سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

25‏/10‏/2018

حقيقة السياسة في المجتمعات المتخلفة


حقيقة السياسة في المجتمعات المتخلفة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................

     إن الهدف الأساسي من السياسة هو تحقيق مصالح الناس ، وبناء منظومة إنسانية اجتماعية توازن بين الحقوق والواجبات. ووفق هذا المعنى، تكون السياسة وسيلة لا غاية .
     والمشكلة الجذرية في المجتمعات المتخلفة أن السياسة فيها غاية بحد ذاتها،لذلك يتكرَّس معنى العنف والصدام والصراع على الكرسي ، ومحاولة المحافظة عليه بأي ثمن .
     وفي هذا المناخ الموبوء يظهر الطاغية ( الحاكم ) ، ويتكرَّس وجوده باعتباره المركز الذي تدور حوله كل تفاصيل المجتمع ، وتختفي الدولة شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى مرحلة " شِبه دولة " ، وتنهار الطبيعة الإنسانية ، فيتحوَّل المواطنون إلى أشباح مُدجَّنة لاهثة وراء رغيف الخبز ، ورُبَّما لا تحصل عليه . ففي أشباه الدول لا شيء مضمونًا ، بسبب غياب الحرية ، وانهيار القيم الأخلاقية ، وتحوُّل السياسة إلى لعبة للأغنياء المتحالفين مع رموز السُّلطة القمعية .
     والطاغية _ في كل زمان ومكان _ في عداوة متبادلة مع الشعب . وسبب هذه العداوة أن الطاغية يعتبر الشعب متخلفًا وبدائيًّا وهمجيًّا وسفيهًا وجاهلاً ، وبالتالي يجب الحجر عليه ، لأن الشعب لا يستحق الحرية ، ولا يفهم الديمقراطية . أي إن الشعب عاجز عن قيادة نفسه بنفسه ، ولا يستطيع اختيار مَن يَحكمه، وهنا يبرز مفهوم الوصاية . فالطاغيةُ " العبقري " هو الوصيُّ على الشعب " الجاهل " والمسؤول عنه ، كما أن الأب "العاقل " هو الوصي والمسؤول عن أطفاله الصغار " غير العاقلين " .
     والشعبُ يعتبر الطاغية مجرمًا وسفَّاحًا ولصًّا ، نهب ثروات البلاد ، ودمَّر حياة الشعب ، وفتح السجون للشرفاء والأحرار ، وترك الفاسدين يعيثون في الأرض فسادًا ، دون حساب ولا عقاب .
     وهذه العلاقة الجدلية بين الطاغية والشعب شديدة الخطورة ، لأنها تُحطِّم منظومة الولاء والانتماء ، فيصبح الفرد باحثًا عن حاجاته اليومية ضمن دائرة الاستهلاك الخانقة، دون النظر إلى ماهية الوطن وأهمية الدفاع عنه ، لأن الغريق يتعلق بحبال الهواء ، ويبحث عن قشة لإنقاذه ، وهذا يَمنعه من مُشاهدة بَر الأمان ، أو التخطيط للحاضر والمستقبل . إذ إن البقاء على الحياة يصبح هو الهم الوحيد، والهدف الأسمى بحد ذاته . وانحصار التفكير في البقاء حيًّا هو حاجز يمنع من التفكير في صناعة الإنجازات في الحياة. وهكذا، يتم تدمير الفرد معنويًّا وماديًّا ،
فيتحوَّل إلى عنصر منبوذ بلا قيمة في المجتمع ، وإذا شعر الفرد أن وجوده كعدمه ، سيفقد إحساسه بالعناصر من حوله ، ويخسر يقينه بالمستقبل المشرق . وعندئذٍ ، يتكرَّس مبدأ " اللهم نفْسي " أو " أنا وليكن الطوفان مِن بَعْدي " .
     ومعَ اضمحلال الولاء في نفوس الأفراد، يتلاشى معنى الانتماء، وتحتفي حقيقته . وتظهر معاني النفاق والمديح الزائف . فالفردُ يُدرِك أنه لَن يحصل على أي شيء في وطنه إلا بمديح الحاكم ، والتسبيح بحمده ، والإشادة بإنجازات النظام السياسي الوهمية . ولا يخفى أن العنصر الفاعل في المجتمعات البدائية المتخلفة هو الولاء للحاكم ، وليس الكفاءة . فلا يَهُم إذا كان الفرد عَالِمًا أو جاهلاً ، المهم أن" يبصم بالعشرة " للحاكم وحاشيته ، ويكيل لهم المديح ليلاً ونهارًا ، على أمل الحصول على جزء يسير من الغنائم التي يجمعها الحاكم وعصابته .
     إن الطاغية يعتبر السُّلطة مغنمًا ، وينظر إلى " الدولة " باعتبارها شركة تجارية استثمارية ، ومِلْكًا له ولعائلته وأتباعه. وهذه النظرة المنحرفة، تجعل الحاكم بالضرورة تاجرًا وسمسارًا ، وعليه أن يجمع أكبر قَدْر من الأرباح ، ويحصد أكبر كمية من الغنائم .
     وهذا التفكير القاصر والقاتل ، يُشكِّل خطرًا على الحاكم نفْسه ، لأنه يلعب بالنار ، ويُكثِّر عدد أعدائه والمتربِّصين بِه ، ويُقلِّل عدد أصدقائه المخلصين. فالكثيرون يلتفون حوله لمنافع مادية ، ومصالح شخصية، وليس حُبًّا له ، أو عِشْقًا لسياسته الحكيمة وإنجازاته العظيمة . وهؤلاء هُم فئران السفينة ، ومُستعدون للهرب منها في أيَّة لحظة ، لأنهم يعتبرون السفينة مصدرًا لجني الأرباح والمكاسب ، وليس وطنًا لهم . فهُم لا يشعرون بالولاء والانتماء إلى المكان الذي يعيشون فيه . تمامًا كالشخص الذي يستأجر شقة مفروشة ، أو يحجز غرفة في فندق . إنه يعلم في قرارة نفْسه أن وجوده مُؤقَّت ، لأنه لا ينتمي إلى المكان ، ولا يشعر بالولاء له ، بسبب غياب الروابط النفسية والأخلاقية والفكرية بينه وبين مكان وجوده .
     والسياسة القمعية للسُّلطة الحاكمة هي بداية نهاية " الدولة " ، إذ إن المواطنين الذين يُعانون من الفقر والجهل والحرمان والظلم ، سيتحوَّلون إلى أعداء مُستترين للنظام الحاكم ، ينتظرون لحظة الانقضاض ، ويفكرون في كيفية الانتقام والثأر من هذا النظام الذي حرمهم من الحياة الكريمة . وهذا يعني أن النار مختفية تحت الرماد ، ولا أحد يعرف متى تحين لحظة الانفجار ، وكثرة الضغط تُولِّد الانفجار . وقد قِيل : لا تَدخل في مواجهة مع شخص ليس لديه ما يَخسره .
     إن الخطيئة العُظمى التي سقط فيها الطاغية هي عدم تفريقه بين السيطرة والقيادة . فهو يعتقد _ بكل جهل وغرور واستكبار _ أن القبضة الحديدية وفتح السجون وتكميم الأفواه والاحتكام إلى الحديد والنار هو الحل الأمثل للسيطرة . وهذه نظرة قاصرة ، لأن الاستبداد قد يضمن السيطرة لبعض الوقت،ولكنْ لا يَستطيع توفير الحماية على المدى الطويل بسبب كثرة الأعداء،وزيادة الأعباء الحياتية،وتفاقم المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، كما أن الاستبداد عائق أمام التقدم وصناعة الإنجازات . وأيُّ مليونير يستطيع أن يشتريَ طائرة بأمواله ، ويحميَها بنفوذه وسُلطته ، ولكنْ ليس أي شخص يقدر على قيادتها والطيران بها .

17‏/10‏/2018

أسرار زير نساء محترم


أسرار زير نساء محترم

للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/10/2018

.................

     بدايةً ، ينبغي القول إن عبارة " زِير نساء " تُطلَق على الشخص الذي يُحادِث النساء ويُزاورهن . قال ابن منظور في لسان العرب : (( قِيل : الزِّير المخالِط لهنَّ في الباطل . ويُقال : فُلان زِيرُ نساء إذا كان يحب زيارتهن ومحادثتهن ومجالستهن . سُمِّيَ بذلك لكثرة زيارته لهن )) .
     وتفكير الرجال في قضايا العشق والغرام يختلف عن عن تفكير النساء. وهناك عبارة شهيرة في هذا السياق: (( الرجال يعشقون النساء من المظهر ، والنساء يعشقن الرجال من الكلام ، لهذا السبب ، النساء يضعن المكياج ، والرجال دائمًا يكذبون ! )) .
     وهذا يُشير بوضوح إلى انجذاب المرأة إلى كلام الرجل وعباراته اللطيفة وتلميحاته الشاعرية. ولا يوجد أفضل من الشعراء للعب هذا الدور الحسَّاس ، فهم القادرون على زخرفة الكلام ، والتلاعب بالألفاظ ، وصناعة المعاني والصور الفنية المؤثرة . لذلك ، ليس غريبًا أن يكون أغلب أبطال قصص الحب في التراث العربي هُم مِن الشعراء . إنهم يصنعون الكلام ، ويُخلِّدون اللحظة .
     ومِن الشعراء البارزين في مجال العشق والغرام ، مسلم بن الوليد (140هـ _ 208 هـ ). وهو فارسي الأصل ، عربي الولاء . ويُعتبَر رأس مدرسة البديع ( عِلم تُعرَف به وجوه تحسين الكلام، من حيث الألفاظ ووضوح الدلالة ، على نحو يُكسِب التعبير الشعري طرافةً وجِدَّة ) .
     انقطعَ الشاعر إلى يزيد بن مزيد الشيباني أحد كبار قادة هارون الرشيد. وعندما صارت مقاليد الأمور في يد الفضل بن سهل وزير المأمون في أول خلافته، قرَّبه وأنعم عليه بالمناصب والأموال والضِّياع. وقد أنفقَ أمواله الكثيرة على الخمر والنساء ، وكان شغله الشاغل هو تلبية شهواته ولذاته . ولَمَّا قُتِل الفضل ، لزم مسلم بن الوليد منزله ، وتركَ اللهو ، وأقبلَ على العبادة ، حتى وفاته .
     عُرف مسلم بن الوليد بلقبه " صريع الغواني " ، وقد لقَّبه هارون الرشيد بِه ، لِقَوله في قصيدته التي مدحه فيها : ( هل العَيشُ إلا أن تروحَ معَ الصِّبا ... وتغدو صَريعَ الكأسِ والأعينِ النُّجْلِ ) .
     والغواني جَمْع غَانِيَة. والغانيةُ هي التي استغنت بجمالها عن مدح الناس ، أو التي غَنِيَتْ بزوجها عن غَيْره .
     كان مسلم بن الوليد مفتنونًا بجمال النساء ودلالهن، وحريصًا أشد الحرص على إقامة العلاقات معهن . وعبَّر عن ذلك بأشعار كثيرة ، وصُوَر فنية شديدة التأثير ، وكان مُقبلاً على اللهو مع النساء ، ونَيل لذة المغامرات الغرامية . لكنه لَم يغرق في المجون ، ولَم يُجاهر بارتكاب المعاصي والآثام مِثل الشاعر أبي نُوَاس ، الذي احترفَ المجون جِهارًا نهارًا .
     لقد أقامَ مسلم بن الوليد علاقاته الغرامية بعيدًا عن الأنظار ، وصنع عالمه السحري مع الخمر والنساء في الظل ، وراء الأبواب المغلقة. وكانَ يظهر أمام الناس كَرَجل وقور ، وزَوج صالح مُخلِص لزوجته ، ويتحرَّك في المجتمع بكل أدب واتزان وهدوء . وكان حريصًا على اسمه وسُمعته وكرامته ونظرة الناس إليه .
     لكن السؤال الذي يطرح نفسه : ما سبب هذا التناقض الصارخ في حياة مسلم بن الوليد ؟ . إنه يعيش حياتين مُنفصلتين، حياة في السر، وحياة في العلن . ولكل حياة أسلوبها الخاص ومشاعرها المحدَّدة . ما الذي يُجبره أن يكون إنسانًا مُزْدَوَجًا _ إن جاز التعبير _ ؟ .
     لقد وقع هذا الشاعر في صراع بين رغباته الذاتية والقيود الاجتماعية. أرادَ الانطلاق والتحرر من قوانين العقل الجمعي التي تفرض على الفرد أن يضبط شهواته وغرائزه ، ولا يُطلِق لها العنان. ومن خالفَ هذا الأمر، فإنه سيتعرَّض للاحتقار واللوم والفضيحة والتشهير، وتُصبح سُمعته سيئة للغاية ، ويتم نَبْذه ، وتسليط الأضواء عليه كعنصر فاسد في المجتمع .
     وهذه العقوبة لا يَقْدِر الشاعر على تحمُّلها، ولا يستطيع أن يدفع ضريبة الانشقاق عن الاتجاه العام في المجتمع. لذلك اختار الحياة السِّرية البعيدة عن الأضواء. ومَهما كان السَبَّاح قويًّا وعنيدًا ، فهو لا يستطيع أن يسبح ضِد تَيَّار النهر ، لأن العقل الجمعي أقوى من العقل الفردي . والكثرةُ غَلبت الشجاعة .
     لقد بنى مسلم بن الوليد حياته بشكل مُزدوَج، كَي يُحقِّق رغباته وشهواته، ويُلَبِّيَ طموحاته الشخصية ، وفي نفس الوقت ، يُحافظ على نظرة المجتمع إليه باعتباره رَجلاً فاضلاً ذا سُمعة طيبة ، ويتمتع بِحُسن السيرة والسلوك . وهكذا ، يَضرب عصفورين بحجر واحد .
     إن هذا الانفصام في الشخصية له تبعات شديدة الخطورة على النفس ، لأن يُحوِّل الإنسان إلى كائن اصطناعي هُلامي يَلعب على الحبلَيْن ، ويخلط الأوراق تبعًا لثنائية ( الوجه / القناع ) . وبالتالي ، يدخل الإنسان في حرب مع نفْسه ، ويخسر الانسجام والطمأنينة وراحة البال ، ويفتقد إلى قيمة التصالح مع الذات . وعندئذٍ ، يغيب السلام الداخلي والأمن الروحي ، ويفقد الإنسان قدرته على صناعة الفِعل، لأن حياته تصبح ردة فِعل خاضعة لأحكام الآخرين ، أي إنه يَخسر روح المبادرة، ويصبح شبحًا هاربًا من الضوء إلى حياة الظل، ومرآةً تعكس حياةَ الآخرين ، ولا تشعر بحياتها الخاصة .

12‏/10‏/2018

الهوس الجنوني بالشهرة


الهوس الجنوني بالشهرة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 12/10/2018

.....................

   إن الطبيعة البشرية قائمة على حُب الأضواء، ونَيل الإطراء والثناء ، والحصول على الشهرة . والإنسان يطمح أن يُشار إليه بالبنان، ويُصبح أشهر مِن نار على عَلَم ( جبل ). والإنسان اجتماعي بطبعه وغريزته ، وابن بيئته . ولا يَقْدِر على التحرر من أثر بيئته وتأثير الناس حَوْله ، سواءٌ أرادَ ذلك أَم لَم يُرده . وهو يعتبر اهتمام الناس بِه تقديرًا لحياته ، واحترامًا لفكره ، وإشادةً بإنجازاته .
     لكن المشكلة حين تتحوَّل الحقيقة إلى وهم، وتُصبح الشهرة غايةً قائمة بذاتها، يُبذَل في سبيلها الغالي والنفيس، ويتم اعتبارها هي الكمال المطْلق للإنسان، وبدونها لا معنى لوجود الإنسان. وهذا الهوس الجنوني بالشهرة هو مرض مُكتمل الأركان ، ووهم قاتل ، ورغبة مُتماهية مع الخرافة .
     ومِن الأمثلة على الهوس الجنوني بالشهرة ، وبلوغه مرحلة الكارثة والانهيار الإنساني الشامل ، حادثة رواها الإمام ابن الجوزي ( 510 هـ _ 597 هـ ) وقعت أثناء الحج في زمانه ، إذ بينما الحجَّاج يطوفون بالكعبة ، ويغرفون الماء من بئر زَمْزَم ، قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلَّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبَّحك الله ، لِمَ فعلتَ هذا ؟ . قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس ، يقولون : هذا فُلان الذي بال في بئر زمزم ! .
     وهذه القصة قد تبدو سخيفة أو تافهة ، ولكن دلالتها الرمزية في غاية الخطورة ، فقد أرادَ هذا الأعرابي الشهرة وجلب الأضواء إليه بأية وسيلة . فما كان مِنه إلا أن قام بفعلته الشنيعة ، كي يَشتهر أمره بين الناس، وتصبح قصته على كل لسان. وكما قِيل:" خَالِف تُعْرَف ". وهذا الأعرابي ذو المعرفة الضئيلة والثفافة السطحية البدائية ، لا يملك إنجازات عِلمية أو إسهامات أدبية تُفيد مجتمعه ، وتخدم أبناء بيئته . وهذا العجز الذي يَغرق فيه ، جعله يُوقِن _ في قرارة نفسه _ بأن أسهل وسيلة للشهرة هي القيام بعمل غريب وشاذ . وبالتالي ، لفت الأنظار إليه ، وخُلود ذِكره ، دُون بذل أي مجهود .
     وهذا الهوس الجنوني بالشهرة يقودنا إلى عبارة شديدة الخطورة والرمزية للكاتب الفرنسي ألبير كامو( 1913_ 1960 ) : أقصر طريق للشهرة أن تقتل صاحبة العمارة التي تسكن فيها ! .
     وهذه ليست دعوة للقتل وارتكاب الجرائم . وإنما هي عبارة ساخرة قائمة على الكوميديا السوداء . وبعض المهووسين بالشهرة يرتكب الجرائم البشعة كي يُعرَف ، ويُصبح ذائع الصيت . خصوصًا أن الناس يُتابعون باهتمام بالغ قضايا القتل وأحداث الجرائم التي تهز المجتمع .
     وفي هذا السياق ، تأتي حادثة اغتيال أسطورة فرقة البيتلز جون لينون ( 1940_ 1980) . ففي 8 كانون الأول / ديسمبر 1980 . وعندما كان لينون عائدًا إلى منزله في نيويورك ، اغتاله مارك ديفيد شابمان بإطلاق النار عليه من مسدس في ظَهْره . وكان القاتل قد صرَّح بأنه قام بقتل جون لينون، لشدة إعجابه به وبفرقة البيتلز !. وأشار شابمان إلى أن قتل لينون كان "قرارًا رهيبًا "، وأنه كان يظن أن قَتْل شخص مشهور ، سوف يَجعله ذا شأن ، لكنه بدلاً من ذلك جعله قاتلاً . وحُكم على شابمان بالسجن مدى الحياة . والعجيبُ أن شابمان لَم يهرب من موقع الجريمة، بل انتظر وصول الشرطة للقبض عليه . لقد خطَّط لهذه الجريمة بعناية وتركيز، واختارَ اغتيال شخصية مشهورة، كَي يصبح مشهورًا على مستوى العالَم ، ولا هدف له إلا الشهرة .
     ومِن الشخصيات العالمية المشهورة التي يُلاحقها المهووسون ، وتُعرَف بكثرة المعجبين بها ، الممثلة الأمريكية جودي فوستر. ففي عام 2008 اعْتُقِل رَجل من ولاية ماساتشوستس الأمريكية، بعد توجيهه رسالة خطية ، هدَّد فيها بتفجير مطار لوس أنجلوس ، وذلك من أجل لفت أنظار الممثلة جودي فوستر ، التي كان يقتفي أثرها مُنذ عام 2004 .
     وهذه القضية أعادت الأضواء إلى ما حصل قبل عَقْدَيْن من الزمان، عندما لاحقَ جون هينكلي الممثلة جودي فوستر . وهو شخص مهووس بالشهرة والمجد الوهمي ، وكان عاشقًا مُتَيَّمًا بجودي فوستر ، ومهووسًا بها إلى حد الجنون ، وحاولَ الوصول إليها بكل الوسائل والسُّبل ، ولكنه لَم يستطع الوصول إليها ولا الاتصال بها. فما كان منه إلا أن وضع سيناريوهات عديدة مثل اختطاف طائرة أو الانتحار أمامها حتى يَلفت نظرها ، ويَحصل على اهتمامها . ثم ظن أنه سيفوز بقلبها إن قام باغتيال الرئيس، باعتباره رمزًا مهمًّا ، وبقتله سيصبح ندًّا له ، وبطلاً قوميًّا ! .
     وفي آذار 1981 ، قام هينكلي بإطلاق النار خارج فندق في واشنطن على الرئيس رونالد ريغان ( 1911_ 2004 ) ، مِمَّا أسفرَ عند إصابة الرئيس بطلق ناري في الرئة . وقد كان هدف هينكلي من محاولته لقتل الرئيس ريغان هو لفت نظر جودي فوستر ، والفَوز  بقلبها ، والحصول على اهتمامها ، ونَيل الشهرة على المستوى العالمي . وهذا الأمر يدل بوضوح على أن الهوس الجنوني بالشهرة والمجد الزائف ، يُعمي البصر والبصيرة معًا ، فيفقد الإنسان تركيزه واتِّزانه ، ويُصبح آلة ميكانيكية عمياء ، وقد يقوم بأيَّة جريمة دون التفكير في عواقبها .

05‏/10‏/2018

رمزية الغراب الشعرية

رمزية الغراب الشعرية

للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 5/10/2018

.............

     إن الشِّعر كيان محمول على الرموز . والرموز هي قاعدة البناء الشعري ، والطاقة اللغوية القادرة على زراعة الصور الفنية المدهِشة في ذهن المتلقِّي . وكُل شاعر له رموزه الخاصة به، التي تنبع من طبيعة شخصيته وماهية رؤيته للأشياء . وفي الفضاء الشِّعري يُصبح الرمز كالبصمة ، ولا يَقْدِر الشاعر أن يُحلِّق في فضائه إلا بوجود بصمة مميزة له، تكون بمثابة بطاقة تعريف لإبداعه . والبصمةُ الشعرية تعمل عمل الجناحين للطائر . وكما أن الطائر لا يَقْدِر على الطيران إلا بوجود جناحين ، كذلك الشاعر لا يَقْدِر على الطيران في عوالمه الشعرية إلا بوجود بصمة شخصية ( رمز شِعري ) .
     ومِن الرموز المنتشرة بكثافة في أشعار الأمم وثقافات الشعوب : الغراب . ومع أن هذا الرمز يتكرَّر بصورة واضحة في الكتابات ، إلا أن معناه يختلف باختلاف الطبيعة الفكرية للكاتب . وهذا يدل على أن الرمز ليس مقصودًا لذاته ، ولا يُعتبَر غايةً قائمة بذاتها ، وإنما هو وسيلة وأداة توصيل للمعنى .
     وقد ارتبطَ الغراب بالتشاؤم والسَّوداوية ، بسبب صَوته المميَّز المهيب ، ولونه الأسود القاتم . وكان العرب في الجاهلية يتشاءمون بِه، فكانوا إذا نَعَبَ مرتين قالوا : آذنَ بِشَر . وإذا نعب ثلاثًا ، قالوا: آذنَ بخير. كما ارتبطَ الغراب بالفِراق ( البَيْن ) . وقِيل : سُمِّيَ غراب البَيْن ، لأنه بانَ عن نُوح عليه الصلاة والسلام لَمَّا أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فَلَقِيَ جِيفة ، فوقعَ عليها ، ولَم يَرجع إلى نُوح .
     وفي عالَم الشِّعر ، هناك شاعران حصلا على المجد الشعري والشهرة الأدبية ، عبر توظيف الغراب كرمز شِعري مُحمَّل بالدلالات اللغوية والمعاني الفلسفية . الأول هو الشاعر الأمريكي إدغار ألان بو(1809 _1849).والثاني هو الشاعر الإنجليزي تيد هيوز(1930_ 1998) .
     لقد أصبحَ"بو" مشهورًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين نشر قصيدة" الغراب" ( 1845). وتحكي القصيدة عن زيارة غُراب مُتكلِّم وغامض إلى عاشق مُضطرب . وهذا المناخ الشِّعري يُقدِّم الغراب ككائن غامض ظَهر فجأةً ، لِيُعيد ترتيب حياة هذا العاشق المحطَّم نفسيًّا ، والمجروح عاطفيًّا.
     صارَ الغراب هو المنقِذ والمخلِّص والناصح الأمين . وكأن هذا العاشق فقد ثقته بالناس ، ولَم يعد يثق إلا بهذا الغراب . وهذه المفارَقة تُشير إلى انهيار العالَم الكامن في ذات الشاعر ، واختلال الموازين ، وفقدان البصيرة ، وغياب الرؤية . وكما يُقال : إن الغريق يتعلق بحبال الهواء . وحياةُ هذا العاشق المنهار في القصيدة ، إنما هي انعكاس لحياة الشاعر" بو" المنهارة بسبب إدمانه الشديد على الخمر ، وكثرة أزماته الروحية ، ومشكلاته المادية. وقد صارت سُمعته سيئة للغاية في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ . وهاجمه النُّقاد بشدة بسبب مُعاقَرته للخمر ، واتَّهموه بأنه مدمن على المخدِّرات. وقال البعضُ إنه يجب أن لا يُترَك الجمهور معَ رَجل مِثله ، غير مستقر نفسيًّا وعقليًّا، يجلس في غرفة مُعتمة، مع غُراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوب مليء بالأفيون .
     إن " غُراب بو " هو الذي أبرزَ نقاط توتر الشاعر ، وانهيار عالمه الشخصي ، ووضَّح قلقه وكآبته وأحلامه الضائعة وآلامه المتفاقمة وأوضاعه المالية السَّيئة. لذلك ، ليس غريبًا أن تتمحور موضوعات " بو " حول الموت وعلاماته الجسدية وآثار التحلل ، والمخاوف من الدفن ، والحِداد.
     إن قصيدة "الغراب" هي حجر الزاوية في مشروع " بو " الشعري ، الذي يمكن تسميته بالرومانسية السوداء ، وهي ردة فِعل أدبية للفلسفة المتعالية التي كرهها " بو " بشدة .
     أمَّا الشاعر تيد هيوز فقد نشر ديوانه " الغراب " عام 1970 بعد مُعاناة كبيرة ، وانقطاع عن الكتابة لسنوات بسبب انتحار زوجته الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث في عام 1963 ، وقد تَمَّ تحميله مسؤولية انتحارها ، بسبب خيانته لها .
     يُعتبَر ديوان الغراب أشهر أعمال هيوز على الإطلاق . وهذا الطير يتكرَّر مِرارًا في شِعره رَمْزًا للظلام والقسوة والسخرية السوداء والعنف الذي يتفجَّر في الطبيعة . لقد درس هيوز في جامعة كامبردج عِلم الآثار والحفريات ، وهذا جعله على وَعْي تام بعناصر الطبيعة ، فاستخدمَ الحيوانات والطيور ( وعلى رأسها الغراب ) كنماذج في شِعره الذي يمتاز بالغموض والتَّنبؤية .
     إن " غُراب هيوز" جَعل عالمه الشِّعري مليئًا بالعنف البدائي والقسوة المندمجة مَعَ انهيار الإنسان في عالم استهلاكي دموي تَحكمه الشهوات والغرائز. و"الغراب " في شِعر هيوز ليس مفردةً عابرة، أو صورة بلاغية مُجرَّدة ، بل هو رَمز مركزي شديد الاستقطاب ، تَحُوم حَوْله القيم الإنسانية المنهارة ، وملامح القسوة في الوجود . وكأن هيوز _ من خلال توظيفه لرمزية الغراب _ يُريد إعادة الإنسان المتوحش إلى إنسانيته النقية ، وأنسنة العالَم القاسي الذي نعيش فيه. وفي هذا السياق تندمج رمزية الغراب المركزية مع قيمة التمرد على الأنماط الاستهلاكية التي قَتلت رُوح الإنسان ، وحوَّلته إلى وحش ضِد أخيه الإنسان . والتمردُ الشِّعري هو تحوُّل الطاقة الجسدية إلى بُنية لغوية . وهذه البُنية اللغوية لا بُد لها مِن رمز يَحملها . وهذا الرمز هو الغراب ، الذي يُشكِّل بلونه الأسود القاتم الحقيقة الواضحة الصادمة ، بلا ألوان ولا زخارف . وعلى الإنسان أن يُواجه مصيره بنفْسه ، ويَقتلع شَوكه بيديه ، ولا أحد سيأتي لمساعدة أحد . وهذه هي اللحظة المصيرية الفاصلة بين الوجود ( البقاء ) والعدم ( الفناء ) .