العباد . والشاعرُ يُثبِت
صفة العِلم لله . ولا شك أنه وصل إلى هذه العقيدة عن طريق اختلاطه بأهل الكتاب .
ففي الجاهلية ذات الصبغة الوثنية لم يكن الناسُ معنيين بمعرفة الصفات الإلهية، ولم
يهتموا _ بالأساس _ بهذه المباحث. وهي
بالتأكيد كانت ضمن عقائد أهل الكتاب التي اطَّلع عليها الشاعرُ ، واعتنقها ،
وبثَّها في شِعره .
ولم يكتفِ زهير بإثبات
صفة العِلم لله ، بل أيضاً نراه يتحدث عن عقائد مرتبطة باليوم الآخر الذي يُعتبَر
الإيمانُ به ناسفاً للعقائد الوثنية في البيئة العربية . فالعربُ يَعتبرون الموتَ
هو النهاية التي لا شيء بعدها ، لذلك لا يؤمنون باليوم الآخر والبعث والنشور
والحساب. وشعارُهم في هذه القضية" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع " ، وانتهى
الموضوعُ . أمَّا زُهير بن أبي سُلمى _ وهو ابن البيئة الجاهلية الوثنية _ فقد
خالفَ إفرازاتِ العقلية العربية ، وخرجَ عن المسار الوثني بشكل كامل ، مخالِفاً
تقاليد الآباء المتوارثة . يقول زُهير :
يُؤَخَّر فيُوضع في كتابٍ فَيُدَّخَر ليَوْمِ الحسابِ أو يُعَجَّل فيُنقَمِ
فهو يؤمن بأن الله يُؤخِّر العِقابَ ويُؤجِّله ، فهو يُمهِل ولا يُهمِل .
والأعمالُ تُوضَع في كتاب ، وتُسجَّل فيه بكل دقة. ويُدَّخر ليوم الحساب ، أو يتم
تعجيل العقوبة في الدنيا ، فَيُنْتَقَم من المسيء. وهذا معناه أن العقوبة قادمة لا
محالة _ آجلاً أو عاجلاً _ ، ولا مهرب منها . وهذا اعترافٌ واضح من الشاعر بوجود
الله ، وعِلْمه بالجزئيات والكليات . وأيضاً ، الإيمان باليوم الآخر ، والبعث ،
والحساب ، وكتابة أعمال العِباد في الصُّحف .
إن زهيراً يَكشف عقيدته
المضادة لتاريخ قَوْمه ، والمخالِفة للتراث الوثني المنتشر في البيئة العربية التي
نشأ فيها، وعاشَ فيها . ولا يَخفى أنه شاعرٌ جاهلي ماتَ قبل البعثة المحمَّدية
الإسلامية. فمن أينَ استقى هذه العقائد الغَيْبية التي كانت بعيدةً كلَّ البُعد عن
الذهن العربي ؟. لقد استقاها_حتماً_ من أهل الكتاب المؤمنين بالله واليوم الآخِر
والبعث والحساب. وهذا يشير إلى مخالطته لأهل الكتاب ، والاستماع إليهم، والاطلاع
على عقائدهم . كما يدل على حُب زهير للمعرفة والاطلاع ، وبحثه عن الحقيقة ، وعدم
أخذ عقائد قَوْمه الوثنيين كمسلَّمات . فهو دائمُ البحث للوصول إلى الحق لكي يَحصل
على الطمأنينة ، ويَتخلص من القلق الرهيب الذي كان يتلاعب به ضمن النسق الجاهلي .
فعدمُ الاطمئنان إلى عقائد آبائه وقَوْمه العائشين في بيئته جعله قَلِقاً ، كثيرَ
التفكير . وهذا أدى إلى بحثه عن عقيدة جديدة تشعره بالأمان الروحي ، والسَّكينة
العاطفية ، والراحة الجسدية .
وبالطبع ، لم يَجد أفضلَ من أهل الكتاب الذين
يُقدِّمون أنفسهم كوارثين للإرث النبوي ، إرث موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام
_ ، وكأصحاب رسالة سماوية تتجلى في التوراة والإنجيل ، وليس رسالة أرضية وضعية .
وبالتأكيد ، لقد نَظر زهير إلى أهل الكتاب باعتبارهم المثل الأعلى ، والقُدوة
السامية ، وحاملي الوحي الإلهي . وهذا جعله ينضم إليهم روحياً وعَقدياً على الرغم
من بقاء جسمه مع أبناء جِلْدته في بيئته العربية الجاهلية .
وها هُوَ الشاعر لَبيد
بن أبي ربيعة يُبرِز أهميةَ الإيمان بما قَسَمه اللهُ تعالى ، وضرورة الرضا
بالقِسمة والنصيب . فاللهُ الخالق هو أعلمُ بالناس من أنفسهم ، وأرحم بهم من
أمهاتهم ، وقد قَسَمَ المعايشَ والخلائق بالعدل ، وما على الإنسان إلا الرضا
والتسليم والتزام القناعة .
يقول لَبيد :
فاقْنَع بما قَسَمَ الْمَليكُ فإنما قَسَمَ الخلائِقَ بَيْننا عَلَّامُها
وهنا تَظهر أهميةُ القناعة بالقِسْمة الإلهية . فاللهُ تعالى قَسَمَ لكل
شخص ما يستحقه من غنى أو فقر ، كمال أو نقص ، رِفعة أو ضَعة . وهذه الأمورُ لم
تجيء عبثاً أو بمحض الصُّدفة ، لأن قَسَّامَ المعايش هو عَلَّامها الذي يَعلم كلَّ
شيء . وبما أن عِلم الله كاملٌ وشاملٌ، إذن .. فالقِسمة الإلهية ستأتي معصومةً لا
تَقبل التشكيك أو الطعن، ولا خيار للإنسان إلا الاقتناع بها ، وقبولها بكل صدر رحب
.