سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/08‏/2016

الحرب الشعرية على الوهم

الحرب الشعرية على الوهم 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     كل الأفكار الاجتماعية هي نتاج لمركزية الفعل اللغوي، وموقعِه الراسخ على خريطة المعنى ، وهذا الحقيقة المعرفية تساهم في إدراك الطبيعة التاريخية للمجتمع ، وتوفِّر الشرعيةَ الأخلاقية لحرب القصيدة ضد الأوهام المتكاثرة . ولا يمكن للمجتمع الإنساني أن يتحرك بحرية وإبداع إلا إذا أعلن الحرب على القيم السلبية. وهذا الجو الثوري غير الفوضوي يُحوِّل القصيدةَ إلى جبهة قتال متقدمة وخندق أمامي في مواجهة الخرافة بكل أقنعتها. وهذا لا يعني بحال من الأحوال قتل الإنسان ، وتدمير المجتمع ، وسحق المنجزات الحضارية ، ونشر العنف الدامي . فالحربُ التي تشنها القصيدةُ على الوهم المتشظي إنما ترمي إلى تطهير النسق الاجتماعي من الفكر الدموي الاستئصالي على الصعيدَيْن الذهني والتطبيقي. فالشِّعرُ يقتل الشر في الإنسان ولا يقتل الإنسان ، ويعيد للذاكرة الإنسانية صيغةَ الحلم الذي كان مندثراً .
     وهكذا فإن تصادم الشِّعر مع الأنساق الاجتماعية السلبية أمر حتمي لا مفر منه . والواقعُ الإنساني الهش لا يمكن تغييره بالمجاملات أو الهروب منه . وإنما يتم تغييره بمواجهته عبر تحويل الفكر إلى تطبيقات عملية، وإخراجِ الأبعاد الشعرية من دائرة الذهنية إلى امتدادات الحياة المعاشة.
     والقصيدةُ التي تتحدى الحياة الركيكة للفرد والجماعة ، ليست تياراً لغوياً لقيطاً أو دخيلاً . إن القصيدة منظومة لغوية متكاملة معجونة بالقضايا الاجتماعية، جاءت من صميم الحياة الإنسانية، ونبعت من انتصارات الشعب وانكساراته.وبالتالي ، فإن أجزاء النص الشعري هي كائنات حية مندمجة بالكامل مع أحلام الإنسان ، ومُتَّحدة معه بشكل عضوي لا انفصال فيه.     
     وقد كانت الصيغة القصائدية حركة تاريخية دائرية مغلقة ، إلا أن تبني الفكر الشعري للهموم الاجتماعية وقضايا المصير الإنساني المشترَك ساهم في فك عزلة الخيال عن الواقعية. فلم تعد القضية صراعاً بين الشِّعر والنثر، بل أضحت صراعاً بين الحقيقة والوهم. ولم يعد الفكر القصائدي محصوراً في الأوزان الشعرية، بل امتد إلى الأوزان الاجتماعية والفلسفية ( القضايا المصيرية ).

     ولا فائدة من قصيدة تقدِّس الأوزان الشعرية ولا تقيم وزناً للإنسان وأحلامه . وإن القصيدة لا تنال شرعيتها من تقسيمات لغوية _ رغم احترامنا للأوزان الشعرية _ ، وإنما تنال شرعيتها من اندماجها بالإنسان ، والقدرة على التعبير عن نقاط قوته وضعفه . 

27‏/08‏/2016

القصيدة وصناعة المستقبل

القصيدة وصناعة المستقبل

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     لا يمكن اعتبار القصيدة نظاماً لغوياً مُغلَقاً يخلو من الأبعاد السياسية والاجتماعية . فاللغةُ الشعرية هي وعاء حاضن لأبعاد المجتمع الأفقية والعمودية ، الذهنية والواقعية . وهذه الحقيقة تشير إلى مدى تغلغل الفكر الشعري في النسيج الاجتماعي ، وتحوُّلِ القصيدة إلى قَوْمية قائمة بذاتها ، ذات خصائص متميزة ، وامتدادات شعورية متفردة .
     ومن خلال هذا المنظور يتضح دور النص الشعري في تعميق فرص الالتقاء بين الأضداد ، وتجميع العناصر الاجتماعية المتنافرة من أجل بناء مجتمع متنوع ومتجانس. وهكذا تبرز الوظيفة الشعرية باعتبارها كشفاً للأقنعة، ومشروعَ تعرية للأوهام المتجذرة في البنية المجتمعية . ولا يمكن للمجتمع الإنساني أن يتجذر في القيم الحضارية في ظل وجود الأقنعة والأوهام ، ولا بد من تطهير النسق الاجتماعي من نقاط الضعف قبل الانطلاق نحو المستقبل . وهذه المهمة المصيرية لن تنجح بدون مشروع ثقافي مندمج مع حياة الإنسان وتطلعاته . 
     وإذا تجذرت الثقافة كجوهر للحياة الإنسانية، فإن المستقبل يصبح ذا تماس مباشر مع حياة الفرد والجماعة، وليس حُلماً بعيد المنال أو شعاراً رومانسياً في الهواء . وهنا تظهر ضرورة نقل الفرد من الحالة الاعتيادية إلى الأفق التثويري ، وذلك من أجل إضفاء المعنى والشرعية على الحلم الإنساني وسُبل تحقيقه . وبالتالي لا مفر من جعل القصيدة شبكةً متشعبة تصل بين العوامل السيكولوجية للكيانات البشرية .
     وبالإضافة إلى كَوْن القصيدة حلقة وصل بين الإنسان وإنسانيته ، فإنها _ أي القصيدة _ حكومة موالية للمعنى، تتفاعل فيها كل الأبجديات السياسية والاقتصادية، السُّكونية والديناميكية . وهذه التفاعلات تشكِّل خطوةً أُولَى في درب التحرير المعنوي، أي تحرير المعنى من ثقل الألفاظ. ومع هذا، ينبغي حشدُ المعاني الصارخة في اللفظة للوصول إلى مرحلة تثوير المعنى .

     ولا يخفى أن المفاهيم الثورية الطامحة إلى تنمية ثقافة المجتمع ومجتمعِ الثقافة ، تحتاج إلى تنظيم دقيق لئلا يسقط المجتمع في الفوضى والارتجال . وكل نسق حضاري لا يعرف نقطتَي البداية والنهاية سوف ينهار سريعاً. وكل مجتمع لا يعرف مساره ومصيره سوف يضيع في الطرق المتشعبة. ولا يَذهب بعيداً مَن لا يَعرف إلى أين هو ذاهب . ومن هنا تبرز أهمية العالَم الشعري الافتراضي في تحديد اتجاهات العالَم البشري الواقعي ومنحه البوصلة ودفة القيادة . 

24‏/08‏/2016

فضاءات الرمزية الشعرية

فضاءات الرمزية الشعرية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...............................

   إن النُّظم الشعرية ترسم خارطة " ما وراء النص " ، وتحتضن البؤرَ الفكرية للتاريخ الذهني الذي تصنعه المكوِّنات الاجتماعية . وهذه العملية المزدوَجة تؤسس عوالم جديدة من الرمزية الشعرية الهادفة إلى البناء لا الهدم . والرمزيةُ هي الأساس الفلسفي للشعر بسبب احتوائها على شحنات المعنى الصاعقة التي تتمتع بقوة الوخز العاطفي ليس من أجل القتل، بل من أجل الإيقاظ، تماماً كما يفعل الطبيب الذي يستعمل الصدمات الكهربائية بحق مرضاه ، إذ إنه لا يفعل ذلك لأنه يكرههم ، بل لأنه يحبهم ويريد إنقاذهم. وهذا بالضبط ما تقوم به الرمزية الشعرية المتدفقة في جسد القصيدة وجسدِ المجتمع . 
     والرمز الشعري ليس مجالاً للترفيه والعبث ، واستعراض العضلات اللغوية أمام الناس . إنما هو حركة فكرية انقلابية تدمج العوامل التاريخية بجغرافيةِ القصيدة ، وبالتالي تصبح تضاريسُ القصيدة هي تاريخَ حُلم الشاعر ، والشيفرةَ الوراثية التي تحمل خصائص المجتمع الإنساني وتنقله عبر الحقب الزمنية، وتحافظ على هويته أمام التغيرات الروحية والمادية. لذا فإن الفعل الرمزي لا يمكن المساوَمة عليه، أو محاصرته في زاوية العَرْض والطلب ، لأن هذا الفعل _ بما يحمله من قوة ثَورية _ كاسر للحصار ، ومتمرد على الأبعاد الأسطورية التي تنتجها السُّلطة القمعية لتكريس نفوذها ، سواءٌ كانت سُلطة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية .
     والجدير بالذِّكر أن الفعل الرمزي في القصيدة له دور فعال في توليد الفعل السياسي . كما أن سياسة الثقافة من شأنها تكوين ثقافة السياسة ونشرها في أوصال المجتمع أفقياً وعمودياً . وهذا التلازم المصيري بين فضاء الفعل الثقافي ومسار الفعل السياسي ، سيؤدي إلى تنظيم مراكز القوى الاجتماعية وتسخيرها من أجل بناء الشخصية الإنسانية لا طمسها . وهنا تبرز أهمية القصيدة في حفظ وحدة الشعور الإنساني ، والحيلولة دون تمزقه في ظل التغيرات الجذرية التي تهز " التربة الفكرية " دون أن تقتل البذورَ .  

     وستظل الرمزيةُ الشعرية منبعاً للدهشة والتجديد ، وسوراً يمنع وصول الاعتيادية إلى القصيدة، لأن الاعتيادية هي موت الشِّعر والشاعرِ . 

20‏/08‏/2016

كنوت هامسون ودعم النازية

كنوت هامسون ودعم النازية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 20/8/2016

...................

    يُعتبَر الكاتب النرويجي كنوت هامسون( 1859_ 1952) واحداً من أبرز الروائيين العالميين في النصف الأول من القرن العشرين . وقد حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1920 .
     وُلد في أسرة ريفية فقيرة . وعاشَ طفولةً قاسية في رعاية عمِّه . وهذه الطفولة البائسة دفعته إلى ممارسة مهن بسيطة لكسب قُوت يومه . سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية على أمل أن يبدأ حياته من جديد ، ويُودِّع حياة البؤس والشقاء . لكنه أُصيب بخيبة أمل كبيرة . فقد تعرَّف على الحياة الأمريكية بكل جوانبها، واعتبرها حياةً مادية مضادة للروح، وغارقة في الاستهلاكية ، وسائرة ضد الإنسان والطبيعة. كما أنه لم يقتنع بالديمقراطية الأمريكية، واعتبرها مُزيَّفة وخادعة .
     في عام 1890 ، أصدر هامسون روايته الجوع ، التي حقَّقت نجاحاً عالمياً ساحقاً ، وجَلبت له الشهرة والمجد الأدبي . وتروي مغامرات شاب جائع ، تصطدم مشاعره بالواقع الصعب ، ويشعر بأنه ضائع في مدينة صاخبة وقاسية . ومعَ أنه يحاول الحفاظ على تماسكه ومظهره الخارجي المحترم ، إلا أن انهيار وضعه الذهني والجسدي يكشف حالته السَّيئة . وقد كانت هذه الرواية بمثابة سيرة ذاتية للكاتب ، حيث عرض فيها تجربته الشخصية بشكل غير مباشر . وقد أدانَ في هذه الرواية الحضارة المادية المتوحِّشة التي تقتل الروحَ في الإنسان ، وتُدمِّر الطبيعةَ ، وتُفسِد الحياة الإنسانية ، وتجعلها عبئاً ثقيلاً على كاهل الإنسان . وقد كانت جميع رواياته في مسيرته الإبداعية الطويلة تتمحور حول مبدأ " فضح المادية القاسية التي لوَّثت الحياة الإنسانية " . 
     والغريبُ في الأمر ، أن هامسون المدافع عن النَّزعة الإنسانية ضد المادية المتوحِّشة ، قد أيَّدَ هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية ، ودعمَ النازية بكل طاقته . فقد اعتبرَ هتلر هو الزعيم الْمُخَلِّص القادر على إقامة المجتمع الجديد المتحرِّر من كل الأمراض التي جلبتها الحضارة المادية . كما أنه اعتبرَ النازيةَ هي الخلاص الروحي لأزمة الفرد في المجتمع الاستهلاكي المضاد للإنسان والطبيعة .
     لقد عانى هامسون في حياته كثيراً . فقد أُصيب بعض أفراد عائلته بالجنون ، كما أن طفولته البائسة وفترة شبابه القاسية تركتا في نفْسه جروحاً عميقةً . ولم يستطيع التخلص من آثار هذه الجروح طيلة حياته ، حتى بعد حصوله على جائزة نوبل ، ونَيل الشهرة العالمية ، والمجد الأدبي .
     كان شديد الإعجاب بنيتشه . فقد رأى في فلسفته القوة الإنسانية ، والأنا العليا ، وفكرة     " السوبرمان " . وربما أراد هامسون_ الذي عانى من الضعف والفقر والجوع والحرمان _ أن يُعَزِّيَ نفْسه بهذه الفلسفة ، وأن يبحث فيها عمَّا يَنقصه . لقد اعتبرَ فلسفةَ نيتشه انتقام الضحية من العالَم المادي القاسي ، وتعويضاً شخصياً له عن سنوات الفقر والجوع والمرض .
     كان هامسون فخوراً بأصوله الريفية ، وكان يتباهى أمام الناس بجذوره العائلية الضاربة في أعماق الرِّيف . كما أنه حاولَ جاهداً أن يُؤسِّس في أعماله الأدبية ما سَمَّاه " الرومانسية الزراعية" المعادية لصخب المدينة الحديثة ، وقَسوة الحضارة المادية ، وقلق الإنسان الوجودي .
     وعلى الرغم من هذه المشاعر الدافئة تجاه الإنسان، والأحاسيسِ العميقة الرامية إلى تخليص الإنسان من مأزق الحياة المادية الاستهلاكية ، إلا أنه قد سقط بصورة مرعبة في المجال السياسي . فقد أيَّد النازيين الذين جاؤوا إلى السُّلطة في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين ، وراحَ يَحُثُّهم على ضرورة حماية النرويج من " الخطر البريطاني " . وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، دعا أهل النرويج إلى مساندة النازيين، وتقديم كل أشكال الدعم لهم . وقد بدأ بنفْسه ، فلم يتردَّد في مقابلة غوبلز ( وزير الدعاية النازية ) ، كما أنه التقى الزعيم النازي هتلر شخصياً .
     لقد كان دعم النازية عقيدة راسخة في قلب هامسون ، اعتنقها بكامل إرادته ، ودون ضغط أو إكراه . وحتَّى بعد سقوط النازية ، وانهيار الدولة الألمانية ، وانتحار هتلر . قال هامسون مُمَجِّداً " القائد هتلر" : (( لقد كان مُصْلِحاً استثنائياً ، ومصيره التاريخي جعله يصطدم بفترة تاريخية اتَّسَمَت بعنف لا مثيل له . وهذا العنف هو الذي كان سبباً في سقوطه )) .
     وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، تَمَّت محاكمة هامسون ، وأُودِع في مصحَّة الأمراض العقلية . ومع هذا ، لَم يستسلم ، ولَم يُغيِّر أفكاره ، ولَم يعتذر عن مواقفه . بل كتب خطاباً للدفاع عن نفْسه ، وتبرير أفكاره ومواقفه . وهذا الخطاب ( الْمُرَافَعَة الأخيرة ) جاء بعنوان شِعري جذَّاب : " على الدروب حيث ينبت العشب " .‏
     أُصيب هامسون في حياته بنوبات عصبية حادة . وفي آخر حياته ، اشتدَّت عليه هذه النَّوبات، ولم يَعُدْ يَعرف ما يَقول وما يَفعل. وهذا الأمر فرض عليه عُزلةً قاسية . وكان أهل بلاده يعتبرونه خائناً للوطن وعَميلاً للاحتلال الأجنبي. أمَّا رواياته التي كتبها، فلا تزال حتَّى يومنا هذا، تأسر ملايين القُرَّاء في أنحاء العالَم ، وتفتنهم بالأسلوب الأدبي الجذاب ، والأفكار العميقة .
     مِن أبرز أعماله الأدبية : الجوع ( 1890 ). أسرار ( 1892) . لعبة الحياة ( 1896) . الحالمون ( 1904 ) . تحت ستار الخريف ( 1906) . نمو التربة ( 1917 ) . 

18‏/08‏/2016

حركة الشعر ضد الفراغ

حركة الشعر ضد الفراغ

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد 

................

    إن التاريخ الوجداني للفكر الشعري يتحدد وفق المفاهيم الإنسانية النابعة من الثقافة الاجتماعية. وهذا الارتباط الحتمي والمصيري بين الفكر الشعري والبعد الاجتماعي يؤسس منظومة مفاهيم جديدة تؤدي إلى تثوير اللفظ والمعنى وصهرهما في النظام القصائدي ، مما يجعل الفكر الشعري كتلةً متماسكة خالية من الفراغات . فالشِّعر ينتزع شرعيةَ وجوده واستمراريته من صهر المراحل واختصار الأزمنة وحرق المسافات ، وهذه العمليات المتضافرة لا تسمح بظهور فراغات في الفكر الشعري أو مناطق معزولة ، إذ إن كثافة الولادات الشِّعرية تجعل القصيدة نهراً متدفقاً سريع الجريان ، وعندئذ يتحول التيار الشعري إلى طاقة تعيد تشكيل الامتداد الثقافي في جسد المجتمع ورُوحه .
     وكلُّ فراغٍ ناشئ عن انهيار العلاقات الإنسانية ، وغربةِ الفرد في محيطه الاجتماعي ، وغربةِ المجتمع في نفسية الفرد ، فإن القصيدة ستقوم بملئه لأنها النسق الثقافي القادر على ملء الأمكنة باشتعالات الأزمنة ، وردم فجوات الأزمنة بالحضور المكاني المتأجج .
     وإنهاءُ حالة الفراغ في العاطفة الإنسانية والبنيةِ الاجتماعية ليس رفاهيةً أو تضييعاً للوقت . فلا بد من إنهاء الفراغ لكي يتم بناء العالَم الشعري وفق مراحل لغوية متطورة ذات شعور واقعي ووعي سوسيولوجي . وهكذا تتكرس أهمية الْمُنْتَج اللغوي الرمزي كأبجدية معرفية تطلع من توهج اللفظة ومركزيةِ المعنى ، ويتحقق التوازن في الجسم القصائدي بين ميكانيكا الشِّعر وروحانيته .
     وهذا التوازن سيصنع السلامَ الداخلي في الجسم القصائدي ، فتصبح القصيدة في وئام مع ذاتها ، وفي حالة حربٍ مع العوالم الخرافية المصبوغة بهالة المسلَّمات . كما أن هذا التوازن سَيُجنِّب النظامَ الثقافي الدخولَ في متاهة الأضداد ، وماهيةِ الصراع العبثي ( الصراع في القصيدة / الصراع على القصيدة ) .

     وبالتالي فإن المنظور المعرفي المتمركز في بُنية الثقافة وتفاصيلِ المجتمع ، سيغدو فكراً جمعياً يضمن وحدة الجسد القصائدي وعدم تمزقه . وفي نفس الوقت ستصير فلسفة الأنشطة الاجتماعية شعوراً جمعياً حاضناً للنظام الشِّعري ذي الصبغة الثورية التي تُشيِّد المعنى وتهدم الفوضى . وعندئذ يتحرك المجتمع ضمن الجسد اللغوي الواحد ، وتسكن روحُ اللغة في جسم المجتمع الإنساني .

15‏/08‏/2016

هنريك بونتوبيدان ومقاومة الطبقية

هنريك بونتوبيدان ومقاومة الطبقية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 15/8/2016

.....................

   يُعتبَر الأديب هنريك بونتوبيدان( 1857_ 1943) ثاني دنماركي يَفوز بجائزة نوبل للآداب، حيث حصل عليها في عام 1917 مُناصفةً مع مواطنه كارل غيلوروب .
     وُلد بونتوبيدان في مدينة فردريكية في وسط الدنمارك . كان والده كاهناً ، وراعياً لكنيسة المدينة ، وينحدر من أسرة كبيرة من الكهنة والكُتَّاب . بدأ حياته التعليمية في دراسة الهندسة في كوبنهاجن ، لكنه تركها لأنه لم يجد نفْسه في عالَم الأرقام والحسابات . عمل مُعلِّماً في مدرسة ابتدائية ، ثم ترك سِلْك التعليم ، والتحقَ بالصحافة . وعندما بلغ العشرين من عُمره ، قرَّر التفرغ التام للكتابة ، ورسمَ حياته ككاتب مُحترِف .
     وقد شكَّل زواجه الفاشل أول صدمة في حياته ، فقد اقترنَ بفتاة في عام 1881تختلف عنه روحياً ومادياً . وكان الفشلُ هو النتيجة المتوقَّعة لهذا الزواج غير الْمُتكافِئ .
     لقد امتاز بأسلوبه الساخر ، ولغته المليئة بالرموز والحِكَم . وكان ناقداً للأوضاع السائدة في الدنمارك في تلك المرحلة، فقد كانت دولةً مُتخلِّفة تعتمد على الزراعة البدائية ، ومحكومة مِن قِبَل الإقطاعيين ورجال الدين . لقد صوَّر الشكَّ والتشاؤم في أعماله الأدبية ، وتعرَّض للموضوعات الوجودية بحثاً عن حقيقة الإنسان وهوية المجتمع والتقدم الاجتماعي ، وهذا جعله واحداً من أبرز كُتَّاب عصره .
     وقد عاشَ مع الفقراء والفلاحين والمنبوذين بروحه وقلمه ، وصوَّر عالَمهم البائس ، وحياتهم الصعبة ، وفضح الاستبداد والاستغلال باسم الدِّين والطبقة الاجتماعية . ثم انتقل لاستعراض مشكلات الطبيعة دون التخلي عن ارتباطه الاجتماعي وقناعاته الأيديولوجية .
     وكان الأدب بالنسبة إليه شرعية حياته ، ومركز وجوده في هذا العالَم . ففي أعماله الأدبية ، استطاع تصوير ذهنية المجتمع وانتقال الحرية إلى المجتمع واللغة ، كما أنه قدَّم في كتاباته " الصراع بين طبيعة الذكر الانطوائية وحيوية المرأة " . ومعَ أن لغته تبدو للوهلة الأولى سهلة وبسيطة ، إلا أنها مُحمَّلة بالرموز العميقة ، والتلميحات المستترة، والسُّخرية اللاذعة ، والأفكار الكامنة بين السطور .
     وبشكل عام ، امتازَ أسلوبه بالدقة الفائقة في تصوير الشخصيات، والتعاطف مع الفقراء والمنبوذين في المجتمع، وتشريح المجتمع الدنماركي الذي كان مجتمعاً زراعياً يسيطر عليها الإقطاع ورجال الدين .
     وكانت نقطة التحول في حياته وأسلوب كتابته ، عندما تزوَّج للمرة الثانية في عام 1892 من ابنة موظف كبير في العاصمة، فقد انتقل في موضوعاته الأدبية من الريف إلى المدينة ، وكتب بين عامَي 1898 و1904 أشهر أعماله على الإطلاق " بِير المحظوظُ " ، وصار هذا التعبير مُصطلحاً شائعاً في اللغات الإسكندنافية. وقد وَصَفَ في هذا العمل الصراع بين المثالية والواقعية ، وكَشَفَ أسرار الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية في العاصمة .
     وبين عامَي ( 1912_ 1916) كتب روايته الخماسية " مملكة الموتى " . وتقترب لغته في هذه الرواية من الأسلوب الشِّعري العاطفي ، كما أنه وَصَفَ الحياة في الدنمارك في بدايات القرن العشرين ، ناقداً السُّلطة وسُوء استخدامها .
     وفي آخر أيامه ، اعتزلَ الناس ، وكرَّس وقته بالكامل لكتابة مذكراته ، التي جُمعت في أربعة مجلدات ، بعنوان " الطريق إلى ذاتي " ، ونُشرت في سنة وفاته ( 1943) .
     وعلى الرغم من موهبته الأدبية الفذة ، وتصنيفه كواحد من أكثر الكُتَّاب الدنماركيين حَداثةً وإبداعاً ، إلا أنه كان رَجلاً متناقضاً في مواقفه ، ورُبَّما يعود هذا إلى شخصيته القَلِقة . فقد كان مُتحرِّراً ووطنياً صارماً في آنٍ معاً . وتعاونَ معَ الاشتراكيين لكنه لم ينضم إليهم ، وبقي مستقلاً . كما أن كتاباته في كثير من الأحيان عبارة عن خليط من التَّحيُّز والموضوعية . وهذا حيَّر القُرَّاء والنُّقاد على حَدٍّ سَواء .

     من أبرز أعماله : أجنحة ( 1881) . بطاقات بريدية من القرية ( 1883) . ابنة المرابي ( 1886) . غيوم ( 1890 ) . الحارس ( 1893) . من الأكواخ ( 1901) . ضيف الملِك    ( 1908 ) . 

12‏/08‏/2016

كارل شبيتلر وتعدد الآلهة

كارل شبيتلر وتعدد الآلهة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 12/8/2016

.................

   كارل شبيتلر ( 1845_ 1924) هو شاعر وقاص وكاتب مقالات سويسري يكتب باللغة الألمانية. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1919 ، عِلماً بأن الجائزة قد حُجبت عام 1918.
     كان والده موظفاً كبيراً في الدولة ، أرادَ توجيه ابنه نحو دراسة الحقوق للحصول على منصب حكومي رفيع . تلقى شبيتلر تعليمه المدرسي في مدينة بازل ( مسقط رأسه ) . وفي سن الثامنة عشرة بدأ بدراسة الحقوق بلا رغبة ولا قناعة ، فهذا التخصص كان متعارضاً تماماً مع ميوله . وكما كان متوقعاً ، ترك دراسة الحقوق مما أدَّى إلى الخصام مع والده . وبدأ يدرس اللاهوت في زيوريخ، ثم تابع هذه الدراسة في مدينة هايدلبرغ الألمانية .
     كانت نظرة شبيتلر الفلسفية إلى الحياة غارقة في السَّوداوية، متأثِّراً بأستاذه ياكوب بوركهارت في معهد التربية في بازل. كما توطَّدت الصداقة بينه وبين الكاتب فيدمَن، وكانت الرسائل بينهما من أهم مصادر التطور الفكري والفني عند شبيتلر . أمَّا التأثر الأكبر فقد كان بالفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي حوَّل طالب اللاهوت شبيتلر إلى متشائم وملحد . وبدلاً من أن يصبح قِسِّيساً ، صارَ عَدُوَّاً للمسيحية ورافضاً لها . وقد غادر إلى روسيا ليصبح مُعلِّماً لأبناء الطبقة البرجوازية . وبعدها عاد إلى وطنه صحفياً .
     لكنَّ عشقه لروسيا والحياة الاجتماعية فيها كان شديد الوضوح . وهذا العشق يتجلى في كتابه " إيماجو " الذي كان بمثابة سيرة ذاتية . فقد تحدَّث فيه عن كرم الشعب الروسي، والترحيب الحار والاستقبال الحافل وحُسن الضيافة . وهذه القيم قد أنسته مرارة الغربة . وفي مقابل هذا المديح ، أعربَ عن مشاعر التذمر وضيق الأفق والغرور في وطنه سويسرا .
     عَمِلَ مُحرِّراً في عدة صُحف ، منها الملحق الأدبي لصحيفة زيوريخ الجديدة ، ثم ترك عمله عام 1892 ، كي يتفرَّغ للكتابة بشكل كامل . وقد حصل خلال مسيرته الأدبية على التكريم والإشادة ، حتى إنه قد كُرِّمَ مع الكاتبين الألمانيين الكبيرين توماس مان وهِرمان هِسِّه . وحصل على لقب فارس في فَيْلَق الشرف الفرنسي .
     اهتمَّ شبيتلر بالأساطير اليونانية ، وبُنيتها الرمزية ، وانعكاساتها على الحياة الاجتماعية . كما جمع أعماله الصحفية في مجلَّدين هُما : " رموز أدبية " ، و "حقائق ضاحكة " . ثم صدرت له مجموعة قصصية بعنوان " الملازم كونراد" . أمَّا محاولاته في مجال المسرح فقد باءت كلها بالفشل .
     ويظل العمل الأبرز في مسيرته الفكرية ، كتابه " ربيع أولمبي " حول الميثولوجيا ( الأساطير ) اليونانية بأجزائه الأربعة، وهي : " الصعود إلى السماء " ، " هيرا العروس " ، " أوج الزمان " ،   " النهاية والتحول ". وقد صدرت هذه الأعمال بين عامَي 1900و1905 ، وتناول فيها الخلاف بين زيوس _ كبير الآلهة _ وأبولو وهيرا ، إضافة إلى قصص أخرى تدور حول آلهة اليونان .
     ومن الواضح أن الفكر التشاؤمي الإلحادي المسيطر على شبيتلر قد قاده إلى موضوع تعدُّد الآلهة عند اليونان ، وكأنه ينتقم من المسيحية . فالمسيحيةُ تؤمن بالمسيح إلهاً مصلوباً . أمَّا شبيتلر  _ الذي بدأ حياته دارساً لعِلم اللاهوت_ فقد رفض هذه العقيدة. وعاد إلى الماضي السحيق كي يبنيَ أفكاره على تعدد الآلهة ، وكأنه يُؤسِّس دِيناً وثنياً مُضَادَّاً للمسيحية .  
     أمَّا سيرة حياته فقد جاءت في كتابه " إيماجو " الذي اشتمل على قصة حُبِّه لابنة عمِّه ، وقد عرض في سيرته العلاقة بين الفن والحياة .
     إن الأعمال الفكرية والأدبية للكاتب شبيتلر قائمة على الرؤية التشاؤمية السَّوداوية ، والإحساس البطولي الملحمي. فقد رفض عِلم اللاهوت، وأدار ظَهْره للمسيحية ، وصار يُقدِّم نفْسه باعتباره الشاعر الملحمي ، واقتنع بأن وجوده محصور في المجال الأدبي لا الدِّيني .

     مِن أبرز أعماله : الفراشات ( 1889 )، الأمثال الأدبية ( 1892) ، مقالات ( 1898) ، أغاني العُشب ( 1906) . 

08‏/08‏/2016

مقدمة كتاب/ فلسفة المعلقات العشر

مقدمة كتاب / فلسفة المعلقات العشر

للمؤلف/ إبراهيم أبو عواد

دار الأيام للنشر والتوزيع _ عَمّان

........................

     إن الشِّعر هو دِيوان العرب _ شَاءَ مَن شاء وأبى مَن أبى _. وهو لم يصل إلى هذه المكانة السامية بالصُّدفة ، بل وصل إليها بسبب كَوْنه _ أي الشِّعر _ هو المتحدث الرسمي باسم تاريخ العرب وبطولاتهم وأمجادهم ، وهو السِّجلُ الشريف الذي يَحْوي تفاصيلَ حياتهم الروحية والمادية . لذلك نظرَ العربُ إلى الشِّعر باعتباره نظاماً للتخليص والخلاص، تخليصهم من ضغط العناصر الحياتية، وخلاصهم الإنساني الذي يَمنحهم المجدَ أثناء الحياة، والخلودَ بعد الموت . ووفق هذه الرؤية ، ليس غريباً أن يَضع العربُ كلَّ بَيْضهم في سَلة الشِّعر .
     ولا يَخفى أن العرب قبل البعثة المحمَّدية كانوا أُمَّةً وثنية ليس لها كتابٌ سماوي مُقدَّس ، وهذا جعلها في مرتبة أدنى من أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) الذين كان في أيديهم التوراة والإنجيل . ومن الطبيعي أن يَشعر العربُ بُعقدة النقص لأنهم منقطعون عن السماء . فكان الحلُّ _ من وجهة نظرهم _ هو اتخاذ الشِّعر كتاباً مقدَّساً، وذلك لكي يُعوِّضهم عن عدم وجود كتاب سماوي في أيديهم ، ولكي يَجبر كَسْرَهم ، ويُحطِّم عُقدةَ الشعور بالنقص ، فيتعاملوا مع الأمم الأخرى _ خصوصاً اليهود والنصارى _ بكل ثقة ، غير شاعرين بالنقص أو الانكسار أو تدني المرتبة .
     ومن هذا المنطلق لم يكن الشِّعرُ نظاماً لغوياً اجتماعياً فَحَسْب، بل كان_ أيضاً_ منظومةً دِينية، وَوَحْياً خاصاً. وهذا منحَ الشِّعرَ منزلته الرفيعة، وجعله أيديولوجية قائمة بذاتها تشتمل على أبعادٍ أسطورية ، وتقاطعاتٍ اجتماعية ، وأحلامٍ إنسانية ، وثقافاتٍ محلية وإقليمية .
     ويمكن اعتبار المعلَّقات هي دُرة تاج الشِّعر الجاهلي ، فقد اشتملت على صور صادقة للحياة الاجتماعية ، والعواطفِ الإنسانية ، والفلسفةِ العربية المصهورة في الواقع والخيال معاً . كما أنها امتازت بلغة قوية آسرة تستمد مفرداتها من البيئة المحيطة، فالشاعرُ _ أولاً وأخيراً _ هو ابنُ بيئته ، وحاملُ تاريخها. والجديرُ بالذِّكر أن المعلَّقات سُمِّيت بهذا الاسم لأنها عُلِّقت على الكعبة المشرَّفة تنويهاً بقيمتها الشعرية ، وعَظَمة شأنها ، ومكانة أصحابها .
     وقد قال ابن خلدون في تاريخه ( 1/ 803) : (( اعلم أن الشِّعر كان ديواناً للعرب ، فيه علومهم ، وأخبارهم ، وحِكَمهم . وكان رؤساء العرب منافسين فيه ، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده ، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن ... حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام مَوْضع حَجِّهم ، وبيت أبيهم إبراهيم )) .
     وما كان لهذه الأشعار أن تُعلَّق على الكعبة لولا اعتبارها نصوصاً شِعرية مُقدَّسة تُجسِّد التاريخَ العربي ، والأحاسيسَ الإنسانية في بيئة الجزيرة العربية ، والصورَ الحياتية المنتشرة في عوالم الإنسان العربي . كما أن تعليقها على الكعبة جرى بكل سلاسة دون اعتراض من أَحد ، وهذا مؤشر واضح على اتفاق الناس على قيمة المعلَّقات المعنوية والمادية ، وأهميةِ الشِّعر في صناعة الحضارة العربية ، وإخراج أُمَّة العرب المحصورة في الجزيرة العربية إلى آفاق جديدة ، وعوالم أكثر رحابة . إذن ، فالعقلُ الجمعي العربي كان يُقدِّس الشِّعرَ ، ويَجعله في قمة الهرم الحضاري، ويَنظر إلى الشاعر على أنه نبيٌّ يُدافع عن القبيلة ، ويَرفع اسمَها ، ويَحفظ التراث الإنساني الحضاري . وبالتالي ، ليس غريباً أن تَحتفل القبيلةُ إذا نبغ فيها شاعر ، فهي تَعلم  _ عِلْمَ اليقين _ أنه لسانُها الناطق ، وسيفُها القاطع .
     إن الشِّعرَ يَكشف نَفْسَه بنفْسه ، فهو نسقٌ قائم بذاته ، تَنبع مرجعياته ونظرياته من داخله ، لذلك لم أقم باستيراد النظريات الأدبية من هنا وهناك ، لإيماني بأن المعلَّقات ذات نسق فريد ليس على مستوى الشِّعرية العربية فَحَسْب ، بل أيضاً على مستوى الشِّعرية العالمية . كما أنني حاولتُ الإصغاءَ لما يقوله شعراءُ المعلَّقات، وتفسير رموزهم ، وتحليل تطبيقاتها ، وجعلَ الشِّعر يُفَسِّر الشِّعرَ دون حقنه بعناصر دخيلة ، أو آراء شاذة عن مسار الحضارة الشِّعرية التي صَنعتها المعلَّقات .
     لقد حاولتُ أن أستمع إلى آراء شعراء المعلَّقات التي أدْلَوا بها في شتى المواضيع. ولا يَخفى أن آراءهم مستمدة من خبراتهم الحياتية، ومكنوناتهم النَّفسية، وتأثيرات البيئة الفكرية والاجتماعية في تكوينهم الشخصي . إنهم قد عاشوا الحياةَ بكل تفاصيلها ، لمعرفتهم أن الحياة تشكِّل قيمةً أساسية في الفكر الإنساني ، فهي الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الإنسان لتحقيق الغاية من وجوده ، وتحويل أشواقه الروحية إلى واقع ملموس ، وإشباع حاجاته المادية .
     والجديرُ بالذِّكر أن ولادة الكلمات الثورية في شِعر المعلَّقات ، إنما تتم بواسطة زرع ثورة اللفظة والمعنى في أرجاء النَّص عن طريق بناء تكوينات فلسفية مُبْتَكَرَة ومُدهِشة وصادمة للمألوف ، وهذا يتحقق في نفسية الشاعر الثوري أولاً ثم يهبط على النتاج الأدبي الشِّعري . وهذه الولادة المتفجرة لها تشكيلان :
     الأول _ تشكيلٌ بصري فاقع لامتلاكه عناصر الرؤية الفنية التي تُختصَر في صدمة الصورة المتخيَّلة التي تهز الواقع هزاً ، وتُفرغه من محتواه السلبي لصالح الصورة الفنية الساطعة التي تملأ نفسية الصانع والمتلقي على السواء .
     والثاني _ تكوين سمعي يهز أركانَ المتلقي من أجل حشده بالقيم المطْلقة . فالعنصر السمعي موسيقى داخلية تنبع بالأساس من الصورة المتفردة، ولا ضير أن تنبع من الأوزان الشِّعرية، لكن الأولوية للصورة المتدفقة التي تأخذ مسارها الماحي الهادر دون حواجز لغوية أو أوزان قد تعيق التصويرَ الصادم ذا المعاني المبتكَرة . فالموسيقى تهز الإنسان حتى لو لم يفهمها ، فزقزقة العصافير _ على سبيل المثال _ تثير الخيال، وتهز الأحلام، وتحرِّك ثوريةَ العاطفة، دون أن يفهمها المتلقي، وقد يصل الشِّعرُ إلى هذا الطَوْر _ أحياناً _ .
     إن هذا الكتاب يأتي كمحاولة شخصية للتنقيب عن القيم المركزية في المعلَّقات العَشْر ، واكتشافِ المستويات الشعرية بكل تطبيقاتها الدينية والإنسانية والاجتماعية والفلسفية . والمعلَّقاتُ مَنجم كبير بحاجة إلى عمليات تنقيب كثيرة ومكثَّفة . والفلسفةُ الشِّعرية الكامنة في المعلَّقات هي بحرٌ متلاطم الأمواج . وقد حاولتُ     _ قَدْر المستطاع _ أن أغوص في أعماق هذا البحر لعلِّي أضع يدي على الجواهر والدُّرر. فإن نجحتُ فذلك توفيقٌ من الله تعالى، وإن أخفقتُ فعُذري أني قد حاولتُ، وشرفُ المحاولة يَكفيني .
     وأخيراً وليس آخِراً ، فهذا الكتابُ محاولةٌ ذاتية لاستنطاق شِعر المعلَّقات ، وجهدٌ مختصَر شديد التكثيف، ومغامرةٌ شخصية لم أُقلِّد فيها أحداً. وإنما سِرتُ على ضوء الشِّعر مُسلَّحاً بالمنهج العِلمي الذاتي وأدواته . والمرجعُ الوحيد الذي اعتمدتُه لتأليف هذا الكتاب هو " شرح المعلَّقات السَّبع " للزوزني .
واللهُ وَلِيُّ التوفيق .

إبراهيم أبو عواد

04‏/08‏/2016

فلسفة الهدم من منظور الشعر

فلسفة الهدم من منظور الشعر 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

......................

     إن النسق الإنساني إذا أراد التحرر من هيمنة الاستبداد ( السياسي والاجتماعي والفكري )، فعليه ترسيخ منظومة ( النقد / النقض ) في أجزاء البناء الثقافي ، وذلك من أجل اختبارِ النماذج الاجتماعية المتكاثرة ، وتشييدِ حالة التجانس بين الأفكار وعلاقتها بالطبيعة الزمانية والمكانية .
     ولا يمكن لحالة التجانس أن تصير واقعاً ملموساً إلا إذا قامت أبجدية الشِّعر بِسَبْر أغوار الإنسان ، وإخراجه من حالة اللامبالاة إلى التفاعل الإيجابي مع العناصر . والتحدي الأساسي في هذا السياق يتجلى في وجود مجتمعات عديدة تجنح إلى تقديس ما ليس مُقدَّساً ، مثل شخصية الحاكم، والذوات البشرية المتنفذة ، والعادات الاجتماعية ذات الطابع السلبي . وبالتالي تنشأ منظومة فكرية مُتوارَثة من المسلَّمات المحصَّنة ضد النقد .
     ووظيفةُ الشِّعر هي غَرْبلة الموروث ، وتمييز مُكوِّناته ، بحيث تتكرس نقاط القوة ، ويتم استئصال نقاط الضعف . فالشِّعرُ ليس نظاماً هداماً فوضوياً يرفض كلَّ شيء، بل هو أسلوب حياة عقلاني وبَنَّاء ، وهذا لا يتعارض مع أهمية الهدم _ في بعض الأحيان _ من أجل بناء العناصر الاجتماعية على قواعد صلبة .
     وفلسفةُ الهدم في منظومة الشِّعر لا تنطلق من شهوة الانتقام والمزاجية الطائشة والإقصاء الشامل، وإنما تنطلق من حتمية تفاعل البنية الثقافية الدلالية مع المجتمع الرمزي للقصيدة . وبعبارة أخرى ، إن اندماج ثقافة المجتمع وعوالم القصيدة هو الذي يُحدِّد تضاريس المأزق الوجودي التي ينبغي هدمها لفتح الطريق أمام الكتابة الشعرية كي تحرِّر المجتمعاتِ البشرية من الخوف . ولا يمكن للعقل البشري أن يُبدع في أجواء الخوف ، ولا يمكن للشِّعر أن يتولى القيادة في بيئة الخرافات .
     وهكذا نجد أن الشِّعر ليس تياراً مُوازِياً للواقع فَحَسْب ، بل هو حياة كاملة تنتشل الفردَ من الانهيار الجزئي والكلي لتضعه في مُواجَهة العالَم كله من أجل إنقاذه لا الانتقام منه . وعندئذ تصبح القصيدة هي المتحدث الرسمي باسم الإنسان في مواجهة سُلطة الأوهام .

     والكتابة الشعرية ليست تسليةً أو متعةً عابرة أو أحاسيس فترة المراهَقة، بل هي ثورة شاملة نابعة من مُسَلَّمة لا تُناقَش، ألا وهي أن الثقافةَ حربٌ مفتوحة وأبدية ضد الوهم، والقصيدةُ هي جبهةُ القتال الأساسية، والْمَعْقِلُ الرسمي للثورة الإنسانية.

02‏/08‏/2016

جمرة القصيدة وصناعة العالم النقي

جمرة القصيدة وصناعة العالَم النقي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

................

   إن مركزية الوجود الشعري تنطلق من حتمية تلاقح المكوِّنات الفلسفية في طبقات النص . وهذا التلاقح عبارة عن تاريخ وجداني للحلم الاجتماعي الذي يزداد توهجاً ، كلما استنبطنا الملامحَ الثورية من أنقاض الوجود البشري، وجعلْنا من الذاكرة الإبداعية فرصةً لبناء قصيدة مضادة لانهيار الإنسان وانكسارِ الحضارة. والقصيدة هي المرجعية الحاضنةُ لديمومة الحلم الإنساني ، والمحتويةُ على تاريخ التجارب الذهنية والواقعية للأنساق البشرية كلها . وهذا ما يجعل الأبجدية الشعرية حيوات متكررة في نظام ثقافي يصقل البناءَ الداخلي للعاطفة الجمعية .
     ولا بد للأبجدية الشِّعرية من وجود ذهني يكفل لها تخطي العقبات المادية ، ولا بد لها من وجود واقعي يكفل لها حق التعبير عن الألم الإنساني والأمل في التغيير نحو الأفضل ، وإعادة هندسة الذاكرة الإنسانية شِعْرياً لتصير نموذجاً راقياً على تماس وثيق بالكائنات الحية ، والعناصرِ الطبيعية الجمالية . وبالتالي تصبح المزايا الجوهرية للعالَم القصائدي أغنيةً على شفاه الطبيعة الحية ، ويتحرر الإنسانُ من دائرة الميكانيكا الآلية التي حَوَّلَتْهُ إلى شيء مادي بحت .
     والإشكاليةُ الكبرى السائدة في المجتمعات المعاصرة هي تكثيف النَّزعة المادية ( الموحشة / المتوحشة ) التي تعزل الإنسان عن الوجود الحياتي الكلي والجزئي، وتغرقه في مستنقع التشيؤ ( حيث يغدو الإنسانُ شيئاً ميكانيكياً وتصير عواطفه عبارة عن ارتدادات مادية فاقدة لوحدة الشعور وتكامليةِ الإحساس ) . وفي ظل هذه الهجمة الشرسة ليس غريباً أن يَسقط الفرد في مصيدة التَّسلع ، أي إنه يتحول إلى سلعة في مجال العَرْض والطلب ، والبيع والشراء . 
     ومن أجل تجاوز هذه التحديات المتكاثرة ، ينبغي إعادة تشكيل المجتمع الكَوْني الغارق في الكراهية وجدليةِ ردة الفعل وفَوْرةِ الغضب.والقصيدةُ إذ تصنع زمانها ومكانها شديدَي الخصوصية، فإنها تصنع مجتمعاً مبنياً على الثورة الأخلاقية الإنسانية بعيداً عن الإملاءات الداخلية والخارجية .

     وعلى الرغم من الإخفاقات التي قد يتعرض لها حاملُ الأبجدية الشعرية في طريقه نحو التحرر والتحرير ، إلا أنه سيظل _ لأنه محكوم بالأمل _ قابضاً على جمرة القصيدة من أجل تحويل انكسارات المجتمع إلى أنوية بنائية تساهم في صناعة غد أفضل . وهذا المعنى التثويري لن يظل حبيس النظريات الفلسفية في الكتب، بل سينتقل إلى حَيِّز الوجود البشري، والتطبيقاتِ اليومية الفاعلة . فالإنسان لا يملك خياراً آخر . فإمَّا أن يصنع العالَم النقي أو يصنع العالَم النقي ! .