سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/12‏/2015

تلاوة القرآن

تلاوة القرآن

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://www.facebook.com/abuawwad1982

.......................

 إن القرآن الكريم هو كتاب الله _ عز وجل _ ، وهو كلامُه المقدَّس الْمُنْزَل على محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل _ عليه السلام _ المتعبَّد بتلاوته المعجِز الذي لا يمكن الإتيان بمثله المنقول بالتواتر ، أي منقول من طبقة إلى طبقة لا يمكن اجتماعهم على الكذب ، المحفوظ بحفظ الله فلا يمكن تغيير حرف منه ، والمبدوء بسورة الفاتحة ، والمختوم بسورة الناس .
     وهذا الخصائص العظيمة التي لم تجتمع لغيره من الكتب السماوية أو الأرضية تجعله فوق مستوى النقد والطعن والتشكيك . وهذا ليس من باب الاستعلاء بالباطل أو التعصب الأعمى. بل إبراز لعظمة القرآن الكريم الذي هيَّأ اللهُ تعالى له ظروفَ الحفظ والانتشار والبقاء عبر الأزمنة المتعاقبة رغم كثرة الأعداء .
     وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن هذا القرآن مأدبة الله ، فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبلُ الله والنور المبين والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسَّك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يَزيغ فَيُسْتَعْتَبُ ، ولا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّم ، ولا تنقضي عجائبه )) [ رواه الحاكم وصحَّحه ] .
     إي إن القرآن كاملٌ لا نقص فيه ، ومعصومٌ لا خطأ فيه . يرشد الحائرين إلى اليقين ، ويهدي الضائعين إلى بر الأمان ، ولا تنقضي عجائبه .
     ولا بد من التأدب في حضرة القرآن الكريم، والإنصات إليه بتمعن في حال سماعه، وقراءته بخشوع وتدبر . وقد جاء مُصدِّقاً للأنبياء السابقين والكتب السماوية السابقة . أعلى منارَ الحق عبر تقديم الْحُجَج الدامغة ، وفضح الباطلَ وأهلَه عبر دحض عقائدهم الواهية .
     وقد عجز فصحاءُ العرب وفحولُ الشعراء أن يأتوا بمثله أو بسورةٍ منه مع أنه نزل بلغتهم . وهذا التحدي مستمر حتى القيامة بلا انقطاع . مما يدل على رفعة القرآن وعدم غياب شمسه مع مرور السنين .
     ولم يجيء القرآنُ الكريم ليوضع على الرفوف . بل جاء ليصير واقعاً عملياً عبر تطبيق أحكامه كاملةً بدون انتقاص أو انتقاء . فاللهُ قد خلق العبادَ ، ويعلم ما يصلحهم وما يُفسدهم . فينبغي التمسكُ به وعدم هجره . فمن تَركه قُصم ، ومن تَمسَّك به هُدِيَ إلى سعادة الدارين . وقال اللهُ _ عز وجل _ : ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ [ الحِجْر : 9] .
     إن تلاوة القرآن الكريم تُورِث في النفس المؤمنة الإيمانَ العميق ، والطمأنينةَ المفعمة بالتأمل . فهي تنقذ الإنسانَ من دوائر الشك والقلق والحزن لتزرعه في عالم الإيمان والمحبة، فيتحول الفردُ إلى عنصر فاعل في محيطه، فيصير المجتمعُ خليةَ نحل دؤوب ، وتدور عجلةُ التنمية والإبداع حقيقةً لا شِعاراً مُفرَغاً من معناه .
     والمؤمنون إذا سمعوا كلامَ الله تعالى خشعوا ، وازدادوا إيماناً ، وارتفع مستوى يقينهم ، وسَمَت أخلاقهم . وقد قال الله تعالى عنهم : } وإذا تُلِيت عليهم آياتُه زادتهم إيماناً { [ الأنفال : 2] {(1)}.
     أي : زادتهم تصديقاً ويقيناً وخشيةً لله تعالى ، فانشرحت صدورُهم ، وصغرت مصائبُ الدنيا في عيونهم ، وارتفعت درجاتهم الإيمانية ، وازدادوا تَعَلُّقاً بالآخرة . وهذه الآية ميزان دقيق ، وعلى المرء أن يَعرض نفسَه عليها ، فإذا ازداد إيماناً حينما يسمع آياتِ الله فهو على خير عظيم ، لأن قلبه مفعم بالإيمان، أمَّا إذا لم تُؤثِّر فيه آياتُ الله ففي قلبه مرض ، وعليه أن يراجع أمره لكي يُصَفِّيَ قلبَه من الشوائب .
     وعلى الجهة المقابلة نجد أن المشركين حينما يسمعون الآياتِ الإلهية فإن مزاجَهم يتعكر ، ويظهر عليهم الغضب والعبوس والقلق وعدم الراحة ، لأن قلوبهم سوداء مفعمة بالظلمات تتضايق من نور الإيمان الباهر . وكما قال الشاعر :
قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمس مِن رَمَدٍ         ويُنْكِرُ الفمُ طَعْمَ الماء مِن سَقَـــمِ
     وقال الله تعالى فاضحاً الذين كفروا:} وإذا تُتلى عليهم آياتُنا بَيِّناتٍ تَعرف في وجوه الذين كفروا المنكرَ  { [الحج: 72] .
     فهؤلاء غارقون في إنكار الحق ، ويحاولون جاهدين طمس معالم النور ، لكن الشمس لا يمكن تغطيتها بغربال. وقد ورثوا عن آباءهم الخرافاتِ ، وهم متمسكون بها على غير بصيرة ، وينافحون عنها بكل قوة . وهُم يعتقدون أن التسليم للحق الإلهي الذي جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَنسف تاريخهم،ويلغي وجودهم، لذلك يقامون نورَ الحقيقة بشتى السُّبل .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 140 ) : (( الإنكار لفرط نكيرهم للحق ، وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليداً ، وهذا منتهى الجهالة )) اهـ .
     إن المشركين حين يسمعون الآياتِ الإلهية الباهرة ذات الْحُجَج الساطعة التي لا يمكن قهرها ، فإن علامات الاضطراب والكآبة وعدم الراحة تظهر على وجوههم بسبب كرههم لظهور الحق ، وغيظهم الناتج عن جهلهم وعدم قدرتهم على مقارعة الْحُجَّة بالحجَّة .
     وتلاوةُ القرآن أمرٌ عظيم ينبغي التعامل معه باحترام وأدب ، لذلك كانت الاستعاذة بالغة الأهمية عند التلاوة ، لكي يستحضر الفردُ معاني الالتجاء إلى الله تعالى القادر على حماية العبد من الشيطان .
     قال الله تعالى : } فإذا قَرأتَ القرآنَ فاستعِذْ بالله من الشيطان الرجيم { [ النحل : 98] .
     من السنة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن . والخطابُ شاملٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأُمَّته مع أن المخاطَب هو النبي صلى الله عليه وسلم . فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ عن الخالق تعالى ، وهو الذي يقود مسيرةَ الدعوة . (( وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله تعالى ، والْمُبَيِّن عنه معنى ما أراد ، فَقَدَّمَ اسْمَه في الخطاب ليكون سلوكُ الأمر في شرائع الدِّين على حسب ما ينهجه ويُبيِّنه لهم )){(2)}.
     ولا تخفى ضرورة الإنصات لدى قراءة القرآن ، وتدبر معانيه ، وتحليل حلاله ، وتحريم حرامه. وهذا لا يتأتى إلا بالإنصات العميق ، وتشرُّب مدلول الآيات القرآنية ، والتفكر في عظمة الخالق تعالى وكلامِه المجيد ، وكيفيةِ تطبيق الفكر القرآني على أرض الواقع لصلاح الفرد والجماعة .
     قال الله تعالى : } وإذا قُرِئَ القرآنُ فاستمعوا له وأنصِتوا لعلكم تُرحَمون { {(3)}.[ الأعراف: 204] .
     ففي الآية بيانٌ لضرورة الاستماع للقرآن بعمق وتفكُّر تعظيماً له ، ومن أجل فهم آياته . فلا يمكن استيعاب الآيات القرآنية ، واستنباط الأحكام الشرعية ، وربطها بالواقع العملي ، إلا من خلال التعمق في فهم الآيات عبر الاستماع شديد التركيز . كما أن فهم النصوص القرآنية هو الخطوة الأولى لتطبيقها واقعاً عملياً . فالقرآنُ لم يجيء ليُقرأ في المساجد أو في الصلوات فحسب ، بل أيضاً ليصبح مُطبَّقاً في حياة الفرد والجماعة .
     وقد كان الناسُ يقرأون القرآنَ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيتضايق كثيراً، لأن ذلك يُؤثِّر على التركيز، وتدبر معاني الآيات . فعلى المستمع للقرآن أن يُركِّز في الاستماع ، ويبتعد كلياً عن القراءة ، وإنما يحصر تفكيره في المعاني المستقاة من كلام الله العظيم .
     فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جَهَرَ فيها بالقراءة ، فقال : (( هل قرأ معي أحد منكم آنفاً ؟ ))، قال رَجل : نعم يا رسول الله، قال : (( إني أقول : ما لي أُنازَع القرآن )). قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة في الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم {(4)}.
     فينبغي تجذير الفهم السليم للمعنى القرآني عبر الاستماع ، فيكون جوفُ المسلم ماصَّاً للأفكار كالإسفنج الذي يمتص الماءَ. وهذا لا يتحقق إلا إذا فُتح البصرُ والبصيرةُ أمام قداسة الكلام الإلهي. وكل كلام يدل على قائله ، فالكلامُ صفة المتكلِّم . وكلما تعمقنا في فهم القرآن الكريم أدركنا عَظَمةَ القائل _ سبحانه _ ، وهذا يزيد الخشوع والتأمل والتفكر .
     فعلى المرء الذي يتعامل مع القرآن الكريم أن لا يقرأ القرآنَ بعيون ميتة إذا كان قارئاً . وعليه كذلك في حالة الاستماع أن يجاهد نفسَه للوصول إلى أعلى درجات التركيز والاستيعاب بقلب حاضر .
     وقد تحدَّث القرآنُ عن استماع الجن للقرآن لِما رأوا فيه من قداسة وجلال . مما يشير _ بلا شك _ إلى أن القرآن يُؤثِّر في كل المخلوقات على اختلاف جنسها . وإن لم يشعر المخلوقُ بتأثير القرآن ، فالمشكلة في المخلوق لا القرآن .
     فقد قال الله تعالى : } وإذْ صَرَفْنا إليكَ نَفراً من الجن يستمعون القرآنَ فَلَمَّا حَضَروه قالوا أنصِتوا {       [ الأحقاف : 29] .
     إن الجن قد استمَعوا إلى القرآن، وأُصيبوا بالدهشة لجلاله وإعجازه، وآمنوا به بعد أن تدبَّروه. وفي هذه الآية توبيخٌ شديد لمشركي قُريش المتمسِّكين بالكفر والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ، في حين أن الجن يستمعون القرآنَ بأدب وخشوع ويؤمنون به .  
     وعن سبب نزول الآية ، روى الحاكم في المستدرك ( 2/ 495 ) وصحَّحه ووافقه الذهبي : عن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ببطن نخلة ، فلمَّا سمعوه قالوا : أنصِتوا ، قالوا : صَه . وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة )) .
     فهؤلاء الجن هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآنَ في منطقة " بطن نخلة "، فلما سمعوه انبهروا بسبب جلال الكلام الإلهي وعُلُوِّ شأنه، فأمروا بعضهم بالإنصات والسكوت لكي يزدادوا استيعاباً للقرآن ، ومعرفةً بأحكامه . وقد ذكر الراوي عددَهم واسمَ أحدهم .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ _ اسم مكان _ ، وقد حِيل بين الشياطين وبين خَبر السماء ، وأُرسلت عليهم الشُّهب، فَرَجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا : ما لكم ؟، فقالوا : حِيل بيننا وبين خَبر السماء ، وأُرسلت علينا الشُّهب، قالوا:ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارقَ الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجَّهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يُصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلمَّا سمعوا القرآنَ استمَعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء )){(5)}.
     إن الشياطين قد حُجبوا عن خبر السماء ، فلم يعودوا يطَّلعون عليه ، أي إنهم لم يعودوا يعرفون ماذا يحدث في الملأ الأعلى ، وأُرسلت عليهم الشُّهب الحارقة تطاردهم في كل مكان . مما جعلهم يعتقدون أن هناك حدثاً عظيماً قد حصل بسبب هذا التغير المفاجئ بالنسبة لهم . فبدأوا رحلةَ البحث عن سبب حجبهم عن خبر السماء ، وحينما سمعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآنَ العظيم استمَعوا له بتدبر وانبهار لأنه كلامٌ جديد على مسامعهم لا يُشبِه كلامَ العرب أهلِ الفصاحة والبيان ، فكلامُ الله أعلى وأَجل ، فأدرَكوا حينئذ سبب الحيلولة بينهم وبين خبر السماء ، فعادوا إلى قومهم مؤمنين يُبشِّرونهم بهذا الكلام الإلهي المقدَّس . فقد أدرَكوا أن هذا الكلام العظيم لا يمكن أن يكون من تأليف بشر لأن اللغة القرآنية لا يرقى لمستواها بلاغةُ البشر وفصاحتهم ، وبالطبع فإن كلام الله الخالق يختلف عن كلام الإنسان المخلوق .
     وفي صحيح مسلم ( 1/ 332 ) : عن ابن مسعود _ رضي الله عنه_ قال : .. كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشِّعاب، فقُلنا : استطير _ أي طارت به الجن _ أو اغتيل ، قال : فبِتنا بِشر ليلة بات بها قوم ، فلمَّا أصبحنا إذا هو جاء من قبل حِراء ، فقلنا : يا رسول الله فقدناكَ فطلبناكَ فلم نجدكَ فبِتنا بِشر ليلة بات بها قوم، فقال:(( أتاني داعي الجن فذهبتُ معه فقرأتُ عليهم القرآن )) .
     والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أُرسِل إلى الإنس والجن ، فليس غريباً أن يقرأ القرآنَ على الجن ، فهم مُكَلَّفون من الناحية الشرعية ، وفيهم المؤمن والكافر تماماً كالإنس . كما أن هناك إشارة دقيقة إلى الجهد النبوي الجليل في الدعوة وعدمِ التقصير في ذلك ، فهو _ صلى الله عليه وسلم _ لم يُعرِض عن داعي الجن حينما أتاه ، بل ذهب معه بلا موكب أو حراس شخصيين ليقرأ القرآنَ، ويُبلِّغ الرسالةَ السماوية على أكمل وجه . والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَزَّه عن التقصير، إذ إن وظيفته الأساسية هي الدعوة إلى الله تعالى ، فهو سَيِّد الدُّعاة ، والقدوة العليا في كل زمان ومكان .
.......الحاشية............
{(1)} هذه الآية دليل على أن الإيمان يزداد وينقص . يزداد بالطاعات ، وينقص بالمعاصي. (( كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء، بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك )) [ تفسير ابن كثير ( 2/ 530 ) ] .
{(2)} شرح النووي على صحيح مسلم ( 1/ 204 ) .
{(3)} في الآية تفريقٌ لغوي بين الاستماع والإنصات . (( ولا شك أن الاستماع أخص من الإنصات ، لأن الاستماع الإصغاء ، والإنصات السكوت ، ولا يلزم من السكوت الإصغاء )) [ فتح الباري لابن حجر ( 8/ 683 ) ] .
{(4)} رواه أحمد في مسنده ( 2/ 301 ) برقم ( 7994 ) ، وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 372 ) : (( وصحَّحه أبو حاتم الرازي )) ، والترمذي ( 2/ 118) برقم ( 312) وحسَّنه ، وابن حبان في صحيحه ( 5/ 157 ) برقم ( 1849 ) . 

{(5)} متفق عليه . البخاري ( 1/ 267 ) برقم ( 739 ) ، ومسلم ( 1/ 331 ) برقم ( 449 ) . وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 675 ) : (( ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم حين استمَعوا أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك .. وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن ، وأنهما لمسمَّى واحد ، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان ، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان . وفيه أن الصلاة في الجماعة شُرعت قبل الهجرة ، وفيه مشروعيتها في السَّفر ، والجهر بالقراءة في صلاة الصبح ، وأن الاعتبار بما قضى اللهُ للعبد من حسن الخاتمة لا بما يظهر منه من الشر ولو بلغ ما بلغ ، لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم يكونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الحدث الحادث من جهتها ، ومع ذلك فغلب عليهم ما قضى لهم من السعادة بحسن الخاتمة )) .  

28‏/12‏/2015

الموت في شعر المعلقات

الموت في شعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://www.facebook.com/abuawwad1982

..........................

     إن الموتَ يُمثِّل قيمةً أساسية في الحياة . ولا نُبالِغ إذا قُلنا إن الموت هو الحياة الحقيقية . ولا يوجد إنسان لا يؤمن بالموت ، أو لا يُفكِّر به . والإنسانُ قد تنهار عقيدته فَيَجْحد وجودَ الله تعالى، ولكنْ لا يمكنه أن يَجحد وجودَ الموت . إذن ، فالموتُ هو حَجر الزاوية في البناء البشري. والحديثُ عن الموت هو الفلسفة النهائية الحاسمة ، ومختصر الخبرات الحياتية برمتها .
     والشعراءُ _ باعتبارهم أكثر المخلوقات حساسيةً والتقاطاً لعناصر الطبيعة _ لا يَقدرون على الإفلات من  " إغراء الموت " حتى لو أرادوا ذلك . وهذا يُفسِّر ذِكرَ الموت في أشعارهم ، وجعل الفلسفات والمناهج الفكرية تَدور حَوْله . فالموتُ مجالٌ خصب للتأمل في النهاية ، والأحزان ، والفِراق ، ... إلخ .
     والمعلّقاتُ اعتنت بموضوع الموت ، واستمدّت منه فلسفةً للحياة ، ومنهجاً فكرياً للإنسانية . وقد عبّر أصحابُ المعلّقات عن فكرة الفناء ، وعدم الخلود في الدنيا ، وأن الموت شامل لكل الأحياء، ولا مفر منه ، واستحالة العودة من الموت ، وأنه مُقدّر . وفي الجهة المقابِلة ، نجد أفكاراً تتحدث عن ضرورة الذهاب إلى الموت وعدم انتظاره . فهو قادمٌ _ لا محالة _ فينبغي أخذ المبادَرة . وتبرز_ أيضاً _ فكرةُ عدم المبالاة بالموت، ولا بد للإنسان أن يعيش حياته بالطول والعَرْض ، وأن يَستمتع قَدْر المستطاع لأنه لن يَعيش إلا مرة واحدة فقط . وتَظهر فكرة " الموت صُدفة " ، وأنه حالة عبثية تأتي بشكل أعمى ، وغير مُسَيْطَر عليه . وهذه العقيدةُ متأثرة بالنسق الفكري الوثني الذي لا يؤمن بالحياة بعد الموت ( الحياة الآخِرة ) .
     إننا أمام حالة شِعرية متفردة تتحدث عن الموت ، وتورده في سياق فني فلسفي يَعكس طبيعةَ عقائد أصحاب المعلّقات ، والماهياتِ الفكرية الكامنة في ذواتهم ، والأحداث التاريخية المصاحِبة للشاعر وفلسفته في الموت والحياة على السواء ، لأن الأشياء تُعرَف بأضدادها .
1_ لا خلود في الدنيا :
     الدنيا دارٌ زائلة لا يمكن أن تَمنح الخلودَ للعناصر . ففاقدُ الشيء لا يُعطيه . وبما أن الدنيا ذاتها غير خالدة ، إذن فلا خلود فيها . إنها فانيةٌ هِيَ ومحتوياتها. والناسُ يَرون الموت والأموات كلّ يومٍ رأي العَيْن ، فلا مجال للتكذيب أو الشك . وكل إنسان مهما تطاول عُمُرُه ، لا بد أن يُحمَل يوماً ما إلى المقبرة . وهذا الأمرُ من كثرة ما اعتاد عليه الناسُ ، صار أمراً عادياً لا يُحرِّك المشاعرَ ، ولا يُثير مكنوناتِ الصدور. فالاعتياديةُ تَجعل الإنسانَ أعمى، وعاجزاً عن رؤية الأشياء بعين البصيرة ، وغارقاً في نظام حياتي روتيني مغلَق .
     ونحن نجد الشاعر طَرَفة بن العبد يشير إلى قضية " اللاخلود " فيقول :
ألا أيّهذا اللائمي أَشْهَدُ الوَغَــى          وأن أنهلَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
     يقول : ألا أيها الإنسان الذي يُلومني على حضور الحرب، وحضورِ الملذات، هل تخلِّدني إن كففتُ عنها ؟.
     إن الشاعرَ يُؤْمن بعدم الخلود في الدنيا . وسواءٌ شاركَ الإنسانُ في الحرب أم نام في بَيْته ، ففي كلا الحالتين لن يَنعم بالخلود . لذلك فهو يُريد أن يَعيش حياته على هواه بلا ضوابط ، أن يعيش بالطول والعَرْض ، ويَستمتع بكل لحظة ، ويَفعل ما يَحلو له. ففي كل الحالات ، هُو غير خالد ، والموتُ قادمٌ لا محالة ، والمسألةُ مسألةُ وقتٍ لا أكثر ولا أقل. وهذه القناعةُ لم تُكسِب الشاعرَ إحساساً بالمسؤولية ، بل على العكس ، أغرقته في اللامبالاة واللاجَدْوى ، وأكسبته شعوراً بالعَدَم والضياع . وبما أن الموتَ قادمٌ ، والخلود متعذِّر ، فلماذا لا يستمتع بحياته ويشارك في الحرب ويصنع مجدَه الشخصي ومجدَ قبيلته ويَنهل من اللذات قبل أن يداهمه الموت ؟!. إنها رُوحٌ جاهلية وثنية تَعتبر الموتَ نقطة النهاية ، ولا شيء بعدها. وبالتالي ، لا بد من استغلال الحياة الدنيا في الاستمتاع ، وتحقيق رغائب النَّفس كاملةً غير منقوصة . ومن الواضح أن سلوكَ الشاعرِ العابثَ قد سَبّبَ له المتاعبَ ، وجلبَ له الانتقاداتِ والعتابَ . وبالطبع ، فإن الشخص الذي يَرى التصرفاتِ الطائشة للشاعر لا بد أن يَلومه . وهذا اللومُ يَنبع من تطبيقات العقل الجمعي ، ويَنطلق من فلسفة اجتماعية سائدة تتطلب التوازنَ في أداء الأعمال، وتحمّلَ المسؤولية، واحترامَ قيمة الحياة، وعدم تضييعها في اللذات الوقتية ، والسلوكياتِ غير المحسوبة .
2_ الذهاب إلى الموت وعدم انتظاره :
     من الواضح أن الشاعر طَرَفة بن العبد يؤسس فلسفته الخاصة بالموت وملابساته ، وما يُرافقه من أحداث فكرية أو مادية واقعية . وها هُوَ يقول :
فإنْ كُنتَ لا تسطيعُ دَفْعَ مَنِيّتي          فَدَعْني أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي
     إن الشاعر يَبني فلسفته الذاتية حول فكرة " استحالة دفع الموت " ، لكنه يُحيط هذه الفكرة الصحيحة بسلوكيات خاطئة وتطبيقاتٍ سلبية. فالشاعرُ يرى ضرورةَ الغرق في الملذات والشهوات بلا حساب ، لأن الموت قادمٌ بشكل مؤكّد لا شك فيه . فبدلاً من أن يصبح الموت باعثاً على الزهد والاستقامة ، يصبح باعثاً على اللامبالاة والعبث والتبذير . وهذه هي فلسفة طَرَفة بن العبد التي بثّها في أشعاره .
     يقول طَرَفة : فإن كنتَ لا تستطيع أن تدفع مَوْتي ، فدعني أُبادر الموتَ بإنفاق أملاكي .
     إنه في سِباق مع الموت ، ويُريد أن يُسابق الموتَ قبل أن يُباغته . وهكذا تتجلى روحُ المبادَرة ، مُبادَرة الموت واقتحام عالَمه ، وذلك بإضاعة الممتلكات ، وتبذير الأموال، والاستمتاع بالملذات إلى الدرجة القُصوى. فالموتُ سيتلفُ أملاكَ الشاعر، ولن يُبقيَ له شيئاً . لذلك يَحاول الشاعرُ أن يَسبق الموتَ ، ويأخذ على عاتقه إتلاف أمواله بنَفْسه ، وعدم منح الموت هذه الفرصة .
     والمنهجيةُ الفلسفيةُ المسيطرة على الشاعر في هذا السياق هي أن الموت لا بد منه ، فلا معنى للبخل ، وتركِ الملذات ، وإدارةِ الظّهر للشهوات . فعلى المرء أن يَستمتع بالحياة ولذاتها بكل الوسائل المتاحة ، فالغايةُ تبرِّر الوسيلةَ ، والإنسانُ لن يَعيش مرةً أُخرى ، فعليه اغتنام هذه الفرصة قبل فواتها. فالمتعةُ إذا ذَهبت لن تَعود . وهكذا يُصبح الموتُ حافزاً على الغرق في الشهوات بلا ضوابط ، وليس حافزاً على العمل المثمر ، وسلوكِ الطريق القويم .
     ومن الملاحَظ أن فلسفةَ طَرَفة بن العبد تنطوي على ردة فعل عكسية . فالمفروضُ أن يَقطعَ الموتُ لذاتِ النفوس ورغباتها ، ويدفعَ إلى الصلاح والخير ، باعتباره هادمَ اللذات ، ومُفرِّق الجماعات ، ومُيتِّم البنين والبنات . أمّا في حالة طَرَفة ، فقد تحوّلت صدمةُ الموت إلى مزيد من الشهوانية والعبث واللاجَدْوى. ففي بعض الأحيان، يؤدي النورُ الباهر إلى العَمى لا قوة الإبصار . كما أن كَثرة الشّد يُرخي . وهذا ما نراه جلياً في فلسفة طَرَفة المتعلقة بالموت، وتطبيقاتها الشعرية .

3_ عدم المبالاة بالموت :
     يواصل الشاعرُ طَرَفة بن العبد سياسته تجاه الموت ، حيث إنه لا يُبالي به ، ولا يُقيم له وزناً . هذه هي القاعدة الأساسية في فلسفته حول الموت . أمّا الاستثناءُ فهو ما عبّر عنه في قَوْله :
وَلَوْلا ثَلاثٌ هُنّ مِن عِيشَةِ الفَتى          وَجَدِّكَ لم أحفِلْ متى قامَ عُوّدي
     يقول طَرَفة : فَلَوْلا حُبِّي ثلاث خِصال هُنّ من لذة الفتى الكريم لم أبالِ متى أقام عُوّدي من عندي آيسين من حياتي . أي لم أُبالِ متى مِتُّ .
     وهذا البيتُ يَحمل تشويقاً كبيراً ، ويشدّ انتباهَ السامع . فالشاعرُ يَنظر إلى الموت على أنه نهاية المطاف ، وأن الحياة مهزلةٌ كبرى. وهو لا يُبالي بالموت ولا الحياة على حَدٍّ سَواء . لكنّ هناك ثلاث خصال تَجعله حريصاً على حياته، ومُبالياً بالموت إلى حَد بعيد . وهذه الخِصالُ هي : شرب الخمر، وإغاثة اللهفان ، والاستمتاع بالنساء . وقد ظَهرت هذه الخصال في قَوْله :
فَمِنْهُنّ سَبْقي العـــاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ    كُميتٍ متى ما  تُعلَ بالماءِ تُزْبـــدِ
( شرب الخمر )
وَكَرِّي إذا  نادى المُضــافُ مُحَنّباً    كَسِيدِ الغَضا نَبّهْتَهُ  المُتَــــوَرِّدِ
( إغاثة اللهفان )
وتَقصيرُ يَوْمِ الدّجْنِ والدّجْنُ مُعجِبٌ       ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِ  المُعَــــمّدِ
( الاستمتاع بالنساء )
     وسوفَ يتم شرحُ هذه الأبيات بالتفصيل لاحقاً . وما يهمنا هنا هو ارتباط الموت بالمتعة . فالشاعرُ يعتنق " عدم المبالاة بالموت " كعقيدة ثابتة لا محيص عنها . والقضيةُ عنده محسومة بشكل نهائي ، والمسألةُ مسألةُ مبدأ .
     لكنّ هذه العقيدة تنهار وتصبح لاغيةً ، عندما ترتبط حياةُ الشاعر بثلاثة أمور : الأول _ شرب الخمر الذي يُشكِّل قضيةً أساسية في المجتمع الجاهلي . والثاني _ إغاثة اللهفان ، وهو أمرٌ ثابت في التقاليد العربية القَبَلية ولا مساومة عليه . والثالث_ الاستمتاع بالنساء ، وهذه قضية مركزية في الثقافة الجاهلية الشهوانية .
     إذن ، هذه القضايا الثلاث تَمنح الشاعرَ شرعيةَ وجوده ، وتَمنح حياته المعنى والجدوى . وبدونها تصبح حياته كعدمها ، ويصبح الموتُ مرحّباً به لأنه الحَل الأكثر نجاعةً . كما أن هذه الخِصال تم لصقُها بالفتى الكريم تحديداً،وكأنها مميِّزاتُ هويةِ الفتى الكريم الشريف، وأركانُ وجوده.
4_ الموت شامل لكل الأحياء :
     الموتُ لا يُفرِّق بين الناس على أساس الدين أو اللون أو العِرْق . إنه حصادٌ شامل لا يَستثني أحداً . فالموتُ هو حَجرُ الرّحى الذي يَطحن كل شيء بلا تمييز ، ولا يتوقف عن الطحن أبداً .
     وقد أشار الشاعر طَرَفة بن العبد إلى أن الموتَ شاملٌ للجميع بلا محاباة ولا تفرقة ، فقال :
أرى الموتَ يَعتامُ الكرامَ وَيَصْطفي          عَقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَــدِّدِ
     فالموتُ يعم الأجوادَ ، ويختارهم ، ويُنهي وجودَهم ، ويَصطفي الكرامَ وكرائمَ أموال البخلاء . فلا الكريمُ نجا من الموت ولا البخيلُ ( الفاحش ). وهذان الصنفان ( الكِرام / البخلاء ) لم يستطيعا الإفلاتَ من قبضة الموت .
     إذن ، فالموتُ شاملٌ للجميع ، ومسيطرٌ على الأضداد . وكلّ شخصٍ سوفَ يَموت ، سواءٌ كان كريماً أم بخيلاً، غنياً أم فقيراً، شريفاً أم حقيراً، صالحاً أم طالحاً ، عالِماً أم جاهلاً ، قوياً أم ضعيفاً .. إلخ. لقد ساوى الموتُ بين الأضداد، وألغى التناقضاتِ ، وسَوّى بين الجميع ، فلم يُحابِ أحداً على حساب أحد، ولم يُفرِّق بين الناس. فالموتُ لا يَعرف التمييزَ العنصري ، أو الدبلوماسية ، أو المحاباة .
     والصفاتُ السلبية لم تَعُد بخير على أصحابها ، ولم تَجلب لهم نفعاً ، ولم تَحرسهم من الموت . والشاعرُ ركّز على موضوع البُخل. فالبخيلُ الذي قَضى حياته عبداً للمال وحارساً له ، لم ينجُ من الموت . وفي نهاية المطاف ، وَقَعَ عليه اختيارُ الموت ، كما وَقع على الكريم . وقد مات الاثنان ، لكنّ الفرق الجوهري أن الكريم تركَ ذِكرى طيبة وسيرةً عطرة ، أمّا البخيل فعاشَ مذموماً وماتَ مذموماً ، وسُمعته في الحضيض . ومِن هنا تبرز أهميةُ التحلي بالصفات الحميدة لأنها مَنبع الذكرى العطرة الباقية بعد الموت .
5_ الطريق إلى الفناء :
     ولادةُ الإنسان هي بدء العد التنازلي لوجوده. ومُذ وُجد على هذه الأرض ، وهو يَسير إلى نهايته الحتمية . فالبدايةُ هي جَرس إنذار للنهاية . والحياةُ تتناقص بشكل تدريجي . والإنسانُ مثل أوراق التقويم، كلما سَقطت ورقةٌ ذهبَ بعضُه . وكذلك الإنسان كلما مَرّ عليه يومٌ ذهبَ بعضُه.
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
أرى العيشَ كنزاً ناقِصاً كلّ ليلةٍ          وَما تَنْقُصِ الأيامُ والدهرُ يَنفَـدِ
     فالعيشُ _ حَسْب رؤية الشاعر _ هو كنز يَنقص كل ليلةٍ . إنه يتناقص باستمرار ، ولا يوجد شيءٌ يُعوِّض هذا النقصَ . وكلّ شيء يَنقص فإن مصيرَه إلى النفاد ، والوصول إلى نقطة النهاية . وما تَنقصه الأيامُ والدهرُ يَنفد ويَنتهي مهما كان كثيراً أو كبيراً . وكذلك العيشُ صائر إلى النفاد والانتهاء لا محالة . 
     والعيشُ مثل البحيرة التي تجف شيئاً فشيئاً، ويتبخر ماؤها، دون وجود روافد تغذِّيها. وسوفَ يأتي يومٌ تجفّ تماماً، وتصبح أثراً إِثر عَيْن. وهذا الانتهاءُ آتٍ حتماً ، وكلّ آتٍ قريبٌ . وما بَقِيَ من الدنيا أقل مما مَضى . إنه شعورٌ بالنهاية الأكيدة ، واستشعارُ قُرب الفناء الحتمي .
     والشاعرُ يُشبِّه العيشَ بالكنز ، وهو المال المدفون تحت الأرض أو ما يُحرَز في المال . كما أن مفهوم الكنز يشتمل على معنى الجمع والادخار . وهذا يدل على مركزية العيش باعتباره تجميعاً للسنوات والأحلام والذكريات . فالعيشُ كتلةٌ من الأضداد والتناقضات ، تتجمعُ فيه الأفراحُ والأحزانُ، والنجاح والفشل ، والحياة والموت . وكلّ هذه العناصر تتناقص تدريجياً ، فالإيجابياتُ تتلاشى والسلبياتُ تتلاشى . والعيشُ بكافة محتوياته مآله إلى النفاد. إنها رحلةُ العد التنازلي ، لا تتوقف حتى تصل إلى ساعة الصفر ( النفاد / الانتهاء / النهاية ) .
6_ لا مفر من الموت :
     الإنسانُ واقعٌ في قَبضة الموت _ رغمَ أنفه _ . وعندما تَحين ساعته ستشتدّ قبضةُ الموت على روحه ، فَيَسْقط . ومهما ضَرَبَ الإنسانُ في الأرض ، وشَرّقَ وغَرّبَ ، فلا بد أن يَعود إلى الموت بِقَدَمَيْه مثلما يَعودُ الطفلُ إلى حِضن أُمِّه . وكلّ حركاتِ الإنسان وعنفوانه وإشراقه إنما تتم في دائرة الموت التي تَضيق شيئاً فشيئاً . فالخناقُ يشتدّ على الإنسان بشكل تدريجي . والحياةُ الإنسانية لا تتحرك بمنأى عن الموت ، بل تتحرك تحت ظلال الموت . وهذه الفُسحة المتاحة للإنسان( الحياة ) محصورة في زنزانة ضيقة، تقترب جُدرانها من الإنسان    ( السجين ) يوماً بعد يوم. ولا يمكن الهرب من الموت بأية وسيلة ، فلا مفر منه ، ولا يمكن التخلص من الموت إلا بالموت . يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
لَعَمْرُكَ إنّ الموْتَ ما أخطأَ الفتى          لكالطِّوَلِ المُرْخَى وَثِنْياهُ باليَـدِ
     إن الشاعرَ يُقسِم أن الموت في مدة إخطائه الفتى ، أي مجاوزته إياه ، بمنزلة حبل طول للدابة ترعى فيه وطرفاه بيد صاحبه .
     والموتُ لا يُخطِئ الفتى، ومعنى الإخطاء هو المجاوزة . أي إن الفُسحة التي يتحرك فيها الإنسانُ كالفُسحة التي تتحرك فيها الدابة المربوطة بحبل طرفاه في قبضة مالكها . ومهما اقتربت الدابةُ أو ابتعدتْ فستظل تحت هيمنة صاحبها، لأنه يسيطر عليها بواسطة الحبل الذي لا تَقْدر على الإفلات منه . وكما أن الدابة لا تَقْدر على التخلص من قَيْدها ، فكذلك الإنسان لا يَقْدر على التخلص من قَيْده . والموتُ بمنزلة صاحب الدابة التي أرخى لها الحبلَ .
     وَحَسْبَ منظور الشاعر ، فإن حياة الإنسان إنما هي وقتٌ مُسْتَقْطَع سَمَحَ به الموتُ . والإنسانُ يتحرك تحت عَيْن الموت الذي يُراقب تحركاتِ البشر ، بعد أن أعطى الإذنَ بممارستها . وبالتالي ، فالحياة الإنسانية برمتها تتحرك في ظلال الموت ، ولا يمكن الإفلاتُ من ساعة النهاية إذا حانت .
     والشاعرُ يُعطي للموت مشيئةً ذاتية ، ويَجعله سيداً على الحياة ، وفاعلاً لا مفعولاً به . وهذه العقيدةُ نابعة _ بصورة غير مباشرة_ من عدم إيمان الشاعر باليوم الآخِر. فقلبُ الشاعرِ يَخلو تماماً من الإيمان بمَلَكِ الموت ، وأنه مُوَكّل بقبض الأرواح ، وأن الموت مفعول به وليس فاعلاً .
     فالموتُ _ في فلسفة الشاعر _ حالةٌ مستقلة قائمة بذاتها ذات سياق منفصل تماماً عن الإيمان بالغيب ، ومتى شاء الموتُ قاد الإنسانَ إلى نهايته الحاسمة ، لأن الإنسان واقع في شِباك الموت ، وقضيةُ النهايةِ قضيةُ وقتٍ _ لا أكثر ولا أقل _ ، وهذا الوقتُ يحدِّده الموتُ بأن يشدّ الحبلَ .
     وفي هذا السياقِ يَظهر عجزُ الإنسانِ المطْلقُ ، وتمركزه في أشد لحظات ضَعفه وانكساره . وأنه مجرد ردة فعل بلا حَوْلٍ ولا قوة ، يَستجيب _ رغم أنفه _ للفعل الأعلى ( الموت ) . وهذا الموتُ يمتلك السلطةَ المطْلقة على الحياة الإنسانية ، لأنه القوة المهيمنة ، والفعل القاهر الذي لا يَصمد أمامه شيء. ويَظهر _ أيضاً _ من سياق الفكر الشِّعري عند طَرَفة أن الحياة الإنسانية مجرد منحة من الموت الذي أرخى الحبلَ لكي تدور عَجلةُ الحياة . وبعبارة أخرى ، إن الموت له اليد الطولى في هذا الوجود ، لأنه أذنَ للحياة بالحركة والدوران ، وسمحَ للإنسان بالتحرك ، ولو بشكل مؤقّت .
     ويؤكد الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى استحالةَ الفرار من الموت ، وعدمَ إمكانية الهروب منه . ولكن الشاعر يُقدِّم منظورَه الخاص ، ويَطرح فلسفته الذاتية في الموضوع ، ويؤسس منظومةً شِعرية ذات علاقة وثيقة بالموت ، وعدم القدرة على الإفلات منه . يقول زُهير بن أبي سُلمى :
ومَن هَابَ أسبابَ المنـايا يَنَلْنَهُ          وإنْ يَرْقَ أسبابَ السماءِ بِسُلّمِ
     الخوفُ من الموت شعورٌ إنساني طبيعي وغريزي . فالفِطرةُ الإنسانية متعلقة بالحياة وزينتها ، وتَنفر من النهاية القاصمة التي تتجلى في الموت ( النقطة على آخر سطر الوجود الإنساني ) . لكنّ الخوفَ من الموت لا يُجدي نفعاً ، وليس له أي تأثير في مقاومة الموت أو منعه أو تأجيله . ولا يمكن لأحدٍ أن يتحصن من الموت . ولو أمعنَ الإنسانُ النظرَ في قضية الموت لآمنَ أنه ذاهبٌ إلى الموت بقدميه من حيث لا يَدري .
     واللافت في الموضوع أن الخوفَ من الموت يصير موتاً بحد ذاته ، وهذا هو الموت في الحياة . وهناك أمواتٌ كثيرون يتحركون في الحياة ، قضوا حياتهم أمواتاً منتظرين المِيتة الكبرى النهائية الحاسمة . وفي أحيان كثيرة تكون الإجراءاتُ التي يتخذها الإنسانُ لحمايته من الموت هي سبب هلاكه . وكما قيل : مِن مَأمنه يُؤتى الحَذِرُ. 
     ومَن خافَ أسباب المنايا نالته ، ولا فائدة من خوفه وهيبته إياها ، ولو رامَ الصعود إلى السماء فراراً منها . وبعبارة أخرى ، مَن هابَ طرقَ المنايا أن يَسلكها تأتيه المنايا . إذن ، فالموتُ واقعٌ لا محالة ، تعدّدت أشكالُه لكن المضمون واحد .
     والإنسانُ محاصَرٌ بالموت من كل الجهات ، يَهرب من الموت إلى الموت. ولو قرّر أن يَصعد إلى السماء بسُلّم هروباً من الموت لأدركه الموتُ . وهذا أعظم حصار في تاريخ الوجود الإنساني . إنه الحصار الذي يَفرضه الموتُ على الإنسان الذي يَقف عاجزاً أمامه بلا حِيلة ولا وسيلة .
     ويؤكد الشاعر لَبيد بن أبي ربيعة أن الموت لا يمكن الفرار منه ، وجميعَ المخلوقات تقف أمامه عاجزةً لا حَوْلَ لها ولا قوة ، فيقول :
صَادَفْنَ مِنْها غِرّةً فَأَصبنَهـا         إنّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُهـا
     والشاعرُ يتحدث عن عالَم الحيوانات، ويصف في صدر البيت عملية الافتراس الأساسية في مملكة الحيوان . فهو يقول : صَادفت الكلابُ أو الذئابُ غفلةً من البقر فأصبنَ تلك الغفلة أو تلك البقرة بافتراس ولدها ، أي وجدتها غافلة عن ولدها فاصطادته . إنها الغفلة القاتلة التي أدّت إلى القتل والنهاية. وهذا هو قانون الغاب ، حيث القويّ يَقتل الضعيفَ ، وكلّ مخلوقٍ يتربص بالآخر ويراقب نقاطَ ضعفه ، والكُل ضد الكُل . إنه الصراعُ المأساوي في عالَم الحيوانات المنطلقة من الغريزة لا العقلِ .
     ثم يؤسس الشاعرُ في عَجْز البيت فلسفةَ الموت . والموتُ لا يوجد في عالَم الإنسان فَحَسْب ، بل أيضاً موجود بكثافة في عالَم الحيوان ، ويملك حضوراً طاغياً بسبب الاحتكام إلى الغريزة ، والفِطرة المتوحشة ، دون وجود أي أثر للعقل أو المنطق .
     وها هُوَ يؤكد الحقيقة الساطعة التي يَخضع لها كلّ المخلوقات" إنّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُهـا " . فلا مفر من الموت ، لأن الموتَ لا يُخطِئ هدفَه . وسِهامُ المنايا لا تَطيش ، أي لا تُخطِئ . ولفظُ "السِّهام " يشير إلى قسوة الموت وخشونته ودقة إصابته ، فهذه السهام تَعرف طريقَها جيداً ، ولا تَحيد عنه . إن مسارَها مرسومٌ بدقة منذ نقطة الانطلاق حتى نقطة الوصول ( الإصابة ) ، وهي تخترق أجسادَ المخلوقات التي تقف عاجزةً تماماً أمام هجوم الموت الذي لا يَستسلم ولا يَتراجع .
7_ نشر خبر الوفاة :
     إن العقليةَ الجاهلية محصورة في قيم الشرف ، والمجد ، وانتشار الصِّيت ، ونيل ثناء الناس وإشادتهم . فهي عقليةٌ دنيوية غارقة في الرياء والشهرة والسمعة، ولا يوجد في قاموسها الوثني قيمُ الإخلاص لله تعالى ، أو العمل ابتغاء وجهه الكريم . فهذه المعاني غائبة تماماً عن الفكر العربي في الجاهلية . وقد كانت نيةُ العربيِّ الباعثة على العمل ، هي صناعة تاريخه الشخصي ، وتاريخ قبيلته ، وتحقيق المكاسب الروحية والمادية في الحياة الدنيا _ لا أكثر ولا أقل _ . ووفق المنظور الجاهلي لا توجد حياةٌ بعد الموت ، ولا يوجد ثواب أو عقاب . إذن ، فالدنيا هي البداية والنهاية، وهي أكبر الْهَم ، ومَبْلغ العِلم ، ومنتهى الآمال والآجال. ومن هنا نفهم فلسفةَ الحرص على نشر خبر الوفاة، وإشاعته بين الناس .
     يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
فإنْ مُتّ فانعيني بما أنا أَهْلُــهُ          وَشُقِّي عَليّ الجَيْبَ يا ابنةَ معبَدِ
     لا يُريد الشاعرُ أن يموت مجهولاً ، وهو يَرفض أن يكون نكرةً في هذه الحياة . لذلك يوصي ابنةَ أخيه       ( معبد ) أن تنشر خبر وفاته مع الإطراء والتبجيل . إنه حريصٌ على خلود ذِكْره بين الناس بعد رحيله ، وحريصٌ أيضاً أن تُطبِّق شهرته الآفاق بعد موته. يريدُ إشاعةَ خبر هلاكه. وقد وكّل ابنةَ أخيه بهذه المهمة بعد مماته . يوصيها أن تنعاه بما يستحقه من الثناء. والنعي هو إشاعةُ خبر الموت. ومن خلال هذا الرؤية ، يتضح حرصُ الشاعر على تلميع صورته بعد وفاته، وترسيخها في الأذهان لكي تظل عصيةً على النسيان أو التجاهل . إنه في سباق مع الزمن ، ويحاول الاستثمار في التاريخ . يحاول صناعة تاريخه الشخصي ، والحصول على الخلود في كل الأزمنة ، والبقاء حياً بين الناس رغم رحيله جسدياً .
     يقول لها : إذا هلكتُ فأشيعي خبرَ هلاكي بمدحي الذي أستحقه وأستوجبه . كما يوصيها أيضاً بشق الجيب حزناً عليه. ولا يَخفى أن حزن المرأة ممزوج بالبكاء .
     والجيبُ ما يُفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس ، والمراد بشقِّه إكمال فتحه إلى آخره ، وهو أحد أشكال النياحة، ومن علامات السخط، ورفض القضاء والقَدَر ، وعدم التسليم بالأمر الواقع.
     إن الشاعرَ يحس أن عمره قصير ، ويستشعر قُربَ رحيله . وقد كان إحساسُ الشاعر صادقاً ، فقد ماتَ طَرَفة بن العبد وهو في السادسة والعشرين من العُمر . وهذا ليس غريباً ، فالشاعرُ قد عاشَ حياته بشكل عابث متهور ، وأقحمَ نَفْسَه في مشكلات كثيرة ، وصنعَ له أعداء كثيرين .
     وهذا الشعورُ بدنوِّ الأجل ملتصقٌ بالحنين إلى دفء الأنثى ، والحاجة إلى حنانها وعطفها ورعايتها . فالشاعرُ عندما يَسبح في مدار الموت ، يكون مكسوراً وعاجزاً وغارقاً في لحظة ضَعفه ، وربما تكون هذه أفضل لحظة لتذكر الدفء الأنثوي ، لذلك نراه في لحظة الضعف هذه ، يخاطب ابنةَ أخيه، ويبدو أنها كانت قريبةً من عَمِّها الشاعر، وتكنّ له مشاعر الحب والاحترام . ولو كانت غير ذلك لَمَا ذَكَرَها في هذا الموقف الحرج . إنه يَستعين بها لكي تُكمِل مسيرته نحو المجد بعد مماته ، وهذا يتجلى في نَعْيه ومدحه والثناء عليه وترسيخ صورته " المثالية " في أذهان الناس . ولا يوجد أفضل من النساء في ندب الموتى ، والحزنِ على الأموات .
     وهكذا يتضح الدورُ العبثي للمرأة الجاهلية . فهي مجرد بُوق لإيصال رسائل الجزع والسخط . وضعها المجتمعُ في هذه المهنة الدونية، وهي ارتضتها بلا أدنى اعتراض . فصار شَقّ الجيوب أو اللطمُ أو النياحة من الصفات الملازِمة للمرأة العربية. وهذه الخِصالُ القبيحة صارت ماركة مُسجّلة باسم المرأة، وصارت المرأةُ والسّخط وجهَيْن لعملة واحدة صَكّها المجتمعُ الجاهلي البدائي .
8_ " الموت صُدفة" :
     يمثِّل الموتُ صدمةً فكرية في المجتمع الجاهلي الوثني . والكثيرون لا يَقدرون على تحمّل هذه الصدمة الشديدة ، وهذا قادهم إلى اعتبار الموت مجرد عملية عبثية ، ولعبة صبيانية ، لا طائل من ورائها . وهذه نظرةٌ نابعة من صميم العقيدة الوثنية التي لا تؤمن بالحياة بعد الموت . وأصحابُ هذه العقيدة الفاسدة يَضعون وجودَهم تحت شعار" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع ". فالموتُ_ عندهم _ هو نهاية المطاف ولا شيء بعده . يقول الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
رَأيتُ المنايا خَبطَ عَشواء مَن تُصِبْ           تُمِتْه وَمَنْ تُخطئْ يُعَمّر فيهـــرَمِ
     إنه يَعتبر الموتَ مقامرةً غير محسوبة، متأرجحةً بين النجاح والفشل . والموتُ _ في نظر الشاعر _ سهمٌ قد يُصيب الهدفَ ، وقد يُخطئه. وهو بذلك لا يَرى أيةَ قوة محرِّكة للموت ومسيطرة عليه . وإنما يَنظر إليه باعتباره فِعلاً ميكانيكياً غامضاً ونابعاً من ذاته ، ومتذبذباً بين إصابة الهدف وعدم إصابته . والموتُ في منظور الشاعر كالقطار الذي قد يَلتزم بالسكة فيصل إلى وجهته، وقد يَنحرف عنها فلا يصل إلى المحطة المقصودة .
     والشاعرُ عاشَ لمدة طويلة ، وامتدّت به الحياة حتى قاربَ المئة أو كاد . وقد سئمَ من حياته الطويلة ، واشتاقَ إلى الموت لأنه اعتبره راحةً من الملل والسآمة والروتين . ولم يَجد تفسيراً لطول عُمره وبلوغه مرحلة الهرم إلا اعتقاد أن الموتَ أخطأه ، وأن سهمَه طاشَ هذه المرة . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار القرف الذي وصلَ إليه الشاعرُ ، وجعله يستعجل الموتَ ، ويتمنى قدومَه بأسرع وقت .
     ولا شك أن زُهيراً_ بسبب طول عُمره _ قد رأى الكثيرين من الأقارب والأصدقاء والأعداء قد ماتوا. إنهم يَتساقطون واحداً تلو الآخر على مرأى منه ومسمع . لذلك عندما يقول : (( رَأيتُ المنايا )) ، فهذا يدل على خبرة تراكمية . ولكنّ هذه الخبرة لم تزده إلا انحرافاً وضلالاً وسآمةً . فهو يَعتبر أن المنايا تصيب الناس على غير نسق وترتيب وبصيرة كما أن الناقة تطأ على غير بصيرة. والعشواءُ هي الناقة التي لا تُبصِر ليلاً . ثم قال : من أصابته المنايا أَهْلَكَتْهُ وَمَن أخطأته أبقته فبلغ الهرم . إذن ، فالموت _ وفق هذه الرؤية _ نسقٌ عابث ، وعملية عشوائية تفتقد إلى البصيرة، ولا تتمتع بدقة الإصابة. ولا قوةٌ مسيطرة على الموت ، ولا منطقٌ يَحْكمه . والعمليةُ برمتها تُشبه لعبة القِمار ، قد يفوز فيها الشخصُ وقد يَخسر .
9_ لا أحد يَعود من الموت :
     يُشكِّل الموتُ رحلةً بلا عودة. ذهابٌ بلا إياب. وكلّ شخصٍ غابَ سَيَرْجع يوماً ما، إلا غائب الموت فإنه لا يَرجع. وهذه المفارَقةُ الصادمة تعكس عَظَمةَ الموت، وضآلةَ الإنسان الضعيف الذي سَيَرْحل رغمَ أنفه ، ولا أمل في عودته . فالموتُ هو السفرُ النهائي ، والرحلةُ الأخيرة .
     يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :
وكلّ ذي غَيْبةٍ يَـؤوبُ          وغائبُ الموْتِ لا يَؤوبُ
     يُقسِّم الشاعرُ الغَيْبةَ إلى قِسْمَيْن: غَيبة يؤوب منها الإنسانُ ، أي يَرْجع . وغَيبة لا يؤوب منها.
     والغَيبةُ الأولى يمكن أن تكون سَفَراً أو هجرةً أو رحلةً عادية .. إلخ . وهذه الأمورُ ليست نهاية المطاف ، ولا تُعَدّ نقطة النهاية لحياة الإنسان . وكلّ غَيْبةٍ من هذا النوع يَرجع منها الإنسان ، لأنها غَيبة وقتية زائلة سُرعان ما تنتهي ، ولا تشكِّل تهديداً لوجود الإنسان . 
     أمّا الغَيبةُ الثانية ، فهي غَيبةُ الموت التي لا يمكن الرجوع منها إطلاقاً . فغائبُ الموتِ ذهبَ ولن يَعود . وهذا الأمرُ بديهي ، ويُعتبَر مُسلّمة لا تَقبل النقاش عند جميع العقلاء _مهما كانت عقائدهم وأجناسهم _ .
     وهذا البيتُ قد يَبدو للوهلة الأولى عادياً وتقريرياً ومباشِراً ، ولا شِعرية فيه . إلا أن المتأمل فيه يجد الشِّعرية كامنة في عملية المقارنة التي تحمل معاني الأضداد والتنافر والتعاكس . والمفارَقةُ الواضحة في البيت ( يَؤوب / لا يَؤوب ) هي فلسفة الخلاصة الشِّعرية .والمقارنةُ بين هاتين الغَيْبَتَيْن تُبْرِز معنى الموت وخصائصه بصورة شديدة الوضوح ، وبضدِّها تتبيّن الأشياءُ .
10_ الموت مُقدّر :
     إن التفكر في الموت يؤدي إلى إدراك حقيقة أنه مُقدّر، وخاضعٌ لقوة عُليا هي قوة الخالق تعالى. ولا يمكن أن يكون الموتُ عبثاً أو لعبةً عمياء . فلكلِّ مخلوقٍ أجلٌ محدّد ، لم يمكن تقديمه ولا تأخيره.
     يقول الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
وإنّا سَوْفَ تُدرِكنا المنايا          مُقَدّرَةً لنا وَمُقدّرينــا
     ومن هذا المنطلق الشعري، تبرز المعادَلةُ الوجودية الحاسمة : (( الموتُ خُلق للإنسان، والإنسانُ خُلق للموت/الموتُ مُقدّر للإنسان، والإنسانُ مُقدّر للموت )). وهذه التبادلية واضحةٌ في فلسفة الشاعر. فهو يقول: سَوْفَ تُدركنا مقاديرُ موتنا ، وقد قُدِّرت تلك المقادير لنا ، وقُدِّرنا لها .
     إذن ، فالقضيةُ محسومةٌ منذ الأزل ، ودقيقة إلى حَد العِصمة من الخطأ . فالموتُ لا يُخطِئ هدفَه أبداً . فالموتُ سوفَ يُدرِك الناسَ أينما كانوا ، وهو مُقدّر لهم ، كما أن الناسَ مُقدّرون له . وهذا يشير إلى أهميةِ اللقاء بين الإنسان والموت ، وحتميةِ المواجَهةِ غير المتكافئة . واعتماداً على هذا المبدأ الأساسي يمكن القول إن الإنسانَ والموتَ وجهان لعُملة واحدة ، لا يَقْدر أيّ منهما على الهرب من الآخر. ومُنذ ولادة الإنسان ارتبطَ مصيرُه بالموت، فالولادةُ هي بدء العَد التنازلي ، وهي نقطة الانطلاق نحو لقاء الموت .

     ولا يَخفى أن فِعلَ التقدير ( تقدير المنايا للناس، وتقدير الناس للمنايا ) لا يمكن أن يقوم بذاته، بل هو خاضعٌ للفاعل المسيطر على هذه العملية ، والفاعلُ هو اللهُ المقدِّرُ الذي وَضع كلّ شيء في نِصابه الصحيح ، وقَدّر أقواتَ الخلائق ومقاديرَ الموت منذ الأزل . ولن تَموت نَفْسٌ حتى تستوفيَ أجلَها كاملاً غير منقوص .

27‏/12‏/2015

القضاء والقدر

القضاء والقدر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://www.facebook.com/abuawwad1982

...........................

    إن الإيمان بالقضاء والقَدَر من أسس الإيمان ، فإذا زال زال الإيمانُ من جذوره . وهذا الإيمان يعني الخضوع لله تعالى والاستسلام له دون التواكل أو الكسل .
     فالقضاءُ والقَدَر لا يعنيان إجبار العبد على الطاعة أو المعصية ، بل يعنيان أن الله تعالى هو المتصرِّف في الكون ، يفعل ما يشاء دون ظلمٍ للعباد . فاللهُ تعالى خالقٌ للخير والشر ، والإنسانُ يختار الطريق الذي يريده بملء إرادته .
     أما تعريف هذا الركن الأساسي من أركان الإيمان {(1)} فهو على النحو التالي : _
     [ القضاء : عِلْم الله_ عز وجل _ للأشياء في الأزل على الصورة التي ستُوجَد عليها ، وستكون عليها في المستقبل . أمّا القَدَر فهو: إيجاد تلك الأشياء في علم الظهور على وجه تفصيلي يوافق القضاءَ السابق الأزلي المتعلق بها ].
     فالقضاءُ هو الأمر الكلي الإجمالي الذي أراده اللهُ منذ الأزل . أما القَدَر فهو جزئيات ذلك الأمر الكلي .
     قال الله تعالى :} وإذا قَضى أَمراً فإنما يقول له كُن فَيَكون { [ البقرة : 117] .
     فاللهُ تعالى إذا قضى أمراً من الأمور التي يريدها ، فهذا الأمر يحدث فوراً دون توقف ، لأن تأثير القدرة الإلهية في الأشياء نافذ بلا موانع ، والإرادةُ الإلهية لا شيء يعجزها أو يُعيقها .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 1750 ) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ... ولكنّ ربنا_ تبارك وتعالى اسمه _ إذا قضى أمراً سَبّح حملةُ العرش ، ثم سَبّح أهلُ السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا )) .
     وقال أبو السعود في تفسيره ( 1/ 151 ) : (( وأصل القضاء الإحكام ، أُطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابها إياه... } فإنما يقول له كُن فَيَكون { كلاهما من الكَوْن التام ، أي أَحْدَثَ فَيَحْدُثُ ، وليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال، وإنما هو تمثيل لسهولة تأتّي المقدورات بحسب تعلق مشيئته _ تعالى _ ، وتصوير لسرعة حدوثها )) اهـ .
     فعندما يريد اللهُ أمراً فذلك الأمر يقع مباشرة خضوعاً للإرادة الإلهية، دون أن يقول اللهُ للشيء :    } كُن {، لأن هذا الفعل إشارة لسرعة استجابة الأشياء لإرادة الله تعالى وعدم تأخرها .
     قال الله تعالى : } قُل لن يُصيبنا إلا ما كَتب اللهُ لنا { [ التوبة : 51] .
     فلن يصيب الإنسانَ إلا ما قضاه اللهُ تعالى وقدّره في الأزل، في اللوح المحفوظ أو القرآن. فهو _ سبحانه _ يبتلي عبادَه بالخير والشر ليعلم المؤمنَ من الكافر ، والصادق من الكاذب ، والصابر من الساخط .
     والمرءُ إذا علم أن ما قدّره اللهُ تعالى واقعٌ لا محالة ولا مهرب منه ، وأن كل ما أصابه من سعادة أو شقاء تم بقضاء الله وقَدَره ، صغرتْ في عينيه المصائب والآلام ، وهانت الدنيا بكل ما تحتويه من أعداء وأحزان .
     وعن ابن الديلمي قال : أتيتُ أُبي بن كعب فقلتُ له : وقع في نفْسي شيء من القَدَر فحدّثْني بشيء لعله أن يذهب من قلبي فقال : (( إن الله لو عَذّبَ أهلَ سماواته وأهلَ أرضه عَذّبهم غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم ، ولو أنفقتَ مثل أُحد في سبيل الله ما قبله الله منكَ حتى تؤمن بالقَدَر،وتعلم أن ما أصابكَ لم يكن ليخطئكَ، وأن ما أخطأكَ لم يكن ليصيبكَ، ولو مِتّ على غير هذا لدخلتَ النار )) . قال : ثم أتيتُ عبد الله بن مسعود فقال مثل قوله ثم أتيتُ حذيفة بن اليمان فقال مثل قوله ، ثم أتيتُ زيد بن ثابت فَحَدّثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مِثل ذلك {(2)}.
     فاللهُ تعالى لو عذّب الخلائقَ ما كان ظالماً لأحد منهم ، لأنه يعاملهم بعدله ، ولأنهم ما قَدَروا اللهَ حقّ قَدْره ، ولأن عباداتهم قاصرة عن معادلة نعمه الجزيلة . كما أن رحمته _ تعالى _ أعظم من أعمالهم الضعيفة ، ولا أحد يدخل الجنةَ بعمله ولا حتى الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ . فالكل خاضع للرحمة الإلهية ينتظرها بفارغ الصبر .
     والإيمانُ بالقَدَر ليس من الكماليات ، بل هو من أُسس الإيمان . فمنكرُ القَدَر كافرٌ لا ينفعه أي عمل صالح يقوم به . وكل ما يجري للخلائق من خيرٍ أو شر تم بقضاء الله وقَدَره ، ولم يحدث مصادفةً ، وإنما قدّره اللهُ تعالى بشكل دقيق غير عشوائي ، ولا يُخطئ صاحبَه .
     قال الله تعالى : } وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً {[ الأحزاب : 38] .
     فأمرُ الله تعالى قضاءٌ مقضي ، وحُكْمٌ مقطوع بوقوعه منذ الأزل ، لا تطرأ عليه التغييرات.
وكلّ أمر يُقدِّره الله تعالى فهو كائن لا محالة ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . وعلمُ الله تعالى محيط بكل شيء منذ الأزل. فهو _ سبحانه _ يعلم من سيذهب إلى الجنة ، ومن سيذهب إلى النار، قبل أن يخلق الخلقَ ، لكنه لم يُجبِر الفردَ على الطاعة أو المعصية . إذ لو كان هناك إجبار لسقط معنى الثواب والعقاب .
     فأنتَ قد ترى أعمى سائراً في الشارع وأمامه حُفرة ، فتعلم مسبقاً أنه سيسقط فيها ، لكنكَ لم تجبره على ذلك . ولنفترضْ أن هناك تلميذاً في المدرسة مهملٌ في دروسه ، فالمعلِّمُ يعرف مسبقاً أن ذلك التلميذ سيرسب آخر السنة ، لكنه لم يجبره على ذلك . فالعِلْمُ بالشيء لا يعني الإجبار بأية حال من الأحوال .
     والانتقالات في حياة الإنسان ، وتقلّبه بين السعادة والشقاء ، والفرح والحزن ، والنجاة والهلاك ، كلها تتم تحت مظلة القَدَر . وعلى الإنسان أن يختار الدرب الصحيح لكي يسير فيه ، مبتعداً عن العجز والكسل ، وأن يطمح للحفاظ على حياته بكل السبل المتاحة ، ولا يستسلم للهلاك بدعوى أنها من القَدَر . فالقضاءُ والقَدَر دافعان لمزيد من الجهد والعمل الدؤوب ، وليس التكاسل والاستسلام وفهم النصوص الشرعية بشكل خاطئ .
     فاللهُ تعالى رزاقٌ . لكن العباد مأمورون بالسعي في طلب الرزق ، فالسماء لا تُمطر ذهباً ولا فضة . وقضاءُ الله مُحكَمٌ لا تبديل فيه ، ولكن على المرء أن يعمل ، فكلّ إنسان مُيَسّر لما خُلِق له ، فاللهُ تعالى يعلم مصيرَ العباد ، إلى السعادة أو الشقاء ، لكنه لم يُجبر العبد على الطاعة أو المعصية . واللهُ تعالى لا يُطاع رغماً عنه ، ولا يُعصَى رغماً عنه . فهو _ سبحانه _ مَالِكٌ لما مَلّك العبادَ . خلق الخيرَ والشر ، والإنسانُ يكتسبهما بأفعاله . فإذا صدرت طاعةٌ من العبد فبفضل الله تعالى وله المِنّة . وإن أتى العبدُ بمعصية فبِعدل الله تعالى وله الْحُجّة .
     وفي حديث الطاعون أن عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه _قال: (( نَفِر من قَدَر الله إلى قَدَر الله )){(3)}.
     فهو لم يقصد أنه يَفِر من قَدَر الله حقيقةً، لأن القضاء والقَدَر يُظلِّلان حياةَ الإنسان شاء أم أبى، ولا مهرب منهما. لكنّ حركة الإنسان في الحياة هي بقَدَر الله تعالى ، فالذي فرّ منه عمر _ رضي الله عنه _ أمرٌ خاف على نفسه منه ، والذي فرّ إليه أمرٌ فيها النجاة _ حسب تقديره _ . وكلا الأمرين من قَدَر الله تعالى الذي نهى عن إلقاء النفس في التّهلكة . كما أن الأسباب والمسبِّبات من قَدَر الله تعالى . وهذه القضيةُ بالغة الدقة ، وقد وقع الكثيرون في غبش تفكيرهم القاصر ، فخلطوا الحابلَ بالنابل .
     فالذي يهرب من وحش ضارٍ ، أو يحاول زيادة راتبه للخروج من الفقر إلى الغنى ، أو يسافر من أجل العمل ...إلخ . هو في حقيقة الأمر ينتقل من قَدَر الله إلى قَدَر الله في عالم السبب والمسبِّب.
     ولا ينبغي تركُ العمل، والاتكالُ على القَدَر السابق . فيجب الامتثال للشريعة الإلهية في أوامرها ونواهيها . فمن كان من أهل الجنّة يسّره اللهُ لعمل الطاعات فينال السعادة ، ومن كان من أهل النار يسّره اللهُ للمعاصي فينال التعاسة .
     وقد كان أهلُ الجاهلية لا يفهمون ماهيةَ القضاء والقَدَر بالصورة الصحيحة ، وهذا أدخلهم في إشكاليات كثيرة انعكست سلباً على طريقة تفكيرهم ونمطِ حياتهم . 
     قال الله تعالى: } سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ{  [ الأنعام : 148] .
     فقد علّقوا شِركهم على مشيئة الله تعالى جهلاً منهم ، وجعلوا الشركَ إنما تم بمشيئته تعالى وإرادته وفق منظورهم الرامي إلى تخليص أنفسهم من أية مسؤولية على اختياراتهم . وهم بهذا يهدفون إلى تقديم أنفسهم كعباد مأمورين مُجبَرين على اعتناق العقائد الشِّركية ، وبالتالي لا يتحملون تبعات أقوالهم وأعمالهم .
     فنظرتهم العَقَدية متمركزة حول فكرة جَبرية ، وأنهم واقعون تحت مشيئة الله تعالى التي أجبرتهم على سلوك الأفعال السيئة _ وفق عقيدتهم الباطلة _ . فهم يجهلون أن الخير والشر ، والإيمان والكفر ، يكتسبه الإنسان بمِلك إرادته ، وأن القَدَر لا يُعارِض تحملَ الإنسان لمسؤولياته كاملة غير منقوصة . فالله تعالى أحاط بكل شيء علماً ، لكنه لم يجبر الإنسان على سلوك طريق محدد . فالإجبارُ يتعارض كلياً مع عقيدة الثواب والعقاب في الآخرة ، ومن ثم الجنة والنار .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه سمع رَجلاً يقول : الشر ليس بقَدَر ، فقال ابن عباس _ رضي الله عنهما_: (( بَيْنَنا وبين أهل القَدَر : ] سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [ ... . قال ابن عباس: والعجز والكَيْس من القَدَر )) {(4)}.
     وأهلُ القَدَر هم نُفاة القَدَر ، فهم يُنكرونه . والآية القرآنية توضِّح إيمان المشركين بالقَدَر ، ولكنْ من منظور مغلوط . فهم يعتقدون أن القَدَر سالبٌ لحريتهم ، وأن شِركهم خاضعٌ لمشيئة الله تعالى دون أية علاقة لهم. وهذا يتنافى مع الإيمان . صحيحٌ أن كل شيء خاضع للمشيئة الإلهية، لكنّ الله تعالى أعطى العبدَ القدرةَ على اختيار طريقه، إمّا الإيمان أو الكفر. والعبدُ يتحمل مسؤوليةَ اختياره الحر .
     وإنني في هذا المقام أنقل كلاماً نفيساً للحافظ ابن حجر، لأني رأيتُ فيه تلخيصاً لمسائل شديدة الحساسية، حيث يقول في الفتح( 13/ 449 ): (( وأما قوله في الأنعام : ] سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [ الآية . فقد تمسّك بها المعتزلة ، وقالوا إن فيها رداً على أهل السنة . والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين وهو أن الله خالق كل مخلوق، ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئاً، والإرادةُ شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه . فلما عاند المشركون المعقول وكذّبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وأُلزموا الحجّة بذلك، تمسكوا بالمشيئة والقَدَر السابق، وهي حُجّة مردودة لأن القَدَر لا تبطل به الشريعة ، وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم )) اهـ .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( واعلم أن الأُمّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللهُ لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللهُ عليك ، رُفعت الأقلامُ ، وجَفّت الصحف )) {(5)}.
     إن الناس لا يَملكون من أمرهم شيئاً ، فهُم مخلوقات عاجزة لم تحدِّد موعدَ الولادة ، ولا تَقدر على تحديد موعد الوفاة . ومَن كان هذا شأنه فهو غارق في عجزه . ولو اجتمعت الأمة على نفعِ أحدٍ ما لم يَقدروا على فعل ذلك إلا إذا كان مكتوباً عند الله تعالى. فما أراده اللهُ كان ، وما لم يرده لم يكن . والناس يتحركون في عالَم الأسباب والمسبِّبات . لكنّ المسيطِر على السبب والمسبِّب هو اللهُ تعالى ، ولا يَقع في مُلكه إلا ما شاء . ولو اجتمعت الأمة على جلب ضر لأحدٍ لم يَقدروا على فعل ذلك إلا إذا كان مكتوباً عند الله تعالى . فالنافعُ والضار هو الله وَحْدَه .
     أمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( رُفعت الأقلامُ ، وجَفّت الصحف )) ، فهو تأكيدٌ باهر على أن ما تم قد تم ، ولا تبديل لما سبق ، ولا يكون خِلاف ذلك ، وأن الأمر قد كَمُل بلا زيادة ولا نقصان ، وانتهى الموضوع ، وقُضِيَ الأمرُ .
........الحاشية............
{(1)} انظر هذا التعريف في كتاب/ سفينة النجاة في عقيدة الأئمة الهداة ، ص 147 .
{(2)} رواه ابن حبان في صحيحه ( 2/ 505 ) برقم ( 727 ) .
{(3)} متفق عليه. البخاري( 5/ 2163 )برقم ( 5397 )،ومسلم ( 4/ 1740 ) برقم ( 2219).
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 347 ) برقم ( 3237 ) وصححه ، ووافقه الذهبي . 

{(5)} رواه أحمد في مسنده ( 1/ 293) برقم ( 2669)، والترمذي في سُننه ( 4/ 667) برقم ( 2516) ، وقال : (( حسن صحيح )) .