سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

29‏/07‏/2023

هند بنت النعمان / راهبة الأحزان

 

هند بنت النعمان / راهبة الأحزان

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................... 

1

     هِند بنت النُّعمان بن المُنذِر. امرأة عربية شريفة النَّسَب ، وشاعرة فصيحة ، ذات جمال باهر. وُلِدَت ونشأت في بَيت المُلْك والحُكْم بالحِيرة ( مدينة تاريخية قديمة تقع في جنوب وسط العراق) . والدها المَلِك النُّعمان بن المُنذِر ، وكان نصرانيًّا ، تَسَلَّمَ مقاليدَ الحُكم بعد أبيه ، وهو مِن أشهر مُلوك المناذرة قبل الإسلام .

     غضب كِسرى على أبيها النُّعمان ، وحبسه ، ومات في حَبْسه . وبعد ضياع عَرْشه ، وخسارة مُلْكه ، ترهبَّت ابنته هند ، ولَبِسَت المُسوح ( الثياب السميكة الخشنة التي ترتديها الراهبات ) ، وأقامت في دَير بَنته بين الحِيرة والكوفة .

2

     لم تكن هند بنت النُّعمان امرأةً عادية ، فهي ابنة مَلِك ، ومعروفة بالجمال ، والفصاحة ، والبلاغة ، وقوة الشخصية ، وتتمتَّع بشُهرة واسعة . وعندما دَخل خالدُ بن الوليد الحِيرةَ ، زارها في الدَّيْر ، وعرضَ عليها الإسلامَ ، فاعتذرت بِكِبَر سِنِّها عن تغيير دِينها . وقد أَمَرَ لها بمعونة وكِسوة ، لكنها اعتذرت عن قَبولهما ، ودعت له . ولَمَّا خَرج جاءها النصارى ، فسألوها عمَّا صَنَعَ بها ، فقال :

صانَ لي ذِمَّتي وأكرمَ وَجْهي           إنما  يُكْرِم  الكريمَ  الكريمُ

     وهذا يدل على حُسن تعامل خالد بن الوليد مع هذه المرأة المكسورة ، التي كانت ذات سَطوة وسُلطة ومجد، والجميعُ يسعى لِخَطْب وُدِّها . وقد ضاعَ كُل شيء عندما ضاعَ مُلْك أبيها . وهي الآن راهبة معزولة في دَير بعيد، وامرأة زاهدة في الدنيا . وكما قِيل : ارحموا عزيزَ قَوْمٍ ذَلَّ . وقد أحسنَ إليها خالد بن الوليد ، وهو القائد صاحب السُّلطة والنُّفوذ ، ولَم يتطاول عليها أو يستغل ضعفها وانكسارها . كما أنه لم يُجبِرها على اعتناق الإسلام . وقد تركها وشأنها .

3

     ذَكَرَ الباقلاني في إعجاز القرآن ( ص 88 ) أن هِند بنت النُّعمان قالت للمُغيرة بن شُعبة ، وقد أحسنَ إليها : (( بَرَّتْكَ يَدٌ نَالَتْهَا خَصَاصة بعد ثَرْوة ، وأغناكَ اللَّهُ عن يَدٍ نَالَتْ ثَرْوةً بعد فَاقَة )) .

     هذا دعاء في غاية الفصاحة والبلاغة والبيان . وهو يَحمل فكرة اجتماعية عميقة ومُجرَّبة . والمعنى : أحسنَ إليك شخص أصابه فقر بعد ثروة ، لأنه في تلك الحال ، يكون مَكسورًا وحزينًا ومتواضعًا ، إذ إنه انتقل مِن العِز إلى الذُّل ، ومِن الغِنى إلى الفقر ، ومِن الاستغناء إلى الحَاجَة ، ومِن السُّلطة إلى الهامش . وأغناكَ اللَّهُ عن شخص صار غنيًّا بعد الفقر ، لأنه في تلك الحالة ، تَظهر عليه آثار الغُرور والتَّكَبُّر والاستعلاء ، إذ إنه يُريد الانتقامَ مِن الظروف ، والتخلص مِن عُقدة النقص التي لازمته وهو فقير . لذلك ، يَعمل جاهدًا على تحويل ماله إلى سُلطة ، ومُجاراة الأغنياء وعِلْية القوم . ومِن أجل هذا الهدف ، يَنسى ماضيه ، ويُدير ظَهْرَه للفقراء ، ويَدخل إلى نادي الأغنياء ، كي يَكتسب المجدَ والشرفَ والرِّفعة والسُّلطة والنُّفوذ . ولا شَك أن المال سُلطة ، وهو يُغيِّر النُّفُوس للأسوأ ، في أغلب الأحيان . وهُناك حِكمة مَنسوبة لعليِّ بن أبي طالب : لا تُعَاشِرْ نَفْسًا شَبِعَتْ بَعد جُوع ، فإنَّ الخَير فيها دخيل ، وَعَاشِرْ نَفْسًا جَاعَتْ بَعْدَ شِبَعٍ ، فإنَّ الخَيْرَ فيها أصيل .

4

     روى ابن أبي الدُّنيا في الاعتبار ( 1/ 35 ) أن هِند بنت النُّعمان قالت : (( أصْبَحْنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يَرْجُونا ، ثُم أَمْسَيْنا وما في العرب أحد إلا يَرْحمنا )) .

     كانَ الناسُ يَحلُمون بمُقابَلة المَلِك النُّعمان بن المُنذِر ، ويَطمَحون إلى إقامة علاقات مع عائلته ، فهي عائلة ملكية حاكمة ذات شَرَف ومكانة ، ولا يستطيع أيُّ شخص الوصولَ إليها . والجميعُ يَلهث وراء عطاياها وأموالها ، ويتمنى أن يحصل على جُزء من امتيازاتها ونعيمها ومجدها وشُهرتها. وبعد خسارة المَلِك النُّعمان بن المُنذِر لعرشه ، وضياع مُلْكه ، وتمزُّق عائلته ، صارَ الناسُ يَحْزنون عليهم ، ويُشفِقون على حالهم ، ويتألمون مِن أجلهم . وصاروا يَعتبرونهم أشخاصًا بُسَطاء ومنبوذين مِن قاع المجتمع ، حيث إنهم انتقلوا مِن اللمعان إلى الانطفاء ، ومِن الغِنى إلى الفقر ، ومِن العِز إلى الذُّل . وهذا يدلُّ على تَقَلُّب الأحوال ، وتغيُّر الظروف . والدُّنيا دَوَّارة ، لا تَستقر على حال ، ودَوَامُ الحال مِن المُحَال .

5

     روى ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 21/ 139 ) أن سعيد بن العاص لمَّا وَلِيَ الكُوفة أتَتْهُ هند بنت النُّعمان مُترهِّبة معها جَوَارٍ قد تَرَهَّبْنَ ، ولَبِسْنَ المُسوح، فاستأذنتْ، فَأذِنَ لها ، فدخلت ، فأجلسها على فَرْشِه ، وكلَّمته في حاجات لها فقضاها ، فلمَّا قامت قالت : (( أصلحَ اللَّهُ الأميرَ ، ألا أُحِّييكَ بكلمات كانت المُلوك تُحَيَّى بِهِنَّ قَبْلَك )) . قال سعيد : (( بلى )). قالت : (( لا جَعَلَ اللَّهُ لَكَ إلى لئيم حَاجَة ، ولا زالت المِنَّةُ لَكَ في أعناق الكِرَام ، وإذا أزالَ عن كريم نِعمةً ، فَجَعَلَكَ اللَّهُ سببًا في رَدِّها إليه )) .

     إنَّ الحَاجَة إلى اللئيم ذُل وخِزْي وعار ، لأن اللئيم لا يَعْرِفَ قَدْرَ الناسَ ، ولا يحترمهم ، بَل يحتقرهم ، ويستغل حاجتهم لإذلاهم وإهانتهم ، والسُّخرية منهم ، والاستهزاء بهم .

     وبقاءُ المِنَّة ( النِّعمة والعَطِيَّة ) في أعناق الكِرام يدل على الشرف والرِّفعة ، لأن الكِرام يَحترمون الناسَ ويُقدِّرونهم ، ويَعْرِفون قيمةَ النِّعمة والإحسان. والإنسانُ إذا أكرمَ الكريمَ سَيْطَرَ عليه بالقُوَّة الناعمة، لأن أخلاق الكريم تمنعه مِن نُكران المعروف ، وجَحْد الإحسان .

     وإذا جَعَلَ اللَّهُ الإنسانَ سببًا في رَدِّ النِّعمة إلى شخص كريم ، فهذا يدلُّ على شرف الإنسان ومكانته العظيمة ، ومنزلته الرفيعة ، وأخلاقه الحميدة ، ومُساعدته للآخرين ، والإحسان إليهم ، ومَد يَدِ العَوْن لهم .

6

     قال ابن القَيِّم في زاد المَعاد ( 4/ 173 ) : (( قالت هِند بنت النُّعمان : لقد رَأيْتُنَا ونحن مِن أعَزِّ الناس ، وأشَدِّهم مُلْكًا ، ثُم لَمْ تَغِب الشمسُ حتى رَأيْتُنَا ونحن أقل الناس ، وأنَّه حَق على اللَّه ألا يَملأ دارًا خِيرةً إلا مَلأها عِبْرَةً... . وَبَكَتْ أُختها حُرَقَةُ بنت النُّعمان يَوْمًا وهي في عِزِّها ، فَقِيل لها: ما يُبكيكِ لعلَّ أحدًا آذاكِ ؟ ، قالت : لا ، ولكن رأيت غضارة ( رَغَد العَيش ) في أهلي ، وقَلَّمَا امتلأتْ دارٌ سُرُورًا إلا امتلأتْ حُزْنًا . قال إسحاق بن طلحة : دَخَلْتُ عليها يومًا ، فقلتُ لها: كيفَ رَأيتِ عِبرات المُلوك ؟ ، فقالت : مَا نَحْنُ فيه اليوم خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فيه الأمس، إنَّا نجد في الكُتُب أنَّه لَيْسَ مِن أهل بَيْت يعيشون في خِيرة،إلا سَيُعْقَبُون بعدها عِبْرَة ، وأنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوم يُحبونه ، إلا بَطَنَ لهم بِيَوم يَكرهونه ، ثُمَّ قالت  :

فَبَيْنَا نَسُوسُ الناسَ والأمْرُ أمْرُنا          إذا  نَحْنُ  فيهم سُوقَةٌ  نتنصَّفُ

                      فَأُفٍّ   لِدُنيا  لا  يَدُومُ   نَعِيمُها          تَقَلَّبُ   تَاراتٍ    بنا   وتَصَرَّفُ )) .

     كانت عائلة هند بنت النُّعمان مِن أكرم العرب وأشرفهم ، وأعز الناس وأعظمهم ، وأشدهم مُلْكًا . وهذه العائلة المَلَكِيَّة كانت في سُدَّة الحُكم ، وقِمَّة السُّلطة ، تتمتَّع بالشرف والمجد والثروة والسُّلطة والمكانة ، وهي مَحَط الأنظار ، ومَهْوَى القلوب ، والجميع يَنظر إليها باعتبارها القُدوة العُليا ، والمَثَل الأسمى ، ثُمَّ ضاعَ كُلُّ شَيء ، وانتهى بسرعة ، وصارت هذه العائلة أقل الناس ، تحت نظرات الشفقة والرحمة . ودوامُ الحال مِن المُحَال ، وعِند صَفْو الليالي يَحْدُث الكَدَرُ ، ومَا طارَ طَيْرٌ وارتفعَ ، إلا كَمَا طارَ وَقَعَ ، والدُّنيا مُتقلِّبة ومُتغيِّرة ومُتحوِّلة. وكُلُّ بَيت سَيُصبح خاليًا ، وأطلالًا تُثير العِبْرَةَ ، وتَدعو إلى الاتِّعاظ . وكُلُّ مَجْدٍ دُنيوي فانٍ ، وكُلُّ نعيم في الدُّنيا زائل ، والدُّنيا لا تَدُوم لأحد . وكَم مَن مَلِكٍ خُلِع ، وكَم مِن عَزيز ذَلَّ ، وكَم مِن غنيٍّ افتقرَ . والعاقلُ مَن اتَّعَظَ بِغَيره ، والجاهل مَن اتَّعَظَ بِنَفْسِه . وكُلُّ فرح في الدُّنيا سَيَعْقُبه حُزن، وكُلُّ لَذَّة فيها سَيَلحقها ألم ، وكُلُّ بَيت مُلِئَ بالسعادة والسرور ، سيمتلئ بالحزن والألم . وهذه هي حال الدنيا.

     كانت هذه العائلة الملكية، تَحكم الناسَ، وتَسُوسهم، وتُسيطر عليهم ، والأمرُ أمرُها ، لا أحد يُنازعها فيه ، وجميع الناس خاضعون لها، ثُمَّ انقلبت الأمور، وتغيَّرت الأحوال ، وصارت هذه العائلة مِن الرَّعِيَّة تَخدم الناسَ ، بلا مُلْك ولا حُكْم. وأفرادها صاروا أشخاصًا عاديين تحت الشفقة والإحسان . والدنيا مُتقلِّبة ، لا يدوم نعيمُها. 

7

     قال الأصفهاني في الأغاني ( 16/ 94 ) : (( رَكِبَ المُغيرة بن شُعبة إلى هِند بنت النُّعمان بن المُنذِر ، وهي بِدَيْر هِند مُتَنَصِّرَة عَمْياء بِنت تِسعين سَنَة ، فقالت له : مَن أنتَ ؟ ، قال : أنا المُغيرة بن شُعبة . قالت : أنتَ عامل هذه المَدَرَة ( تعني الكوفة ) ، قال : نعم ، قالت : فما حاجتك ؟ ، قال : جِئْتُكِ خاطبًا إلَيْكِ نَفْسَكِ . قالت : أمَا واللَّهِ لَوْ كُنتَ جِئتَ تَبْغِي جَمَالًا أوْ دِينًا أوْ حَسَبًا لَزَوَّجْنَاك ، ولَكِنَّكَ أردتَ أن تَجلِس في مَوْسِمٍ من مواسم العرب ، فتقول : تَزَوَّجْتُ بِنْتَ النُّعمان بن المُنذِر )) .

     إنَّ المُغيرة بن شُعبة كانَ رَجُلًا عَجُوزًا طاعنًا في السِّن ، وقد ذَهَبَ إلى الدَّيْر الذي تَتَعَبَّد فيه هِند بنت النُّعمان كي يَخطُبها ، وكانت عجوزًا عَمياء ، في التِّسعين مِن العُمُر . والمُغيرةُ بن شُعبة لَم يَكُن يبحث عن الجَمَال أو الدِّين ، وإنما كان يَبحث عن الشُّهرة والمجد وانتشار صِيته بين العرب ، باعتباره الرَّجُل الذي تَزَوَّجَ هِنْدَ بِنت النُّعمان . وبذلك ، تَطِير شُهرته في أنحاء الأرض ، ويُخلِّد التاريخُ اسمَه ، ويَربطه بِهِند بنت النُّعمان   ( ابنة مَلِك العرب ) . وهذا هو زواج المصلحة القائم على الصِّيت والشُّهرة والتفاخر بين قبائل العرب .

8

     قال الأبشيهي في المُسْتَطْرَف ( 2/ 482 ) : (( وحُكِيَ أن المُغيرة بن شُعبة لمَّا وَلِيَ الكوفة سار إلى دَيْر هِند بنت النُّعمان، وهي فيه عمياء مُترهِّبة ، فاستأذن عليها ، فقالت: مَن أنتَ ؟، قال المُغيرة بن شُعبة الثَّقَفي . قالت : ما حاجتك ؟، قال: جِئْتُ خاطبًا . قالت : إنَّكَ لَمْ تكن جِئتني لِجَمَالٍ ولا مال ، ولَكِنَّكَ أردتَ أن تَتَشَرَّفَ في محافل العرب،فتقول:تَزَوَّجْتُ بِنْتَ النُّعمان بن المُنذِر،وإلا فأيُّ خَير في اجتماع عمياء وأعور ؟!)).

     إنَّ المَنطِق الاجتماعي السائد يقول إن الرَّجُلَ يَبحث عن الشَّابَّة صاحبة الدِّينِ أو الجَمَالِ أو المَال . فلماذا أرادَ المُغيرة بن شُعبة ( وقد كان أعور أُصِيبت عَينه يوم اليرموك ) أن يَتَزَوَّجَ عجوزًا عَمياء ؟. لقد كان حريصًا على الشرف والمجد والفخر. أرادَ الافتخارَ في محافل العرب بأنَّه تَزَوَّجَ ابنةَ المَلِك النُّعمان بن المُنذِر. والعربُ أُمَّة حريصة أشد الحِرْص على الشرف والمجد والافتخار بين القبائل . وهذا الأمرُ كان مكشوفًا أمام هند بنت النُّعمان ، وكانت صريحة في كلامها بلا مُجامَلة .

22‏/07‏/2023

الجذور الفلسفية للأنظمة الاجتماعية

 

الجذور الفلسفية للأنظمة الاجتماعية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

1

     الأنظمةُ الاجتماعية المُرتبطة بتاريخ الأفكارِ قائمةٌ على دَلالاتِ اللغةِ تَوَاصُلِيًّا وثقافيًّا ورمزيًّا ، وهذا يَعْني أنَّ اللغةَ تُمثِّل شَرعيةَ الجَوهرِ الوُجودي للمُجتمع ، وتُجسِّد مَشروعيةَ الفِعْلِ الاجتماعي الذي يَرتكِز على المعايير الأخلاقية في تفاصيل الحياة اليومية، مِمَّا يُسَاهِم في تَكوينِ مَنهج تحليلي للرابطة المصيرية بين الوَعْي بالماضي وإدراكِ الحاضر ، ومُساعدةِ الفرد على أن يَكُون نَفْسَه بعيدًا عَن مَتاهةِ الأقنعةِ وشَظَايا الأزمنةِ . وإذا كانَ طريقُ الفردِ نَحْوَ تحقيق نَفْسِه يَمُرُّ عَبْرَ استعادةِ أحلامه المَقمومة ، فَإنَّ طريقَ المُجتمع نَحْوَ الاندماج الثقافي يَمَرُّ عَبْرَ تفجير طاقة اللغة . وهذان الطريقان يَحْمِيَان الفِكْرَ الإنساني مِن التناقضات الحياتية الناتجة عن أنماط الاستهلاك المادي ، ويُؤَدِّيَان إلى تَشييد مَصادر المعرفة على قواعد البناء الاجتماعي ، بِحَيث تُصبح المعرفةُ سُلطةً حاكمةً على البُنى الوظيفية في مراحل التاريخ ، التي يَتِمُّ تحليلُها وَفْقَ الرَّمزيةِ اللغوية ، والدِّينَامِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ ، والعَقلانيةِ المُنفتِحة ، وهذا يَدفَع باتِّجَاه إعادة صِياغة العلاقات الاجتماعية ، كَي تُصبح مُنْسَجِمَةً معَ فَلسفةِ تَحرير الفَرد مِن الخَوْف ، ومُتَوَائِمَةً معَ شخصية الفرد الإنسانية ، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً مَعرفيةً لِتَوليدِ التاريخِ بشكل مُستمر ، وكُلُّ وِلادةٍ جَديدةٍ للتاريخِ على الصَّعِيدَيْن اللغوي والشُّعُوري ، تُمثِّل هُوِيَّةً جَديدةً للفِعْلِ الاجتماعي ، باعتباره بَصْمَةً وُجوديةً في إفرازاتِ الواقعِ المُعَاشِ ، ولَيْسَ أداةً للهَيمنةِ على كَينونةِ الوَعْي الحُرَّةِ ، وبيئةِ التفكيرِ الحَيَّةِ .

2

     الجُذورُ الفلسفيةُ للأنظمةِ الاجتماعيةِ مُتَدَاخِلَةٌ معَ الفِكْرِ الإنساني ، لَيْسَ بِوَصْفِه إفرازًا مِيكانيكيًّا للأحداثِ اليَوميةِ والوقائعِ التاريخيةِ ، بَلْ بِوَصْفِه قُوَّةً دافعةً للعقلِ الجَمْعِي القادر على تَحويلِ سُلطةِ المعرفة إلى صِناعةٍ للواقع ، الذي تَكتشِف فيه الرَّمزيةُ اللغويةُ آثارَ التفاعلاتِ الثقافية بَيْنَ تاريخِ الأفكارِ وجُغرافيا الحُلْمِ الإنساني مِن جِهَة ، وبَين جَسَدِ المَعنى الوُجودي وتَجسيدِ هُوِيَّة المُجتمع مِن جِهَة أُخْرَى . وإذا تَغَلْغَلَت الرَّمزيةُ اللغويةُ في البِنَاءِ الاجتماعي ، واندمجتْ معَ الشُّعُورِ والإدراكِ، فإنَّها سَتُؤَسِّس مَنَاهِجَ نَقْدِيَّةً قادرةً على تَحويل التجارب الشخصية إلى اكتشافٍ دائمٍ لِمَاهِيَّةِ الفردِ كّذَاتٍ إبداعية في الظواهر الثقافية ، وكَوُجُودٍ مُتَحَرِّر مِن الانقطاعاتِ التاريخية الناتجة عن المصالحِ الشخصيةِ وسِيَاسةِ الأمْرِ الواقع . وإذا كانَ التَّحَرُّرُ بُؤْرَةً مَركزيةً للإبداعِ في الذاكرة الجَمْعِيَّة والمَصيرِ المُشْتَرَكِ للأفراد، فإنَّ الإبداعَ إعادةُ تَكوينٍ لِمَنظومةِ التَّحَرُّرِ مِن مَنظور العقلِ الجَمْعِي ومَنْطِقِ اللغةِ . وهذا التشابكُ يُوضِّح الدَّوْرَ الوظيفي للفردِ والمُجتمعِ في بُنيةِ التاريخ العميقة ، لَيْسَ باعتباره مَاضِيًا لا يَمْضِي فَحَسْب،بَلْ _أيضًا_ باعتباره كَينونةً مُتَشَظِّيَةً لا تَنتهي،وصِرَاعًا مُستمرًّا على تأويلِ اللغةِ والواقعِ.

3

     جَوهرُ الأنظمةِ الاجتماعية يَستمد أهميته مِن قُدرته على التمييزِ بَين المَعرفةِ والمَصلحةِ ، وتَوظيفِهما ضِمْن مَسَارَاتِ العقلِ الجَمْعِي المُتَحَكِّمِ بالتَّنَوُّعِ الثقافي ، والمُسيطِر على تأثيراتِ الفِعْلِ الاجتماعي ، والمُهيمِن على آلِيَّاتِ التأويلِ اللغوي داخل هُوِيَّةِ المُجتمع. والعقلُ الجَمْعِي لَيْسَ انعكاسًا آلِيًّا لِسُلطةِ المَعرفة ، وإنَّما هو إعادةُ إنتاجٍ لهذه السُّلطةِ بَين تأثيراتِ الفِكْر الإنساني وتفاصيلِ الحياة اليومية ، مِن أجل بناءِ مراحل العملية الإبداعية على اللغةِ والذاكرة ، باعتبارهما تحليلًا مُزْدَوَجًا لِصُورةِ المُجتمعِ وانعكاسِه في الأفرادِ . وإذا كانَ تاريخُ الأفكارِ تحقيقًا لِوُجودِ الفردِ نفسيًّا وسُلوكيًّا ، فَإنَّ العقلَ الجَمْعِي تَحقيقٌ للواقعِ المُعَاشِ مَعْنًى ومَبْنًى . ويَنْبَغي عَدَمُ وَضْعِ حَدٍّ فلسفي فاصل بَين وُجودِ الفرد والواقعِ المُعَاش ، فَكِلاهُمَا يَنتميان إلى وَعْيٍ مُشْتَرَكٍ بالزَّمَنِ وإرادةِ المَعرفة ، ويَكشِفان كيفيةَ انبعاثِ الرَّمزية اللغوية في الفِكْر الإنساني ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ فَهْمٍ لِتَعقيداتِ الحاضرِ ضِمْن مَركزيةِ الوَعْي بالماضي ، وتفكيكِ أنساق المَاضِي ضِمْن مَرجعية إدراك الحَاضِر .

15‏/07‏/2023

الأدوار الحياتية للنظام الوجودي في اللغة

 

الأدوار الحياتية للنظام الوجودي في اللغة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
..................... 

1

النظامُ الوُجودي في اللغةِ مُرتبطٌ بِمَركزيةِ الوَعْي الإنساني زمنيًّا ومكانيًّا ، وهذا النظامُ لَيْسَ كُتلةً فلسفيةً جامدةً ، وإنَّما هو حركةٌ اجتماعيةٌ يَتَزَاوَج فيها تاريخُ الأفكارِ معَ الأحداثِ اليَوْمِيَّة ، مِن أجْلِ تَتَبُّعِ آثارِ الزَّمَنِ عَلى جَسَدِ المَكَان ، وعَناصرِ البيئة ، وطَبيعةِ الإنسان ، وسُلطةِ المُجتمع ، باعتبار أنَّ الزَّمَنَ لا يُمكِن مَعرفةُ مَاهِيَّتِه عَبْرَ الإمساكِ به ، وتَقييدِه ، وإنَّما تُعرَف مَاهِيَّتُه عن طريقِ تَتَبُّعِ آثارِه . وكما أنَّ آثارَ الزَّمَنِ تدلُّ عليه ، كذلك تأويل اللغةِ يدلُّ عليها . والبِنَاءُ الزَّمَني هو أرشيفٌ يَحْوِي أحلامَ الإنسانِ المَكبوتة في دَاخِلِه ، ويَشْمَل خصائصَ المُجتمع المُسْتَقِرَّة في أعماقه . والبُنيةُ اللغوية هي هُوِيَّةٌ تَحْوِي مَصَادِرَ المَعرفةِ المُتمركزة في السُّلوك، وتَشْمَل العلاقاتِ الاجتماعية المُتَجَذِّرَة في الثقافة.والمَنظومةُ المُجتمعية المُتَكَوِّنَة مِن البِنَاءِ الزَّمَني والبُنيةِ اللغوية تُسَاهِم في بَلْوَرَةِ الرُّؤى الفِكريةِ التي تَتَحَكَّم بالتفاعلاتِ الرمزيةِ في اللغةِ والبيئةِ ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة اكتشافِ الإنسانِ لشخصيته كَوَحْدَةٍ تاريخيةٍ عابرةٍ للمَاضِي والحَاضِرِ ، وإعادةِ تأويلِ المُجتمعِ لِسُلطته كَصِيغَةٍ حَيَاتِيَّة مُتَدَفِّقَة في الوَعْيِ والشُّعُورِ والإدراكِ . وإذا كانَ الزَّمَنُ يُمثِّل هَيْكَلًا تَنظيميًّا لعناصرِ النظامِ الوُجودي في اللغةِ ، فإنَّ اللغةَ تُمثِّل تجربةً ثقافيةً تَبْنِي القَواعدَ الماديَّة الحاملةَ للقِيَمِ الأخلاقيةِ المُطْلَقَةِ، التي لا يَتِمُّ التلاعبُ بها لتحقيق مصالح شخصية ، ولا يَتِمُّ إخضاعُها لِنِسْبِيَّةِ العَلاقاتِ الاجتماعية التي يُطَوِّرُها الأفرادُ لتثبيتِ وُجودهم في الزَّمَنِ ، وتكريسِ شرعيتهم في المَكَانِ .

2

كُلُّ نَسَقٍ لُغَوي هو بالضَّرُورةِ وَعْيٌ مُتَجَدِّدٌ في الفِعْلِ الاجتماعي ، وأساسٌ مَعرفي للبُنى الوظيفية الثقافية ، التي تُحَوِّل شخصيةَ الفردِ الإنسانيةَ إلى كَينونةٍ سَائِلَةٍ في صَيرورة التاريخ ، فالشَّخصيةُ لَيْسَتْ بُعْدًا وُجوديًّا أُحَادِيًّا ، ولَكِنَّهَا شَبَكَةٌ حَيَاتِيَّةٌ مُعَقَّدَةٌ ، ونَسِيجٌ مُتشابِكٌ مِن آلِيَّاتِ التأويل اللغوي ، وأدواتِ صِناعة الواقع الإبداعي القادر على مُواجهة النَّزْعَة الاستهلاكية القاسية . وفي حَقيقةِ الأمْرِ ، إنَّ الفَرْدَ يَمتلِك عِدَّة شَخْصِيَّات، ووظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي هي اختبارُ هذه الشَّخْصِيَّاتِ بواسطةِ التجارب الحياتية ، وُصُولًا إلى الشخصيَّة المَركزيَّة الفَعَّالةِ في مَناهج النَّقْد الذاتي ، والمُتَفَاعِلَةِ معَ سُلطة المُجتمع التي تُوَازِن بَين الفِكْرِ والعاطفةِ . وإذا كانَ الفِكْرُ يُحَدِّد طَبِيعةَ الفردِ إنسانيًّا وثقافيًّا ، فإنَّ العاطفةَ تُحَدِّد مَاهِيَّةَ العلاقاتِ الاجتماعية شُعوريًّا وسُلوكيًّا ، وهذا الترابطُ المَصيري بَين الفِكْرِ والعاطفةِ يَمنَع الفردَ مِن الانسحابِ مِن الحَيَاةِ ، والغرقِ في الذات، كما يَمنَع المُجتمعَ مِن الهُرُوبِ مِن الوَعْي ، والغرقِ في الماضي .

3

الرُّمُوزُ الحاكمةُ على عَملية التأويلِ اللغوي في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية ، تَنقُل الأنساقَ الثقافيةَ مَن التَّمَركُز حَوْلَ الذات إلى اقتحامِ الذات ، ومِن تحليلِ الأشياءِ السَّطحيةِ في الحياةِ إلى الغَوْصِ في أعماقِ مَعْنى الحياة ، ومِن تَفسير الشُّعُورِ الإنساني اليَومي كَآلِيَّةٍ رُوتينيَّةٍ إلى تَغييرِه ، وتَحويلِه إلى تجربة حياتية إبداعية تتعامل معَ الحَاضِرِ كعمليَّةِ تَوليد مُستمرة لتاريخ الأفكار ، ولَيْسَ إعادة إنتاج المَاضِي وَفْق مَقَاسَاتِ قوالب الحَاضِر.وتاريخُ الأفكار هو انقلابٌ مُستمر على الوَهْمِ ، وفَحْصٌ مُتواصِل للمُسَلَّمَاتِ الافتراضية ، وكَسْرٌ دائمٌ للقَوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّةِ مُسْبَقًا ، التي كَرَّسَتْهَا إفرازاتُ سِيَاسَةِ الأمْرِ الواقع للحِفَاظِ على المصالحِ الشخصية والمنافعِ الوَقْتِيَّة . وتاريخُ الأفكارِ يَصْنَع زَمَنًا خاصًّا به في هَياكلِ المُجتمع ، ويُحَرِّر الوَعْيَ مِن اغترابِ الذات ، ويُخلِّص مَاهِيَّةَ العَلاقاتِ الاجتماعية مِن الشُّعُورِ بالعُزلةِ والقطيعةِ معَ المَاضِي ، ويَنقُل بُنيةَ الوُجودِ الإنساني مِن إطار الأحداث اليومية المِيكانيكي إلى فضاء إرادة المعرفة الدِّيناميكي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تأسيسِ هُوِيَّةٍ للفِعْلِ الاجتماعي قادرة على تَوليدِ نَفْسِها مِن نَفْسِها ، وتَجَاوُزِ التفاعلات الرمزية في اللغةِ والبيئةِ ، مِن أجْلِ مُساعدةِ الفردِ على التَّكَيُّفِ معَ آثارِ الزَّمَنِ في شكلِ المُجتمعِ ومَضمونِه ، والتَّأقْلُمِ معَ تأثيرِ التَّغَيُّرَاتِ التاريخية في هَياكلِ المُجتمع والبُنى الوظيفيةِ الثقافية . وكُلُّ فَرْدٍ لَهُ كَينونةٌ ذات امتداد مَعرفي في النظامِ الوجودي لُغَويًّا واجتماعيًّا ، وهذه الكَينونةُ تُحَدِّد مَوْقِعَ الفردِ داخل الحَيَاةِ ، باعتبارها شرعيةً لتاريخِ الأفكار ، ولَيْسَتْ نَزعةً استهلاكيةً للهُروبِ مِن النَّقْدِ الذاتي . وإذا كانت كَينونةُ الفردِ لا تَنفصِل عن الشُّروطِ التاريخية ، فإنَّ شخصيته لا تَنفصِل عَن المَعاييرِ الأخلاقية ، وهذا يَعْنِي أنَّ الفردَ _ إذا أرادَ أن يُصبح فَاعِلًا في التاريخ ومُنْفَعِلًا به ومُتَفَاعِلًا مَعَه _ يجب عَلَيه أن يَعُود إلى ذاته للانطلاقِ نَحْوَ العناصرِ المُحيطة بها ، لأنَّ الذات هي أساسُ التأويلِ اللغوي ، ومَرجعيةُ الفِعْلِ الاجتماعي ، ومَنْبَعُ الأخلاقِ .

08‏/07‏/2023

المنهج الاجتماعي والثقافة والزمن واللغة

 

المنهج الاجتماعي والثقافة والزمن واللغة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.........................

1

المَنهجُ الاجتماعي الكامن في الأنساق الثقافية يُمثِّل كِيَانًا فلسفيًّا يُعَاد إنتاجُه باستمرار في التجارب الشخصية للفردِ ، مِن أجلِ تَحويلِ صِيغة الوَعْي إلى فِعْلٍ اجتماعي ، ونقلِ إرادة المَعرفة مِن الذِّهْن إلى الواقع . وكُلَّمَا تَكَرَّسَت التجاربُ الشخصيةُ للفردِ كَسُلطةٍ وُجوديةٍ واعيةٍ بذاتها ، وواعيةٍ بالعناصر المُحيطة بها، تَجَذَّرَت الأحداثُ اليوميةُ كَسِيَاقٍ إنساني عَقْلاني يُنتِج نَفْسَه بِنَفْسِه ، ويُعيد تأويلَ الجَوهرِ النَّقْدِي للعلاقات الاجتماعية ضِمْن الشُّروط التاريخية الرَّامية إلى تأسيس السُّلوك الحَيَاتي انطلاقًا مِن مَنظور لُغَوي إبداعي ، يَتعامل معَ ماهيَّةِ الأفكار كَآلِيَّةٍ للتصالح معَ المُجتمع دُون التَّخَلِّي عَن النَّقْدِ البَنَّاءِ ، ويَتعامل معَ هُوِيَّةِ الزَّمَن كَأدَاةٍ لاكتشاف الخصائص المَعرفية في أشكالِ الوُجود ومَضامينِ الحضارة دُون التَّخَلِّي عن البيئة المُعَاشة . وإذا كانَ الواقعُ يُكَوِّن أنساقَه الثقافية لِمُقاوَمة غُربةِ الفردِ في ذاته ، واغترابِه عَن مُحيطه ، فَإنَّ الزَّمَنَ يُكَوِّن تفاعلاتِه الرمزية لِمُقاوَمةِ المشاعرِ الاصطناعية ، والحياةِ الاستهلاكية الميكانيكية . واللغةُ تَقُوم بِتَوحيدِ الواقعِ والزَّمَنِ في البناء الاجتماعي لتحقيقِ التوازن بَين ذاتيَّةِ الفردِ ومَوضوعيةِ التاريخ مِن جِهَة ، وبَين حَتميةِ العَقْلِ الجَمْعِي واحتماليةِ التأويلِ اللغوي للتفاعلات الرمزية مِن جِهة أُخْرَى . كما تَقُوم اللغةُ بِتَعريةِ العلاقات الاجتماعية مِن أنماطِ الهَيمنةِ والاضطهادِ ، إذْ إنَّ اللغة تُمثِّل فاعليَّةً وُجوديةً قادرةً على كشفِ أشكال المَعْنَى المُضْمَرِ في إرادةِ المَعرفة ، وإظهارِ المَسكوتِ عَنه في الأحداث اليومية، واستدعاءِ المَكبوتِ في ذاكرة المُجتمع ، واستحضارِ المَقموع في الوقائع التاريخية، وإبرازِ المُهَمَّشِ في الهُوِيَّة الحضارية ، واستعادةِ المَنْسِيِّ في الأنساق الثقافية ، لتحليلِ الرابطة بين البناءِ الاجتماعي وبُنيةِ الوَعْي كَمًّا وكَيْفًا ، وتفسيرِ المَنظومة الأخلاقية بَيْنَ فِعْلِ الحُرِّيةِ وحُكْمِ الضَّرُورة .

2

المَنهجُ الاجتماعي المُتمركز في البُنيةِ الزَّمَنِيَّةِ يُقَدِّم تَصَوُّرَاتٍ نَظرية في مركزية اللغة في الوُجود الحَيِّ والحُرِّ، ويُقَدِّم تَصَوُّرَاتٍ تَطبيقية في البُنى الوظيفية لمصادرِ المعرفة في الحياةِ اليومية ، والآلِيَّاتِ الفِكرية المُتَحَكِّمَة بِمَسَارِها ومَصِيرِها. واللغةُ هي ثَورةٌ مُستمرة في الوَعْي والإدراكِ والواقعِ لِمُساعدةِ الفرد على التَّكَيُّفِ معَ إفرازات النظامِ الاستهلاكي المادي ، ومُساعدةِ المُجتمع على التَّأقْلُمِ معَ تأثيرات التجاربِ الشخصية ، والشُّروطِ التاريخية ، والأنساقِ الثقافية . والفردُ يَنتقل مِن وَعْيِه بذاته إلى وَعْيِه بِمُجتمعه ، ويَعتمد على تفاصيل حياته الخَاصَّة لإصدار أحكام على طبيعة البناء الاجتماعي . وهذا يَعْني أنَّ زوايا الرُّؤية للأشياء في الوَعْي الفردي الجُزئي تُحَدِّد ماهيَّةَ العَقْلِ الجَمْعِي الكُلِّي ، وأنَّ المَصلحة العَامَّة هي مَجْموع المصالح الشخصية ، وأنَّ مركزية المُجتمع في التاريخِ والحضارةِ هي حَصِيلة الأحلام الفَرْدِيَّة البسيطة ، وأنَّ العناصر الوُجودية المَنْسِيَّة في كَينونة الفردِ الذاتية تُؤَثِّر بشكل لا واعي على أنماط الحياة ، لذلك ، كانَ الواقعُ انعكاسًا لِقُوَّةِ الخَيَالِ في تَفسيرِ الفِعْلِ الاجتماعي ، وتَغييرِ مَصادرِ المَعرفة ، وكانَ الزَّمَنُ رِحلةً فِكريةً مِن سُلطةِ المَعنى الإنساني إلى فضاءات التأويل اللغوي رمزيًّا وسُلوكيًّا وقِيَمِيًّا .

3

المَنهجُ الاجتماعي المُستقِر في التأويلِ اللغوي يُؤَسِّس شرعيةَ وُجوده في المُجتمع اعتمادًا على الجَمْعِ بَين الفِعْلِ الاجتماعي والمَسؤوليةِ الأخلاقية،مِمَّا يُسَاهِم في تحقيق الوَعْي داخل الأنساق الثقافية باعتبارها تفاعُلاتٍ ناتجة عَن العَقْل الجَمْعِي الذي لا يَعِيش خارجَ الزَّمَنِ واللغةِ . وحركةُ الزَّمَنِ تَكتسب مَفهومَها مِن رمزية اللغة ، بِوَصْفِهَا فَضَاءً حَاضِنًا لتاريخِ الأفكار،وحَقْلًا مَعرفيًّا مُنْدَمِجًا معَ التَّحَوُّلاتِ الجَذرية في بُنيةِ العلاقات الاجتماعية. ورَمزيةُ اللغةِ المُتمركزةُ في تفاصيل الواقع المُعَاش تَقْدِر على تَحويلِ الزَّمَن إلى كائن ثقافي مِن لَحْمٍ وَدَمٍ ، وهذا يَعْني انتقالَ طبيعةِ المُجتمعِ مِن هُوِيَّةِ الفَلسفةِ إلى فَلسفةِ الهُوِيَّةِ ، فَيُصبح الوَعْيُ لُغَةً مُتَجَدِّدَةً في الأحداث اليومية ، وتُصبح اللغةُ وَعْيًا مُستمرًّا في التَّقَلُّبَاتِ الحَضَارية . وتبادلُ الأدوارِ بَين الوَعْيِ واللغةِ يَدفَع باتِّجَاه تَكوين تَصَوُّرَات إبداعيَّة حَوْل مَاهِيَّةِ الزَّمَنِ المُنفعِلِ بالعقل الجَمْعِي ، والمُتفاعِلِ معَ الفِكْر الإنساني ، والمُتَجَاوِزِ لِذَاتِه ووُجُودِه ، وُصُولًا إلى الحقيقةِ التي مُفَادها أنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ جَسَدًا لِسُلطةِ المعرفة فَحَسْب ، بَلْ هو أيضًا تَجسيدٌ للمَنهجِ الاجتماعي في أحلامِ الفردِ وطُموحاتِ المُجتمع .

01‏/07‏/2023

أبعاد البناء الاجتماعي كفضاءات معرفية

 

أبعاد البناء الاجتماعي كفضاءات معرفية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

1

تاريخُ البِنَاءِ الاجتماعي هو وَعْيٌ مُستمِر بالحَاضِرِ والحَضَارَةِ،وتأسيسٌ عقلاني لأشكال المَعرفة التي تَتَمَاهَى معَ مَناهجِ تحليل الذات ، وأنماطِ تفسير البيئة ، وطَرائقِ تأويل العَالَم . وأشكالُ المَعرفةِ لَيْسَتْ كِيَانَاتٍ جامدة في حَلْقَةٍ حياتيَّة مُفْرَغَة ، وإنَّما هي أشكال وُجودية تُعَاد هَيْكَلَتُهَا لتحريرِ الفِكْر مِن النظام الاستهلاكي ، ويُعَاد تَوظيفُها لتحقيقِ التوازن بين الأنساق الثقافية ، مِمَّا يَدفَع باتِّجَاه تَكوين تَصَوُّرَات مُنفتِحة للفِكْرِ والثقافةِ بعيدًا عن المَصالحِ الشخصية الضَّيقة، ونَزعةِ التمركز حول الوَعْي الزائف. وأكبرُ تهديدٍ لأشكالِ المعرفة هي العلاقاتُ الاجتماعية القائمة على تَسليعِ شخصية الإنسان ، والتعاملِ مَعَهَا كَشَيْءٍ مَحصور بين العَرْضِ والطَّلَبِ . والمَعرفةُ لا تَتَجَذَّر في المُجتمعِ كَهُوِيَّةٍ تاريخية وخِطَابٍ حَضَاري إلا إذا صارت رمزيةُ اللغةِ طبيعةً ذاتيةً للأحداثِ اليومية ، وإطارًا مَرجعيًّا للصِّرَاعاتِ داخل النَّفْس الإنسانية ، ومَنظورًا فلسفيًّا للزَّمَنِ المَفتوح ، باعتباره ماضيًا لا يَمْضِي ، وحَاضِرًا لا يَغِيب ، ومُسْتَقْبَلًا لا يُخَاف مِنه .

2

البِنَاءُ الاجتماعي لا يُقَدِّم خَلاصًا مَجَّانيًّا للفردِ والجَمَاعَةِ ، وحركةُ التاريخِ لا تُقَدِّم مُسْتَقْبَلًا مُشْرِقًا للهاربين مِن الماضي ، والتائهين في الحَاضِر . إنَّ البِنَاءَ الاجتماعي وحَرَكَةَ التاريخ كِيَانان مُتكامِلان ، وعابران للحُدُودِ ، وحاكمان على التجاربِ الشخصية والتَّحَوُّلاتِ الوُجودية ، ومَحكومان بالأنساقِ الثقافية وأشكالِ المَعرفة ، وهذا يَعْني أنَّ تاريخَ الأفكارِ خارجَ الثقافةِ يُعْتَبَر وَهْمًا ، وأنَّ الفِعْلَ الاجتماعي خارج المَعرفةِ يُعْتَبَر زَيْفًا . وإذا كانتْ هُوِيَّةُ الفردِ وسُلطةُ الجَمَاعَةِ تَتَشَكَّلان في نَسَقٍ عَالَمِي مُعَقَّد ، فَإنَّ العقلَ الجَمْعي وإدراكَ الواقعِ يَتَشَكَّلان في نسيجٍ لُغَوي مُتشابِك . والعَالَمُ واللغةُ يَحتاجان إلى تأويلٍ مُستمِر ضِمْن تفاصيل الحياة التي تُمَثِّل كُلًّا لا يَتَجَزَّأ ، وذاكرةً لا تَتَشَظَّى، واكتشافًا جديدًا لنقاطِ التَّشَابُه بَين الحَرَاكِ الفِكري وحَرَكَةِ التاريخ ، اللذَيْن يُكَوِّنَان ماهيَّةَ الجَوْهَرِ الإنساني ضِمْنِ الهُوِيَّةِ والسُّلطةِ. وعمليةُ التأويلِ تُمثِّل مَصْدَرًا مَعرفيًّا يَمنَع الانفصالَ بَين مَركزيةِ اللغة والتجاربِ الشخصية،وهذا الأمرُ في غايةِ الأهمية،لأنَّ الفردَ يَنطلق نَحْوَ اللغةِ لاكتشافِ ذاته، وتكريسِ شرعيته، والذاتُ والشرعيةُ تَنبثقان من التجارب الشخصية ، إذْ إنَّها تُجسِّد صَيرورةَ التاريخِ الفردي في الواقعِ ، وتَعكِس الحياةَ الفكريةَ والعمليةَ بكلِّ نجاحاتها وإخفاقاتها في الحياة . لذلك ، كُلُّ تَجربةٍ شخصية بِمَثَابَة بَصْمَةٍ إنسانية في رُوحِ التاريخ وجسدِ اللغة، وكما أنَّ الفرد لا يَستطيع تغييرَ بَصْمَتِه ، كذلك المُجتمعُ لا يَستطيع تَغييرَ تاريخِه. وكما أنَّ اللغةِ لا تَستطيع تَغييرَ حُرُوفِها ، كذلك الهُوِيَّة لا تَستطيع تَغييرَ خَصَائصِها .

3

رمزيةُ اللغةِ قادرةٌ على تَوسيعِ أبعاد البِنَاء الاجتماعي ، وتجذيرِ الفِكْرِ النَّقْدِي في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية ، وإزالةِ التناقض بين الفردِ كذاتٍ إبداعية ، والمُجتمعِ كذاتٍ سُلطوية ، وهذا يُسَاهِم في إنشاء تفسير عقلاني مُتَعَدِّد الوُجُوه للظواهر الاجتماعية ، التي تتبادل الأدوارَ معَ الأنساقِ الثقافية . ورمزيةُ اللغةِ كائنٌ حَي لَهُ هُوِيَّته الوجودية وسُلطته المعرفية، وهذا يَدُلُّ على استحالةِ تفسير السِّيَاسَاتِ المُهَيْمِنَة على العلاقات الاجتماعية إلا مِن خِلالِ اللغةِ ، ولا يُوجَد مُجتمع خارجَ اللغةِ ، ولا تُوجَد لُغَة خارجَ الرُّمُوز . وكُلُّ تأويلٍ لُغَوي هُوَ بالضَّرورةِ عَلاقةُ سُلطةٍ تَشتمل على تَحَوُّلاتِ الوَعْي الرامية إلى إدراك السُّلوك الإنساني ، وتَحْتَوِي على آلِيَّاتِ إعادة إنتاج الفِكْرِ والثقافةِ بعيدًا عن الصِّدَامِ بَين الأنماطِ الاستهلاكية والأدلجةِ المَصْلَحِيَّة، وَتَتَضَمَّن التفاعلاتِ بَين الفِعْل الاجتماعي والعقلِ الجَمْعي . وأبعادُ البِنَاءِ الاجتماعي لَيْسَتْ حواجزَ بُوليسيةً بَين المُقَدَّسِ والمُدَنَّسِ ، وإنَّما هي فَضَاءَاتٌ مَعرفية تُفَجِّر الطاقاتِ الإبداعية في الفردِ والمُجتمع ، وتَدفَعهما إلى تحرير السُّلوكِ الإنساني مِن الصِّرَاعاتِ ، وإنقاذِ العلاقات الاجتماعية مِن الصِّدَامات ، وعدمِ الغرق في معارك جانبية عبثية تُمَزِّق النسيجَ الاجتماعي ، وتُبَعْثِر الجُهُودَ ، وتُهْدِر الطاقاتِ . والوقتُ الذي يَقْضِيه الفردُ في تبرير أخطائه يَكْفِي لإصلاحها، والوقتُ الذي يَقْضِيه المُجتمعُ في البُكَاءِ على الأطلال يَكْفِي لإعادةِ البِنَاءِ ، والوقتُ الذي يَقْضِيه الفِكْرُ الإنساني في تفسير العَالَمِ يَكْفِي لِتَغييره،والوقتُ الذي تَقْضِيه الفلسفةُ في تَحليلِ الظلام يَكْفِي لإضاءة الشُّمُوع.