سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

23‏/03‏/2020

سبب فيروس كورونا

سبب فيروس كورونا

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

............

     روى الحاكم في المستدرك وصحَّحه ، ووافقه الذهبي : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( يا مَعْشَرَ المهاجرين ، خَمْسٌ إن ابتليتم بهنَّ ، ونَزل فيكم ، أعوذ بالله أن تُدركوهنَّ : لَم تَظهر الفاحشةُ في قَوم قَط حتى يَعملوا بها ، إلا ظَهر فِيهم الطاعونُ والأوجاع التي لم يكن مَضَتْ في أسلافهم، ولم يَنقُصُوا المِكيالَ والميزان إلا أُخِذُوا بالسِّنين وشِدَّةِ المُؤنَةِ ، وجَوْر السُّلطان عليهم ، ولم يَمنعوا الزكاةَ إلا مُنِعُوا القَطْرَ مِن السماء ، ولَوْلا البهائمُ لم يُمطَروا ، ولم يَنقُضُوا عَهْدَ الله وعهد رسوله ، إلا سَلَّطَ عليهم عَدُوَّهم مِن غَيرهم ، وأخذوا بعضَ ما كان في أيديهم ، وما لم يَحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى اللهُ بَأسَهم بَيْنَهُم )) .
     وقال ابن القَيِّم في زاد المَعَاد : (( ولم تزل أعمالُ بني آدم ومُخالفتهم للرُّسُل تُحدِث لهم مِن الفساد العام والخاص ما يَجلِب عليهم مِن الآلام ، والأمراض ، والأسقام ، والطواعين ، والقُحوط ، والجُدوب ، وسَلْب بركات الأرض ، وثمارها ، ونباتها ، وسَلْب منافعها أو نقصانها ، أمورًا مُتتابعة يتلو بعضُها بعضًا ، فإن لم يتَّسع عِلْمُك لهذا ، فاكتفِ بقَوله تعالى : } ظَهَرَ الفسادُ في البَر والبحر بما كَسبت أيدي الناس {[ الرُّوم : 41] .

17‏/03‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الحادي والعشرون

رواية جبل النظيف / الفصل الحادي والعشرون

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...........

     كان هشام الديزل يتأمل نجومَ السماء من مئذنة المسجد. ليلةٌ صافية . لا دموع على خدود القمر ، ولا أحزان تتناثر على ورود السماء . أنهى عملَه بالكامل . مسحَ المصاحفَ ، ورتَّبها على الرفوف . نظَّف السجاد بعد انصراف المصلين من صلاة العِشاء . سَكب المياهُ في المراحيض ، وقام بتنظيف دورات المياه . ثم ذهب إلى الاستحمام .
     استعرضَ عناوين الكتب في مكتبة المسجد. وقرَّر أن يصبح مثقفاً . ألزم نَفْسه بقراءة كتاب أو كتابين في كل أسبوع . لديه وقت طويل بعد صلاة العِشاء ، وليس لديه التزامات عائلية . إنه وحيد في هذا الفضاء الرحب . فليستغل وقتَه . ظلَّ يقرأ حتى منتصف الليل تقريباً . ثم صعد إلى المئذنة العالية . لأول مرة يَرى جبل النظيف بهذا الشكل . شَعر أنه يَركب على بساط الريح ، أو يقود طائرة . وهو الذي لم يَرْكب طائرة في حياته . الهدوءُ يُخيِّم على رائحة الصفيح والأسمنت . البيوتُ العشوائيةُ المتراصة. شواهدُ القبور تنتصب كالأشجار . شخيرُ بائعي الخضار النائمين على الأرصفة يَحرقُ الصناديقَ الخشبية . الأسرارُ مختبئة خلف الستائر الكالحة . أسرارُ المدينةِ السحريةِ . يومياتُ القُرى المنبوذةِ . كم عدد المعذَّبين خلف هذه الشبابيك المغلَقة كأبواب الزنازين ؟ . كَم عدد السعداء ؟ . كَم امرأةً مخلصة لزوجها ؟. وكَم امرأة تخون زوجَها ؟. كَم عدد الذين يُطيعون اللهَ في هذه اللحظة؟. كَم عدد الذين يعصونه ؟ . كيف تَنظر المرأةُ التي تخون زوجها في عينيه ؟ . كيف يَنظر الرَّجلُ العاجز جنسياً في عيون زوجته ؟ . أسئلة هَجمت عليه دون موعد مسبق.
     استعادَ ذكرياتِ طفولته كشريط سينمائي محفوظ في أرشيف الأرامل  . كان يصنع الطائراتِ الورقية على سطح البيت ، ثم يبيعها لأطفال الحارة . عَلَّمه ابنُ عمِّه الميكانيكي كيف يُدخِّن التبغَ ، ووضَّح له الفرق بين السجائر الأجنبية والمحلية ، وكيف يُخرج الدُّخانَ من أنفه كالرجال . وأول سيجارة دَخَّنها هشام وهو في الثامنة من العُمر . أيامٌ ذَهبت إلى غير رَجعة ، وعُمْرٌ ذابل كالخريف . وعندما بَلغ الخامسة عشرة أمسك مسدساً لأول مرة في حياته . وقد أطلق النارَ على القِط الأسود . وهو قِط متوحش نال شهرةً واسعة في جبل النظيف ، فقد كان متخصصاً في سرقة اللحم من المطابخ . واللحمُ عملة نادرة في ذلك الوقت . كما أنه قَتل بعضَ الرُّضَّع ، وشَوَّه وجوهَ عِدَّة أشخاص. وقال البعض إنه وَشَق وليس قِطاً ، لكن الناس هنا لا يَعرفون ما هو الوشق ، فاستقر الرأي على اعتباره قطاً متوحشاً .
     وعلى الرغم من مغامرات هشام الديزل في كل الاتجاهات إلا أنه لم يُكوِّن أيةَ علاقة غرامية . ولم يستغل لحظاتِ الضعف في حياة النساء . في صباه كان يَقضي وقتاً طويلاً على سطح البيت ، يُفكِّر في مسار حياته ومصيره. وكان يشاهد نوافذ المنازل مفتوحة خصوصاً في أيام الصيف الملتهبة، ويَلمح الجاراتِ بثياب رقيقة، فكان يأمرهن أن يَغلقنَ النوافذ ، والتي تَرْفضُ يهدِّدها بتحطيم زجاج النافذة .
     كان يتصرف كما لو كان حارساً لشرف العائلات . الشرفُ قضية لا يمكن المساومة عليها أو التلاعب بها . ورغم سِجِله الإجرامي الحافل ، وتاريخه المفعم بالجرائم المنوَّعة ، وخبرته العريضة في السجون ، إلا أنه لم يتعرض طيلة حياته للنساء والأطفال . فلسفته هي تحدي الرجال القادرين على الدفاع عن أنفسهم ، الرجال فقط . وعلى أية حال ذَهب الرجالُ ، وذَهبت النساءُ .
     سطحُ بيتهم كان مملكته الخاصة ، صومعته المفضَّلة . إنها مفتوحة على الفضاء الخارجي . وفي الليالي الصافية كان يراقب النجوم اللامعة . ويُحدِّق في القمر ، ويتمنى لو يَصل إليه ليَهرب من رائحة المجاري المحلِّقة في عالَمه المنهار. لا بد للإنسان أن يَخرج من جِلده المحاصَر بالأزقة الضيقة، ويفر نحو الأفق الرحب. جدرانُ المنازل تقترب منه شيئاً فشيئاً لتخنقه . كان يَهْرب من رائحة العفونة القادمة من غرف بيتهم الصغير . إنها غُرف اعتقال سرية ، زنازين تحت الأرض . عاشَ تحت الأرض ، وسيموتُ تحت الأرض . كانت حياته برفقة الفئران والصراصير، ومَوْته سيكون برفقة الديدان والتراب. هكذا تتحدد ثنائية المسار والمصير .
     ولكي يَخرج من ثنائية ( الفئران / الديدان ) التي تهشِّم جمجمته ، لجأ إلى تربية الحمَام . أقام بُرجاً للحمَام في إحدى زوايا السَّطح. وكلَّ يومٍ ، عند الغروب ، يَفتح سجن الحمَام لينطلق في الأفق . تسدُّ الأجنحةُ الناعمة هذا الأفق القرمزي . يلوِّح للحمَام بشبكة بالية ، وينثر الذُّرةَ على الأرض . فيهوي الحمَامُ كالرصاص الحي ملتقطاً الذُّرة . إنها فرصة لإضاعة الوقت .. قتل الوقت . هنا ، الوقت مجاني لا قيمة له. الكسلُ يتحرش بعقارب الساعة، وعقاربُ الساعة تَلدغ الناسَ، وتقتلهم بالسم.
     ومع مرور الوقت توسَّعت العمليةُ. لم تعد هوايةً أو إضاعة للوقت . بل صارت تجارةً ومصدراً أساسياً للدَّخل . وضع خطةً لاستقطاب الحمَام الذي يُغطِّي وجهَ الأفق ، والسطو عليه . إنه يَسرقه من الآخرين بأساليب مبتكَرة ، ويَبيعه في سوق الحمَام في وسط البلد . وطالما سَبَّبت له هذه السرقات مشكلات مع مُربِّي الحمَام ، وَصلت إلى حد الاشتباك بالسلاح الأبيض . لكن هشام الديزل لم يكن يعبأ بشيء . إنه يُعطي للحياة ظَهْرَه. عُمره على كف عفريت، وقلبه ميت ، وأعصابه في ثلاجة . حياته هروب مستمر . لقد تعوَّد على الفرار من نَفْسه وتاريخه واسمِ عائلته .
     اعتبرَ الحمَامَ أُسرته الروحية . كان مهووساً به لدرجة أنه قرَّر أن تكون أنواعُ الحمَام هي أسماء أبنائه في المستقبل. وأكثر نوعَيْن يحبهما هما : هومر ، وبربريسي . كانت لحظات صبيانية وجنونية . وها هو الآن بلا زوجة ولا أبناء ولا حَمَام . خَسر أُسرته الحقيقية ، وخسر أُسرته الروحية .
     كان الندى ينهمر من جبين هشام . في حُنجرته المثقوبة تخزِّن الليالي العميقةُ براميلَ البارود . تفتتحُ الأحزانُ مخازنَ السلاح في صمتِ الطيور المتفجر . جوارحُه تتقاتل فيما بينها . وذكرياتُه تتصارع على السرابَ القرمزي . إنه القاتلُ والقتيل . تتساقطُ أعضاؤه في الحروب المتكاثرة في قفصه الصدري. والراياتُ البيضاء مرفوعة سلفاً .
     استسلم لنداء عميق يتأجج في داخله. قَرَّر أن يمشيَ في أماكن طفولته ، ومراتع صباه كأنه يُودِّع الأرضَ . يحصل على شهادة ميلاد ثانية ، ويستعيد تاريخَه الشخصي، فيصبح الماضي حاضراً . وفي الليل سيرى روحَ جبل النظيف ، وطبيعته التي لا يمكن مشاهدتها في النهار . الليلُ العميق هو المرآةُ الحقيقية لذواتنا . والمشي أفضل وسيلة للسلام الروحي، والتصالح مع الذات، والتخلص من الكبت والقهر . لا زوجةٌ تنتظره في غرفة النوم، ولا أبناء يَنتظرون عودته بكيس الخبز . إنه متحرر من جاذبية العناصر ، وثقلِ الهواجس .
     مشى في الأحياءِ القديمة ، والأزقةِ الضيقة . يكاد يَطير . إنه يُمشِّط الشوارعَ بحثاً عن ذكرياته الحبيسة . كأن الزمن قد توقف في تلك اللحظات الدافئة . التفاصيلُ هي القاتلة . قرَّر إنهاءَ جولته في شارع المصدار .
     وبينما هو يَسير في شارع المصدار ، أحسَّ أن شخصاً يَتبعه . التفتَ بسرعة ، فإذا رَجل ضخم يَقترب منه بخطوات ثابتة . تجمَّد هشام مكانه ، ولم يحاول الفرارَ .
     وقفَ الرَّجلان وجهاً لوجه . حدَّق هشام في وجه الرَّجل للتعرف على هويته . عَرَفه بصعوبة . كان هناك علامة مميَّزة على خدِّه الأيسر .
     قال الرَّجلُ الضخم :
     _ إذا لم تَعرفني من العلامة على خدِّي ، فانظر إلى خاتمي .
     نظر هشام إلى الخاتم المميَّز ، وهو على شكل جمجمة عليها رقم 9 ، وهو عدد حروف " جبل النظيف " ، فتأكد من هوية هذا الشخص .
     قال هشام بصوت خَدَشته السنواتُ :
     _ عرفتُكَ يا سعد الشويني .
     ابتسم سعد ، وقال ساخراً :
     _ إن أبي الذي سمَّاني " سعد " لم يَعرف أنه أنجبني في يوم نحس .
     ظَهر الوقارُ على وجه هشام ، وقال بصوت هادئ :
     _ اتقِ اللهَ يا سعد ، وارضَ بالقضاء والقَدَر .
     ارتسمت ضحكة خبيثة وصفراء على ملامح سعد ، وقال :
     _ ما شاء الله ، صِرتَ شيخاً ، وتتكلم في الدِّين مثل أئمة المساجد .
     الشرُّ يَرسم على جبهة سعد لوحةً زيتية أو دموية . خدودُه شرارةُ التاريخ الوحشي . لقد حلم بهذا اللقاء منذ زمن بعيد . وأخيراً ، تحقق الحلمُ المهووس . نهارُه عذابٌ ، ولَيْله حريقٌ . في النهار ، كانت التماسيحُ تتشمسُ على سطح بحيرة دموعه المتحجرة في عينيه . وفي الليل ، يتقلبُ على جَمر الانتقام . لقد حان موعد الثأر .
     قال سعد ووجهه يتدحرج على خدوده مثل كرة النار :
     _ جئتُ لأُسدِّد ديونَ الزمن ، ولا يَضيع حق وراءه مُطالِب . لقد انتظرتُ هذه اللحظة منذ سنوات لأغسلَ العارَ . لا أَحد يَهرب من سعد الشويني .
     أدرك هشام أنه في موقف حرج بعد أن لاحظ الشرَّ وهو يتوهج أمامه . لكنه لم يَفهم كلام سعد الغامض ، فقال والحيرةُ بادية على جوانحه :
     _ لم أفهم قَصْدَكَ يا سعد . وضِّح كلامَك .
     نظرَ سعد إلى هشام باحتقار شديد ، وقال له :
     _ لقد بصقتَ في وجهي في مقهى الحبايب أمام الناس ، قبل ثلاثين سنة . هذه واحدة ، والثانية سَكبتَ الشاي على ملابسي لإضحاك الحضور . وقَد ضَحكوا عليَّ ، والآن جاء دَوْري لكي أَضحك .
     ابتسم هشام بسخرية ، وقال :
     _ لو كنتَ رَجلاً لانتقمتَ في تلك اللحظة .
     تضايق سعد من هذه العبارة التي هيَّجت الألَمَ المتحجر في زوايا وجهه ، وفقد تركيزَه لثوانٍ ، ثم استجمع قوته ، وقال :
     _ كان رجالُك حَوْلك ، وكنتُ وَحْدي. والكثرةُ غَلبت الشجاعةَ . والآن ، صار القويُّ ضعيفاً ، والضعيفُ قوياً .. الدنيا دوَّارة .
     وأخرج خنجراً ، وغَرَسه في بطن هشام بسرعة البرق ، وقال :
     _ هذه الطعنةُ من أجل البصقة .
     ثم نزعَ الخنجرَ من بطنه ، وغَرَسه في صدره ، وقال :
     _ وهذه الطعنة من أجل الشاي .
     تفجَّرت الدماءُ من جسم هشام كالشلال . سَقط على الأرض . إنه يتخبط في حُمرة الدم ، يَسبح في أشلائه .
     نظرَ إليه سعد نظرةَ الوداع ، وقال باستهزاء :
     _ اطمئِن ، فالخنجر ليس مسموماً بسبب العِيش والملح الذي بيننا . والعِشرةُ لا تهون إلا على أولاد الحرام .
     الشوارعُ معجونةُ بالرعب الدامي . والرياحُ مكدَّسة مثل ثياب الحِداد . الدماءُ تَغسل الإسفلتَ. جسدُه يتشظى كإضاءة مصباح يَنتحر. الدماءُ علبةُ مكياج لأرملة على فِراش الموت . أيقنَ هشام أن ساعة النهاية قد حانت. إنها الساعة الرهيبة ، سَيُغلَق الملف إلى الأبد ، وتُسجَّل القضية ضد مجهول . طالما أحبَّ السباحةَ ، لكنه لم يتوقع أن يَسْبح في دمائه اللزجة. إذا مات سيُدفَن في مكان مجهول . عاش غريباً وسيموت غريباً . قلبُه سيظل يسأل هذه الأرصفة الباردة : هل انتهت المغامرة ؟ .
     لم يكتب وصيته. سَيَكتبُ الليلُ وصايا الحزانى. الأمطارُ الحمراءُ أصابعُ الأسرى في طرقات الحمَّى.(( لَيْتني أُدفَن إلى جانب أُمِّي ))، قال في نَفْسه. إنها أُمنيته الأخيرة، الأمنيةُ الأخيرة للمحكوم بالإعدام أو الحنينِ. هذا الفراغُ الجارح لا يَعرف خارطةَ القبور. والعواصفُ التي تهيمن على إشارة المرور الوحيدة لا تَعْرف قبرَ أُمِّه. سيكون القبران حرفَيْن في أبجدية المتاهات . هواجسُ الموت تقتلع رموشه رصيفاً رصيفاً . والغبارُ الأرجواني ينسج أكفانَ شجرِ الطفولة . كل الطرقاتِ تؤدي إلى الموت .
     لم تجيء ساعة النهاية . والموتُ لم يَزُر هذه البُقعة الحمراء . في زحمةِ الأحزان المتكاثرة كبيوض الحشرات ، تُولَد شمسٌ لَيْلية . وَقعت الجريمة مقابل دَير الأخوات المتأمِّلات . وهو دَير أثري تقطنه راهباتٌ كبيرات في السن . وقد شاهدت إحدى الراهباتُ هشام وهو يَغرق في شرايينه المتفجرة ، فأسرعت إلى أخواتها . أيقظتهن من النوم ، وأخبرتهن بالأمر . أُعلن الحِدادُ على الضحية التي ما زالت على قَيْد الحياة ، وتم إعلان حالة الطوارئ في الدَّير. وانطلقت الراهباتُ بثياب النوم البيضاء إلى هذا الغارق في دمه . أحاط البياضُ بهشام . لم يَعرف هل ماتَ أم لا يزال حياً . هل صار في الدار الآخرة أم أنه ما زال في الدنيا ؟ . كان البياضُ المحيط به ساطعاً .
     وَضعنَ قطعَ القماش على جراحه المتشعبة . ضماداتٌ تم لفها بإحكام حول النزيف الشرس. سَحَبْنَه إلى داخل الدَّير كما تُسحَب جثةَ الفراشة إلى ثلاجة الموتى، كما يُسحَب الخروفُ إلى مصيره المجهول ، كما يُسحَب المحكوم بالإعدام إلى حُجرة الموت المعتمة، كما تُسحَب الضحيةُ إلى المشرحة . كما تُسحَب العروسُ إلى ليلة الدُّخلة . هل سَيَخرج من الدَّير واقفاً على قدميه أم جثةً هامدة محمولة على ظهور القطط المشرَّدة ؟ . أفكارٌ متضاربة . صورٌ مشتَّتة تَكسر البراويزَ ، وتهاجر إلى حتفها الأكيد . تاريخٌ من الأضداد والمرايا المشروخةِ . لا أحد يَعرف ماذا يَجري . تحوَّلت الراهباتُ إلى رجال آليين . صارت الأنوثةُ الطبيعية ذكورةً اصطناعية . المشاعرُ آلاتٌ ميكانيكية . هل وَقعت الحربُ ؟ . كم عدد الضحايا ؟ . نساء يساعدنَ أحد الضحايا في أرض المعركة . معركة بلا طبول ولا رايات . أين جيشُ الأعداء ؟ . كل شيء يتم بحركات لا إرادية . آلاتٌ مُبرمَجة مسبقاً . راهبةٌ تَسكبُ الماءَ على الدم الملتصق بلحم الشارع ، وعروقِ الإسفلت . ماذا تفعل هذه الراهبة في الليل العميق ؟ . تَغسل الشارعَ ، وتكتب بالدمِ شهادةَ ميلاد الرياح المسيطرة على الأرصفة الخالية من المارة . سيأتي النسيمُ العذب من نهايات الليل المعطَّر بكاوتشوك السيارات المختفية . وإشارةُ المرور الحمراء تستمد لونَها من حُمرة الدماء . كل شيء أَحْمر في وحشة الطريق . تأجَّج الاحمرارُ في أجسام الراهبات . لا يوجد في عالمهن أحمرُ الشفاه ، ولا علب مكياج ، ولا قمصان نوم حمراء . ومع هذا صارت حياتهن ممزوجة باللون الأحمر . هذا الأحمرُ يَفرض شروطَه على كل العناصر .   
     استقرَّ هشام على أحد الأَسِرَّة الذي لا يزال محتفظاً بالدفء ، دفءِ الجسد الأنثوي . هذا الديرُ خليةُ نحلٍ دؤوب . إنه مستشفى مجاني . هناك راهبتان تملكان خبرةً واسعة في أمور الطب والتمريض ، لأنهما عَملتا لفترة طويلة كممرضتين في المستشفى الإيطالي القريب من شارع المصدار .
     كانت ينابيعُ الألم تتفجر من الحيطان. لا فائدة من العِلم إذا لم يُنقذ حياةَ الناس. والآن تتجلى أهميةُ العِلم لإخراج هشام من المتاهة المفتوحة على كل الاحتمالات. لا وقتَ لخجل الإناث من جسد الرَّجل . هذا الرَّجلُ الوحيد في غابة النساء ، فَقَدَ مخزونه الإستراتيجي من الدم . دماؤه انسكبت في حُفر المجاري بعد أن غَسلت أزقةَ الأحياء الشعبية . حياته متأرجحة بين الحياة والموت . وأحشاؤه الذابلة مزهريةٌ على مائدة الليل الطويل .
     افتقده المصلون في مسجد طارق بن زياد . جاء البعضُ قبل أذان الفجر ، فَوَجدوا المسجدَ مُغلَقاً . انتظَروا أحد المصلين الذي لديه مفاتيح احتياطية للأبواب . ليس من عادة هشام أن يتأخر في فتح الأبواب . إمَّا أنه غارق في النوم ، أو أن أمراً ما حَصل معه . وَجدوا المسجد نظيفاً ، ومرتَّباً ، وذا رائحة طيبة. لمساتُ هشام ظاهرة للعيان . آثارُه واضحة، لكنه مختفٍ عن الأنظار. جاءت اللمساتُ واختفت الأصابع . اتضح المبنَى وغاب الباني .
     كان الظلامُ يَنحسر تدريجياً ، يَجرُّ منديلَه الخشن الملقى على خدود جبل النظيف . نورٌ خافت يَطْلع من عِظام الضحايا . ضوءُ الفجرِ يَغسل جبينَ الأفق . يا لها من لَيْلة ! ، إنها لَيْلة طويلة ومُرعِبة . ولكنْ كلام الليل يمحوه النهارُ ، وما تأتي به الرياح تأخذه الزوابع .

14‏/03‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل العشرون

رواية جبل النظيف / الفصل العشرون

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...............

     الانتظار نارٌ تأكل المشاعرَ والأعصابَ. الدكتور لؤي عطوة وزوجته يحترقان في قاعة الانتظار في المطار . لقد تأخرت الطائرة عن موعدها . طار قلبُ زوجته ، وخافت أن تكون الطائرة قد تعرَّضت لمشكلة ما . لاحظ زوجُها القلقَ الهستيري الظاهر على ملامحها ، فأجرى اتصالاتٍ مع شخصيات نافذة في المطار ، وكلهم أكَّدوا له أن الأمور على ما يُرام ، لكن الطائرة تأخرت في مطار هيثرو بسبب إنذار كاذب بوجود قُنبلة على متنها ، وهي الآن في طريقها إلى عَمَّان .
     عقاربُ الساعة ماتت في صحراء الانتظار . اكتفيا بالنظر إلى بعضهما البعض دون أن ينبسا بكلمة. لم تستطع زوجته الجلوسَ. مفاصلُها تهاجر إلى صقيع الجروح. هَبَّت واقفةً ، ورَاحت تتجول في أرض المطار . إنها تَزرع خطواتها في هذه الأرض المحروقة. تَذهب وتجيء.. تجيء وتذهب. إنها ترى قلقَها يَسطع على البلاط النظيف. هذا البلاطُ المفعم برائحة مواد التنظيف. قلبُها قطعة صابون تَذوب تدريجياً في ماء عينيها المشتعل . الوقتُ يُقاس بالسنوات الضوئية . الأحاسيسُ تَهطل بغزارة . والانتظارُ المر يَأكل أسمنتَ الجدران العالية . وَصلت الطائرةُ بعد قرون من اللهيب والمشاعر المحروقة . نزل منها عاصم ، ومضى في طريقه نحو تاريخ عائلته . رأى أُمَّه واقفة بانتظاره. رَكضَ نحوها كالطفل، وارتمى في حضنها . والدموعُ تَخدشُ بلاطَ المطار . ثم عانقَ والده الدكتور لؤي عطوة . ودَخلت هذه الأُسرة في أرشيف الصدى الأرجواني .
     كان عاصم طالباً جامعياً في السنة الأولى ، يَدرس الهندسة المعمارية في بريطانيا . وقد اختار هذا التخصص لكي يساعد والدَه في مشاريعه ، ويَحمل الراية من بعده . ينتظره مستقبل زاهر . وأمامه إمبراطورية مالية أسَّسها والده ، وسوفَ تؤول إليه عاجلاً أو آجلاً . لذا كان محل أنظار بنات العائلات الراقية اللواتي يَبحثنَ عن شاب غني ومتعلم ولطيف . إنه صَيْد ثمين في زمن ارتفاع نسب العنوسة والفقر . وهو الابنُ البِكر ، وهذا يجعله في دائرة الأضواء. فلا بد لأبويه أن يُفكِّرا في تزويجه .. أن يَفرحا به.
     شابٌ غني يَدرس في عاصمة الضباب ، لا بد أنه يَشعر بالوحدة والغربة . وهذه الوحدة قد تملؤها الفتياتُ الإنجليزيات . من الصعب على الإنسان أن يقاوم زُرقةَ العيون ، والشَّعْرَ الأشقر ، والتنانيرَ القصيرة .
     وعاصم إنسان من لحم ودم ، وليس حائطاً. إنه يعيش حرارةَ الشباب في مجتمع منفتح إلى أبعد مدى. هل سيصبح مثل دودي الفايد مثلاً وتنتهي حياته بشكل مأساوي ؟. هل سيحترق الربيعُ في لَيْلة خريفية صاعقة ومباغِتة ؟. لماذا لا يتزوج من بنات بلده ثم يأخذ زوجته معه إلى لندن لإكمال دراسته ؟ . وجودُ زوجة إلى جانبه سوف يُوفِّر له الراحةَ النفسية والبدنية ، ويُعينه على الدراسة .
     هذه الخواطر كانت تتأجج في الأذهان الغامضة ، وتتطاير في هواء الغرف المغلَقة . ودائماً تُرسَم الخططُ خلف الأبواب الموصدة . وكلُّ صياد يَختار الفريسة التي تناسب طموحاته ، ويُعيِّن وقتَ اصطيادها بدقة . وكل شخص يَبحث عن مصلحته . الفرصةُ لا تأتي إلا مرة واحدة . وقطارُ الفرص إذا ذَهب لا يَرجع . يجب اختيار التوقيت المناسب . فإذا جاء الراكبُ إلى محطة القطارات في الموعد المحدَّد سوفَ يَركب في القطار ، ويَمضي إلى وُجهته بكل سلاسة . أمَّا إذا جاء في التوقيت الخاطئ فسوفَ يؤول مصيرُه إلى مقعد بائس في المحطة الباردة ، وحيداً لا تاريخ له غير الاحتراق .  
     تمر الأيامُ. النهارُ يُشبه الليلَ، والليلُ يُشبه النهارَ. يُولَد خنجرٌ لامع بين الشهيق والزفير . العمرُ أرجوحةٌ في حديقة الجثث المتفحمة . واللهبُ يَخرجُ من معدة الأحجار الكريمة وغير الكريمة .
     لقد استراح عاصم ، وعادت نكهة الطعام المنزلي إلى فمه بعد أن كان معتاداً على الوجبات السريعة ، والأكل في مطاعم لندن. رتَّب كتبه العربية والإنجليزية في مكتبته الخاصة الصامدة في إحدى زوايا غرفته .
     وفي إحدى الليالي قرَّرت أُمُّه أن تحادثه بموضوع زواجه . كلُّ أُم تريد أن تطمئن على ابنها . اختارت ليلةً هادئة . وهي _ أصلاً _ تَعلم أن عاصم يتأخر في النوم ، ففي العادة لا ينام قبل منتصف الليل .
     اقتربت من غرفته بهدوء مثل اللبؤة التي تَسير نحو الفريسة دون إحداث صوت منتظرةً لحظة الانقضاض الصاخبة. سَمعت صوتاً ينبع من غرفته ، ثم يتدفق فيَحرق سجَّادَ الممر . اقتربت أكثر، فازداد الصوتُ. تحول الصوتُ إلى ضحكات . وَضعت يدها المرتعشة على مقبض الباب . فكَّرت أن تَقرع البابَ كعادتها ، لكنها لم تَفعل . فَتحته بشكل مفاجئ وعنيف . انهارَ السدُّ ، وجاء الطوفانُ . لم تصدِّق عينيها .
     كانت الخادمة في سرير عاصم ، وكلاهما عاريان . أخفيا جَسَدَيْهما تحت اللحاف . وبقي الوجهان في العاصفة . سيطر جيشُ الصمت على المكان . وَقفت الأمُّ تحدِّق في المشهد ودموعُها الخرساء تَحفر في وجهها أخاديد. ثم لاذت بالضحك الهستيري ، وقالت :
     _ هذا ما استفدته من الدراسة في بريطانيا ؟! .
     قال عاصم بكل هدوء أعصاب :
     _هذه المرأةُ زوجتي على سُنة الله ورسوله.وعَقْدُ الزواج تجدينه في دُرج مكتبي.
     أخذت الأمُّ هذا الكلام على محمل الجِد ، فهي تعلم أن عاصم معتاد على الصدق منذ طفولته ، خصوصاً في المواقف الحساسة .
     رَكضت كالمجنونة إلى مكتبه . فَتحت كلَّ الأدراج ، فَتَّشت أوراقَه ورقةً ورقة ، فوجدت عقدَ الزواج. أَشعلت ضوءَ الغرفة ، وقامت بقراءته حرفاً حرفاً . تأكَّدت من الأسماء والتواقيع والختم . كادت أن تمزِّقه ، لكنَّ أصابعها المرتجفة العاجزة لم تستطع فِعلَ ذلك . أَلقت العقدَ على سطح المكتب . وقالت لابنها بسخرية :
     _ مبروك يا عريس .
     أطفأت الضوءَ . خَرجت من الغرفة . أَغلقت البابَ . كانت دموعها شلالاً حارقاً . البكاءُ يحاصرها من كل الجهات. لا هدنة مع الأحزان . جيشُ الألم يَحفر الخنادقَ في أكسجين رئتها . حواسُّها دَخلت في حرب أهلية . إنها تقاتل نفسها بنفسها . رَفعت الرايةَ البيضاء . خطواتُها تغرق في سجادة الممر . هذه السجادةُ رمالٌ متحركة تبتلع أعضاءها اليابسة .
     في ذلك المساء المرعِب لم تَقدر على النوم. الأرقُ يَشرب روحَها، ويَقضم لحمَها المحترق في موقدة الأفكار المتضاربة . إنها تتقلب على جمر البكاء الذي يمزِّق وسادتها الناعمة ، ويُحيلها إلى كفن خشن . لم تجد أمامها غير الحبوب المنوِّمة . وأخيراً ، أشهرَ النومُ سلاحَه في وجهها بعد طول انتظار .
     وفي الصباح ، جَلست الأسرة على مائدة الطعام. كانوا يأكلون ولا يتكلمون . كل فردٍ مشغول بهواجسه الداخلية التي تتأجج في جسده . هذه الأجسادُ سجونٌ صغيرة داخل سجون كبيرة .
     أنهى الدكتورُ طعامَه ، وغادر المكان سريعاً . جدولُ أعماله مزدحم للغاية هذا اليوم. وفودٌ عربية وأجنبية. مشاريع ينبغي تسليمها في الموعد المحدَّد . مفاوضات مع البنوك بخصوص تسهيلات مالية . الصغير رمزي أنهى طعامَه، وانطلقَ كالبرق. وبقي عاصم وأُمُّه يتناولان الطعامَ ، وهما يتجنبان النظرَ إلى بعضهما البعض . أراد عاصم القيامَ فمنعته أُمُّه ، وطَلبت منه الجلوس. جاء لقاؤهما حاملاً معه غبارَ المعركة وزنابقَ الحروب . لا بد من المواجَهة . القضيةُ لا تحتمل التأخيرَ .
     قالت الأم بصوت هادئ :
     _ اسمعْ يا عاصم ، لنتحدث بهدوء بعيداً عن العصبية . هذه الخادمةُ المتسولة يجب أن تطلِّقها . من الجنون أن تتزوج هذه الشحاذة وتنسى ابنةَ عمِّك المليونيرة . ماذا سيقول الناسُ عنا ؟ . يجب أن تحافظ على ميراث العائلة وسُمعتها ، ولا تسبِّب فضيحةً لأبوَيْك . والدك لو عَرف بالأمر سوف يُصاب بأزمة قلبية . هل تريد أن تقتل أباك ؟! .
     وأردفت قائلةً :
     _ الآن سوفَ تطلِّقها لكي نغلق هذا الملف إلى الأبد . مفهوم ؟ .
     لم يتكلم عاصم. تحصَّن بالصمتِ الخشن. تناولَ جرعةً من الذكريات ، واستعار صوته من المجهول . جَمع شظايا أبجديته ، وقرَّر الكلام وعدمَ الهروب من المواجَهة .
     قال بصوت ذابل :
     _ ولكني أحبها . ولا أَقدر على العيش بدونها .
     _ يا حبيبي ، هذا الحبُّ لا يُطعِم خبزاً ، لا يشتري لك سيارة مرسيدس . قصصُ الحب كلام أفلام وروايات رومانسية . يَضحكون بها على الناس لتسليتهم وتحقيق أرباح تجارية .
     لم يقتنع عاصم بهذا الكلام ، فقال بكل إصرار :
     _ أرجوكِ يا أُمي . هذا اختياري وأنا مسؤول عنه . ولن أترك زوجتي .
     وقام تاركاً أمه في مهب العاصفة ، في وجه الفيضان الكاسح . أحسَّت أنها وحيدة في غابة تَحترق ، ولا فرصة لمجيء رجال الإطفاء .
     ضَربت المائدةَ بقبضتها، وكادت أن تكسر خاتمها . ترك الخاتمُ أثراً في أصبعها . أَمسكت المزهريةَ الموجودة على المائدة، وقذفتها نحو إحدى المرايا . تبعثرت الشظايا على البلاط. انطلقت الحممُ من البركان الذي كان خامداً ، وغادرُ الرصاصُ ذاكرةَ المسدَّس. وماتت الذكرياتُ . تلك المزهرية كانت هديةً من زوجها بمناسبة عيد ميلادها . وهي مزهرية صينية يعود تاريخها إلى ألفَي عام ، وقد اشتراها زوجها من مهرِّب آثار أوروبي . لقد سَقطت الحضارةُ ، وعلا البكاءُ .
     فَزع الخدمُ . كانوا يُراقبون المشهد من وراء الأبواب شِبه المغلَقة . لكنهم لم يجرؤوا على الاقتراب أو التدخل . كل ما عليهم فِعله هو إزالة أنقاض الحلم بعد أن تهدأ العاصفةُ . سوفَ يُحصون الأضرارَ ، ويعيدون ترتيبَ المكان بعد أن يختفيَ الإعصارُ في رمال الشاطئ . وظيفتهم حَمل المكانس ومواد التنظيف ، وليس البكاء على الأطلال ، أو تجميع الذكريات .
     أتى المساءُ حاضناً عذابات النهار. تاريخُ هذه العائلة يتحرك في الفراغ . أحزانٌ تتحرك عكس عقارب الساعة . الأحلامُ دوَّاماتٌ في المرايا المشروخة .
     جاء الدكتور من عمله مرهَقاً . إنه يُغيِّر ملابسه أمام مرآة غرفة النوم . وكانت زوجته تساعده . قرَّرت أن تخبره بقصة ابنها ، فهذا الأمر الخطير لا يمكن السكوت عنه .
     قالت والخوف يتلاعب بصوتها المهزوز :
     _ أريد إخبارك بأمر مهم .
     _ أنا مرهَق يا ميادة ، وأُريد النوم . وعلى أية حال ، إذا أردتِ تغيير الأثاث أو السيارات فلا مشكلة .
     _ لؤي .. اسمعني . هناك كارثة هَبطت علينا .  
     كان وَقْعُ كلمة " كارثة " شديداً ، بحيث أطار النومَ من عينيه . وقفَ صامتاً في انتظار سماع هذا الخبر . إنه في سجن مظلم ، يَنتظر الضربةَ القاضية ، لكنه غير قادر على معرفة الجهة التي ستأتي منها هذه الضربة . إنه ميت يَنتظر قدومَ حفار القبور ، ولا يَعرف موعد قدومه .
     قالت ميادة :
     _ عاصم تزوَّج الخادمة .
     أخذ الدكتور نَفَساً عميقاً ، وقال بنبرة ناعمة :
     _ ميادة .. لا تَمزحي في هذه المواضيع ، ولا تفكري في عمل المقالب . نحن لسنا في برنامج الكاميرا الخفية .
     أكَّدت له أن الأمر حقيقة واقعة وليس نكتةً أو مَقلباً . فقال الدكتور بكل رباطة جأش :
     _ اذهبي وأحضري الولدَ بسرعة .
     المسافاتُ شُعلةٌ ثلجية . الأحزانُ محرِّكاتٌ بخارية ، والدمعُ يَطفو على زيت هذه المحرِّكات . سيأتي النزيفُ من سجاد الممر . شرايينُ البشر ممراتٌ لهجرة السنونو . والوجوهُ الحزينة تتحرك بلا تاريخ . لا صقيعٌ يَبحث عن القادة المنتصرين الذين سَيَكتبون تاريخَ الفراشات أمام موقدة الجماجم، ولا تفاحٌ يُزرَع في أجفان الضحايا.
     جاءت الأمُّ تَسوق ابنَها كما يُساق كبشُ المحرقة إلى نهايته الحتمية . لا يوجد أي احتمال للنجاة . يُساق القُربانُ إلى المعْبد المهدوم على الجميع .
     قال الدكتور لزوجته :
     _ لو سمحتِ يا ميادة ، اخرجي وأغلقي البابَ ، ولا تحاولي سماعَ كلامنا من وراء الباب .
     أُغلق بابُ معسكر الإبادة . بوابةُ المعتقَل مُحصَّنة . والأحلامُ المسحوقة تحت سنابك الخيل تنظِّف أرضَ المعركة بالصابون . والراياتُ البيضاء مزروعة في أجنحة الحمَام الزاجل . الهزائمُ تَطير ، والانتصارات تَطير . وَحْدَها الجثث تظل ملقاةً على تراب المعركة . ولكنْ سيأتي يومٌ تصبح للجثث أجنحة وتَطير في موسم الهجرة الأبدية .
     وقفَ عاصم أمام والده . شَعر الابنُ بغربةٍ رهيبة . في تلك اللحظة الحرجة شَعر أن أباه شخص غريب ، فلا رابطةُ دَم تجمعهما ، ولا مشاعر متبادلة . إنه لقاء في القطب  المتجمد .  ليس القطبَ الشمالي ولا الجنوبي  .  تتساوى الجهاتُ في عقل
الضحية ، وتتعادل الأضدادُ في ذهن المحكوم بالإعدام .
     قال الدكتور وأهدابُه تحترق في ماء عينيه الساخن :
     _ الآن سوفَ تطلِّقها .
     _ هذه زوجتي ، وأنا متمسك بها .
     ضحك الدكتور ضحكةً صفراء ، وقال :
     _ إن لم تطلِّقها سأَحرمك من الميراث ، وتجد نَفْسك شحاذاً في الشوارع .
     لَمعت عَيْنا عاصم بصورة مرعبة . إنه لمعان التحدي والمواجَهة ، وقال بكل صلابة :
     _ أنا لا أُساوم على مشاعري ، ولا أُقامر بزوجتي . 
     سارَ الدكتور بخطوات واثقة نحو مكتبه . فتحَ الدرجَ العلوي . أخرج مسدَّساً . صَوَّبه نحو ابنه ، وقال بنبرة هادرة :
     _ احملْ أشياءك ، وخُذ زوجتك معك ، وارحل من هذا المنزل . لا أنا أبوك ولا أنتَ ابني .
     اعتقد عاصم أن الأمر تمثيلية أو محاولة هزيلة للضغط عليه. فقد كان متأكداً أن المسدس ليس حقيقياً ، وأن والده يُريد تخويفه فَحَسْب . وحاول أن يجادل والدَه في الأمر . لكن المفاجأة المدوية حَدثت . مفاجأة من العيار الثقيل . فقد أطلقَ والدُه الرصاص على أحد البراويز في الغرفة . بروازٌ لم يكن يَبعد عن عاصم سوى مترَيْن . إنه أمرٌ خطير لم يكن بالحسبان .
     هربَ عاصم من المكان ، واصطدم بأُمِّه في الممر . كانت تَركض باتجاه صوت الرصاص . عمَّت الفوضى في الفيلا . ارتبكَ الخدمُ ، وتجمَّعوا في المطبخ كالأسرى ، والخوفُ يَسلب ألوانهم . الخادماتُ يَبكين .
     اندلعَ شِجارٌ عنيف بين الدكتور وزوجته كاد يَصل إلى التشابك بالأيدي . إنه فيلمُ رعب يتم تصويره في الفيلا . سيناريو الهلع يَغرس أوتادَه في جغرافيا الحلم المنهار . استسلم الجميعُ أمام طوفان الخوف . والرايةُ البيضاء فَقدت لونَها بعد امتزاجها ببقع الدم الأزرق .

13‏/03‏/2020

الجرثومة الصغيرة والجرثومة الكبيرة

الجرثومة الصغيرة والجرثومة الكبيرة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...........

     دَور العقل الجمعي في تأسيس المفاهيم الاجتماعية يُمثِّل جوهرَ السُّلطة الفكرية ذات السيادة المعنوية على إفرازات الحياة اليومية . وهذه الحقيقة تَرجع إلى كَون العقل الجمعي هو المُؤهَّل لتفسير ثقافة الأفراد ، وعلاقاتهم الاجتماعية ، وسلوكياتهم الحياتية النابعة مِن التفاعل مَعَ الأحداث الواقعية والأحلام الخيالية . والعقلُ الجمعي ليس صيغةً مِن قواعد التعامل الاجتماعي الجامدة ، والتعليمات المحفوظة مُسْبَقًا ، وإنَّما هو مِرآة تَعكس درجةَ رُقِيِّ المجتمع روحيًّا وماديًّا . وهذا الرُّقِيُّ قائم على أساس القُدرات العقلية في جمع المعلومات، وفحصها، وإيجاد روابط منطقية بينها، والاستفادة مِنها في التخطيط للحاضر والمُستقبل ، ولا يَقوم الرُّقِيُّ على هَوَس المنظومة الاستهلاكية ، لأن التَّقَدُّم الحقيقي يكمن في صناعة العقل القادر على استخدام العِلم النافع لمنفعة البشرية ، وليس صناعة التَّوَحُّش الاستهلاكي ، وحُمَّى الشِّراء والتَّسَوُّق ، والغرق في المُنتجات المادية للحضارة البشرية ، واستنزاف موارد الطاقة ، وتدمير البيئة والمناخ ، وقتل رُوح الإنسان ، وإرهاق جسده .
2
     الوظيفة المركزية للعقل الجمعي في الحضارة ، هي منع التعارض بين المسار والمصير ، لأن الغاية الشريفة يجب أن يكون الطريقُ إلَيها نظيفًا ، والطريق إلى البَيت الجميل يجب أن يكون جميلًا ، لأن الجَمَال مبدأ أساسي مُطْلَق ، لا يتجزَّأ ، ولا يَتغيَّر حَسَب المصالح الشخصية والظروف الاجتماعية. ولا يُوجد عاقل يبني بَيتًا جميلًا في مكان مليء بالقُمامة . وهذا الاتصال الوثيق بين المبدأ والغاية ، يُشير إلى الترابط الوجودي الحتمي بين العقل الجمعي ، باعتباره المُتحدِّث الرسمي باسم ذِكريات الناس وأحلامهم وآمالهم ، وبين الإفرازات الاجتماعية للحياة اليومية. وكما أن الإنسان ابن بيئته ، كذلك العقل ابن بيئته ، ولكنَّ بيئة الإنسان تستمد شرعيتها من الحركة في المجتمع والتعامل معَ الناس ، أمَّا بيئة العقل فتستمد شرعيتها مِن الحركة في الخيال والتعامل معَ الأفكار ، ومُحاولة نقلها إلى المجتمع ، لتغيير حياة الناس إلى الأفضل . وإذا كانت بيئة الإنسان قائمة على التفاعل المادي معَ الأشخاص والأحداث اليومية ، فإن بيئة العقل قائمة على التفاعل الرمزي مع تاريخ الأشخاص المُسْتَتِر ( الذكريات والأحلام والمشاعر ) ، وتاريخِ الأحداث الخَفِيِّ ( الأسباب الحقيقية للسلوكيات الفردية والجماعية) . والفرقُ بين بيئة الإنسان وبيئة العقل يجب أن يكون دافعًا للتكامل ، وليس الصراع . والإنسانُ بلا عقل يتحوَّل إلى وحش شهواني كاسر ، والعقل بلا إنسان يتحوَّل إلى أداة للقتل وتدمير مُنجزات الحضارة. وبالتأكيد، لا تَستطيع أيَّة حضارة _ مهما كانت إنسانية ومُتقدِّمة وراقية _ أن تَمنع الجرائم ، ولكنَّها تستطيع رفض تَبرير الجرائم ، ومَنع إيجاد شرعية لها . ولا يُمكن إيجاد إنسان بلا ذُنوب ، ولكن يُمكن إيجاد إنسان بلا تَوَحُّش . وهذا يعني ضرورة تحقيق الشَّرْط الإنساني في الحياة ، أي أن يكون الإنسانُ إنسانًا حقيقيًّا ، ولا يَكون وحشًا يَرتدي قِناع الإنسان .
3
     مِن أجل إيجاد حضارة أكثر إنسانية ورحمة وأخلاقًا ، يجب قتل الوحش النائم في الإنسان ، وتَطهير الحضارة مِن التَّوَحُّش الاستهلاكي الكامن فيها. وهذه المُهمة الصعبة لا يُمكن الوصول إلَيها إلا بتكريس معاني البَذل والعطاء ومُساعدة الآخرين والعمل التَّطَوُّعي ، وتنظيف المَسار الحضاري مِن مفاهيم القهر والنهب والإذلال والأنانية ، وبناء المجد الوهمي على شقاء الآخرين وتعاستهم . وكما أن العَالَم يتوحَّد لمُواجَهة جُرثومة صغيرة تَجعل مصيره على المِحَك، يجب عليه أيضًا أن يتوحَّد لمنع الحضارة مِن التَّحَوُّل إلى جُرثومة كبيرة تُدمِّر حاضرَ البشر ، وتقضي على مُستقبلهم . وكما أن غسل الأيدي مُهم لمنع وُصول الأمراض إلى الجسد ، كذلك غسل القُلوب مُهم لمنع وُصول الأمراض إلى الرُّوح . وإن العاجز عن حماية رُوحه ، سيكون أكثرَ عجزًا عن حماية جسده . ومِن المنطقي أن يُكافح الإنسانُ الأوبئة والأمراض ، ويسعى إلى تطهير الحياة من الجراثيم ، لكن الكارثة عندما يتحول الإنسانُ إلى جُرثومة ضِد أخيه الإنسان ، ويصير وحشًا كاسرًا ضِد المدنية ، وخطرًا حقيقيًّا على الوجود البشري .
4
     الحيوان الذي يتصرَّف كحيوان ، يُمارس دَوره المرسوم له بدِقَّة، ويُؤدِّي مهمته في النظام البيئي بكفاءة ونشاط . لكن الإنسان الذي يتصرَّف كحيوان ، يخون إنسانيته ، ويُسيء إلى نفْسه ، وهذا هو السقوط الأخلاقي المُريع ، والانهيار الشامل ، والانتكاسة الصادمة . ولا تُوجد مشكلة في وجود الذئب في الطبيعة ، لكن المشكلة في تَحَوُّل الإنسان إلى ذِئب لأخيه الإنسان .
5
     حُب التَّمَلُّك الجُنوني إذا سيطرَ على الإنسان، قاده إلى ارتكاب الجرائم وافتعال الحروب بكافة أشكالها . ومُحاولة الاستحواذ على كل شيء ، وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين وأحلامهم المشروعة، يُؤَدِّيان إلى انتشار القتل العبثي ، والحروب التي لا تنتهي . وهذا سيكون على حساب الإنسان والحضارة والمناخ. وإن الموتى الذين يتحركون على ظَهْر الأرض هُم الخطر الحقيقي على الحياة ، وليس الموتى في بطن الأرض . ومَوْتُ القُلوب هو الانتحار التدريجي الذي يَجعل الإنسانَ كيانًا فارغًا ، بلا مشاعر ولا أحاسيس ولا إنسانية . وسيظل مَوْتُ الإنسان في الحياة هو التَّحَدِّي الأبرز في الوُجود ، والامتحان الحقيقي لضمير الحضارة .

12‏/03‏/2020

إبراهيم بن سالوقيه وفيروس كورونا

إبراهيم بن سالوقيه شخصية وهمية ، لا وجود لها . تَمَّ اختراعها وربطها بفيروس كورونا . وعلى الرغم مِن هذا ، فإنَّنا في نهاية الزمان، وفيروس كورونا مِن علامات اقتراب يوم القيامة ، حيث تنتشر الأوبئة ، والقتل ، والدمار ، والخراب . وكُل هذا مُقدِّمات لظُهور الإمام المهدي المُنتظر _ عليه السلام _ . وظُهوره ثابت وأكيد ، بعيدًا عن خُرافات دُخوله في السرداب عند الشيعة الروافض . وأدعو نفْسي وجميع الناس إلى عبادة الله وَحْدَه ، والتزام أوامره ، واجتناب نَوَاهيه ، وأن نُسارع إلى التَّوبة مِن كُل الذنوب قبل المَوت ، ومَن ماتَ قامت قِيامته . وكُلُّنا أصحاب ذُنوب وآثام . وعَلَينا أن نَرْجُوَ اللهَ ، ونخاف ذُنوبنا . ومَن تابَ ، تابَ اللهُ عليه . اللهُمَّ اغفر لي وللمسلمين والمسلمات ، الأحياء مِنهم والأموات . آمين .
............
العبد الفقير إلى الله ، الغنيُّ به
إبراهيم أبو عواد