سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/02‏/2014

نقض ما يسمى فضائل معاوية بن أبي سفيان

نقض ما يسمى فضائل معاوية بن أبي سفيان

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد

..........................

     قال الحافظ في الفتح ( 7/ 104): (( وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها ، ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال : لم يصح في فضائل معاوية شيء . فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتماداً على قول شيخه ، لكن بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رؤوس الروافض . وقصة النَّسائي في ذلك مشهورة وكأنه اعتمد أيضاً على قول شيخه إسحاق وكذلك في قصة الحاكم . وأخرج ابن الجوزي أيضاً من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي : ما تقول في علي ومعاوية ؟ ، فأطرق ثم قال : اعلم أن علياً كان كثير الأعداء ففتَّش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا فعمدوا إلى رَجل قد حاربه فأطروه كياداً منهم لعلي . فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له . وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد ، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنَّسائي وغيرهما والله أعلم )) .
     وقال المزي في تهذيب الكمال ( 1/ 338 ) عن الإمام النَّسائي وسبب مقتله : (( وسمعتُ قوماً ينكرون عليه كتاب الخصائص لعلي _ رضي الله عنه _ وتركه لتصنيف فضائل أبي بكر وعمر وعثمان _ رضي الله عنهم_ ، ولم يكن في ذلك الوقت صنَّفها فحكيتُ له ما سمعتُ فقال : دخلنا إلى دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنفتُ كتاب الخصائص رجاء أن يهديَهم الله ، ثم صنَّف بعد ذلك فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها على الناس وقيل له وأنا حاضر : ألا تخرِّج فضائل معاوية ، فقال : أي شيء أُخرِّج ، اللهم لا تشبع بطنه ؟! . وسكت وسكت السائل ... فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه في الجامع ، فقال : أخرجوني إلى مكة فأخرجوه إلى مكة وهو عليل وتوفي بها مقتولاً )) [(1)].
     وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 11/ 355) : (( وقال أبو عبد الرحمن السلمي : دخلتُ على الحاكم وهو مختف من الكرامية لا يستطيع أن يخرج منهم ، فقلت له : لو خَرَّجْتَ حديثاً في   فضائل معاوية لاسترحتَ مما أنت منه ، فقال : لا يجيء مِن قِبَلي ، لا يجيء مِن قِبَلي )) اهـ .
     ونقل الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 3/ 132) عن إسحاق بن راهويه شيخ البخاري قوله : (( لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل معاوية شيء )) اهـ .
     قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 20و21)  في باب عَقده باسم  " فضل معاوية بن أبي سفيان "  :  (( خال المؤمنين ، وكاتب وحي رب العالمين ، أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح ، وقد رُوِيَ عن معاوية أنه قال : أسلمتُ يوم عُمرة القضاء ، ولكني كتمتُ إسلامي من أبي إلى يوم الفتح ... والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من كتاب الوحي _ رضى الله عنهم _ ... ولما ولي علي بن أبى طالب الخلافة أشار عليه كثير من أمرائه ممن باشر قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويُولِّي عليها سهل بن حنيف ، فعزله فلم ينتظم عزله والتف عليه جماعة من أهل الشام ، ومانع علياً عنها ، وقد قال : لا أُبايعه حتى يُسلِّمني قتلة عثمان فإنه قُتِلَ مظلوماً ، وقد قال الله تعالى : ) وَمَن قُتِلَ مَظْلوماً فقد جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطاناً (  [ الإسراء: 33] )) اهـ . 
     قلتُ : لدي ملاحظات على هذا الكلام ، وإليك ردي على ابن كثير :
     [1] " خال المؤمنين " : عبارة لا دليل عليها ، وكون السيدة أُم حبيبة رملة بنت أبي سفيان _رضي الله عنها _ أُمَّاً للمؤمنين ، وأختاً لمعاوية ، فهذا لا يجعله بأية حال من الأحوال خالاً للمؤمنين  ، ولو كان  الأمر كذلك  فسيكون  عدوُّ الله  حيي بن أخطب اليهودي جَدَّ المؤمنين لأنه والد السيدة صفية أُم المؤمنين ، وهذا لا يقول به عاقل .
     [2] " وكاتب وحي رب العالمين " : وهذه العبارة فيها نظر من ثلاثة أوجه : الأول _ إن معاوية أسلم عام الفتح ( 8 هـ ) هو وأبوه ، وهما من الطلقاء . قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 8/ 205) عن معاوية : (( وإنما أسلم بعد ذلك عام الفتح سنة ثمان ، وقيل أنه أسلم بعد عُمرة القضاء سنة سبع ، والصحيح الأول )) اهـ . وقال الحافظ في الفتح ( 3/ 565) عن معاوية : (( إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان ، هذا هو الصحيح المشهور )) اهـ . فماذا بقي ليكتبه من القرآن الكريم بعد السنة الثامنة للهجرة ؟! . 
     وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 3/ 122و123) : (( ونقل المفضل الغلابي عن أبي الحسن الكوفي قال : كان زيد بن ثابت كاتب الوحي ، وكان معاوية كاتباً فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب )) اهـ .
     وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة ( 6/ 153) : (( وقال المدائني : كان زيد بن ثابت يكتب الوحي ، وكان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين العرب )) اهـ .
     أمَّا الذين يقولون إن معاوية كان كاتباً للوحي فهم يستندون إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه     ( 4/ 1945 ) عن ابن عباس _ رضي الله عنه _ قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ، ولا يقاعدونه ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله ثلاث أَعطنيهن، قال: (( نعم ))، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أُزوِّجكها، قال: (( نعم ))، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك ، قال : (( نعم )) ، قال : وتُؤَمِّرني حتى أُقاتل الكفار كما كنتُ أقاتل المسلمين ، قال : (( نعم )) .
     قلتُ : هذا الحديث مكذوب ولا يصح رغم وجوده في صحيح مسلم ، وهذا دليلٌ على أن صحيح البخاري أو صحيح مسلم ليسا معصومَيْن، فالله تعالى لم يقل: إنا نحن نزلنا صحيح البخاري ومسلم وإنا لهما لحافظون . فالكتاب الوحيد المعصوم على كوكب الأرض هو القرآن الكريم فقط لا غَيْر .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 63) : (( واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال ، ووجه الاشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وهذا مشهور لا خلاف فيه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك . قال أبو عبيدة وخليفة بن خياط وابن البرقي والجمهور : تزوجها سنة ست ، وقيل سنة سبع ... قال القاضي_ عياض _ : والذي في مسلم هنا أنه زوَّجها أبو سفيان غريب جداً ، وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كُفره مشهور ...وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة وأبوها كافر )) .
     وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 7/ 137) في ترجمة عكرمة بن عمار _ أحد رواة الحديث السابق _ : (( وقال صالح بن محمد : كان ينفرد بأحاديث طوال لم يشركه فيها أحد ، قال : وعكرمة صدوق إلا أن في حديثه شيئاً ... وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاري الحافظ :   عكرمة بن عمار ثقة روى عنه سفيان الثوري وذكره بالفصل ، وكان كثير الغلط ينفرد عن أناس بأشياء لا يشاركه فيها أحد . وقال ابن خراش : كان صدوقاً وفي حديثه نكرة ... قلتُ : قد ساق له مسلم في الأصول حديثاً منكراً ، وهو الذي يرويه عن سماك الحنفي عن ابن عباس في الأمور الثلاثة التي التمسها أبو سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم )) اهـ .
     ولو افترضنا جدلاً أن معاوية كان كاتباً للوحي ، فهذه ليست شهادة له بالجنة أو العِصمة ، فقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتباً للوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد عن الإسلام . قال الحاكم في المستدرك ( 3/ 107 ) : (( فأمَّا عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإن الأخبار الصحيحة ناطقة بأنه كان كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فظهرت خياناته في الكتابة ، فعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فارتد عن الإسلام ولحق بأهل مكة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح دمه يوم الفتح، فلم يُقتَل حتى جاء به عثمان، وقد راجع الإسلام فآمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقن دمه )) اهـ.
     ومن أدلة الفريق القائل بفضائل معاوية : عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت : نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ، فقلتُ : ما أضحكك ؟ ، قال : (( أناس من أمتي عرضوا عليَّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأَسِرَّة )) ، قالت: فادعُ اللهَ أن يجعلني منهم ، فدعا لها ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ، فقالت : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : (( أنتِ من الأولين )) ، فخرجتْ مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أوَّل ما ركب المسلمون البحر مع معاوية [(2)].
     قال الحافظ في الفتح ( 6/ 18) : (( وقوله فيه أوَّل ما ركب المسلمون البحر مع معاوية كان ذلك في سنة ثمان وعشرين في خلافة عثمان )) اهـ .
     وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 13/ 58) : (( كالملوك على الأَسرة ، قيل هو صفة لهم في الآخرة إذا دخلوا الجنة ، والأصح أنه صفة لهم في الدنيا ، أي يركبون مواكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم...وفيه فضيلة لتلك الجيوش وأنهم غزاة فى سبيل الله)).
     وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 74) : (( لكن الإتيان بالتمثيل في معظم الإشارة يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم ، لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موقع التشبيه ، أنهم فيما هم من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم ، والتشبيه بالمحسوسات أبلغ في نفس السامع )) اهـ .
     قلتُ : وهذا الحديث الشريف لا يمكن أن نعده فضيلةً خاصة لمعاوية، لأنه فضيلة عامة لتلك الجيوش التي تغزو باسم الله تعالى ، فالمدح للكُل ، وليس فَرْداً فرداً . وهذه الفضيلة العمومية مثل مدح الصحابة في الآيات القرآنية من حيث الوَحدة الجمعية الكلية ، لا من ناحية كُل فرد بعَيْنه ، فمدح الفرد بعينه يتطلب دليلاً واضحاً يسمي ذلك الفرد تلميحاً أو تصريحاً. كما أن المدح للحالة الوضعية وهي الغزو في سبيل الله تعالى ، فهذه الصفة المحمودة للوضعية المحمودة عند الله تعالى ، وهي الجهاد في سبيل الله تعالى.
     ونحن متمسكون بالقاعدة التي أصَّلْناها وهي أن أي خطاب شرعي يمدح مجتمعاً ما ، إنما هو في الأصل مدح للكُل كوحدة واحدة ، إلا إذا ظهر دليلٌ على أن المعني بالمدح كل فرد بعينه . فمثلاً كان المدح يأتي للصحابة رغم وجود صحابة منافقين وكفار كما أثبتنا ذلك في موقع سابق من هذا البحث . إذن ، نخلص إلى القول إن المدح العمومي لا يمكن أن يتعدى إلى مدح كل فرد بعينه إلا إذا ظهر دليلٌ .
     وأيضاً يستدلون على ما يسمونه فضائل معاوية بما رواه البخاري في صحيحه( 3/ 1069): عن أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( أوَّل جيش من أمتي يغزون البحر قد أَوجبوا ))، قالت أم حرام : قلتُ يا رسول الله : أنا فيهم ؟ ، قال : (( أنتِ فيهم )) ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أوَّل جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر_ يعني القسطنطينية _ مغفور لهم ))، فقلتُ: أنا فيهم يا رسول الله ؟ ، قال : (( لا )).
     قال الحافظ في الفتح ( 6/ 102) : (( قال المهلب : في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أوَّل من غزا البحر ، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر بالإجماع . وتعقبه ابن التين وابن المنير بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص  ،  إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( مغفور لهم )) مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة ، حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم اتفاقاً ، فدل على أن المراد : مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم )) اهـ .
     وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 77) : (( ومشروعية الجهاد مع كل إمام لتضمنه الثناء على من غزا مدينة قيصر ، وكان أمير تلك الغزوة يزيد بن معاوية ، ويزيد يزيد ، وثبوت فضل الغازي إذا صَلحت نيته )) اهـ .
     قلتُ : وهذا من الأدلة الساطعة على صحة ما ذهبنا إليه من أن المدح للكُل الجمعي ، والفضل مرتبط بالوضعية الحالية الآنية في المشهد المحدَّد ، فيزيد بن معاوية سيرته في الحضيض ، لكن مدحاً جاء له في موقف معيَّن لا يتعداه ، وهو موقف الجهاد في سبيل الله . لذا فالفضل والمدح مرتبط بشكل وثيق في الحالات المعاشة ، وليس على إطلاقه ما دام لم يَرِد دليل يفيد بإطلاقه . وهذا ما قلناه وكرَّرْناه مراراً في هذه الدراسة .
     وإليك أهم الأحاديث التي اعتمدوها لصناعة فضائل وهمية لمعاوية مع تذكر قول إسحق ابن راهويه شيخ البخاري : لم يصح في فضائل معاوية شيء .
     [1] عن عبد الرحمن بن أبي عميرة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية : (( اللهم اجعله هادياً مهدياً واهْدِ به )) [(3)].
     بدايةً ينبغي أن نعتقد أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب ، لكن معاوية لم يكن هادياً ولا مهدياً ، فهناك أحاديث ضده ، وهو زعيم الفئة الباغية باتفاق المسلمين سُنَّةً و" شيعة" ، ولقد أضل اللهُ تعالى به العبادَ بعد أن جعل سَب علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ في كل أركان الدولة الإسلامية في عهده ، كما أنه أرشد أهلَ الشام إلى النَّصب ومعاداة آل البيت ، وعلى رأسهم علي ابن أبي طالب _ رضي الله عنه _ . إذن، ندرك تماماً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الكلام ، لأنه لم يتحقق على أرض الواقع .
     وفي سند هذا الحديث سعيد بن عبد العزيز . قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 238) : (( ثقة ... لكنه اختلط في آخر أمره )) اهـ، وفي تهذيب التهذيب ( 4/ 53) : (( وقال أبو مسهر : كان قد اختلط قبل موته ... وعن ابن معين : اختلط قبل موته ))اهـ . وعلى من يعتمد هذا الحديث أن يقدِّم دليلاً على أن سعيد بن عبد العزيز لم يَرْوِه في آخر أمره ، وغير ذلك سيكون الحديث في موضع الاحتمال ، وما طَرأه الاحتمال سقط به الاستدلال . 
     وفي سنده كذلك عبد الرحمن بن أبي عميرة . قال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 347): (( مختلف في صحبته )) اهـ . وفي تهذيب التهذيب ( 6/ 220) : (( قال ابن عبد البَر : لا تصح صحبته ، ولا يثبت إسناد حديثه )) اهـ .  
     [2] عن عمير بن سعد قال: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( اللهم اهْدِ به )) [(4)].
     في سنده عمرو بن واقد . قال عنه الهيثمي في المجمع ( 1/ 354 ) : (( رُمِيَ بالكذب ، وهو مُنكَر الحديث )) اهـ .
     وقال عنه أبو مسهر : ليس بشيء . وقال دحيم : ليس بشيء . وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث مُنكَر الحديث [(5)].
     وقال البخاري في التاريخ الكبير ( 6/ 379 ) : (( مُنكَر الحديث )) اهـ .
     وقال ابن حِبَّان في المجروحين ( 2/ 77) : (( وكان ممن يقلب الأسانيد ، ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك )) اهـ .
     وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 428) : (( متروك )) اهـ .
     وقال الذهبي في الكاشف ( 2/ 90 ) : (( تركوه )) اهـ .
     [3] عن العرباض بن سارية السلمي قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( اللهم عَلِّم معاوية الكتاب والحساب وقِهِ العذاب )) [(6)].
     قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 2/ 123) : (( وأعضل قتيبة هذا الحديثَ )) اهـ .
     قلتُ : في سنده الحارث بن زياد . قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 146) : (( ليِّن الحديث )) اهـ . وفي تهذيب التهذيب ( 2/ 123) : قال الذهبي : مجهول ، وقال ابن عبد البَر : مجهول الحديث مُنكَر .
     [4] وروى الطبراني في الكبير ( 19/ 439 ) : عن مسلمة بن مخلد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية : (( اللهم مَكِّن له في البلاد ، وقِهِ سوء العذاب )) .
     قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 3/ 125) عن هذا الحديث: (( فيه رَجل مجهول )) اهـ .
     وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 595 ) : (( رواه الطبراني من طريق جبلة بن عطية عن مسلمة ابن مخلد ، وجبلة لم يسمع من مسلمة ، فهو مُرسَل )) اهـ .
     [5] وروى الطبراني في مسند الشاميين ( 2/ 161) : عن عبد الله بن بسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ادعوا لي معاوية ))، فلمَّا وقف بين يديه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أحضروه أمركم ، وأشهدوه أمركم ، فإنه قوي أمين )) .
     قال الهيثمي في المجمع ( 9/ 594 ) : (( فهو حديث مُنكَر )) اهـ .
     قلتُ : في سنده يحيى بن عثمان بن صالح . وفي تهذيب التهذيب ( 11/ 225) : قال ابن أبي حاتم : وتكلموا فيه. وقال ابن يونس: وحدَّث بما لم يكن يوجد عند غيره. وقال مسلمة بن قاسم : يتشيع ، وكان صاحب وراقة يحدث كتبه فَطُعِنَ فيه لأجل ذلك .
     وهناك العديد من الأحاديث الموضوعة التي وُضِعَت لصناعة فضائل وهمية لمعاوية، تركناها لأنها لا تستحق أن تُذكَر .
     وينبغي أن نعتقد أن قتل عثمان بن عفان _ رضي الله عنه _ كان الباب المكسور في تاريخنا الذي دخلت من خلاله الفتن والفِرَق ، وبعض الصحابة رَكب الموجة لتحقيق أهداف شخصية بحتة خاضعة لشهوة السلطان والْحُكْم مثل معاوية ومجموعته الذين تاجروا بدم عثمان لتحقيق أهداف شخصية لا أكثر ، وقد قاموا بلوي أعناق النصوص محاولين بذلك تطويعها لتصب في مصلحتهم أمام الرأي العام الإسلامي في تلك المرحلة . لذا فالفتن غَربلت الصحابةَ ، وميَّزت الصالح من الطالح .
     فمعاوية رأس الفتنة وزعيم الفئة الباغية هو الذي يتحمل المسؤولية الكبرى في قتل المسلمين وتفرق كلمتهم والقضاء على الخلافة الإسلامية الراشدة ، وهذه بعض الرواسب التي كانت عند بني أُمية في الجاهلية . ولكي ينال معاوية رضا المسلمين والقبول لديهم اتخذ من المطالبة بدم عثمان والمتاجرة به ذريعة للوصول إلى الحُكم ، مع أنه تناسى دم عثمان _ رضي الله عنه_ بعد أن صار خليفةً، وصبَّ جام حقده ونفاقه على علي بن أبي طالب_ رضي الله عنه_. وأيضاً عمرو بن العاص يتحمل جزءاً كبيراً في قتل خِيرة المسلمين وتفريق كلمتهم من أجل شهوة السُّلطة وحُبه للدنيا .    
     ونحن نؤمن أن في شيعة معاوية في تلك المرحلة الزمنية صحابة أجلاء معروفين بتقواهم ، ولكن للأسف انطلت عليهم حِيلة معاوية ، ودهاء عمرو ، فلم يتبيَّنوا الحق من الباطل . ونحن إنما نخص بالملام والعتاب رَأْسَي الفتنة معاوية وعمرو الذين تحايلوا على الشرع عالِمين بأنهم على الباطل ، ومع هذا واصلوا ضلالَهم .
     والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان عالِماً بما سيحدث بين الصحابة ، وهو الذي أطلق الحُكم في حياته بعد أن عيَّن الفئةَ الباغية . فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( وَيْح عَمَّار ، تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار )) [ سبق تخريجه ] .
     قال الحافظ في الفتح ( 1/ 542) : (( فإن قِيل كان قَتْله بصِفِّين وهو مع علي ، والذين قتلوه مع معاوية ، وكان معه جماعة من الصحابة ، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار ؟! . فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة ، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام ، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي ، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك  ، وكانوا هُم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم )) اهـ .
     قلتُ : هذا الكلام فيه نظر من أوجه :_
     الأول_ أن الصحابة لن يذهبوا كلهم إلى الجنة ، بل إن هناك صحابة ذاهبين إلى النار خالدين فيها، وهناك مَن سَيُعَذَّب فيها بمقدار ذنوبه ثم يخرج ، وهناك من سيكون في الجنة دون أن تلمسه النار . وقد قدَّمنا الأدلة الشرعية على ذلك ، ومن يقرأ هذا المبحث كاملاً سوف يُلم بالموضوع ، ويكتشف صحة رأينا واعتماده على المنهجية الشرعية المستقيمة بلا إفراط ولا تفريط .
     وليس الصحابي بمعصوم ولا يملك شهادة بدخول الجنة إلا إذا ثَبت ذلك من خلال النصوص الشرعية. ومن ثبت أنه ذاهبٌ إلى النار ، فهو إلى النار ، مثل معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم . ودخول بعض الصحابة النار جائز نقلاً وعقلاً ، وهو متحقق اعتماداً على الأدلة الشرعية ، كما وضَّحنا ونوضِّح ، فليس الأمر فوق طاقة العقول كما يتوهم البعض .
     فعن أبي نضرة عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعشرة من أصحابه:   (( آخركم موتاً في النار ))، فيهم سمرة بن جندب، قال أبو نضرة : فكان سمرة آخرهم موتاً [(7)].
     الثاني _ أن معاوية وعمرو بن العاص لم يكونا متأوِّلَيْن ، وإنما عارفان بالحُكم الشرعي تماماً ، وقاما بالتحايل عليه ، بعد أن خاضا في دماء المسلمين حُباً لشهوة السُّلطة الدنيوية ، وهذه رواسب الجاهلية العالقة فيهما . أما من انضوى تحتهما فالله تعالى يَعلم من كان متأوِّلاً لم يتبيَّن الحق الساطع، ومن كان متحايلاً باحثاً عن سلطان الدنيا . وكيفية التحايل على الشرع من قبل معاوية واضحة في هذا الحديث : فعن ابن حزم عن أبيه قال : لما قُتِلَ عمار بن ياسر_ رضي الله عنه_ دخل عمرو ابن حزم على عمرو بن العاص ، فقال : قُتِلَ عمار، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تقتله الفئة الباغية)) ، فقام عمرو بن العاص فزعاً حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك ؟، قال: قُتِلَ عمار، فقال معاوية: قُتِلَ عمار فماذا ؟، فقال عمرو : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( تقتله الفئة الباغية))، فقال له معاوية : دَحَضْتَ في بَوْلك ، أو نحن قتلناه ؟!، إنما قتله علي وأصحابه جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا ، أو قال بين سيوفنا [(8)].
     الثالث _قول ابن حجر " وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم " ، فهذه العبارة فيها نظر . إذ إنه لا اجتهاد في مورد النَّص،وما هذا الاجتهاد القائم على قتل المسلمين من أجل أمر غير شرعي؟. والاجتهاد الذي لا لوم عليه هو الاجتهاد المبني على أدلة شرعية مُعتبَرة ، حتى لو لم يُصب الحقيقة. أمَّا بناء الاجتهادات فوق الهوى وحب الدنيا والمصلحة الشخصية فهذا اجتهادٌ نفعي مذموم ضد الشرع تماماً . 
     الرابع _ قول ابن حجر " لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم " عبارة غير دقيقة ، لأن العُذر بالتأويل مشروط بأن يكون التأويل وفق منهجية الضوابط الشرعية . ولو كان كل متأوِّل معذوراً ، لكان الروافض معذورين في شتم أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ لأنهم يستندون إلى تأويل، ولكان النصارى معذورين في تأليه المسيح صلى الله عليه وسلم لأنهم يستندون إلى تأويل. وهذا مرفوض تماماً. فالتأويل يجب أن يكون مبنياً وفق الكتاب والسُّنة الصحيحة حتى يكون الإنسان معذوراً أمام الله تعالى سواءٌ أصاب الحقَّ أم لم يُصبه .
     وعن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنه_ أن رَجُلَيْن أتيا عمرو بن العاص يختصمان في دم عمار بن ياسر وسلبه ، فقال عمرو : خَلِّيا عنه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( اللهم أولعت قريش بعمار ، إن قاتل عمار وسالبه في النار )) [(9)].
     قلتُ:ولو كانت فِرقةُ معاوية متأولة كلها لَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن قاتل عمار وسالبه في النار )) ، لأن المتأول معذور باجتهاده إذا كان مبنياً على أُسس صحيحة، فلماذا يُعاقَب بالنار على اجتهاده؟، أمَّا أن يُوعد بالنار فهذا دليلٌ على أنه آثم متلبِّس بالخطيئة ، وتأويله مرفوض جملةً وتفصيلاً . وبالتأكيد فإن معاوية وعمرو لهما نصيبٌ في هذا الوعيد ، لأنهما العقلان المفكِّران في ارتكاب هذه المذبحة، والقائدان للفئة الباغية ، ومن أعان على جريمة قتلِ المسلمين من أجل شهوة السلطان والخلافة غير الراشدة ، فهو مجرمٌ وفق الضوابط الشرعية .
     وعن حنظلة بن خويلد العنزي قال : بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رَجلان يختصمان في رأس عمار ، يقول كُل واحد منهما : أنا قتلتُه، فقال عبد الله بن عمرو: لِيَطِبْ به أحدكما نفْساً لصاحبه فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( تقتله الفئة الباغية )) . قال معاوية : فما بالُكَ معنا ؟ ، قال : إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( أَطِعْ أباكَ ما دام حَيَّاً ولا تَعْصِه )) ، فأنا معكم ولستُ أُقاتِل [(10)].
     وكما هو معلومٌ قَطْعاً بأن عماراً قاتَلَ إلى جانب علي بن أبي طالب ، وبذلك تكون فِرْقة  معاوية هي الفئة الباغية بلا أدنى شك ، وهذا لا خلاف فيه . وأيضاً ففرقة علي داعية إلى الجنة ، وفرقة معاوية داعية إلى النار . وكما قلنا فالكثيرون في جيش معاوية انخدعوا بحيل معاوية وعمرو، فلم يتمكنوا من تمييز الحق من الباطل،وهؤلاء_إن شاء الله_معذورون ومتأوِّلون، أما معاوية وعمرو فهما من الدعاة إلى النار بنص الحديث، وغير معذورين ولا متأولين، ولا يجوز الترضي عليهما بمعنى التحقيق الأكيد المحتوي على معنى هبوط رضوان الله عليهما حتماً ، بل بمعنى طلب الرحمة لهما مثل فسقة المسلمين ، فهما على أية حال لم يخرجا عن دائرة الإسلام ، فهما كانا يعرفان الحق ، ومع هذا تحايلا على النصوص الشرعية ، واتَّبعا الهوى والضلالَ المبين من أجل السُّلطة ، وقُتِلَ عشرات الآلاف من المسلمين مجاناً بسبب عشقهما للدنيا والسُّلطة . 
     وقاتل عمار هو الصحابي أبو الغادية الجهني ، وهذا دليلٌ آخر على وجود صحابة ذاهبين إلى النار . قال ابن حجر في الإصابة ( 7/ 311) : (( وقال الدوري عن ابن معين : أبو الغادية الجهني قاتل عمار له صُحبة ...وقال البخاري: الجهني له صُحبة،وزاد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه أبو حاتم... وقال ابن سميع: يقال له صُحبة . وقال الحاكم أبو أحمد كما قال البخاري ، وزاد وهو قاتل عمار   ابن ياسر ، وقال مسلم في الكنى : أبو الغادية يسار بن سبع قاتل عمار له صُحبة )) اهـ .
     ومن الواضح أن معاوية قد خدع أتباعَه الذين فكَّروا في حالهم بعدما قتلوا عمَّاراً ، وكونهم من الفئة الباغية ، مما يدل على أن نيتهم كانت حسنة ، وأنهم يُقاتِلون متأوِّلين ، لكن معاوية تحايل على كلامِ النبي صلى الله عليه وسلم، ولوى عنقَ النَّص عبر إحالته إلى معنى آخر بلا قرينة ولا دليل مُعتبَر ، وهذا مردُّه إلى الهوى وشهوة الحُكم ، وللأسف فقد انطلت الحيلة على الجميع ، حتى على عمرو بن العاص داهية العرب الذي كان يتوجب عليه أن يُخرج حبَّ الدنيا من قلبه ليفكِّر بشكل أفضل ، ولئلا يمنعه هواه من التبصر بالأمور ، والخضوع لتأويل معاوية المكشوف الذي ليس له سند صحيح لا من الكتاب ولا من السُّنة. ومعلومٌ تحايل عمرو بن العاص وسوء نيته أثناء التحكيم وقيامه بالكذب على أبي موسى الأشعري _ رضي الله عنه_ أثناء التحكيم مستغلاً طيبته وحسن نيته . وقد قُتِلَ المسلمون من أجل شهوة الحُكم عند معاوية وعمرو . وهكذا يتبيَّن أن معاوية لم يكن متأولاً ،  بل كان غارقاً إلى شحمة أُذنيه في الخطيئة عامداً متعمداً، ولم يكن مجتهداً أصلاً ليأخذ أجراً أو أجرَيْن ، بل آثماً متحايلاً على النصوص،كما أنه لا اجتهاد في مورد النَّص،فمن الذي أعطى معاوية أجراً بزعم اجتهاده الخاطئ؟!. لا أجر مُطْلقاً في التحايل على النصوص ولوي أعناقها ، ولا أجر مُطْلقاً على اتباع الهوى وحب الدنيا والسُّلطة. ولا أجر مُطْلقاً على قتل المسلمين وإهراق دمائهم من أجل شهوة السلطان . فعلي له الأجرُ كاملاً لأنه على الحق الساطع ، ومعاوية له الباطل كاملاً لأنه على الإثم عن سبق الإصرار والتعمد . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله _عز وجل_ مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن )) ، ثم أخذ بيد علي _ رضي الله عنه_ فقال : (( مَن كنتُ مولاه فهذا وَلِيُّه ، اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه )) [(11)].
     وأعداء علي _ رضي الله عنه _ سوف يعاديهم الله تعالى لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب قطعاً . لذلك لا مجال للاجتهاد في ظل تضافر كل هذه النصوص الساطعة . فالتوغل في دماء المسلمين مسؤولية معاوية وعمرو باعتبارهما رَأْسَي الفتنة ، وهما من الدعاة إلى النار بنص الحديث الصحيح ، ومقتل عشرات آلاف المسلمين سوف يكون وبالاً عليهما يوم القيامة ، لأنهما غير متأوِّلَيْن مُطْلقاً . ولا يجوز صناعة حصانة وهمية حولهما لمنع نقدهما ، وفضحِ الكوارث التي ارتكباها عن طريق التغرير بالمسلمين وخداعهم ، وقتلهم من أجل السُّلطة لكي يصبحا مثل ملوك الأرض حاكمين على الجماجم . وكونهما صحابِيَّيْن لا يمنحهما أية حصانة ضد النقد ، فبعض الصحابة ذاهبون إلى النار بالتأكيد استناداً إلى نصوص شرعية صحيحة كما ثبت ذلك ، خاصة أنه لم يرد في فضائل معاوية أية نصوص شرعية ، كما أن الأحاديث الواردة في"فضائل عمرو بن العاص " لا تثبت في ظل التمحيص والتدقيق وفق الأدلة الصحيحة الثابتة .
     إن عمرو بن العاص متلبس بدماء المسلمين عامداً متعمداً دون تأويل برفقة معاوية ، ومعروفٌ دور عمرو في الكذب والخدعة غير الشرعية أثناء التحكيم . لذا تضافرت الأدلة الشرعية الصحيحة الموجهة ضدهما ، والتي تُعرَض في هذا المبحث بالتفصيل .
     ومن الأهمية بمكان أن ندرك أن هناك فروقات جوهرية بين السيدة عائشة وطلحة والزبير_ رضي الله عنهم _ الذي واجهوا علياً في الحرب ، وبين معاوية وعمرو بن العاص . ولا يصح وضع الجميع في سياق واحد ، لأن القياس مع الفارق باطل . والفروق نوجزها كالتالي :
1) إن السيدة عائشة وطلحة والزبير هم من أهل الجنة بإجماع المسلمين ، كما أن طلحة والزبير من العشرة المبشرين بالجنة اتفاقاً . وقد وردت في فضائلهم أحاديث صحيحة ثابتة. أمَّا معاوية وعمرو فهما من الدعاة إلى النار .
2) إن عائشة وطلحة والزبير لم يكونوا من أهل الدنيا وحب شهوة السلطان والمجد الدنيوي الزائل بدليل تضحياتهم الجسام المؤثرة في سبيل نصرة الإسلام في كل مراحله . في حين أن معاوية وعمرو كانا معروفين بحب الدنيا والرئاسة وشهوة الحُكم والنفوذ .
3) إن عائشة وطلحة والزبير كانوا متأوِّلين تماماً رغم الخطأ الذي وقعوا فيه بعدم خضوعهم لأمر الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب، فهم لم يكونوا من طلاب الدنيا ، بل كانوا يهدفون إلى لَم شمل المسلمين وتوحيد كلمتهم. وعندما تبيَّنوا الحقَّ رجعوا واعترفوا بالخطأ ، ولم يتمادوا أو يتحايلوا على النصوص الشرعية. وما خروج السيدة عائشة في وقعة الجمل إلا من أجل استخدام مكانتها المعروفة في توحيد المسلمين لعل الله تعالى يُصلح بينهم . فلا هي تهدف إلى أن تكون حاكمةً للمسلمين مثل الملكة فكتوريا، ولا هي تريد أن تُوَلِّيَ أقاربها الخلافة. فقد عرَّضت حياتها للخطر في تلك اللحظة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وُجهة نظرها .         
     قال الذهبي في دُوَل الإسلام ( 1/ 28) : (( إن طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنهم _ ندموا وعظم عليهم قَتله ( يعني قتل عثمان رضي الله عنه ) ، ورأوا أنهم قد قصَّروا في نصرته ، فخرجوا على وجوههم قاصدين البصرة للطلب بدمه من غير أمر علي ، وذلك أن قتلة عثمان التقوا على علي وصاروا من رؤوس الملأ ، وخاف هو من أن ينتقض الناس ، فسار بعسكر المدينة وبرؤوس قتلة عثمان إلى العراق ، فجرت بينه وبين عائشة وقعة الجمل بلا عِلم ولا قصد ، والتحم القتال من الغوغاء ، وخرج الأمر عن علي وعن طلحة والزبير ، وقُتِل من الفريقين نحو من عشرين ألفاً ، وقُتِل طلحة والزبير )) اهـ .
     وعن قيس بن أبي حازم قال : لَمَّا بَلغتْ عائشة _ رضي الله عنها _ بعض ديار بني عامر نبحت عليها الكلاب ، فقالت : أي ماء هذا ؟ ، قالوا : الحوأب ، قالت : ما أظنني إلا راجعة ، فقال الزبير : لا بعد، تقدَّمي ويراك الناس، ويُصلح اللهُ ذات بَيْنهم ، قالت : ما أظنني إلا راجعة . سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( كيف بإحداكن إذ نبحتها كلاب الحوأب ؟! ))[(12)].
     فانظر إلى السيدة عائشة كيف تراجعت عن الخطأ الذي ارتكبته عندما تبيَّن لها قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تقم بالتفاف على النَّص الشرعي مثلما فعل معاوية،ولم تقم بلوي أعناق النصوص. بل انسحبت بكل هدوء خضوعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ملتزمةً بعدم تجاوزه .
     وانظر إلى الزبير بن العوام عندما قال : (( لا بعد تقدَّمي، ويراك الناس، ويصلح الله ذات بينهم )) . وقد قاله قبل سماعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم . فالزبير كان يهدف إلى أن تتقدم السيدة عائشة ليراها الناس مقدِّرين مكانتها، ليس من أجل جمع حطام الدنيا ، وقتلِ المسلمين على الحُكم، بل من أجل أن يصلح الله ذات بينهم حينما يرون أم المؤمنين الساعية إلى لَم الشمل .
     وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يُقتَل حَوْلها قتلى كثيرة ، تنجو بعد ما كادت )) [(13)].
     وأخرج البزار من طريق زيد بن وهب قال : بَينا نحن حَوْل حُذَيْفة إذ قال : كيف أنتم وقد خرج أهل بيت نبيكم فرقتين يَضرب بعضكم وجوه بعض بالسيف ؟، قلنا : يا أبا عبد الله ، فكيف نصنع إذا أدركنا ذلك ؟، قال : انظروا إلى الفرقة التي تدعو إلى أمر علي بن أبي طالب فإنها على الهدى [(14)].
     قلتُ : والأدلة متضافرة على أن الحروب التي قادها علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه_ كان هو على الحق الساطع ، وخصومه على الباطل . وخصومه ينقسمون إلى متأوِّلين وطلاب خير من وجهة نظرهم مثل عائشة وطلحة والزبير ، وإلى أصحاب دنيا وخيانة مثل معاوية وعمرو .
     وعن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب أنه سيكون بينك وبين عائشة  أمر ، قال : أنا يا رسول الله ؟ ، قال : نعم . قال : فأنا أشقاهم يا رسول الله ؟ ، قال : (( لا ، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها )) [(15)].
     وانظر إلى منهجية الزبير _ رضي الله عنه _ حينما ظهر له الحق فتراجع ، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة ، والحق أحق أن يُتَّبع . فالمعروف أنه تراجع عن قتال علي ، وهذا يعني أنه أدار المسألة في رأسه ، وتبيَّن له الحق فالتزمه، حتى لو لم يذكره في ساعة المواجهة مع علي . فعن ابن أبي الأسود الديلي قال : شهدتُ الزبير خرج يريد علياً ، فقال له علي : أنشدك الله ، هل سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( تقاتله وأنت له ظالم )) ؟، فقال : لم أَذْكر ، ثم مضى الزبير منصرفاً [(16)].
..................الحاشية........................
[(1)] انظر أيضاً معجم البلدان ( 5/ 282 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 14/ 129) ، والبداية والنهاية  ( 11/ 124) .
[(2)] رواه البخاري ( 3/ 1030) برقم ( 2646 ) ، ومسلم ( 3/ 1519 ) برقم ( 1912) .
[(3)] رواه الترمذي في سُننه ( 5/ 687 ) برقم ( 3842) ، وقال : (( حديث حسن غريب )) ، وأحمد في مسنده ( 4/ 216 ) ، والطبراني في الأوسط ( 1/ 205) برقم ( 656) ، ومسندِ الشاميين ( 1/ 181) برقم  ( 311) .
[(4)] رواه الترمذي ( 5/ 687 ) برقم ( 3843 ) ، وقال : (( هذا حديث غريب. قال : وعمرو بن واقد يُضعَّف )) اهـ ، وغيره .
[(5)] انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ( 6/ 267) .
[(6)] رواه ابن حبان في صحيحه ( 16/ 191) ، وابن خزيمة في صحيحه ( 3/ 214) برقم ( 1938)، وأحمد في مسنده ( 4/ 127) ، والطبراني في الكبير ( 18/ 251) . 
[(7)] البداية والنهاية لابن كثير ( 6/ 226) . وقال البيهقي عقبه : (( رواته ثقات ، إلا أن أبا نضرة العبدي لم يثبت له من أبي هريرة سماع ، والله أعلم )) اهـ. وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (1/ 533 ) : (( أبو نضرة لم يسمع من أبي هريرة )) اهـ . قلتُ : إن هذا الحديث له مجموعة شواهد ذكرها الذهبي في الموضع السابق ، فمن حديث أبي هريرة ، وهو ما رواه إسماعيل بن حكيم _ ولم يذكره أحد بجرح _ قال  : ثنا يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس بن حكيم الضبي قال  :  كنت أَمُر بالمدينة فألقى أبا هريرة ، فلا يبدأ بشيء حتى يسألني عن سمرة فإذا أخبرته بحياته فرح ، فقال : إنا كُنَّا عشرة في بيت وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ونظر في وجوهنا، وأخذ بعضادتي الباب ، ثم قال : " آخركم موتاً في النار".فقد مات منا ثمانية ولم يبق غيري وغير سمرة فليس شيء أحب إلي من أن أكون قد ذقت الموت .  وروى مثله حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أوس بن خالد قال : كنتُ إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن سمرة، وإذا قدمت على سمرة سألني عن أبي محذورة ، فسألته فقال: إني كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" آخركم موتاً في النار " فمات أبوهريرة ثم مات أبو محذورة . وقال معمر : ثنا عبد الله بن طاوس وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسمرة بن جندب ولأبي هريرة ولآخر : " آخركم موتاً في النار " .  فمات الرَّجل ، فكان الرَّجل إذا أراد أن يغيظ أبا هريرة يقول : مات سمرة ، فإذا سمعه غشي عليه وصعق ، ثم مات أبو هريرة قبل سمرة .
     وقَتل سمرة بشراً كثيراً . وقال سليمان بن حرب : ثنا عامر بن أبي عامر قال : كُنَّا في مجلس يونس ابن عبيد في أصحاب الخز ، فقالوا : ما في الأرض بقعة نشفت من الدم ما نشفت هذه البقعة_ يعنون دار الإمارة_ قتل بها سبعون ألفاً ، فجاء يونس بن عبيد فقلت : إنهم يقولون كذا وكذا فقال : نعم ، من بين قتيل وقطيع ، قيل له : ومن فعل ذلك يا أبا عبد الله قال : زياد وابنه عبيد الله وسمرة .
     قال البيهقي : نرجو لسمرة بصحبته رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ .
     قلتُ : رواية أبي نضرة عن أبي هريرة ثَبتت، صحَّحها ابنُ حبان في صحيحه ( 12/ 395 ) برقم ( 5583 ). وانظر كذلك سُنن ابن ماجة ( 1/ 530 ) برقم ( 1658 ). ومَن يَعْلم حُجَّة على مَن لا يَعلم ، كما أن المثبت مُقَدَّم على النافي، فإثبات رواية أبي نضرة عن أبي هريرة مُقَدَّم على نفيها. قال الحافظ في الفتح ( 1/ 27 ): (( فإن المثبت مُقَدَّم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فَيُقَدَّم والله أعلم )) اهـ . قلتُ : ولم يقدم البيهقي أو الذهبي دليل نفي السماع . إذن ، يُقَدَّم المثبت على النافي .
     وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 6/ 227) : (( وقتل سمرة بشراً كثيراً ، وقد ضعَّف البيهقي عامة هذه الروايات لانقطاع بعضها وإرساله، ثم قال : وقد قال بعض أهل العلم إن سمرة مات في الحريق، ثم قال: ويحتمل أن يورد النار بذنوبه ثم ينجو منها بإيمانه فيخرج منها بشفاعة الشافعين ، والله أعلم )) اهـ .
     قلتُ : (( إن الطريق التي سقناها أثبتنا فيها روايةَ أبي نضرة عن أبي هريرة ، وهذه هي عِلة السند الوهمية التي تصوَّرها البيهقي ودَحَضْناها. أما الرواة فقد حَكم عليهم البيهقي نفسه بأنهم ثقات. أمَّا من ذهب إلى أن المراد بالنار هي موت سمرة في الحريق فهذا ضد اللغة العربية ، فمعروفٌ أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأي شخص أنه في النار، معناه أنه في جهنم ، تماماً عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن شخص أنه في الجنة ، فلا أحد يتخيَّل أن يكون المراد بالجنة في سياقها المحدَّد هي البستان الرائع مثلاً. فكلماتُ من قبيل " الجنة " أو " النار" تُفهَم في سياقها اللغوي الطبيعي ضمن قواعد اللغة العربية، والمناسبة التي قيلت فيها، وهاتان الكلمتان لهما دلالة شرعية واضحة خصوصاً مع وجود " أل " التعريف .
[(8)] رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 168) برقم ( 2663) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
[(9)] رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 437) برقم ( 5661) وصححه ، ووافقه الذهبي .
[(10)] رواه أحمد في مسنده ( 2/ 164) برقم ( 6538 ) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 490) : (( رواه أحمد ورجاله ثقات )) .
[(11)] رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 118 )برقم ( 4576) وصحَّحه ، وسكت عنه الذهبي . ورواه ابن حبان في صحيحه ( 15/ 376)، وأبو يعلى ( 11/ 307) برقم ( 6423 ). وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 130) :    (( رواه أبو يعلى ورجاله وُثِّقوا ))اهـ . وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 8/ 335) : (( مَن كُنتُ مولاه فعلي مولاه . هذا حديث حسن عالٍ جداً مَتنه ، فمتواتر )) اهـ . و في مُسنَد أحمد ( 1/ 119) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اللهم والِ مَن والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر مَن نصره ، واخذلْ مَن خَذله )) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 130): (( رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة )) اهـ .
[(12)] رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 129) برقم ( 4613) ، وسكت عنه الذهبي. ورواه ابن حبان في صحيحه ( 15/ 126) برقم ( 6732) ، وأحمد في مسنده ( 6/ 52) برقم ( 24299) ، وأبو يعلى ( 8/ 282) برقم ( 4868) . قال الحافظ في الفتح ( 13/ 55) : (( وأخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح )) .
[(13)] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 7/ 538) برقم ( 37785) . قال الهيثمي في المجمع ( 7/ 474) : (( رواه البزار ، ورجاله ثقات )) اهـ ، ووافقه الحافظ في الفتح ( 13/ 55) . وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 2/ 198) : (( قال ابن عبد البَر : هذا الحديث من أعلام النُّبوة )) اهـ .
[(14)] قال الهيثمي في المجمع ( 7/ 236) : (( رواه البزار ، ورجاله ثقات )) ، وسكت عنه الحافظ في الفتح ( 13/ 55) .
[(15)] رواه أحمد في مسنده( 6/ 393)برقم(27242)،والطبراني في الكبير( 1/332)برقم ( 995). وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 55) : أخرجه أحمد والبزار بسند حسن .

[(16)] رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 413 ) برقم ( 5574 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي. وقال الحاكم في الموضع السابق : (( وقد رُوِيَ إقرار الزبير لعلي _ رضي الله عنهما _ بذلك من غير هذه الوجوه والروايات )) اهـ .
facebook.com/abuawwad1982 

27‏/02‏/2014

نقد أفعال معاوية بن أبي سفيان

نقد أفعال معاوية بن أبي سفيان

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

............................

     لقد وضَّحنا أن الصحابة ليسوا معصومين ، ولا يملكون أية حصانة إلا حصانة الكتاب والسُّنة الصحيحة لمن التزم بهما ، أما الذين لم يلتزموا بهما ، فنحن نحذِّر الناسَ من أفعالهم الشريرة لئلا يحدث الاغترار باسم الصحابي المرتبط بهم . مع التنبيه إلى أن وجود قِلة نادرة من الصحابة ذات السلوك السيئ لا يطعن في باقي الصحابة _رضوان الله عليهم_، لأن وجود ابن كافر للنبي نوح صلى الله عليه وسلم لا يعني بأية حال من الأحوال أن نوحاً لا يتقن تربيةَ الأبناء ، ووجود يهوذا الإسخريوطي لا يعني أن المسيح صلى الله عليه وسلم لا يَعرف اختيارَ أصحابه . كما أن بروز صحابي ذي سيرة سيئة هنا أو هناك لا يعني أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لا يعرف تمييزَ أصحابه، فليس كلُّ الصحابة هم العشرة المبشَّرين بالجنة . فالصحابة الذين قام على أكتافهم الإسلامُ هؤلاء من اختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، ووردت نصوص شرعية في تعديلهم وتزكيتهم وفضلهم وأنهم من أهل الجنة ، وهؤلاء هم الصحابة من الطبقات المتقدمة في التمسك بالإسلام ، ولكن من المحال أن يكون كل الصحابة على وتيرة واحدة من الالتزام الشرعي، فنحن نتحدث عن مجتمع الصحابة الذين يتجاوزون مئة ألف صحابي،ومن الجنون اعتقاد أنهم كلهم ملتزمون بالشرع التزاماً حقيقياً . ومن هؤلاء الذين ارتكبوا الموبقات والكبائر ، ولم يتوبوا منها معاوية بن أبي سفيان الذي تضافرت الأدلة الشرعية ضده بشكل واضح وحاسم. ونحن في هذا المقام نستعرض الأدلة التي جاءت ضده مُرَقَّمةً، ومعتمدة على مصادرها الموثوقة : 
     [1] ينبغي أن ندرك أن معاوية قد جعل شتم علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه_ على المنابر يوم الجمعة ، وهذا متواترٌ لا مجال لإنكاره أبداً ، فمن غير المعقول أن كل الولاة الذين وضعهم معاوية يَشتمون علياً ، ولا يكون الأمر صادراً منه أو أنه لا يَعلم بالموضوع .

فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبة          وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم

     ولو افترضنا جدلاً أن معاوية لم يأمر بِسَب علي مع وجود كل ولاته يشتمون علياً، فهذا لا يعفيه من المسؤولية، بل هو شريكٌ في الشتم ، بل هو الذي أسَّس هذا المنهج الفاسد، وجعله أمراً مفروضاً على العباد .
     روى مسلم في صحيحه ( 4/ 1874 ) عن سهل بن سعد _ رضي الله عنه_ قال : اسْتُعْمِلَ على المدينة رَجلٌ من آل مروان ، قال: فدعا سهل بن سعد ، فأمره أن يَشتم علياً ، قال : فأبى سهل ، فقال له : أمَّا إذا أبيتَ فقل : لعن اللهُ أبا التراب ، فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب ، وإن كان ليفرح إذا دُعِيَ بها.
     [2] روى مسلم في صحيحه ( 4/ 1870) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً ،  فقال : ما منعك أن تسب أبا التراب ؟!، فقال : أمَّا ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أَسُبَّه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إِلَيَّ من حُمر النَّعم .
     وقد ذهب بعض الشراح إلى أن معاوية يتساءل فقط عن السبب الذي منع سعداً أن يشتم علياً ولم يطلب منه الشتمَ. وهذا تحايلٌ واضح، فما معنى عبارة" أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً" ؟، وبالطبع فقد أمره أن يسب علياً ، لكن سعداً _رضي الله عنه _ رفض هذا العارَ .
     [3] عن زياد بن علاقة عن عمه أن المغيرة بن شعبة سَبَّ علي بن أبي طالب ، فقام إليه زيد ابن أرقم، فقال: يا مغيرة، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الأموات ، فَلِمَ تسب علياً وقد مات ؟! [(1)] .
     [4] وروى الطبري في تاريخه ( 3/ 218 ) : إن معاوية بن أبي سفيان لما وَلَّى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة إحدى وأربعين دعاه فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : (( ... ولستُ تاركاً إيصاءك بخصلة لا تتحم عن شتم علي وذمِّه ، والترحم على عثمان ، والاستغفار له ، والعيب على أصحاب علي ، والإقصاء لهم ، وترك الاستماع منهم )) اهـ .
     [5] وروى البخاري في صحيحه ( 3/ 1358 ) برقم ( 3500) أن رَجلاً جاء إلى سهل ابن سعد ، فقال : هذا فلان لأمير المدينة يدعو علياً عند المنبر .
     وقال الحافظ في الفتح ( 1/ 301) : (( وأمير المدينة هو مروان بن الحكم فيما أظن )) اهـ .
     وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 5/ 147) ناقلاً عن ابن سعد بإسناده : (( كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رَجلاً رضي الله عنه، فلمَّا ولي هو أمسك عن ذلك. فقال كثير عزة الخزاعي :      
وَليتَ  فلم تَشْتِـــم علياً ولم تخف      بريَّاً ولم تَتْــــــبع مقالةَ مجرمِ
تكلمـــــتَ  بالحق المبين وإنما       تبين آيات الهـــــدى بالتكلم
          فصدقتَ  معروف  الذي قلتَ بالذي       فعلتَ فأضــحى راضياً كل مسلم )) اهـ. 

العواقب الخطيرة لسب الصحابة خاصةً علي بن أبي طالب :
     [1] عن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا تَسُبُّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغَ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه )) [(2)].
     [2]عن أبي عبد الله الجدلي قال: دخلتُ على أم سلمة_رضي الله عنها_ فقالت لي : أَيُسَبُّ رسول الله ؟!، فقلت: معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها، فقالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَن سَبَّ علياً فقد سَبَّني )) [(3)].
     [3] روى مسلم في صحيحه ( 1/ 86 ) عن زر بن حبيش قال: قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهدُ النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق .
     قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 12/ 510) : (( فمعناه أن حُب علي من الإيمان ، وبغضه من النفاق. فالإيمان ذو شعب وكذلك النفاق يتشعب . فلا يقول عاقل إن مجرد حبه يصير الرَّجل به مؤمناً مُطْلقاً ، ولا بمجرد بغضه يصير به الموحِّد منافقاً خالصاً . فمن أحبه وأبغض أبا بكر كان في منزلة من أبغضه وأحب أبا بكر ، فبغضهما ضلال ونفاق وحُبهما هدى وإيمان )) اهـ .
     [4] عن عوف بن أبي عثمان النهدي قال: قال رَجل لسلمان: ما أشد حبك لعلي ! ، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( مَن أحب علياً فقد أحبني، ومَن أبغض علياً فقد أبغضني )) [(4)].
     [5] عن عمرو بن شاس الأسلمي _ رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من آذى علياً فقد آذاني )) [(5)].
     إشارات أخرى موجَّهة ضد معاوية :
     [1] روى مسلم في صحيحه ( 4/ 2010 ) عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (( اذهب وادْعُ لي معاوية )) ، قال : فجئتُ فقلتُ: هو يأكل، قال : قال لي : (( اذهب فادعُ لي معاوية ))، قال : فجئتُ فقلتُ : هو يأكل ، فقال : (( لا أشبعَ اللهُ بَطْنَه )) .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 152 ) : (( وفي حديث معاوية : لا أشبع  الله بطنه ، ونحو ذلك ، لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء )) اهـ .
     قلتُ : هذا الكلام فيه نظر، فالإمام النووي يحاول الدفاع عن معاوية بلا وجه حق ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قاصداً الدعاء على معاوية ، بدليل أن دعاءه صلى الله عليه وسلم تمت استجابته . فقد قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 6/ 169 ) عن معاوية : (( لا يشبع بعدها، ووافقته هذه الدعوة في أيام إمارته ، فيقال إنه كان يأكل في اليوم سبع مرات طعاماً بلحم ، وكان يقول : والله لا أشبع وإنما أعيى )) اهـ .
     وعن مغيرة عن الشعبي قال : أوَّل من خطب جالساً معاوية حين كبر ، وكثر شحمه ، وعظم بطنه [(6)].
     وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 3/ 123) : [ فسَّره بعض المحبين قال: لا أشبع الله بطنه، حتى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة لأن الخبر عنه أنه قال : (( أطول الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة ))[(7)] ] اهـ .
     قلتُ : وهذا التأويل الذي أورده الذهبي على لسان بعض المحبين بعيدٌ جداً ، ومحاولة واضحة لتحميل النَّص ما لا يحتمل ، فعبارة " لا أشبع الله بطنه " دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية ، وتمت استجابته كما وضَّحنا ، ومن الثابت أن معاوية كان معدوداً في الأكلة ، وهذا يدل على أن الدعاء عليه قد اسْتُجِيب .
     [2] روى مسلم في صحيحه ( 2/ 1114) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس عندما استشارته في الزواج من معاوية: (( وأمَّا معاوية فصعلوك لا مال له )).
     وقد حاول البعض جعل الأحاديث السابقة منقبةً لمعاوية عن طريق لوي أعناق النصوص ، وإحالتها إلى معانٍ أخرى غير مقصودة، ظناً منهم أنهم بذلك يدافعون عن معاوية . فأوردوا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ( 4/ 2008 ) عن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه فإنما أنا بشر ، فأي المؤمنين آذيتُه شتمتُه لعنتُه جلدتُه ، فاجعلها له صلاة وزكاة وقُربة تُقرِّبه بها إليك يوم القيامة )) .
     ينبغي أن نفهم هذا الحديث الشريف في سياقه الحقيقي ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كل أخلاقه حميدة ونقية وطاهرة، لا ينطق إلا بحق، فلسانه طاهرٌ نظيف، فليس فاحشاً ولا وقحاً ولا بذيئاً ، وكذلك كل الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام_ . وهذا الحديث الشريف يُبيِّن شفقةَ النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، ورعايته لمصالحهم وشؤونهم في الدارين .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 151و152) : [ إنما يكون دعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلاً للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلماً ، وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة، فإن قيل كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يَسُبه أو يلعنه ونحو ذلك ؟! ، فالجواب ما أجاب به العلماء ومختصره وجهان : أحدهما أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى ، وفي باطن الأمر ، ولكنه في الظاهر مستوجب له، فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالْحُكم بالظاهر والله يتولى السرائر.والثاني: أن ما وقع من سَبِّه ودعائه ونحوه ليس بمقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله : (( تَربت يمينك ))[(8)]، و(( عَقرى حَلْقي )) [(9)]...ونحو ذلك. لا يقصدون بشئ من ذلك حقيقة الدعاء فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل رَبَّه _سبحانه وتعالى_ ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقُربة وطهوراً وأجراً ، وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا لعاناً ولا منتقماً لنفْسه، وقد سبق في هذا الحديث أنهم قالوا : ادْعُ على دَوْس ، فقال : (( اللهم اهْدِ دَوْسَاً ))[(10)]،وقال : (( اللهم اغفر لقومي ))[(11)] ] اهـ .
     وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 172) نقلاً عن القاضي عياض:[ كان لا يقول ولا يفعل صلى الله عليه وسلم في حال غضبه إلا الحق لكنَّ غضبه لله قد يَحمله على تعجيل معاقبة مخالفة وترك الإغضاء والصفح ويؤيده حديث عائشة : (( ما انتقم لنفْسه قَط إلا أن تُنتهَك حُرمات الله ))[(12)] ] اهـ .
     قلتُ : وهذه الأحاديث الشريفة لا يمكن حملها على جعل الدعاء على معاوية مِن قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم منقبةً له ، لأن معاوية أهلٌ أن يُدعَى عليه وفق الأدلة التي قدَّمناها وسنقدمها بإذن الله ، وخاصةً أن الدعاء عليه " لا أشبع الله بطنه " قد تمت استجابته ، وهذا دليلٌ ساطع على النبي صلى الله عليه وسلم كان قاصداً ما يقول حرفياً ، وليس وفق ما تعارف عليه من لغة العرب بأن يقولوا كلاماً ظاهره الدعاء على الشخص ، وباطنه غير ذلك .
     وروى أحمد في مسنده ( 5/ 347 ) برقم ( 22991) عن عبد الله بن بريدة قال : (( دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفُرش ، ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ثم قال : ما شربتُه منذ حرَّمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ...)) .
     وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 54) : (( رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح )) اهـ .
     كما أن معاوية قتل عدداً كبيراً من الصالحين من أجل شهوة الْمُلْك والاستبداد بالسُّلطة، منهم الصحابي حُجْر بن عدي _ رضي الله عنه_ لما أنكر على ولاة معاوية سبَّ علي _ رضي الله عنه_.
     قال ابن حجر في الإصابة ( 2/ 37) : (( وقُتِلَ بمرج عذراء _ قرية بغوطة دمشق _ بأمر معاوية )) . اهـ . وقال الذهبي في دول الإسلام ( 1/ 38) في أحداث سنة 51 هـ : (( أمرَ معاوية بقتل حُجْر بن عَدِي الكِنْدي وأصحابه ، فقُتِلوا بمرج عذراء _ رضي الله عنهم _ ، خاف معاوية من خروجهم عليه )) اهـ . 
     وعن أبي إسحاق قال : رأيتُ حُجْرَ بن عَدِي حين أخذه معاوية ، وهو يقول : هذه بَيْعتي ولا أستقيلها ، سماع الله والناس [(13)]
     وقد عَنْوَنَ خليفة بن خياط في تاريخه ( 1/ 213)  : (( سنة إحدى وخمسين ، مقتل حُجْر بن عَدِي ، فيها قتل معاوية بن أبي سفيان حُجْرَ بن عدي بن الأدبر ، ومعه محرز بن شهاب ، وقبيصة ابن ضبيعة بن حرملة القيسي ، وصيفي بن فسيل من ربيعة )) اهـ .
     قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 50) عن حُجْر بن عدي: (( شهد القادسية وافتتح برج عذراء ، وشهد الجمل وصفين ، وكان مع علي حُجْر الخير )) اهـ .
     وذكر الحلبي في سيرته ( 3/ 162) : (( وكان ابن سيرين _ رحمه الله_ إذا سُئل عن الركعتين قبل القتل، قال : صلاهما خُبَيْب _رضي الله تعالى عنه_ وحُجْر ، وهما فاضلان . ويعني حُجْر ابن عدي _رضي الله تعالى عنه_ )) اهـ .
     وقد عقد الحاكم في مستدركه ( 3/ 531) باباً سَمَّاه " ذكر مناقب حُجر بن عدي _ رضي الله عنه _ وهو راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذكر مقتله " .
     ومن الصفات الذميمة عند معاوية : أخذ الأمر بالسيف بلا مشورة مع وجود الصحابة ، وجعل الخلافة وراثية استبدادية بعد أن نقل الحُكم إلى ابنه يزيد ذي السيرة السيئة، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الولد للفِراش وللعاهر الْحَجر )) [(14)]، وقتله حُجْراً .
     قال الحافظ في الفتح ( 12/ 54) عن زياد بن سُمَيَّة : (( ادَّعاه معاوية وأمَّره على البصرة ثم على الكوفة وأكرمه وسار زياد سيرته المشهورة وسياسته المذكورة ، فكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث الوَلد للفِراش )) اهـ .
     وفي الحديث المتفق عليه ، البخاري ( 3/ 1292 ) ومسلم ( 1/ 79 ) : (( ليس مِن رَجل ادَّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر )) ، وفي صحيح مسلم ( 2/ 995) برقم ( 1370): (( ومَن ادَّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يَقبل اللهُ منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) . ومعاوية ادعى زياداً فهو مشارك في هذا الإثم ، وداخلٌ في الوعيد ضمن هذا الحديث الشريف ، لأن من أعان على الجريمة فهو شريكٌ فيها .
     قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 54) : (( وقد ذَكر ابن جرير وغيره عن حُجْر بن عدي وأصحابه أنهم كانوا ينالون من عثمان ، ويُطلقون فيه مقالة الجور )) اهـ .
     ولنحاول مناقشة هذه التهمة وفق التأصيل الشرعي الدقيق بعيداً عن التهم المفتقدة إلى أدلة مُعتبَرة . بدايةً إن علياً_ رضي الله عنه_قد وضع حُجْر ابن عدي_رضي الله عنه_على الميمنة في حربه ضد الخوارج [(15)]، وكما هو معلومٌ فإن القادة الكبار الذين كانوا حَوْل علي _ رضي الله عنه_ هُم باختياره وتحت إشرافه . ولو قلنا إن علياً يُوَلِّي المناصبَ الحساسة للذين يشتمون عثمان ، ويتطاولون عليه راضياً بأفعالهم الآثمة، لكان هذا منقصةً كبيرة في حق علي _ وحاشاه _ .
     وما اعتماد علي بن أبي طالب على الأشتر النخعي ومحمد بن أبي بكر الصديق رغم دورهما الكارثي في قتل عثمان _رضي الله عنه_ إلا أداء خاص في ظروف الفتن وتفرق كلمة المسلمين ووجود خطر حقيقي على الوجود الإسلامي في المنطقة ، لا كما يظن البعض أن علياً يقرِّب أعداء عثمان حباً في الآثام التي ارتكبوها ، أو نكاية في عثمان . لقد كان علي واضحاً وحازماً في الاقتصاص من قتلة عثمان الذين هم تحت إمرته بعد أن تهدأ الأمور وتستتب، وبعد أن يحقِّق في طبيعة قتل عثمان ، ومن الذين نفَّذوا القتلَ ، ومن الذين أعانوا على القتل ، ومن الذين أعانوا على الحصار. فلم تكن الأمور بتلك السهولة، لأن حالة قتل عثمان معقدة للغاية ، لتعدد الأشخاص والجهات والأحداث المحيطة بالموضوع ، وخصوصاً أسماء أعيان القتلة. ولم يُرد أن يفتح جبهاتٍ عديدة ، ثم يختلط الحابل بالنابل ، وتنهار دولة المسلمين. فمعاوية يتربص بالخلافة لينقض عليها متاجراً بدم عثمان ، والخوارج دخلوا في شذوذهم العَقَدي وخطيئة التكفير حاملين السلاح في وجه علي بن أبي طالب الخليفة الشرعي. لكن الأمور لم تجر كما يريد علي ، وهذا ما جعله يعتمد على بعض أعداء عثمان في الحروب التي خاضها ، لأن الأمر كان أكبر من عثمان وأكبر من علي ، إذ إنه يتعلق بالإسلام كدِين ، والوجود الإسلامي في هذه البقاع . فمثلاً يزيد بن معاوية قاتل الحسين كانت سيرته في الحضيض ، ومع هذا انضم تحت لوائه المسلمون حينما غزا القسطنطينية قائداً للمسلمين ، لأن مسألة بهذا الحجم أكبر من الحسين وأكبر من يزيد ، وليس لأن يزيد هو الإمام العادل . قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 4/ 36) عن يزيد بن معاوية : (( له على هناته حسنة ، وهي غزو القسطنطينية وكان أميرَ ذلك الجيش ، وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري )) اهـ. فانظر إلى الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري _ رضي الله عنه_ كيف انخرط تحت قيادة يزيد سيء السمعة من أجل نصر الإسلام ، فلا بد للناس من إمام بَر أو فاجر . وذكر الحافظ الذهبي بإسناده في سير أعلام النبلاء ( 2/ 404) عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: (( ما عليَّ من اسْتُعْمِلَ عليَّ )) اهـ . والأمر متعلق بغزو القسطنطينية ، وهو يقصد يزيد بن معاوية .   
     ولو ثبت على أحد أتباع علي أنه ينال من عثمان لقام علي فوراً بتصويب الوضع ، وطالما صحَّح مفاهيمَ الناس المغلوطة ، وهذا غير مستغرب عليه وهو أفصح العرب على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم . فمحالٌ أن يسمح علي بالتطاول على عثمان، وهذا ما تؤيده كل الروايات التاريخية على الإطلاق. وصحابي جليل مثل حُجْر بن عَدِي لم أرَ في كلام الذين ذكروه ما يفيد أنه ينال من عثمان سوى الكلام الذي تفرَّد به ابن جرير ، بل إنهم ذكروا فضائله وتقواه وعبادته ، ولو أنه ينال من عثمان _ رضي الله عنه_ لانتشر هذا الأمر في الكتب وأقوال العلماء، وهذا غير موجود . كما أن حُجْراً لم يُعِن على قتل عثمان، ولم يسعَ مع الرعاع من أجل النيل منه، مع أن الأمر كان في متناول اليد . ولم يثبت أن صحابياً تورَّط في دم عثمان ، وهذا ثابتٌ في كل الروايات التاريخية . فالله تعالى طهَّر أيدي الصحابة _ رضي الله عنهم _ من دم عثمان. ولو سلَّمْنا جدلاً بأن حُجْراً نال من عثمان ، فهذا سيكون في موضع معيَّن ، وليس وفق منهجية شتم مستمرة كما فعل معاوية وشيعته تجاه علي . ونحن هنا لا نستهين بشتم الصحابة _ رضي الله عنهم_، ولكن حصل بين أكابر الصحابة أصحاب الفضائل الثابتة احتكاكات وصلت إلى حد الضرب أو الشتم وغير ذلك ، وهذه كارثة بالطبع ، لكننا ينبغي أن ندرك أن الصحابة مجتمع بشري يصيب ويخطئ لا ملائكي معصوم ، لكن الصحابة المستقيمين يرجعون إلى الحق فوراً ، ويتوبون ، ويستغفرون اللهَ تعالى ، ولا يجعلون من الكبائر منهجيةَ حياةٍ . فالمشكلة هي استمراء الإثم وعدم التوبة . كما أن الملابسات المحيطة بقتل حُجْر بن عَدِي منسوجة مسبقاً بإحكام بين معاوية وزياد بن سمية ، وهذان من ألد أعداء علي _ رضي الله عنه _ ، فكيف يمكن لهما أن يكونا قاضيَيْن مستقيمَيْن تجاه شيعة علي ، وهم يحملون عليهم كل ضغينة وحقد وكراهية ، فمن غير المعقول أن يكون الخصم هو القاضي. لذلك كان من الطبيعي أن يأخذا الناسَ بأدنى شُبهة ، فحب علي بن أبي طالب بحد ذاته تهمة تستوجب العقاب في شريعة معاوية وزمرته، وليس غريباً أن يُتهم حُجْر بن عدي بالنيل من عثمان، إذ إن علياً متهم بالنيل من عثمان عن طريق التستر على قَتَلته ومنحهم الأمان تحت جناحه ، ومتهم كذلك بأن له دوراً في قتل عثمان. وهذه القناعة الزائفة هي التي قادت رؤوسَ الفتنة معاوية وعمرو بن العاص وفئتهم الباغية مع حجم هائل من المصالح الشخصية التي ارْتَدت غطاءً دينياً . كما أنه يجب تدقيق ظروف الشهود وخلفياتهم في الشهادة على حُجْر ، فمثلاً الهيثم بن الأسود الذي كان من الشهود ، قال عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب( 11/ 79 ) : (( وكان عثمانياً منحرفاً ، وهو أحد من شهد على حُجْر بن عَدِي )) اهـ. وقال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 577) : (( رُمِيَ بالنَّصب )) اهـ . فكيف تُقبَل شهادة هذا الشخص النابعة من التعصب والهوى ؟. وإن كثيراً من النواصب اتخذوا مواقف مسبقة من علي ، زاعمين أنهم سائرون على نهج عثمان ، وأنهم يطالبون بدمه ، والاقتصاص من قتلته . فصارت الثنائية ( عثمان _ علي ) إشكاليةً حقيقية في أذهان الكثيرين ، وظن البعض أنه لا يمكن الجمع بينهما باعتبارهما خصمَيْن ، فإن كنتَ مع الأول فأنتَ ضد الثاني، وأن كنتَ مع الثاني فأنتَ ضد الأول. وهذه النظرة سيطرت على العقول في ظروف شديدة التعقيد شقَّت وحدةَ الصف الإسلامي. فشبَّ أهل العراق على التشيع لعلي، ومن ثم المغالاة في تقديس علي، ورفض الصحابة. ونشأ أهل الشام على النَّصب ومعاداة علي ، والالتفاف حول معاوية . وهذه كله مبعثه الجهل والهوى والتعصب دون وجه حق، وكما قيل : هَلك فِيَّ رَجلان : مُحب مغالٍ ، ومبغض قالٍ .
     وكذلك فإن الاتهامات متضافرة حول قيام معاوية بقتل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فذكر ابن الأثير في الكامل ( 3/ 453) ، والطبري بإسناده في تاريخه ( 3/ 202) واللفظ له : (( أن عبدالرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام ، ومال إليه أهلها لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ، حتى خافه معاوية وخشي على نفْسه منه لميل الناس إليه ، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يُولِّيَه جباية خراج حِمْص، فلما قدم عبد الرحمن بن خالد حمص منصرفاً من بلاد الروم دسَّ إليه ابنُ أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص،فوفى له معاوية بما ضمن له، وولاه خراج حمص ووضع عنه خراجه )) اهـ .
     وقال المزي في تهذيب الكمال ( 8/ 175): (( وكان اتهم معاوية بن أبي سفيان أن يكون دس إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد متطبباً يقال له ابن أثال،فسقاه في دواء شربة فمات فيها)) اهـ.
     وقال ابن عبد البَر في الاستيعاب ( 1/ 250 ) : (( لما أراد معاوية البيعة ليزيد ، خطب أهل الشام ، وقال لهم : يا أهل الشام ، إنه قد كبرت سني وقرب أجلي ، وقد أردتُ أن أعقد لرَجل يكون نظاماً لكم ، وإنما أنا رَجل منكم فأروا رأيكم ، فأصفقوا واجتمعوا ، وقالوا : رضينا عبد الرحمن بن خالد ، فشق ذلك على معاوية ، وأسرها في نفْسه ، ثم إن عبد الرحمن مرض ، فأمر معاوية طبيباً عنده يهودياً ، وكان عنده مكيناً ، أن يأتيَه فيسقيَه سقية يقتله بها ، فأتاه فسقاه فانحرق بطنه ، فمات ... وقصته مشهورة عند أهل السِّيَر والعِلم بالآثار والأخبار )) اهـ .
     لكن ابن كثير يقول في البداية والنهاية ( 8/ 31 ): (( وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ، ولا يصح )) اهـ .
     وأيضاً هناك شبهات تدور حول ملابسات قتل الحسن بن علي _ رضي الله عنهما_ . فقد قال ابن عبد البَر في الاستيعاب( 1/ 115): (( وقال قتادة وأبو بكر بن حفص : سُمَّ الحسن بن علي، سَمَّتْه امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي، وقالت طائفة: كان ذلك بتدسيس معاوية إليها، وما بذل لها من ذلك ، وكان لها ضرائر ، والله أعلم )) اهـ .
     وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 43) : (( وعندي أن هذا ليس بصحيح )) اهـ .
     قلتُ : وهذه الروايات التاريخية ينبغي تدقيقها من كافة النواحي، وعلى أية حال فإن الاتهامات والشبهات تدور حول معاوية والموالين له ، فعِشق معاوية للسُّلطة والحُكم جنوني إلى أبعد حد ، وقد يرتكب أية كبيرة أو صغيرة من أجل شهوة الْمُلْك، وهذا من رواسب عقلية الكبرياء والظلم والجبروت عند بني أمية في الجاهلية .
............الحاشية....................
[(1)] رواه الحاكم وصحَّحه على شرط مسلم ( 1/ 541 ) برقم ( 1419 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 8/ 145) : (( رواه الطبراني بإسنادين ، ورجال أحد أسانيد الطبراني ثقات )) اهـ .
[(2)] متفق عليه. البخاري ( 3/ 1343 ) برقم ( 3470 )، ومسلم ( 4/ 1967)برقم ( 2540).
[(3)] رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 3/ 130 ) برقم ( 4615 ) ، ووافقه الذهبي . وأحمد   ( 6/ 323 ) برقم ( 26791) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 175) : (( رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة )) اهـ .
     قلتُ: قال ابن حجر عن أبي عبد الله الجدلي في تقريب التهذيب ( 1/ 654 ) : (( ثقة رُمي بالتشيع )) اهـ. وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 6/ 228 ) : (( وكان شديد التشيع )) اهـ . وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 12/ 165 ) : ((وكان شديد التشيع )) اهـ . واتفق أهل العِلم على أن المبتدع إذا روى حديثاً في نصرة بدعته رُد ، حتى لو كان ثقة . قال ابن حجر في نخبة الفكر ( ص 230 ) : (( فالمعتمَد أن الذي ترد روايته من أنكر أثراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة ، وكذا من اعتقد عكسه ، والثاني يقبل من لم يكن داعية إلى بدعته في الأصح ، أي إن روى ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ )) اهـ .
    قلتُ : وهذه المسألة بحاجة إلى تأصيل جديد وتفصيل أكثر دقةً . وسأطرح وجهة نظري في الموضوع اعتماداً على كلام بعيد عن موضوعنا للإمام الشافعي في الرسالة ( ص 461) : (( مَن شاهدَ أصحابَ رسول الله من التابعين فحدَّث حديثاً منقطعاً عن النبي ، اعتبر عليه بأمور منها : أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث ، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه . وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قُبِل ما ينفرد به من ذلك ، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العِلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم، فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى به مرسله وهي أضعف من الأولى، وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله قولاً له فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله )) اهـ .
     قلتُ : قد يتساءل أحدهم فيقول : وما علاقة هذا بموضوعنا ؟ . فأقول إن الشيعي المعتدل أو المغالي إذا روى حديثاً في فضائل علي ، وكانت شروط السند مكتملة ، لا ينبغي أن يُرَد الحديث بحجة أنه يؤيد بدعته بدون أي تدقيق. فالحديث إذا كان منضوياً تحت أصل شرعي ثابت، أي إنه ضمن منهجية الكتاب والسُّنة الصحيحة ولم يخرج خارجهما فيجب أن يُقبَل لأنه ضمن الدائرة الشرعية ، ولم يكن بدعاً من الحديث ، فهذا لا ينبغي أن يُحكَم بأنه يؤيد بدعةَ التشيع . والأمر كذلك لو كان الراوي ناصبياً وروى في فضائل عثمان ، واكتملت الشروط المعروفة لقبول الحديث ، وبقيت مسألة تأييد البدعة ، فيُنظَر إلى ما رواه ، فإن كان منضوياً تحت أصل ثابت قُبِل ، وعلمنا أنه لم يشذ تأييداً لبدعته، وإنما الأمور ضمن الدائرة الشرعية المعتمدة... وهكذا دواليك . فمسألة تأييد البدعة التي يُرَد الحديث لأجلها تعني أن الحديث مخصَّص حصرياً لدعم البدعة مخالِف للكتاب والسُّنة الصحيحة ، أمَّا غير ذلك فلا يُعتبَر تأييداً للبدعة . فمثلاً في الإنجيل والتوراة ، ما وافق القرآنَ الكريم كان حقاً ، وما خالفه كان باطلاً ، رغم أن الإنجيل والتوراة بلا سند ثابت، ورواتهما يعتريهم الغموض والانحراف والشكوك ، والله أعلم .
     فمثلاً، الحديث في صحيح مسلم ( 1/ 86) عن علي بن أبي طالب_ رضي الله عنه_ : (( والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة إنه لعهدُ النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق )) ، في سنده عدي بن ثابت . قال المزي عنه في تهذيب الكمال ( 19/ 523 ) : (( قال أبو حاتم : وكان إمام مسجد الشيعة وقاصهم ))، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب( 1/ 388 ): (( رُمي بالتشيع)). وقال الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2/ 490 ):((كان يتشيع))اهـ. ومع هذا فعدي بن ثابت من رجال البخاري ومسلم . وكما هو مقرَّر عند أهل العلم أن مرويات الثقة تُرَد إذا روى ما يؤيد بدعته ، لكن هذا الحديث لا يمكننا أن نحكم عليه بأنه يؤيد بدعةَ التشيع، لأنه ببساطة ضمن الدائرة الشرعية المعتمدة ، فحب الصحابة من الإيمان ، وبغضهم من النفاق، وهذا أمر مفروغ منه ، فما بالك بواحد من سادات الصحابة الكبار، ورابع الخلفاء الراشدين، والرَّجل الثاني في آل البيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي له صولات وجولات في المعارك والغزوات ورفع راية الإسلام ؟! . وفي الحديث المتفق عليه عند البخاري ( 1/ 14) ومسلم ( 1/ 85 ) : عن أنس _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار )). بل إن عدي بن ثابت نفسه المتَّهم بالتشيع روى عن البراء _رضي الله عنه_ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ))[صحيح البخاري 3/ 1379 ]. إذن، ببساطة ندرك أن المسألة لا يوجد فيها شيء مريب من قبل تأييد البدعة ، أو الخروج عن الأصول المعروفة الثابتة ، وخلاصة الأمر أن الحديث ينضوي تحت أصل ثابت ، وهو أن حب الصحابة إيمان ، وبغضهم نفاق . ومن باب أولى أن ينال هذه الميزة الصحابة المتقدمون مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي _ رضي الله عنهم_. وبالتالي فالحاكم على قبول الأحاديث أو رفضها إذا كان في سندها ناصبي ثقة روى فضائل لعثمان ، أو شيعي ثقة روى فضائل لعلي، هو الدائرة الشرعية المستمدة من الكتاب والسُّنة الصحيحة ، فإذا كان متن الحديث ضمن الإطار المقبول في منهجية أهل السُّنة والجماعة يُقبَل _ إذا كانت باقي الشروط محقَّقة _ ، أمَّا إن كان فيه تجديف يُعرَض عنه .  
[(4)] رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 141 ) برقم ( 4648 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي . وقال المناوي في فيض القدير( 6/ 32 ):(( ورواه أحمد ... وسنده حسن )) اهـ. وعند الطبراني في الكبير ( 23/ 380 ) برقم ( 901 ) بسند حسَّنه الهيثمي في المجمع ( 9/ 180 ) : عن أُم سلمة قالت : أشهد أني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَن أحبَّ علياً فقد أحبني ، ومَن أحبني فقد أحبَّ الله ، ومَن أبغض علياً فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله )) .
[(5)] رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 3/ 131) برقم ( 4619 ) ، ووافقه الذهبي .
[(6)] رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه ( 7/ 247 ) ، والشيباني في الآحاد والمثاني من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق ( 1/ 380 ) برقم ( 521 ) . قال الحافظ في الفتح ( 2/ 401) : (( وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس قال : أول من خطب قاعداً معاوية حين كثر شحم بطنه، وهذا مرسل يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال : ... وأول من خطب جالساً  معاوية )) اهـ. وقال القرطبي في تفسيره ( 18/ 97) : (( ويُروى أن أول من خطب قاعداً معاوية )) اهـ . قلتُ : وقد رُوِيَ من ثلاث طرق تشد بعضها بعضاً وتقوِّيه : أ) مغيرة عن الشعبي ، ب) إسرائيل عن أبي إسحاق ، ج) سعيد بن منصور عن الحسن . 
[(7)] رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 3/ 699) برقم ( 6545 ) . وابن ماجة ( 2/ 1112) برقم ( 3351) ، والطبراني في الكبير ( 6/ 236 ) برقم ( 6087 ) . قال المنذري في الترغيب والترهيب ( 3/ 99 ) : (( رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد . قال الحافظ : بل واهٍ جداً فيه فهد بن عوف وعمر بن موسى ، لكن رواه البزار بإسنادين رواة أحدهما ثقات ، ورواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي )) اهـ . قلتُ : (( رواه الحاكم وصحَّحه ( 3/699) بسند ليس فيه فهد بن عوف ولا عمر بن موسى ، ويبدو أن الحافظ لم يطلع على هذا السند ، لأنه يتحدث عن سند آخر للحديث في المستدرك ( 4/ 346) صحَّحه الحاكم )) اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 34) : (( رواه الطبراني في الأوسط والكبير بأسانيد ، وفي أحد أسانيد الكبير محمد بن خالد الكوفي ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات )) اهـ .
[(8)] متفق عليه. البخاري ( 4/ 1801 ) برقم ( 4518)،ومسلم ( 2/ 1070 )برقم ( 1445). وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 221) : (( والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناه أنها كلمة أصلها افتقرت ، ولكن العرب اعتادت استعماله غير قاصدة حقيقة معناها الأصلي ، فيذكرون تربت يداك ، وقاتله الله ما أشجعه ، ولا أم له ، ولا أب لك ، وثكلته أمه ، وويل أمه ، وما أشبه هذا من ألفاظهم ، يقولونها عند إنكار الشيء ، أو الزجر عنه ، أو الذم عليه ، أو استعظامه ، أو الحث عليه ، أو الإعجاب به ، والله أعلم )) اهـ .
[(9)] متفق عليه. البخاري ( 5/ 2280 ) برقم ( 5805) ، ومسلم ( 2/ 877) برقم ( 1211). قلتُ : ومعنى هذه الكلمة في هذا الحديث" إنكِ لحابستنا " والخطاب مُوَجَّه للسيدة صفية أم المؤمنين .
وقال الزمخشري في الفائق ( 3/ 10) عن " عَقرى حَلْقي" : (( هما صفتان للمرأة إذا وُصِفت بالشُّؤْم ، يعني أنها تَحْلِق قومَها وتَعْقِرهم ، أي : تستأصِلُهم مِن شُؤمها عليهم )) اهـ .
[(10)] متفق عليه. البخاري ( 3/ 1073) برقم ( 2779)، ومسلم ( 4/ 1957) برقم ( 2524).
[(11)] رواه البخاري ( 3/ 1282) برقم ( 3290 ) ، ومسلم ( 3/ 1417 ) برقم ( 1792) .
[(12)] رواه البخاري ( 6/ 2491) برقم ( 6404 ) .
[(13)] رواه الطبراني في الكبير ( 4/ 34) برقم ( 3569 )، والحاكم في المستدرك ( 3/ 532) برقم ( 5976) ، وسكت عنه الذهبي . اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 394 ) : (( رواه الطبراني ، ورجاله ثقات )) اهـ .
[(14)] متفق عليه. البخاري ( 2/ 724) برقم ( 1948) ، ومسلم ( 2/ 1080 ) برقم ( 1457).

[(15)] انظر تاريخ الطبري ( 3/ 121) ، والبداية والنهاية ( 7/ 289 ) .
facebook.com/abuawwad1982