سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/12‏/2022

فلسفة التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية

 

فلسفة التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

......................

1

     توظيفُ فلسفةِ التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر مُحاولةً لتفسيرِ مَصَادِر المعرفة ، وتَتَبُّعِ آثارها في الأساسِ الأخلاقي للمُجتمع ، والقواعدِ الوجودية للغة ، والجُذورِ العميقة للثقافة . وإذا كانَ الوُجودُ يَسْبِق المَاهِيَّةَ ، فإنَّ التاريخَ يَسْبِق الحضارةَ ، وهذا يَعْني ضَرورةَ توليدِ آلِيَّات معرفية لتفكيك تفاصيل وُجود التاريخ في ماهيَّة الحضارة ، ويُوضِّح أهميةَ تَكوين أدوات نَقْدِيَّة للتنقيب عن مَواضع الاتِّصَال والانفصال في التاريخِ والحضارةِ معًا. وإذا كانت العلاقاتُ بين العناصر أهَمَّ مِن العناصر ذاتها ، فإنَّ مصادرَ المعرفة أهَمُّ مِن المعرفة نَفْسِها، لأنَّ المَصَادِر هي المَنَابِع ، ومَنْبَعُ المعرفةِ هو أصْلُها الذي يُحدِّد طَبِيعَتَهَا الحياتية ومَسَارَهَا الوجودي . وتأثيرُ العلاقات الاجتماعية لا يَكْمُن في المَظهرِ الخارجي ، أو الحركةِ الوهميَّة النابعة مِن الوَعْي الزائف ، وإنَّما يَكمُن في الرُّمُوز التي تَحملها العلاقات الاجتماعية ، وهذه الرُّمُوزُ هي الحاضنةُ الشرعية للمعايير الفكرية دائمة التفاعل ، والقُوَّةُ المُحَرِّكَةُ لفلسفة التاريخ كَإرثٍ ثقافي وتُراثٍ حضاري . وكما أنَّ فلسفة التاريخ لا تَنفصل عن إرادة المعرفة ، كذلك سُلطة الوَعْي لا تَنفصل عن إرادة السَّيطرة . وهذه السَّيطرةُ لا تَعْني تأسيسَ العلاقاتِ الاجتماعية على القَهْرِ واستغلالِ نِقَاط ضَعْف الآخَرين ، وإنَّما تَعْني التَّحَكُّمَ بمسارات الوَعْي في الواقع المُعاش مِن أجل الكشف عن الحقائق الكامنة في بُنية الفِعل الاجتماعي ، بِوَصْفِه الطريقَ الفِكري إلى تحليلِ الدَّلالات الذهنية ، وتأويلِ السُّلوكياتِ الواقعية ، مِن أجل تَوظيفِ الغرائزِ والرَّغَبَاتِ في كِيَان الإنسان وكَينونته _ دَليلًا ودَلالةً ومَدلولًا _ ، للمُحافظة على اتِّزَانه وتَوَازنه ، ولَيس لتحويله إلى ذِئب لأخيه الإنسان .

2

     فلسفةُ التاريخِ تُمثِّل مرحلةً عابرةً للزمانِ والمكانِ ، وتُؤَسِّس لمعرفة جديدة بِهُوِيَّةِ الإنسان الوجودية ، وسُلطةِ المُجتمع العقلانية ، التي تُعاد صِياغتها باستمرار كَي تتلاءمَ معَ إفرازاتِ العَقْل الجَمْعي ، وتنسجمَ معَ المصالح الفردية والجماعية . والإنسانُ عِندما يُوظِّف فلسفةَ التاريخ لفهمِ عناصر هُوِيَّتِه ، واستيعابِ مُكَوِّنَات سُلطة المُجتمع المُحيطة به مِن كُلِّ الجوانب، فإنَّه سَيَغْدُو إنسانًا جديدًا ، قادرًا على تجديد إنسانيته باستمرار، لَيس بمعنى تغيير جِلْدِه ومبادئه، ولكن بمعنى تحويل أنساق حياته إلى آلِيَّة للتفكير الإبداعي، ولَيس الاستهلاك المادي ، وتحويل الظواهر الثقافية إلى سِيَاسَات اجتماعية فَعَّالة ، تُسَاهِم في تكوين هَيكل مَعرفي تنظيمي للوظائفِ الدَّلالية للغة، والأحلامِ المَكبوتة للإنسان، والتأثيراتِ الظاهرية للآلَةِ. وعمليةُ التنظيم لَيْسَتْ دفنًا للنار تحت الرماد ، وإنَّما هي خُطوة أُولَى لتجميع الأضداد والتناقضات ، ثُمَّ صَهْرها في بَوتقة الوَعْي الخَلاصِيِّ لصناعة منظومة مَعرفية وُجودية منطقية مُتماسكة ، تُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة ، وتُحَرِّر أحلامَ الإنسان مِن المَأزق الوجودي ، وتَمنع سَيطرةَ الآلَة الميكانيكية على الشُّعور الإنساني .

3

     اللغةُ _ إنسانيًّا وشُعوريًّا ورمزيًّا وزمنيًّا وحضاريًّا _ هي التلخيصُ الفلسفي للوجود ، والوُجودُ هو الامتحانُ الحقيقي للفِعْلِ والوَعْيِ معًا، والفِعْلُ الاجتماعي مُعَلَّقٌ بشرط الوَعْي الخَلاصِيِّ ، وإذا وَقَعَ الشَّرْطُ وَقَعَ المَشروطُ، أي إنَّ الوَعْي الخَلاصِيَّ إذا تَكَرَّسَ على أرض الواقع كخريطة طريق لإنقاذ الإنسانِ والمُجتمعِ ، فإنَّ الفِعْل الاجتماعي سَيَتَكَرَّس في المَجَالَيْن الرَّمزي والحِسِّي كَمَنظور للحَيَاة بِكُلِّ تفاصيلها . والفِعْلُ تابعٌ للوَعْي ، وهذه التَّبَعِيَّةُ لَيْسَتْ علاقةً زَمنيةً فَحَسْب، بَلْ هي أيضًا صِيغةٌ عقلانية لِضَمَانِ التماسكِ الداخلي في البناء الاجتماعي، وربطِ الشكل الخارجي بهوامش المُجتمع ، مِن أجل نقلها إلى المَركز ، بحيث يُصبح المُجتمعُ الإنسانيُّ حُلْمًا جماعيًّا يتشارك الأفرادُ في صِياغته ، ولَيس كابوسًا يُطَارِد الأفرادَ فَيَهْرُبُون مِنه . وهذا مِن شَأنه تحقيق التكامل بين البُنية والهُوية ، وتفعيل الانسجام بين الرمزية والماهيَّة ، فيُصبح الإنسانُ قادرًا على التعبيرِ عن أحلامه بلا كَبْت ولا خَوْف، ويُصبح المُجتمعُ قادرًا على تحويل البيئة المَحصورة بين الأضدادِ والمصالحِ المُتَضَارِبَةِ ،  والمُحَاصَرَةِ بالوَعْي الزائف ، إلى نظام معرفي ديناميكي ، يُعيد رُوحَ التاريخ إلى جسد الحضارة ، فيتخلَّص التاريخُ مِن ثُنائية ( الضَّحِيَّة / الجَلَّاد ) ، وتتخلَّص الحضارةُ مِن ثُنائية ( الغنيمة / الرَّهينة ) .

24‏/12‏/2022

مركزية الوعي الوجودي في البناء الاجتماعي

 

مركزية الوعي الوجودي في البناء الاجتماعي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

1

فلسفةُ البناءِ الاجتماعي تعتمد على استخراجِ الإشارات مِن الوَعْي الوجودي ، واستنباطِ الرُّمُوز مِن المُستويات التعبيرية في النظام اللغوي كجسدٍ معرفي ، وتجسيدٍ للبُنى الوظيفية في المُجتمع ، التي تُعيد كتابةَ تاريخ العلاقات الاجتماعية مِن مَنظور إنساني ومَصلحي في آنٍ معًا . وإذا كانَ الوَعْيُ الوجودي لا يَنفصل عن اللغة ، فإنَّ السُّلوك الإنساني لا يَنفصل عن المَصلحة . وهذا يَعْني أنَّ كُلَّ نشاط عقلي هُوَ مُمَارَسَة لُغوية تُساهم في تَكوينِ الفِعل الاجتماعي،والدفعِ به في اتِّجاه تحقيق مصلحة الفردِ والجماعةِ ضِمن النسيج الحَيَاتي، بِكُلِّ تفاصيلِه النابعةِ مِن مُكَوِّنَات اللغة ، وتأثيراتِه الحاسمةِ على الظواهرِ الثقافية والمعاييرِ الأخلاقية . والنسيجُ الحَيَاتي لا يُوجَد بِمَعْزِل عَن التجسيد العملي للفِكر اللغوي في أنساق التاريخ ، الذي يُعاد تأويلُه باستمرار ، لِيَصِيرَ التاريخُ تواريخَ مُتكاثرة ، تحتاج  إلى الوَعْيِ والإدراكِ للسَّيطرةِ عليها ، ومَنْعِها مِن التَّشَظِّي خارجَ المَعنى الإنساني للحضارة القائمة على الفِطْرَة والخِبْرَة . وإذا تَشَظَّى التاريخُ فإنَّ المَعنى يَفقد وُجُودَه ، وتَختفي المعاييرُ الحاكمةُ على الحُلْمِ الإنساني ، والمحكومةُ بالأحداث اليوميَّة . ولَيس للحُلْمِ الإنساني وُجُودٌ إلا دَاخل فلسفة البناء الاجتماعي، ولَيس للأحداث اليومية شرعيةٌ إلا داخل طبيعة الظواهر الثقافية .

2

الوَعْيُ الوجودي لا يَحْتَل اللغةَ مِن أجل تَدجينها وتوظيفِها في بُنية العلاقات الاجتماعية ، وإنَّما يُحَرِّر اللغةَ مِن أجل إدماجها في الثقافة باعتبارها نظامًا جوهريًّا مُسْتَقِلًّا ، ولَيْسَتْ شيئًا تابعًا للأنظمة الاستهلاكية . وتحريرُ اللغةِ هو تحريرٌ لمصادر المعرفة مِن ضَغْط اللحظة الآنِيَّة ، مِمَّا يُسهِّل عمليةَ نقلِ الفِكْر المَحصور بالتأويلات إلى الذات الفاعلة المُنْطَلِقَة ، ونقلِ الوَعْي الوجودي إلى التجربة العملية ، ونقلِ الصورة الذهنية للحَياة المُعَاشة إلى العقلانية الواقعية التي تُخلِّص المُجتمعَ مِن الهَيمنة التَكنولوجية ، وتَمنع سيطرةَ الآلَة على الفرد . وإذا عادَ الفردُ إلى شخصيته الإنسانية ، وعادَ المُجتمعُ إلى مركزية وُجوده في فلسفة اللغة ، فإنَّ التاريخَ سَيَصِير فِعلًا اجتماعيًّا إبداعيًّا في الحضارة بِوَصْفِها منظومةً ديناميكيةً مُرتبطةً معَ الإطار الأخلاقي ، الذي يَشتمل على التوازنات الثقافية العميقة والسطحية . وهذه التوازناتُ ضرورية لضبطِ انعكاسات العلاقة بين هُوِيَّة الفرد وسُلطة المُجتمع تَصَوُّرًا وَتَحَقُّقًا، وتَكوينِ مَنطق للتاريخ روحيًّا وماديًّا، وتأصيلِ الأنساق الثقافية في العُلوم الإنسانية، وتشييدِ البناء الاجتماعي على قاعدة الوَعْي الوجودي الخالي مِن القطيعة معَ الزمانِ والمكانِ ، وإعادةِ إنتاج قِيمة الفرد الإنسانية ، مِن أجل تحقيق التكامل بين الفاعلِ الواعي الذي يُدْرِك ذَاتَه ومُحِيطَه ، وبين الفاعليَّة اللغوية التي تُولِّد التفاعلاتِ الرمزية في تيَّارات الشُّعور داخل الفِعل الاجتماعي وخارجه .

3

مركزيةُ الوَعْي الوجودي في البناء الاجتماعي تُولِّد نَقْدًا مُستمرًّا لِسِيَاقات سُلطة المعرفة ، وتَكشِف الأبعادَ المَرْئِيَّةَ وغَير المرئية لِدَلالات هُوِيَّة اللغة ، مِمَّا يُسَاهِم في تأسيسِ حركة تفسيرية للمَسَارات التاريخية ، وتحريرِها مِن هَيمنة الأحكامِ المُسْبَقَة على المُجتمع،وسَيطرةِ الأفكارِ التقليدية على الفرد، وتَسَلُّطِ التَّصَوُّراتِ المُسْتَهْلَكَة على الوُجود. وإذا نَجَحَ الفردُ في تشخيص إشكاليات البناء الاجتماعي ، باعتباره قُوَّةً توليديةً للمفاهيم المعرفية ذات الامتداد الأُفُقي في النظام اللغوي القابل للتطبيق على أرض الواقع ، وذات الامتداد العَمُودي في أنساق الحضارة القابلة للتَّحَوُّل إلى رُوحٍ عقلانيَّة فرديَّة ، ونزعةٍ مَنطقيَّة جماعيَّة، فإنَّ الوَعْي الوجودي سَيَكتشف مواطنَ الخَلَل في هياكل المُجتمع ، ومواطنَ الانقطاع في مَسَارات التاريخ، وعِندئذ يُصبح الفردُ تاريخًا داخلَ التاريخ ، ولَيْسَ ذاتًا مُتعاليةً على التاريخ ، وسُلطةً حاكمةً عَلَيه ، ومُتَلاعِبَةً به . وهذا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ فَهْم أفضل للعَالَم، وإنشاءِ آلِيَّات فكرية لتحليل علاقةِ الفرد بالبيئة ، وعلاقةِ المُجتمع بالطبيعة ، وعلاقةِ الوُجود باللغة .

17‏/12‏/2022

المنهج الاجتماعي وتاريخ الأفكار الكامنة

 

المنهج الاجتماعي وتاريخ الأفكار الكامنة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................... 

1

     الأفكارُ الكامنةُ في العلاقات الاجتماعية تُولِّد مَعْنَاها الوجودي وشرعيتها الحياتيَّة اعتمادًا على سُلطةِ مَصَادر المَعرفة، واستنادًا إلى هُوِيَّة المعايير الأخلاقية. وهذه الأفكارُ لا يُمكن تطبيقُها على أرض الواقع لِتُصبح تاريخًا حَيًّا للفردِ ووُجُودًا حُرًّا للجماعة ، إلا في ظِلِّ صناعة مُستمرة لمفاهيم الوَعْي الحضاري الذي يُوَازِن بَين منظومةِ ( الخِبْرَة / المَصلحة ) ومنظومةِ ( الفِطْرَة / البَرَاءة ). وكُلُّ مُوَازَنَةٍ في تاريخ الأفكار تُؤَدِّي إلى تَوَازُن في البُنية الوظيفية لفلسفة المُجتمع كَآلِيَّة للتأقلم مع الواقع ، وإعادةِ تَكوين أنساقه بما يَضمن تحقيقَ المَنفعةِ الفرديَّةِ والجماعيَّةِ . وإذا كان المُجتمعُ يَقُوم على التسلسل الهَرَمي لمصادرِ المعرفة والمعاييرِ الأخلاقية ، فإنَّ الأفكار تَقُوم على التَّرَاتُب الثقافي للتجاربِ الحياتيَّة والوَعْيِ الحضاري ، وهذا مِن شأنه ضَمان استمرارية البناء الاجتماعي ، ومُواصلة تَتَبُّع آثاره المعرفية في المَعنى اللغوي ، والسُّلوكِ اليَومي ، والحقيقةِ الوجودية ، والإدراكِ الذهني ، والمُمَارَسَةِ الوِجدانيَّة . والبناءُ الاجتماعي لَيس موقفًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الحياة ، وبعيدًا عَن مُشكلات الواقع ، ولكنَّه تَكوينٌ لحياة جديدة ، وإنتاجٌ مُستمر للعناصر الفكرية القادرة على اكتشاف الطبيعةِ الإنسانية والعقلِ الجَمْعي، وتفسيرٌ دائمٌ للنسيج الاجتماعي لتحريره مِن الخَوف تُجَاه المُستقبل ، وتحويلٌ للتجربة الفردية الذاتية إلى منهجٌ لقواعد التحليل اللغوي للتاريخ والحضارة معًا .

2

     صِدَامُ الفردِ معَ ذاته ، وصِرَاعُه معَ الحياة ، يَنبغي أن يَتِمَّ توظيفُهما مِن أجل إنشاء فلسفة حياتية للتَّكَيُّف معَ مُكَوِّنَاتِ البيئة المُعاشة معرفيًّا واجتماعيًّا . وهذا التَّكَيُّفُ يُشكِّل نَسَقًا عقلانيًّا حاضنًا للظواهر الثقافية ، التي تُجَمِّع العواملَ النَّقْدِيَّةَ ذات التأثير الرئيسي على بُنيةِ الفِعْل الاجتماعي ، وكيفيَّةِ صِيَاغته ذهنيًّا وواقعيًّا ، لتحديدِ دوافع الفرد في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية ، وتحليلِ دَور العَقْل الجَمْعِي في نَشْأة التجارب الإنسانية ، على الصَّعِيدَيْن المَعنوي والمادي ، ونقلِ الفِكْر الإبداعي في المُجتمع مِن المَفهوم التاريخي المَحصور في الماضي إلى الماهيَّة الوُجودية القادرة على اقتحام المُستقبل . وهذه المَاهِيَّةُ الوُجوديةُ لا تَعْني احتلالَ مَوْقِع في الزمان والمكان ، وإنَّما تَعْني بناءَ وُجود إنساني مُتكامل فكريًّا وأخلاقيًّا ، وقادر على التأثير الإيجابي في مَسَارِ الوَعْي الحضاري ، ومَسِيرَةِ الفاعليَّة التاريخية ، ومَصِيرِ المُجتمع الإنساني . ولا يَكفي أن يَكُون الفردُ مَوجودًا على خريطة المُجتمع ، بَلْ يَنبغي أيضًا أن يَكُون مُؤَثِّرًا في تاريخ أفكار المُجتمع ، ومَالِكًا للبُوصلة في تفاصيل البناء الاجتماعي . ولا يَكْفي أن يَكُون العقلُ الجَمْعي في ثقافة المُجتمع يَمتاز بالنشاط والحيوية ، بَلْ يَنبغي أيضًا أن يمتاز بالقُدرةِ على التأقلم، وتحديدِ أهدافه ، والتَّحَرُّرِ مِن التأثيراتِ الشُّعورية ، والانعكاساتِ الوِجدانية، والضُّغوطاتِ الذهنية . والخطرُ الحقيقي على العقل الجَمْعي لا يأتي مِن خارجه ، وإنَّما يَأتي مِن داخله ، لذلك يجب أن يُطهِّر العقلُ الجَمْعي نَفْسَه باستمرار ، ويَندمج معَ عَوَالِم صَيرورة التاريخ ، ويَتَّحِد معَ شُروط الفِعل الاجتماعي، كَي يُوفِّق بين حقيقة المُجتمع ومَعنى الإنسانية ضِمن السِّيَاق العقلاني الذي يُحقِّق المَنفعةَ للجميع.

3

     لا يُوجَد مَفهومٌ فلسفي يَقْدِر على الحركة خارجَ المنهج الاجتماعي ، ولا يُوجَد وَعْيٌ حضاري يَستطيع الانتقالَ خارجَ التفاعلات الرمزية في اللغة والمُجتمع . وهاتان الحقيقتان تُعيدان تأسيسَ الفِعْل الاجتماعي لِيُصبح ظاهرةً ثقافيةً فَعَّالَةً ، تَدْمُج التِّلقائيَّةَ والبديهيَّةَ معَ التَّجربة والخِبرة ، مِن أجل تكريس الإرادة الإنسانية كحالة خَلاص للفرد والجماعة ، تَقُوم على اعتبارِ الواقع انعكاسًا للنشاط المعرفي ، واعتبارِ اللغة عَالَمًا مُشْتَرَكًا مِن السُّلوكِ الهادف والمِعيارِ النَّقْدِي ، وإعادةِ تأويل الثقافةِ والتاريخِ مِن خلال الطاقة الرمزية في اللغة ، ولَيْسَ مِن خَلال المَصلحةِ الشخصيَّة أو المَنفعةِ الماديَّة الضَّيقة . والثقافةُ صِنَاعةٌ إنسانيَّةٌ لا يُمكن تحليلُها إلا ضِمن سِيَاقها التاريخي الصحيح، ودورُ الطاقةِ الرمزية في اللغة يتجلَّى في حِمايةِ الثقافة مِن التَّحَوُّل إلى كِيَان مُسْتَلَب، وحمايةِ التاريخ مِن التَّحَوُّل إلى كائن مُغْتَرِب .

10‏/12‏/2022

المجتمع واللغة والتاريخ من منظور فلسفي

 

المجتمع واللغة والتاريخ من منظور فلسفي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...........................

1

طبيعةُ المجتمعِ مُندمجةٌ معَ فلسفة اللغة ، باعتبارها منظومةً عقلانيةً تتحقَّق في داخل السُّلوكِ والوَعْي به ، وكَينونةً منطقيةً تتكرَّس في الفِعل الاجتماعي ، الذي يتعامل معَ التاريخ ككائن حَيٍّ ، يَنبعث في أنساق الحياة المُعَاصِرَة ، ويَنمو في العقل الجَمْعِي ، ويُفَعِّل دَوْرَ القواعد الأخلاقية في الأحداث اليومية ، ويُؤَكِّد على علاقة الوَعْي بالآلِيَّات المعرفية التي تُحلِّل مَضمونَ الأنظمةِ المادية الاستهلاكية المُسيطرة على الإنسان والطبيعة معًا ، مِن أجل تَكوين ظواهر ثقافية تَنبع مِن تفاصيل الواقع الإنساني المُعَاش ، ولا تتمركز حَوْلَ عَقْلِ الآلة الميكانيكية كبديل لعقل الإنسان المُبدِع.وهذا مِن شأنه تَكوين نظام فلسفي جديد لرؤيةِ العَالَمِ الكامن في داخل الإنسان ، ورؤيةِ العَالَمِ الخارجي المُحيطِ بالإنسان ، والضاغطِ عليه ، والمُؤثِّرِ في شُعوره ووَعْيِه وإدراكه . وهاتان الرُّؤْيَتَان تُساهِمان في استخراجِ الأحلام المنسيَّة مِن أعماق المُجتمع . وحركةُ الوَعْي ( الحقيقي لا الزائف ) في الزمان والمكان يُعاد تشكيلُها وَفْقَ كَيْفِيَّة رؤية العَالَم ( الداخلي والخارجي)، وهذه الكيفيةُ تتأثَّر بطريقة مُمارسة الإنسان لِسُلطته على تراكيبِ البناء الاجتماعي، وتقاطعاتِ التاريخ، والقيمةِ الوجودية للظواهر الثقافية في البيئة، وشُروطِ الثورة الصناعية في الطبيعة . وهذه السُّلطةُ مُرتبطةٌ بالبُعْدِ الأخلاقي في التجارب الحياتيَّة ، بِوَصْفِهَا طريقًا إلى بناء المَنْطِق في العلاقات الاجتماعية، ومُرتبطةٌ كذلك بالبُعْدِ التعبيري في اللغة، بِوَصْفِهَا وسيلةً للتفاهم والحِوَار، وقاعدةً معرفيةً لعقلانية المُجتمع . والسُّلطةُ على الأشياءِ تُمثِّل فلسفةً خَاصَّةً لفهم ماهيَّة الأشياء . وإذا نَجَحَ المُجتمعُ في إزالة التناقضات بين سُلطةِ الإنسان وماهيَّةِ العلاقات الاجتماعية ، فإنَّه سَيَنجح في إعادة تَوظيف دَور المَعرفة في السُّلوكِ الفردي والمُمَارَسَةِ اللغوية.وهذه المعرفةُ لَيْسَتْ تجميعًا للمعلومات، ولا أرشيفًا للوثائق، وإنَّما هي عملية تَوليد مُستمرة لفلسفة التاريخ العابر للمراحل الزمنية والتجنيسِ المكاني. وفلسفةُ التاريخِ لَيْسَتْ ماضيًا مضى وانقضى ، أوْ شيئًا يتمُّ الرُّجُوع إلَيه ، أوْ هُوَّةً سحيقةً يتمُّ الهُرُوبُ إلَيها والاختباءُ فيها . إنَّ فلسفةَ التاريخ نَسَقٌ فِكري يُولَد في شُعورِ الإنسان وإدراكِه ، ويُسيطر على طريقة رؤيته للأشياء ، وأسلوبِ تَعَامُلِه معَ العناصر. وكُلُّ نَسَقٍ فِكري هو بالضَّرورة فاعليَّةٌ اجتماعيةٌ في بُنية شخصية الفرد الإنسانية ، وتفاعُلٌ إنساني معَ سُلطةِ المُجتمع الاعتبارية ، وهُوِيَّتِه الحضارية المَتمركزة حَول الوَعْي بالذات والمُحِيطِ، وكَيْنُونَتِهِ الوجودية القادرة على صناعة حُقول معرفية جديدة ، تُسَاهِم في إعادة بناء الواقع على أُسُس عقلانية إبداعيَّة ، مِن أجل إيجادِ كِيَان للإنسان في التاريخ ، وتَكوينِ مَعنى للتاريخ في قواعد المنهج الاجتماعي .

2

مركزيةُ اللغةِ في المُجتمع تُعيد تشكيلَ الهُوِيَّات الإنسانية ( الفَرْعِيَّة والرئيسيَّة ) في السِّياق الثقافي ، وتَكشِف الخلفيَّةَ الفلسفية الكامنة وراء العلاقات الاجتماعية ، وتَفْصِل بين حُرِّية الإرادة والواقع المُقيَّد . وهذا الفصلُ ضروري مِن أجل تحديدِ جَوْهَر الشخصيَّة العَامَّة المُتَمَثِّلَة في مَصِير المُجتمع ، وتحديدِ ماهيَّة الشخصية الخَاصَّة المُتَمَثِّلَة في مَسَار الإنسان . وإذا كان مصيرُ المُجتمعِ ومَسَارُ الإنسانِ يَرتبطان بالعواملِ النَّفْسِيَّة والمعاييرِ الأخلاقية ، فإنَّ قِيمةَ التاريخِ ورمزيةَ اللغةِ تَرتبطان بالظواهرِ الثقافية والتجاربِ الحياتية . وهذا الارتباطُ الوثيق بَين كُلِّ هذه المُكَوِّنَات الوُجودية يَدْمِج الخِبْرَةَ العمليَّةَ بالفِطْرَةِ الذاتية ، ويُشيِّد البناءَ الروحي على البناء الاجتماعي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة تَمَوْضُع الذات الإنسانية المُبْدِعَة في تاريخِ الأفكار الحَيَّة والحُرَّة ، وطبيعةِ الزمانِ والمكان،بِوَصْفهما عمليةَ تحرير مُزْدَوَجَة للإنسان مِن صُورةِ الضَّحِيَّةِ وبُنيةِ المأساة.وهكذا ، يَجِد الإنسانُ نَفْسَه صانعًا للتاريخ ، وفاعلًا في أنساقه ، ولَيْسَ مَفعولًا به ، أوْ سِلْعَةً مَصنوعةً ضِمن قانون العَرْض والطَّلَب .

3

العقلانيةُ في المُجتمعِ واللغةِ والتاريخِ لا تَعْني تقديسَ العَقْل ، أوْ جَعْلَ الإنسانِ حَاكِمًا على عناصر البيئة والطبيعة ، ولا يَحْكُمُه شيء ، وإنَّما تَعْني إنشاءَ نظام فلسفي يُحرِّر المُجتمعَ مِنَ الأوهام المُكرَّسة بِفِعْل سياسة الأمر الواقع ، ويُحرِّر اللغةَ مِن الوَعْي الزائف الناتج عن التناقض بين الأحلامِ الفردية والطُّموحاتِ الجماعية ، ويُحرِّر التاريخَ مِن الحضارة الاستهلاكية التي تُمثِّل قَفَصًا حديديًّا يَمنع رؤيةَ مصادر المعرفة مِن كُلِّ الزوايا . وكُلُّ نظام فلسفي لا يُصبح شرعيًّا ذا جَدْوَى إلا إذا قامَ على ثنائية التَّحَرُّر والتحرير ، أي إنَّهُ يُحرِّر نَفْسَه بِنَفْسِه مِن الصِّدَام بين الوسيلة والغاية ، تمهيدًا لتحريرِ العناصرِ التي يَحْتَوِي عَلَيها ، والأشياءِ التي تُحيط به . وكما أنَّه لا يُوجَد نظام فلسفي خارج الظواهر الثقافية ، كذلك لا يُوجَد جَوهر إنساني خارج المُجتمعِ واللغةِ والتاريخِ .

03‏/12‏/2022

الجوهر الأساسي للأنساق الثقافية

 

الجوهر الأساسي للأنساق الثقافية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..................... 

1

الأنساقُ الثقافية الواعية في تفاصيل البناء الاجتماعي تُمثِّل أساليبَ حياتيةً لفهم العلاقة المركزية بين الكائن والكَينونة ( الرابطة المصيرية بين الإنسان والوجود ) ، وهذا الفهمُ ضروري لِتَوليد المَعنى في التاريخ بِوَصْفِه هَيكلًا معرفيًّا قائمًا بذاته ، وتفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة بِوَصْفِها تأويلًا مُستمرًّا للوَعْي والإدراك . وإذا أدركَ الإنسانُ مَعنى العناصرِ في واقع اللغة ولُغةِ الواقع ، فإنَّه سَيُصبح قادرًا على فَكِّ الارتباط بين مَصدر المعرفة الوجودي والتراكيبِ الفكرية التي تقع خارجه ، مِمَّا يَمنح بُنيةَ اللغةِ القُدرةَ على تحريرِ الزمان مِن الوَعْي الزائف ، وتخليصِ المكانِ مِن اليقين الوهمي ، فَيُصبح الفِعْلُ الاجتماعيُّ نَسَقًا ثقافيًّا يَمتاز بالتفاعلِ معَ الذات والموضوع ، والفاعليَّةِ في المجال الحَيَوي للإنسانِ في المُجتمع ، والمُجتمعِ في التاريخ ، والتاريخِ في العَالَمِ . والفِعْلُ الاجتماعي مُقْتَرِن برمزية اللغة التي تَحتاج _ كَي تُصبح فِعْلًا وفاعليَّةً وتَفَاعُلًا _ إلى ابتكارِ أنساق ثقافية مُتميزة ، واختراعِ ظواهر إنسانية إبداعية ، وتأسيسِ مُصطلحات فلسفية جديدة . وهذه المنظومةُ الاجتماعية الشاملة ( الابتكار/ الاختراع / التأسيس ) تُحدِّد الفُروقَ بين بُنى مَصادرِ المعرفة مِن جِهَة ، ونَماذجِ رَمزيةِ اللغة مِن جِهَة أُخْرَى. وإذا كانت اللغةُ فَضَاءً تتكرَّس فيه الروابطُ بين المَعَاني ، فإنَّ المُجتمع نِظام مِن القِيَم الأخلاقية والمَصْلَحِيَّة في آنٍ معًا . والنَّزعةُ الرُّوحيةُ والمَنفعةُ الماديَّةُ وَجْهَان لِعُملة واحدة ، لا تَعَارُض بينهما ولا تَضَاد . وهُمَا يَدُوران في فَلَك الخِطَاب اللغوي الرمزي المُسيطِر على العلاقات الاجتماعية ، حِينَ تتجلَّى في مَسَار الوُجود الحُر ، وحِينَ تَنعكس على مَصير الثقافة الحَيَّة .

2

الوَعْيُ هو مركز العلاقات الاجتماعية، ولكن المَركز مَحْصُور في نِطاق معرفي مُحَدَّد، لذلك يجب اكتشاف الرُّوح الإبداعية الكامنة في الأطرافِ، والهَوَامِشِ، والأحلامِ الضائعة ، والعناصرِ المَنبوذة ، والذكرياتِ المُهَمَّشَةِ، والأفكارِ المُسْتَبْعَدَة ، والدوافعِ المَكبوتة، والتاريخِ المَنسي. وإذا كان الوَعْيُ هو نُقطة التوازن بين التاريخِ النَّفْعِي ( الذي تَمَّتْ أدلجته ) والتاريخِ الخَلاصي ( الذي تَمَّ إقصاؤه)، فإنَّ اللاوَعْي هو النسق الإنساني الذي يَكتشف التناقضَ الذاتي في الوَعْي والتاريخ معًا، فلا يُوجَد وَعْي كامل، ولا يُوجَد تاريخ نقي. وفي ظِلِّ هاتَيْن الحقيقتَيْن ، يَنبغي أن يَرسُم الإنسانُ طريقَه بين الطاقةِ الرمزية في اللغة ، ودَلالةِ المَعنى في البناء الاجتماعي ، كَي يَستطيع التفريقَ بين سُلطة اللغة وسُلطة المجتمع، اللتَيْن تُحاولان انتشالَ شخصيةِ الفرد الإنسانية مِن الغِيَاب والنِّسْيَان، وإعادةَ صِيَاغَةِ تاريخ الأفكار لِيُصبح جُغرافيا جديدةً للحُلْمِ الإنساني في المُجتمع والوُجود .

3

الجَوهرُ الأساسي للأنساقِ الثقافيةِ وَعْيًا ومُمَارَسَةً ، لَيْسَ سُلطةً خارجيةً مَفروضةً على اللغةِ وبَلاغةِ ألفاظها ومَنطقِ مَعَانيها ، وإنَّما هو نِظَامٌ عَقلاني يُوازن بين الوَعْي واللاوَعْي ، ويَفحص مَسَارَ العلاقاتِ الاجتماعية في الذِّهْنِ والشُّعُورِ، ويُوضِّح كيفيةَ انعكاسها على البُنية الماديَّة للمُجتمعِ وجُذُورِه الفكرية العميقة ، التي تُسَاهِم في صِناعةِ واقعٍ مُتَجَاوِزٍ لِتَشَظِّي الرُّوحِ الإنسانية في الزمان والمكان ، وسَيطرةِ المُسَلَّمَات المُخَادِعَة ( المُؤسَّسة على سِيَاسة الأمر الواقع ) على مَصير المُجتمع في الوُجود المَملوء بالحُدود . وكُلُّ مُسَلَّمَةٍ اجتماعيةٍ تُفْرِز سُلْطَتَهَا الخَاصَّة بها مِن أجل التَّحَكُّمِ بِهُوِيَّةِ المعرفة في النَّوَاة الداخلية للثقافة كِيَانًا وكَينونةً ، وتحديدِ مَلامح هُوِيَّةِ الرمز اللغوي شكلًا ومَضمونًا ، وتَعيينِ عناصر ماهيَّة التُّرَاث الفكري ، ورَبْطِها بأدواتِ الهَيمنة وآلِيَّاتِ التأويل ، وأساليبِ التوظيف . وكُلُّ سُلطةٍ معرفيةٍ تُؤَسِّس فَلْسَفَتَهَا الحياتية التي تُحَوِّل القِيَمَ والمعاييرَ إلى منهج اجتماعي، يُتيح للإنسان أن يَبْنِيَ تَصَوُّرًا لبيئته الواقعية ومُحِيطِه الثقافي ناتجًا عن وَعْيِه بهما ، وإدراكه لهما . كما أنَّ رمزية اللغة يُعاد بناؤها لِتَكُونَ مَادَّةً خِصْبَةً للأنساقِ الثقافية، والظواهرِ الاجتماعية ، والتجاربِ الشُّعورية، والخِبراتِ الفردية والجماعية ، مِمَّا يُسَاهِم في فَهْم حقيقة البناء الاجتماعي عَبر رؤيته مِن جَميع الزوايا المعنوية والمادية . وإذا كانت اللغةُ هي البِنَاءَ المنطقي للثقافة ، فإنَّ الثقافة هي البُنية العقلانية للمُجتمع . وضِمن منظومة البِناء المنطقي والبُنيةِ العقلانية ، يتحدَّد طبيعةُ الدَّور المركزي للفِعل الاجتماعي في تأثيرات اللغة على الثقافة ، وتتحدَّد خصائصُ الوظيفة الحيوية للثقافة في المضامين الفكرية للسُّلوكيَّاتِ الإنسانية ، والأحداثِ اليومية ، والوقائعِ التاريخية ، لَيْسَ بِوَصْفِهَا تُرَاثًا مَضَى وانقضى ، بَلْ بِوَصْفِهَا كُتلةً معرفيةً يُعاد إنتاجُها باستمرار .

26‏/11‏/2022

البناء الاجتماعي وفلسفة التاريخ

 

البناء الاجتماعي وفلسفة التاريخ

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................

1

المضامينُ الفكرية في البناء الاجتماعي تُمثِّل إطارًا مرجعيًّا لفهمِ المَعنى الكامن في الظواهر الثقافية الذي يُؤَثِّر على السُّلوكيات اليومية، ومصدرًا معرفيًّا لفهمِ تأثير اللغة الرمزي في عملية التفاعل بين الأفراد ، التي تُؤَدِّي إلى تحليل المفاهيم الجَوهرية في العلاقات الاجتماعية ، وإعادتها إلى أنويتها التاريخية الداخلية ، وجُذورها الفلسفية العميقة . وفلسفةُ التاريخ هي القُوَّةُ الدافعة للمجتمع ، والرافعةُ الأخلاقية للفِعل الاجتماعي المُستند إلى الوَعْي العميق والإدراكِ النابع مِن تَعَدُّد زوايا الرؤية للأحداث والوقائع ، والحاضنةُ الحضارية للواقع المادي المُنبثق عن الرُّوح المَعنوية المُتَحَرِّرَة مِن الأحكام المُسْبَقَة والعُقَدِ التاريخية . وفلسفةُ التاريخ لَيْسَتْ كَينونةً هُلاميَّة ، وإنَّما هي صَيرورة معنوية ومادية في حالة ولادة مُستمرة ، وهذا يُساهم في تَكوين أنساق وجودية _ فرديَّة وجماعيَّة _ لتحليلِ مُعطيات الواقع اجتماعيًّا ، وتفسيرِ إفرازات الخَيَال رمزيًّا ، وتأويلِ العقل الجَمْعي لُغويًّا . والعقلُ الجَمْعي يَفهم العلاقاتِ الاجتماعية استنادًا إلى المَعنى الذي تَحْمِله.وهذا المَعنى صادر عن الشرعية التي تُمثِّلها البُنى الوظيفية في المُجتمع، التي تُحَدِّد كيفيةَ تفسيرِ فلسفة التاريخ، ورَبْطِها مع الطبيعة النَّفْسِيَّة للفرد، والماهيَّةِ الوجودية للجماعة . وكما أنَّ فهم الفرد والجماعة لا يَتِم إلا مِن خَلال الرابطة المصيرية بينهما ، كذلك فهم السُّلوك والثقافة ، لا يَتِم إلا مِن خلال المسار الحياتي الذي يُوحِّدهما شكلًا ومَوضوعًا .

2

مُكَوِّنَاتُ البناء الاجتماعي ناتجةٌ عن الوَعْي التاريخي بدور الفرد في تثبيت كَينونته الإنسانية في مركز السُّلطة المعرفية ، التي تَقْدِر على دَمْج تاريخ المُجتمع وتاريخ الأفكار ضِمن سِياق إنتاج الخِطَاب العقلاني ، الذي يُحدِّد الآلِيَّاتِ اللغوية لِتَتَبُّع آثار المعرفة في الفِعْل الاجتماعي والمسؤولية الأخلاقية . وإذا كانَ جَوْهَرُ الفِعل الاجتماعي تعبيرًا مُستمرًّا عن روابط الهَيمنة ، فإنَّ جَوْهَرَ المسؤولية الأخلاقية تَجَاوُزٌ دائم لضغط الغرائز وقَسْوَةِ الأنساق الاستهلاكية.وهذا التجاوزُ الدائمُ يُولِّد تصوُّراتٍ إبداعية تُعيد بناءَ مصادر المعرفة في المُجتمع، لحماية الفرد مِن الاغتراب في اللامَعنى . وإذا كانت المعرفةُ هي رِحلةَ البَحث عن المَعنى ، فإنَّ وَعْي الفرد هو بُوصلة لإيجاد الهُوِيَّة . والمِحَكُّ الحقيقيُّ هو تحديد الاتجاه الصحيح . والاتِّجَاهُ أهمُّ مِن الطريق ، والخُطوةُ أهمُّ مِن الخريطة .

3

المَعنى والهُوِيَّةُ يَمنحان الفردَ القُدرةَ على التَّأمُّل في الأشياء التي اعتادَ عليها ، وإعادة اكتشافها ، كما يَمنحانه القُدرةَ على التمييز بين عَظَمَة الحضارة وبريقها الزائف . ويجب على الفرد أن يتجاوز نَفْسَه باستمرار كي يُؤَسِّس سُلْطَتَه الفكرية وَفْق مبادئ تَوظيف التقنية واستخدامها ، ولَيس الانبهار بها والخُضوع لها . ويجب على المُجتمع أن يُمارس دَوْرَه المركزي في غَرْبَلَة التاريخ وتَمحيصه ، ولَيس عِبادته وتقديسه . والفردُ ابنُ لَحْظَتِه الزمنية ، وسَيِّدُ أحلامِه ، وصانعُ حَيَاتِه ، ولَيس خادمًا لتراكيبِ البيئة، وعناصرِ الطبيعة ، ووسائلِ التقنية . وتحقيقُ الحُلْمِ الإنساني إنَّما يكون بالانعتاق مِن وَعْي الآلَةِ الوهمي ، وبريقِ الحضارة الزائف . ومركزيةُ التاريخ كمشروع للخلاص تتجلَّى في اعتبار العِلْمِ وسيلةً لإنقاذ الفرد مِن مأزقه الوجودي ، ولَيس أداةً للسيطرة عليه ، واستعباده ، والتَّحَكُّم بمساره ومصيره .

4

الفِعْلُ الاجتماعي الحقيقي ( الذي يمتاز بالفاعليَّة والتفاعل معَ كِيَان المُجتمع وكَينونة الفرد ) ، هو الفِعْل الذي يَجمع بين المَعنى والهُوِيَّة كمنظومة وجودية مِن جِهَة ، وبين المعرفة والمصلحة كطبيعة إنسانية مِن جِهة أُخْرَى. وجَوْهَرُ الفِعل الاجتماعي يَستمد شرعيته الحياتية مِن توظيف الإرادة الإنسانية لبناء شخصية الفرد، وتخليصها مِن نَقيضها الكامن فيها . ولا فائدة مِن بحث الفرد عن أحلامه وطُموحاته ، إذا كانَ يَحْمِل بِذرةَ انهياره في داخله ، لأنَّ هذا سَيُؤَدِّي إلى غياب التوازن بين ذاتِ الفرد كَبِنَاء إنساني ، وذاتِ المُجتمع كَبُنية حضارية، فينهار الفردُ والمُجتمعُ معًا ، ويَعْجِزَان عَن الاتِّحَاد في فلسفة التاريخ . وكُلُّ تاريخٍ لا غاية له إلا ذاته عِبَارةٌ عن زمن وهمي ، ومكان عابر ، ووَعْي زائف ، فالغايةُ مِن التاريخ هي مَنح رُوحَ الإبداع للفرد ، ولَيس تَحويله إلى آلةٍ ميكانيكيةٍ تَستهلك نَفْسَها بِنَفْسِها . وكُلُّ تاريخ يَحْمِله الفردُ على ظَهْرِه كَعِبْء ثقيل ، إنَّما هو وَهْم يتقمَّص شخصيةَ المَاضِي وسُلْطَتَه وهُوِيَّتَه ، لأنَّ التاريخَ مشروعٌ كَوْني لإنقاذ الفرد ، ولَيس القضاء عَلَيه ، وطاقةٌ رمزية لتحرير المُجتمع مِن أحلامه المَوؤدة ، ولَيس تكريس العُقَد النَّفْسِيَّة والأحقاد القديمة .

19‏/11‏/2022

فلسفة الظواهر الثقافية والهوية الوجودية للإنسان

 

فلسفة الظواهر الثقافية والهوية الوجودية للإنسان

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

........................

1

فلسفةُ الظواهرِ الثقافية تُمثِّل مشروعًا اجتماعيًّا لتحريرِ الفِكْر مِن أوهام الواقع ، وتخليصِ الواقع مِن أدْلَجَة الفِكْر . وإذا كانَ الفِكْرُ يُؤَسِّس أنساقَه الحياتيَّة لإعادة ترتيب فَوضى الواقع ، فإنَّ الواقع يُؤَسِّس مرجعياته الفِكرية لتوليد التَّصَوُّر النَّقْدِي في فلسفة التُّرَاث وتُراثِ الفلسفة . وتمركزُ الفلسفةِ في الظواهر الثقافية والسِّيَاقات التُّراثيَّة ، يُحدِّد أبعادَ صُورة المُجتمع عن ذاته ، ويَكشف كَيْفِيَّةَ تَوظيفِ التاريخ في عمليَّة الاندماج الاجتماعي ، وإنشاءِ الروابط الوجودية بين الفرد والمُجتمع ، وترسيخِ الوَعْي في مصادر المعرفة ، بِوَصْفِها جُزْءًا أساسيًّا مِن البناء الاجتماعي ، ولَيْسَتْ نظريات هُلاميَّة عاجزة عن بناء التواصل بين الفِعل الاجتماعي والفِعل اللغوي . وكُلُّ فِعْلٍ سواءٌ كانَ اجتماعيًّا أَمْ لُغَوِيًّا يُعْتَبَر تَحَوُّلًا جذريًّا في العلاقة التي تربط الفِكْرَ والواقعَ ، وهذا التَّحَوُّلُ يُعَزِّز تَصَوُّرَ الفردِ لفلسفة الظواهر الثقافية ، باعتبارها الحاضنةَ الشرعية للأفعال الاجتماعية ، التي تَعْمَل على تَوحيدِ الاتجاهات في البُنية الوظيفية للمجتمع ، وإزالةِ التناقضات الجَوهرية في منهج التأويل الرمزي الذي يُحدِّد معالمَ الصراع على اللغة ، ويُوضِّح ملامحَ الصِّدَام في اللغة ، ويُبيِّن دورَ الفردِ والمُجتمع في التعامل معَ اللغة ، لَيس بِوَصْفِهَا أداةً للاتِّصال والتَّوصيل والتواصل فَحَسْب ، بَلْ أيضًا بِوَصْفِهَا آلِيَّةً معرفيةً وجوديةً لإعادة فَهْمِ الفرد لأعماق النَّفْس الإنسانية ، وفَهْمِ المُجتمع لأبعادِ العقل الجَمْعِي .

2

تَستمد الظواهرُ الثقافية مَعْنَاها وشرعيتها مِن الأحداث اليومية ذهنيًّا وواقعيًّا ، ومِن الوقائع التاريخية معنويًّا وماديًّا ، لكنَّ فلسفة الظواهر الثقافية تَنبع مِن الطاقة الرمزية في اللغة ، التي تستطيع توليدَ الفِعل الاجتماعي ، وتأسيسه على قاعدة الوَعْي الحقيقي لا الزائف ، مِن أجل تحويل المُجتمع إلى كِيَانٍ إنساني مَفتوح أمام الأفكار الإبداعية ، وماهيَّةٍ أخلاقية مُنفتحة على مُكَوِّنَات الثقافة ، مِمَّا يَضمن تحقيقَ التواصل العقلاني بين العلاقات الاجتماعية ضِمن سِيَاق المعرفة الفرديَّة والجماعيَّة ، وعيًا تاريخيًّا ، ومُمَارَسَةً ذهنيةً ، وتجريدًا فلسفيًّا ، وتطبيقًا عمليًّا ، والتزامًا أخلاقيًّا . وهذا الأُفُقُ المعرفي الخالي من الأنظمة الاستهلاكية الضاغطة على وجود الإنسان وهُوية المُجتمع، هو الحاملُ لإنسانيَّةِ الثقافة ، ورمزيةِ اللغة ، ونِسْبِيَّةِ الزمن . وهذه المنظومةُ الثلاثية تَرْمِي إلى نقل مصادر المعرفة مِن الموضوع ( المعنى في تاريخ الإنسان ) إلى الذات ( معنى الإنسان شخصيًّا ) . وهذا مِن شأنه نقل مناهج التحليل الاجتماعي مِن تفسيرِ المأزق الوجودي للإنسان إلى تغييره ، ومِن وَصْفِ الأنساق الحياتيَّة إلى تَشكيلها. مِمَّا يَدفع فلسفةَ الظواهر الثقافية باتِّجاه إعادة بناء المفاهيم المركزية في التَّصَوُّر النَّقْدِي المُرتبط بالتفاعل الرمزي بين هُوية المُجتمع ومَاهِيَّته . وبما أنَّ الأفكار الإبداعية لا تُوجَد بِمَعْزِل عَن النَّقْد والنَّقْض، كانَ لِزَامًا تكوين نظام اجتماعي خاص بالوَعْي الإنساني يَعمل على تفكيك تاريخ الإنسان وتركيبه بشكل مُستمر ، مِن أجل كشف نقاط القُوَّة والضَّعْف في المسارات الحياتيَّة المُتذبذبة بين القطيعة المعرفية والتواصل العقلاني ، والتعامل مع هذه المسارات كرموزٍ لُغوية تُشير إلى مُستوى الوَعْي في الوقائع التاريخية ، وكأفعالٍ اجتماعية تُشير إلى التسلسل المنطقي للأحداث اليوميَّة . والمُشكلةُ الأساسيةُ في تاريخ الإنسان تَكْمُن في عدم قُدرة الإنسان على تكوين صُورة واضحة عن ذاته خارج أنساق المجتمع وإفرازاته الفكرية ، كما أنَّ هُوِيَّة الإنسان ظَلَّتْ سجينةَ الفِعل الاجتماعي المُنعكس عن سُلطة المُجتمع،والمُتماهي معَ العلاقات الاجتماعية المَفروضة وَفْق سِيَاسة الأمر الواقع . والإنسانُ لا يَختار نَفْسَه ، ولا جِنْسَه ، ولا نَسَبَه ، ولا مُجْتَمَعَه. ولا يَمْلِك الإنسانُ إلا أن يُطَوِّر رمزيةَ اللغة مِن أجل التأقلمِ معَ العناصرِ الماديَّة المَفروضة على حياته ، والتفاعلِ مع التراكيب المعنوية المُتَغَيِّرَة في أفكاره وَمَشَاعره . واللغةُ عابرةٌ للحُدودِ الزمنيَّة والحواجزِ المكانيَّة ، وهذا يَعْني أنَّ تطويرَ رمزيةِ اللغةِ هو استعادةٌ لأحلام الماضي وطُموحات الحاضر مِن أجل بناء المُستقبل كَجَوهرٍ للوُجود ، وحقيقةٍ للبناء الاجتماعي ، ولَيس كَمَرحلةٍ زمنيَّة عابرة ، أوْ خُطَّةِ هُروب مِن صِراعات الماضي وأزمات الحاضر .

3

وُجودُ الإنسانِ مُؤقَّتٌ في الزمان والمكان ، لكنَّ هُوِيَّة الإنسان دائمة في رمزية اللغة ومصادرِ المعرفة . والثقافةُ لا تُوجَد بلا لُغَة ، والمعرفةُ لا تُوجَد بلا تاريخ . وهاتان الحقيقتان تَفرضان على الإنسان أن يَعيش كَيْنُونَتَهُ حتى أقْصَى مَدَاها ، وأن يُعيد تشكيلَ الثقافةَ اللغوية والمعرفةَ التاريخية في سِيَاق الأفكار الإبداعية ، لنقل شخصيته وسُلطته مِن مفهوم الكائن الزائل جسديًّا إلى مَفهوم الكِيَان الباقي فكريًّا . وهذه المُهِمَّةُ الشَّاقَّة تتطلَّب غَوْصَ الإنسان في أعماقه السحيقة لاكتشاف حياته الحقيقية ( السِّرِّية ) ، وتحليلَ التاريخ مِن الداخل  ( التنقيب في العُمْق لا الضَّرْب على السَّطْح ) ، وتفسيرَ الثقافة اعتمادًا على نُقطة التوازن ( نُقطة الارتكاز ) بين بُنية اللغة وبُنية المُجتمع . والإنسانُ لا يُمكن إخراجُه مِن جِلْدِه ، والتاريخُ لا يُمكن إخراجُه مِن جَسَده ، والثقافةُ لا يُمكِن إخراجُها مِن كِيَانها ، وهذه المُسَلَّمَاتُ مُجْتَمِعَةً تَدفع الإنسانَ ( الذات الفاعلة داخل الوَعْي والمُجتمعِ والتاريخِ ) إلى اكتشاف هُوِيَّته الوُجودية في واقعه المُعَاش ، ولَيس استيرادها ، أوْ نَسْخها ، أوْ تقليدها ، أو التَّنَكُّر لها ، أو ارتداء الأقنعة خَجَلًا مِنها ، أوْ هُروبًا مِن حقيقتها .

12‏/11‏/2022

التنوع الثقافي في بنية العلاقات الاجتماعية

 

التنوع الثقافي في بنية العلاقات الاجتماعية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

1

التَّنَوُّعُ الثقافي في بُنية العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر امتدادًا للوَعْي بالدَّور المركزي للإنسان في المُجتمع والتاريخ، وهذا الوَعْيُ يُمثِّل الشرعيةَ الوجودية للفِعل الاجتماعي الذي يُحدِّد خصائصَ سُلطةِ المعرفة ، وملامحَ هُوِيَّةِ التاريخ ، وشُروطَ التأويلِ اللغوي ، ومعاييرَ البناءِ الأخلاقي . والفِعْلُ الاجتماعي لَيس نظريةً مُجرَّدةً ، أوْ تَيَّارًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الأحداث اليومية والوقائع التاريخية ، وإنَّما هو نظامٌ مُتكامل قادر على بعث الحيوية في التَّنَوُّع الثقافي ، وتحويلِ ماهيَّة الواقع المُعاش إلى هُوِيَّة فكرية مُتَجَذِّرَة ، ونَقْلِ فلسفة التُّراث مِن الحَيِّز الذهني الزمني إلى المُمَارَسَة السُّلوكيَّة الحَيَّة ، وتكريسِ كَينونة الحضارة كَتُرَاث مُشْتَرَك للإنسانية ، بِوَصْفِهَا مَعْنًى رُوحيًّا للحياة ، وقِيمةً ماديَّة للوُجود ، ولَيس بِوَصْفِهَا نظامًا لتجذير سِيَادة الغالب على المغلوب ، أوْ سِياسةً لتأطير العلاقة بين السالب والمسلوب. وهذا مِن شأنه إعادة إنتاج المعرفة كَمنظومة مُتفاعلة مع البيئة والطبيعة، لإعادة تشكيل التاريخ وَعْيًا حضاريًّا ، ومُمَارَسَةً حياتيَّةً ، وإدراكًا لُغويًّا ، ورُؤيةً كَوْنِيَّةً ، ودَمْجِ الماهيَّة الواقعيَّة معَ الهُوِيَّة الفكرية في صَيرورة التاريخ ، الذي يُعاد تفكيكُه وتركيبُه باستمرار ، مِن أجل تحقيق التواصل بين العلاقات الاجتماعية وسُلطةِ المعرفة مِن جِهَة ، وبين كَينونة الحضارة وفلسفة التاريخ مِن جِهة أُخْرَى .

2

الأُسُسُ العمليَّةُ لِمُمَارَسَة الوَعْي في المُجتمع والتاريخ والحضارة ، تَرتبط بالتَّنَوُّع الثقافي في سِيَاقه الإنساني القادر على تجسيدِ أبعاد اللغة في العلاقات الاجتماعية ، وتخليصِ المُجتمع مِن تناقضاته العميقة التي تَمنع التواصلَ بين هُوِيَّة الإبداع وماهيَّة السُّلوك ، وتفعيلِ المُشَارَكَة الفرديَّة والجماعيَّة في صِيَاغة الأنساق المعرفية التي لا تَتَقَوْقَع في المصلحة الشخصية الضَّيقة، ولا تتمركز حَول الذات، لأنَّ المعرفة عابرة للحُدود والتجنيس، وهي مشروع كَوني لِخَلاص الإنسان مِن مأزقه الوجودي ، ولَيْسَتْ نَزْوَةً عابرةً في حياة الإنسان المَحصورة في عَالَمِه الخاص الداخلي ، وهذا مِن شأنه حِمايةُ بُنية الواقع الاجتماعي مِن الانهيار ، وتطهيرُ رُوح المُجتمع مِن التَّشَظِّي والفَوضى ، وإنقاذُ أحلام الإنسان مِن النظام الاستهلاكي المَحصور بين اللذة والألم .

3

مُهِمَّةُ التَّنَوُّع الثقافي في المجتمع الإنساني تتَّضح في إخضاع الفِعل الاجتماعي للأفكار الإبداعية ، ضِمن المنظومة العقلانية القادرة على تجاوز مبدأ التمركز حَول الذات ، والغرقِ في اللحظة الآنِيَّة . والفِكْرُ يَسْبِق الفِعْلَ، ويُسيطر عليه، ويُوجِّهه نَحْوَ تخليص العقل الجَمْعي مِن الانغلاق بِحُجَّة الخَوف على الهُوِيَّة . والإشكاليةُ في هذا السِّيَاق هي أنَّ العَقْل الجَمْعِي في المُجتمعات الضائعةِ على الخريطة ، والتائهةِ بلا بُوصلة ، يَختبئ في ذاته ، ويَنكمش في المَاهِيَّة للحفاظ على الهُوِيَّة ، وهذا يُؤَدِّي إلى تمزيقِ سُلطة المعرفة ، وتشتيتِ زوايا الرؤية للتاريخ ، وتفتيتِ عناصر الذاكرة الوجودية التي تَنظر إلى طبيعة المُجتمع كزمن مُتَّصَل بلا فواصل معنويَّة ولا قطيعة ماديَّة. وإذا عَجَزَ المُجتمعُ عَن بَلْوَرَة علاقات اجتماعية حُرَّة وعقلانية ، فإنَّ الإنسان سَيَفقد ثِقَتَه بِنَفْسِه ، ويَسقط في الاغتراب الرُّوحي ، ويَنسحب مِن الواقع القاسي ، لاعتقاده بعدم وجود مكان له ، أوْ أنَّ غَيْرَه اسْتَولى على المكان اللائق به ، أوْ أنَّ المكان لا يتَّسع لذكرياته وأحلامه وطُموحاته . وغيابُ المكانِ يُؤَدِّي إلى الهُروبِ مِن الزمن ، والخَوْفِ مِن التاريخ . لذلك يَتَّخِذ البعضُ موقفًا سلبيًّا مِن تاريخه الخاص والعام ، ويَعتبره نهرًا مِن دَم يَجْرِي خَلْفَه ، أوْ كَوْمَ رمادٍ يَكاد يقع على رأسه ، أوْ كابوسًا لا يَعرِف متى سَيَفِيق مِنه . وإذا قضى الإنسانُ حياته هاربًا مِن نَفْسِه ، فَلَن يُؤَسِّس سُلطةً معرفية لغياب الزمن والمكان ، ولَن يَصنع أفكارًا إبداعيَّةً لغياب المَاهِيَّة والهُوِيَّة .

4

بُنيةُ العلاقاتِ الاجتماعية تقوم على القواعد الأخلاقيَّة ، وهذه القواعدُ مُرتبطة بِقُدرة اللغة على تَكوين الآلِيَّات الفكرية التي تستطيع تحليلَ انعكاسات التَّنَوُّع الثقافي عَلى مَسَار الإنسان ومصيره. وكما أنَّ الإنسان ابن بيئته ، فهو أيضًا ابنُ ثقافته . والثقافةُ المُتَجَذِّرَة في أعماق الإنسان لَيْسَتْ تعليمات تلقينيَّة أوْ مُحاضرات في الوَعْظ والإرشاد ، وإنَّما هي نظام مِن الرُّمُوز المُعقَّدة له خصائصه المُتَفَرِّدَة ، ودَلالاته النابعة مِن الذكريات ، وسيطرة الإنسان عليها ، والوَعْي بها. وحياةُ الإنسان الحقيقية هي قُدرته على تحويل اللاوَعْي والأحلامِ المكبوتة والذكرياتِ الغامضة إلى واقع يُمكن التَّحَكُّمُ به، والاستفادةُ مِنه كَقُوَّة توليديَّة للفِعل الاجتماعي ، بِوَصْفِه مَجموع الأفكار العميقة لا الأحداث السطحية . والمُجتمعُ الحقيقي عبارة عن أحلام إنسانيَّة لا وقائع تاريخيَّة . وإذا أدركَ الإنسانُ أبعادَ ذَاتِه ، واستعادَ أحلامَه لتحقيقها ، ولَيس للبُكاء على أطلالها ، فإنَّه سَيُصبح كِيَانًا واعيًا يَختار مسارَه ، ويُقَرِّر مصيرَه ، ويَستوعب تحوُّلات المعرفة في تاريخ الأفكار وفلسفة التَّنَوُّع الثقافي . والكِيَانُ الواعي قادر على إنتاجِ كَينونة حضارية تُوازن بَين الوَعْي والمُمَارَسَة ضِمن شبكة العلاقات الاجتماعية ، وتحليلِ الأفكار الإبداعيَّة في لَحْظِة عَوْدتها إلى أنويتها الداخليَّة وجُذورها الأساسيَّة . واكتشافُ الداخلِ هو الخُطوة الأُولَى للانطلاق إلى الخارج ، وتحديدُ طبيعةِ الجُذور المعرفية هو الخُطوة الأُولَى للانطلاق إلى مَعنى الوجود .

05‏/11‏/2022

المنهج النقدي في الروابط الإنسانية

 

المنهج النقدي في الروابط الإنسانية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.........................

1

الروابطُ الإنسانيةُ في المُجتمع تشتمل على منهج نَقْدِي في داخلها ، وهذا المَنهجُ يُمثِّل تراكمات فكرية قادرة على تنظيم نَفْسِها ، واختيار مَسَارها المُستقل عن صراع الفرد معَ ذاته . والنَّقْدُ لَيس تبريرًا لهذا الصِّرَاع، وإنَّما مُحاولة للسَّيطرة عليه اجتماعيًّا ، وتفسيره منطقيًّا، وتوظيفه واقعيًّا، مِن أجل اكتشاف عُيوب الفرد وثَغَرَات شخصيته ، وإعادة بناء الفرد كقاعدة للبناء الاجتماعي ، تحتضن المراحلَ الزمنية في ثقافة الوَعْي ، بِوَصْفِها مشروعًا غَير مُكتمل ، وإنَّما يَسعَى إلى الاكتمال ، وذلك بالاندماج معَ حركة التاريخ العقلانية ، وإنسانيةِ الفِعل الاجتماعي . وكُلُّ مَنهج نَقْدِي يَمتلك القُدرةَ الذاتية على تحديد الأجنحة المُتصارعة في الظواهر الثقافية والأنساق الحياتية ، لأنَّ المُجتمع لَيس نهرًا جاريًا وَفْقَ خَط مُستقيم مَرسوم مُسْبَقًا ، وإنَّما هُوَ روافد مُتشابكة ومُخْتَلِطَة ، تَبتكر مَسَاراتها الخاصَّة بها ، ولا تُوجَد خُطَّة جاهزة للسَّيطرة على هذه الروافد التي تُغيِّر طبيعتها باستمرار ضِمن صَيرورةِ التاريخ والهُوِيَّةِ المعرفية والفِعلِ الاجتماعي . وإذا كانَ التاريخُ يُغَيِّر جِلْدَه باستمرار تَبَعًا لاختلافِ سياسات التأويل والتوظيف ، وتَعَدُّدِ زوايا الرؤية للأحداث ، فإنَّ الفرد يُغيِّر حُلْمَه باستمرار تَبَعًا لاختلافِ مُستويات الوَعْي والإدراك ، وتَعَدُّدِ أبعاد حُقول المعرفة . وهذا يدلُّ على استحالة أن يظل المُجتمعُ ثابتًا في ظِلِّ التَّغَيُّر المُسيطر على التاريخ والفرد . بَلْ إنَّ الثَّبات الفِكري في عَالَم مُتَغَيِّر يُشكِّل خَطَرًا على ماهيَّة الحقيقة الاجتماعية ، ويجب على الفرد أن يُغيِّر أفكارَه إذا تعارضتْ معَ الأدلة. والأفكارُ لَيْسَتْ مَقصودةً لذاتها، ولا تَقُوم بِنَفْسِها، وإنَّما هي وسائل لتحقيقِ الوَعْي المَعرفي،وتَوليدِ التاريخ الجديد الذي يُعبِّر عن المعايير الأخلاقية التي تُجسِّد المبادئَ الحَيَّةَ والحُرَّةَ ، صُورةً ومَعنى ، ظاهرًا وباطنًا . والمبادئُ ثابتة ، والأفكار مُتَغَيِّرَة .

2

الأنساقُ الفكريةُ تُحدِّد تفاصيلَ الواقع المُعاش ، باعتبارها شُروطًا مُسْبَقَة لدمج المنهج النَّقْدي في الروابط الإنسانية معَ سُلطةِ العلاقات الاجتماعية . والمَرجعياتُ الثقافيةُ تُحدِّد أبعادَ كَينونة التاريخ ، باعتبارها اكتشافًا لحقيقة البناء الاجتماعي الداخليَّة . والتاريخُ الذي يَحتضن الفِعْلَ الاجتماعي كمشروع فلسفي، يُمثِّل تَجَلِّيًا للزمن في العقل الجَمْعِي، الذي يَدفع الفردَ نَحْوَ اكتشافِ نَفْسِه وُجوديًّا، وابتكارِها معرفيًّا ، وتَكوينِها أخلاقيًّا ، وإعادةِ إنتاج مُستويات الوَعْي والإدراك ، مِن أجل تحريرِ الفلسفة الحياتيَّة مِن التمركز حول الذات ، وصناعةِ المفاهيم الإبداعية لِتَكُون قُوَّةً دافعةً للتاريخ الذي يُعَاد تشكيلُه في البناء الاجتماعي والبُنية الثقافية ، وتأسيسِ علاقة منطقية بين اللغة والوجود، تَدمُج براءةَ الفِطْرَة معَ فلسفة الخِبْرَة،وتَدمُج الماضي معَ الحاضر ضِمن سِياق التَّزَامُن والتَّعَاقُب ، لِيَصِيرَ المُستقبلُ تاريخًا حَيًّا في شخصية الفرد بلا فواصل ذهنية ولا قطيعة معرفية ، وعابرًا للزمن والمكان ، وحاضنًا للجُغرافيا الخيالية والواقعية . والتاريخُ الحقيقي لَيْسَ زمنًا غارقًا في ضباب الماضي ، أوْ هُروبًا إلى الوراء ، أوْ رُكَامًا مِن الأحداث والوقائع. وإنَّما هو رحلة وُجودية في الذات والعناصر المُحيطة بها ، بحثًا عن مَعنى للأشياء والأفكار ، مِن أجل تخليص المُجتمعات البدائية مِنَ التَّوَحُّش ، وقتلِ الوَحْش في أعماق الإنسان.والتاريخُ الحقيقي لا يَبحث عن إسناد خارجي لِنَيل الشرعية والمشروعية، لأنَّه هو المُخَلِّصُ والخَلاصُ.

3

كُلُّ نَسَق تاريخي يُمثِّل نظامًا لغويًّا يَهدف إلى تنظيمِ إفرازات الفِعْل الاجتماعي، وتجميعِ تأثيرات المنهج النَّقْدي في الروابط الإنسانية، وترتيبِ مصادر المعرفة في تراكيب البيئة وعناصر الطبيعة . وقُوَّةُ النظام اللغوي تتجلَّى في تحويل الشُّعور الإنساني الهُلامي إلى اتِّصَال مادي معَ مُكوِّنات المُجتمع، وتواصُل معنوي معها. وإذا كانت مركزيةُ اللغةِ في الوجود تُمثِّل إعادةَ تشكيل للمنهج النَّقْدِي القائم على فَحْصِ المُسلَّمات الافتراضية ، وتنقيةِ العقل الجَمْعي مِن سِياسة الأمر الواقع ، فإنَّ مركزية الوَعْي في الإنسان تُمثِّل إعادةَ تكوين للروابط الإنسانية القائمة على تحليلِ انعكاسات البُنية الثقافية على النَّسَق التاريخي ، وتعريةِ البناء الاجتماعي مِن ضَغط النظام الاستهلاكي . وهذه الثنائيةُ ( التَّنقية / التَّعرية ) تُجسِّد فلسفةَ العقل الجَمْعي في البناء الاجتماعي ، وتَكشِف الدَّوْرَ المركزي للتاريخ في الحضارة ، بِوَصْفِهَا النَّوَاةَ الأساسية في المنهج النَّقْدِي إنسانيًّا ، والهُوِيَّةَ الوجودية في الروابط الإنسانية ثقافيًّا.وكما أنَّ النَّقْد لا يَنفصل عن الثقافة،كذلك الثقافة لا تَنفصل عن الإنسان. وهذا الترابط مِن شَأنه أن يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة ، لأنَّهَا الحامل للمنهجِ النَّقْدي والبُنيةِ الثقافية والوجودِ الإنساني . والحاملُ لا يُوجَد بِمَعْزِل عَن المَحمول ، وإذا كانت اللغةُ هي الحاملَ ، فإنَّ الحضارة هي المَحمول، وإذا سَاهَمَت اللغةُ والحضارةُ في تَكوين سِيَادة المعايير الأخلاقية على إفرازات الفِعل الاجتماعي وانعكاساته، وإضفاءِ المَعنى الوجودي المنطقي على الأشياء والأفكار والعناصر ، فإنَّ فلسفة التاريخ سَتَتَحَوَّل إلى أداة لكشف آلِيَّات البناء الاجتماعي في الحضارة ، فَيُصبح التاريخُ جسدًا للحياة وتجسيدًا للحُرِّية ، ولَيس أرشيفًا للضَّحَايا الذين يتقمَّصون جَلَّادَهم ، وتُصبح الحضارةُ هُوِيَّةً إبداعيَّةً لا هاويةً أيديولوجيةً ، ويُصبح الوُجودُ كِتَابًا مَفتوحًا لا فَخًّا قاتلًا .

28‏/10‏/2022

فلسفة التاريخ وهوية الزمن

 

فلسفة التاريخ وهوية الزمن

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..........................

1

     الظواهرُ الثقافية في المجتمع الإنساني لَيْسَتْ آثَارًا عابرةً في جسد الحضارة ، أوْ علاماتٍ سطحية في فلسفة التاريخ . إنَّها ظواهر مركزية تُعيد صِناعةَ الأفكار ، وتوظيفها في مصادر المعرفة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحويل الفِعل الاجتماعي إلى مَيدان فِكري ذهنيًّا وماديًّا، يَستطيع إنتاجَ لُغة مُشتركة بين التاريخ والحضارة ضِمن مَنظومة الحُقوق والواجبات ، بعيدًا عَن منطق القُوَّة الذي يَفرِض على أنساق الحياة فكرةَ أنَّ المُنتصِر هو الذي يَكتب التاريخَ ويَصنع الحضارةَ ، وبالتالي يَبتكر آلِيَّات الهَيمنة على العَقْل الجَمْعي ، ويَخترع أدوات السَّيطرة على المَعنى اللغوي ، ويُكرِّس وِصَايَتَه على النظام الأخلاقي . إنَّ التاريخ لَيْسَ مشروعًا تجاريًّا خاضعًا لسياسة العَرْض والطَّلَب، والحضارة لَيْسَتْ سُلالةً عائليَّةً خاضعةً لرابطة الدَّم والولاء للقبيلة. وهاتان الحقيقتان تَفتحان العلاقات الاجتماعية على كافَّة الاحتمالات ، وكُلُّ احتمال يُمثِّل تغييرًا جذريًّا في طريقة تفكير الفرد ، وثَورةً منهجيةً في بُنية التأويل اللغوي. لذلك لا يُمكن احتكار التاريخ والحضارة وتَدجينهما مَهما كان المُنتصِر قويًّا وذكيًّا .

2

     العلاقةُ بين رمزيةِ اللغة وماهيَّةِ الفرد وكَينونةِ الواقع ، لَيْسَت انعكاسًا ميكانيكيًّا للحقيقة الاجتماعية ، وإنَّما هي حقيقة جديدة تُساهم في إنتاجِ الظواهر الثقافية ، ورسمِ خريطة الطريق في الذهن والواقع معًا ، واكتشافِ البراءة الأصليَّة والخِبرة العمليَّة في المُجتمع، من أجل توظيفهما لتحقيق حُرِّية الفرد واستقلاله ، ولَيس تَسليعه وإخضاعه وتفريغه مِن مُحتواه الشُّعوري والفكري . والهُوِيَّةُ الإنسانية المُتَجَسِّدَة في وَعْي الفرد وشخصيته تُمثِّل شبكةً مِنَ التجارب الحياتيَّة والمعارف الوجوديَّة ، وهذا يُساهم في تدعيم قُدرة العقل الجَمْعي على مُمَارَسَة السُّلطة الفكرية بشكل يَضمَن التواصلَ معَ مراحل التاريخ بلا انقطاع ، وهذا يَستلزم تَطهير التاريخ مِن الزوايا المُظلِمة والمناطق الغامضة . ولا يُمكن بناء الحقيقة الاجتماعية إلا بوضع التاريخ كاملًا تَحت ضَوء الفَهْم الصحيح والتشخيص الدقيق . وإذا تَمَّ اعتبارُ التاريخِ جمعيَّةً سِرِّية ، أوْ كِتَابًا مُغْلَقًا أمامَ قواعد المنهج العِلْمِي في البحث والتحليل ، أوْ صِرَاعًا بين المُدنَّس والمُقدَّس ، أوْ صِدَامًا بَين الفِطْرَة والغريزة ، أوْ حربًا بَين الأقَلِّيَات لِتَقَمُّص الأكثرية ، فَسَوْفَ تنهارُ رمزيةُ التاريخ في سِيَاق الحضارة، وتَسقُط مَكَانته في شخصية الفرد الإنسانية .

3

     التاريخُ منهجيةٌ فكرية لا سُلطة قمعية ، وهذا يعني أن التاريخ مُحاولة لفهم الوجود مِن خِلال العقل واللغة والزمن . والإشكاليةُ الفلسفية التي تُهدِّد بُنيةَ التفكير المنطقي في حياة الفرد والمجتمع ، تَكمُن في النظر إلى التاريخ باعتباره كَومةً مِن الوقائع المُنقطعة عن سِياقها المعرفي ، وأرشيفًا مِن الأحداث المُنفصلة عن الشُّعور الإنساني . وهذه النظرةُ القاصرة مَرجعها إلى التعامل معَ الزمن باعتباره حَركةً ميكانيكيَّة خاضعةً لقوانين الفيزياء. إنَّ الزمن كائن حَي يتكاثر في شرعية الفرد لُغويًّا وإنسانيًّا . وهُوِيَّةُ الزمن المعرفية قائمةٌ على ثلاثة أركان : التَّوليد والتَّأسيس والتَّوظيف . توليدُ المعنى اللغوي بِوَصْفِه عمليَّة تَخليص للفرد مِن مَأزقه الوُجودي ، واللغة هِيَ رُوح الوُجود التي تَحتضن التفاعلات الرمزية في العلاقات الاجتماعية ، وتأسيسُ الوَعْي بالذات والطبيعة بِوَصْفِه خَلاصًا مِن تَضَارُب المصالح بين الفرد والمُجتمع ، والوَعْيُ هُوَ مِحْوَر التوازن بين الإبداع والعمل ، وتوظيفُ الفِعل الاجتماعي بِوَصْفِه دَلالةً على الحَيَاة ، ودَليلًا إلى فلسفتها ، والفِعْلُ هُوَ مَركز الثِّقَل لنظام الحضارة الإنسانية الذي يقوم على التعاون لا الاستغلال . وهكذا، سَوْفَ تَندمج هُوِيَّةُ الزمن المعرفية ( التوليد والتأسيس والتوظيف ) معَ منهجية التاريخ الفكرية ( اللغة والوَعْي والفِعل ) .

22‏/10‏/2022

العوامل الحضارية ومركزية الفعل الاجتماعي

 

العوامل الحضارية ومركزية الفعل الاجتماعي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.........................

1

     شرعيةُ العلاقاتِ الاجتماعية مُستمدة مِن قُدرة المجتمع على تَطهيرِ الأنساق الثقافية مِن الوَعْي الزائف ، وصناعةِ عوامل حضارية تُساهم في التنقيبِ عن مصادر المعرفة في جسد اللغة الحَيِّ،والتفتيشِ عن التجسيدات الرمزية لِهُوِيَّة الفِعل الاجتماعي، وسُلطةِ التاريخ الحضاري ، وكِيَانِ المَعنى الوُجودي. والمُهِمَّةُ الأساسية للأنساق الثقافية تتجلَّى في كشف الرابطة المُتبادلة بين المعايير الأخلاقية والسُّلوكيات الإنسانية ، وهذا مِن شأنه إعادة تفسير الفِعل الاجتماعي فرديًّا وجماعيًّا . وعمليةُ التفسيرِ مُرتبطةٌ بدوافع الفرد الكامنة في الأحداث اليومية ، ومُتعلقةٌ بِطُموحات الجماعة النابعة مِن أمجاد الماضي . وإذا كان التاريخُ فِعْلًا اجتماعيًّا مُتواصلًا في إفرازات العقل الجَمْعِي ، فإنَّ الواقعَ المُعاش هو السِّياق الحاضن لفلسفة اللغة التي تَجعل الفِعْلَ الاجتماعي مَشروعًا مُستمرًّا مِن أجل الخَلاص . وكُلُّ فِعْل لا يَنفصل عن مَصلحة الفاعل ، والفِعْلُ والمَصلحةُ مُتلازمان ، وهُمَا يَدُوران معَ الوَعْي وُجودًا وعَدَمًا ، وإثباتًا ونَفْيًا . وإذا كانت المَصلحةُ تَجعل الفِعْلَ طَريقًا لاكتشاف العناصر الإبداعية في الأشياء العادية ، فإنَّ الفِعْلَ يَجعل المَصلحةَ طريقةً لتوليد الأنماط الحياتية من مصادر المعرفة . وهذه المَصلحةُ لَيْسَتْ فكرةً مُجرَّدة ، وإنَّما هي محاولة لإضفاءِ المَعنى الوجودي على هُوِيَّة البناء الاجتماعي باعتباره التَّجَلِّي البارز للوقائع التاريخية ، وإضفاءِ الشرعية الأخلاقية على سُلطة التأويل اللغوي باعتبارها الانعكاسَ الواضح للشُّعور القَصْدِي .

2

     مركزيةُ الفِعل الاجتماعي في الوَعْي الحقيقي والشُّعور القَصْدِي ، تُمثِّل نُقطةَ التوازن بين النظام اللغوي الذي يتكوَّن مِن أدوات التفكيك وآلِيَّات التأويل ، وبين النظام المعرفي الذي يتكوَّن مِن وسائل التفكير وغايات التنمية . وهذان النظامان قائمان على كَينونة التاريخ الذي يُعاد تشكيله باستمرار ، لَيس بِوَصْفِه ماضيًا مَضَى ، بَلْ بِوَصْفِه عملية تَثوير للأنساق الثقافية ، وتحرير لرمزية اللغة مِن قَبضة المُسلَّمات الافتراضية ، وتَخليص لشخصية الفرد الإنسانية مِن الأزمة الروحية والضغط المادي ، وتنقية للخَيَال الإبداعي مِن تَسليع العلاقات الاجتماعية. والتاريخُ الحقيقي هو الذي يَنبعث في فلسفة الفرد الحياتية ، وليس الذي يُحاصرها ويُفَرِّغها مِن مَعْناها وجَدْواها.والوَعْيُ الحقيقي هو الذي يُطهِّر الأشياءَ والأفكارَ مِن التَّوَحُّش الكامن في الأنظمة الاستهلاكية الضاغطة على السُّلطة الاعتبارية للفرد والجماعة.وإعادةُ فَحْص مُكَوِّنَات التاريخ وتراكيب الوَعْي ، وفَصْل الحقائق عن الأوهام ، وتمييز الوقائع عن الأحلام ، تُعْتَبَر صِناعةً جديدةً للتاريخ في إطار الوَعْي الحقيقي لا الزائف ، مِمَّا يَمنع سياسةَ الأمرِ الواقع مِن تقديم الأحلام الإنسانية كبضاعة خاضعة لقانون العَرْض والطَّلَب ، ويَمنع وَهْمَ الخلاص الفردي مِن تقديم العلاقات الاجتماعية كَسِلَع خاضعة لأدوات السيطرة وآلِيَّات الهَيمنة .

3

     الفِعلُ الاجتماعي هو السِّيَاقُ الحضاري الناتج عن اجتماع العامل النَّفْسِي والعامل اللغوي في شخصية الفرد وسُلطة الجماعة . وشخصيةُ الفرد لا تتجذَّر في الأنساق الثقافية إلا بتحقيق الوَعْي بالذاتِ وعناصرِ البيئة المُحيطة ، وسُلطةُ الجماعة لا تتكرَّس في السُّلوكيات الإنسانية إلا بدمج هُوِيَّة الفرد معَ كَينونة المُجتمع . وكُلُّ هذه المُركَّبات ينبغي صَهْرُها في بَوتقة معرفية واحدة لتشكيل تاريخ جديد يَكون عُنصرَ إبداعٍ عابرًا للمراحل والحدود والتجنيس، ولَيس استجابةً مُجرَّدة للزمان والمكان. والتاريخُ والمُجتمعُ يَمتازان بالحركة أفقيًّا وعموديًّا، لكنَّ الفرق بينهما هو أنَّ حركة التاريخ تتعلَّق باستخدام الماضي كأداة لصناعة الوَعْي بالحاضر ، في حِين أنَّ حركة المُجتمع تتعلَّق باستخدام اللغة كأداة لتشكيل شخصية الفرد . وهاتان الحَرَكتان تَعملان على دمج النفعية والعقلانية في الواقع المُعاش ، مِمَّا يُساهم في حماية العلاقات الاجتماعية والأنساق الثقافية مِن التناقض وتضارُب المصالح ، وحمايةِ الطبيعة الوظيفية للفرد والجماعة مِن الاغتراب ذهنيًّا ولُغويًّا . وكُلُّ مرحلة زمانية لها رُوحُها الخَاصَّة بها نظريًّا وتطبيقيًّا ، وكُلُّ طبيعة مكانية لها إيقاعُها الخاص بها رُوحيًّا وماديًّا .

4

     العواملُ الحضارية التي تُشكِّل التاريخَ والمُجتمعَ ، وتُؤَسِّس مركزيةَ الفِعل الاجتماعي فيهما ، لا يُمكن فَهْمُها إلا في سِياق تَصَوُّر الفرد والجماعة للوجود ، ولا يُمكن توظيفها إلا ضِمن التسلسل المنطقي للأحداث اليومية ، الذي يُزيل الوَهْمَ الفِكري والسِّحْرَ اللغوي ، فلا يَعُود هُناك وَهْم يُنتج مُسلَّمات افتراضية ويُتاجر بها ، ولا يَعُود هُناك سِحْر لِيَنقلب على الساحر . وخُطورةُ الوَهْمِ الفِكري والسِّحْرِ اللغوي تَكمُن في جَعْلِ المُجتمع عاجزًا عن التفكير خارج الصندوق ، ومَنْفِيًّا في اللغة ، ومَسجونًا في التاريخ ، ومُنفصِلًا عن العَالَم ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تآكُل المُجتمع سطحيًّا، وانهياره داخليًّا، وانتحاره تدريجيًّا. وانكسارُ المُجتمع يعني عَجْزَ الفرد عن التَّخَيُّل والإبداع والنهضة ، وهذه الأركان الثلاثة تُشكِّل قاعدةَ بناءِ التاريخ والحضارة .

15‏/10‏/2022

الخصائص الفلسفية للبناء الاجتماعي

 

الخصائص الفلسفية للبناء الاجتماعي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................... 

1

     العلاقاتُ الاجتماعيةُ تُمثِّل فلسفةً حياتيةً قائمة بذاتها ، تعتمد على أُسلوبِ التحليل اللغوي ، وإيقاعِ الحياة اليوميَّة. واندماجُ الأُسلوب معَ الإيقاع يُولِّد تَصَوُّرًا وُجوديًّا مُشْتَرَكًا للمُجتمع ، مِمَّا يَدفع شخصيةَ الفردِ الإنسانيةَ إلى إعادة تَجميع شَظَاياها وتشكيل شَتَاتها. وكُلُّ حركةٍ تصحيحية لمسار الفرد في الحياة تُقَابلها ثَورة تأويليَّة في اللغة ، وهذا يُنتج منطقًا جديدًا للمَعنى الإنساني في التاريخ والحضارة . والمَعنى الإنساني لَيس طريقًا واحدًا ، وإنَّما هو طُرُقَاتٌ مُتَشَعِّبَة في سُلطة المصادر المعرفية، ومساراتٌ مُتَشَظِّيَة في طبيعة الحُلْم الاجتماعي المُتداخل معَ الرؤية الفلسفية للأشياء الكامنة في أعماق الفرد، والمُتماهي معَ الأحداث الحياتية الناتجة عن طريقة تفسير الفرد للتاريخ ، وانعكاسِ التاريخ على الأنساق الثقافية الحاكمة على سُلوك الفرد ، والمحكومة بالمرجعية الأخلاقية للفِعل الاجتماعي . وإذا كانت الثقافةُ لا تنفصل عن الأخلاق ، فإنَّ آلِيَّات التأويل اللغوي لا تَنفصل عَن مُمارسة المُجتمع لِسُلطته على الفرد وعناصر البيئة المعيشية.وفي اللغة لا يُوجد مركز يُمكن السَّيطرة عليها، لأنَّ المراكز والأطراف تَنصهر معًا في بَوتقةِ التجربة اللغوية وحرارةِ التعبير عن الذات وصِراعاتها.وفي المُجتمع لا يُوجد مِعيار يُمكن مِن خَلاله تفسير الوقائع التاريخية والأحداث اليومية ، لأنَّ المعايير والقِيَم ذات طبيعة نِسبية ، ومُخْتَلِطَة بالمصالح العَامَّة والمنافع الخَاصَّة، والفردُ يُطوِّر مصلحته باتِّجاه العُنصر الأقوى في المُجتمع، كما أنَّ المُجتمع يُطوِّر مصلحته باتِّجاه الظواهر الثقافية الأشد تأثيرًا في أنظمة الفكر التاريخية والحضارية .

2

     البناءُ الاجتماعي هو جُغرافيا الوُجودِ وتاريخُ الحُلْمِ ، وهو الكُتلةُ الفلسفية الحاضنة للتُّرَاث . وإذا أردنا فَهْمَ هذا التُّرَاث، وإدراكَ نِقاط الاتِّصَال والانفصال في مَسَاره ومَاهِيَّته، فلا بُدَّ مِن فَهْمِ الدَّور التاريخي للظواهر الثقافية، ومعرفةِ حُدود مصادر المعرفة ، وتحديدِ الشُّروط الضَّرورية لاستخدام الأفكار الإبداعية ، ودَمْجِ الزمان الذي تُولَد فيه أحلامُ الفرد معَ المكانِ الذي يَحتضن شرعيةَ المُجتمع وطُموحاته. وهذه القضايا مُجتمعةً تُشكِّل قاعدةً صُلبةً لربط الأحداث اليومية مع الفلسفة الحياتية الناتجة عنها ، وربطِ الوقائع التاريخية معَ آلِيَّات التأويل اللغوي . وإذا كانت الحياةُ تَمنح شرعيةً لميلاد الفرد في الزمان والمكان ، فإنَّ اللغة تَمنح شرعيةً للمَرجعية الفكرية للفرد في الوَعْي والإدراك. وهاتان الشَّرْعِيَّتَان تُحرِّران الفردَ مِن ضَغط الأنساق الاستهلاكية ، فَيَمتلك القُدرةَ على تجاوز ذاته ، وإعادة صناعتها ضِمن السِّيَاق المعرفي للمُجتمع ، الأمر الذي يَجعل الفردَ كَائنًا حُرًّا ، ولَبِنَةً في البناء الاجتماعي ، ولَيس مِعْوَلَ هَدْم . وحُرِّيةُ الفرد تَعْني حُرِّية المُجتمع ، لأنَّ الجُزء حامل للخصائص الوجودية للكُلِّ . والحُرِّيةُ_ فرديًّا ومُجتمعيًّا _ لا تتحقَّق على أرض الواقع ، إلا بالعَودة إلى اللغة مِن أجل إيجاد التاريخ ، والعَودة إلى التاريخ مِن أجل إيجاد الوُجود .

3

     وَعْيُ الفرد بذاته ومَوضوعات حياته يتجلَّى في إدراكِه لماهيَّة العلاقات الاجتماعية وطبيعة البناء الاجتماعي، وإدراكِه لكيفيَّة توظيف الرابطة بين السُّلطة والمعرفة في الظواهر الثقافية التي تُمثِّل امتدادًا مُباشرًا لِجَدْوى التأويل اللغوي ، بِوَصْفِه فلسفةً واقعيةً وأُسلوبًا للعَيش ، ولَيس بَحْثًا نظريًّا عَن علاقة اللغة بالفرد والمُجتمع . وهكذا يُصبح الواقعُ جَوهرًا حَيًّا في داخل الفرد ، وليس بيئةً خارجية ضاغطة عليه . وهذا يَجعل الفردَ لا يعود إلى التاريخ ، وإنَّما يعيش التاريخَ في الحاضر دُون أن يَغرق فيهما . وفي النظام الفلسفي للظواهر الثقافية لا يُوجد زمان يَبحث عنه الفردُ، لأن فلسفة الثقافة قائمة على ابتكار أزمنة جديدة ضِمن صَيرورة التاريخ وقِيَم الإبداع ، مِمَّا يُساهم في تَكوينِ هَيكل مفاهيمي للذات والآخَر والبيئة والطبيعة ، ودفعِ سُلطة المعرفة باتِّجاه إنتاج معايير أخلاقية تَضبط الفِعْلَ الاجتماعي ، وتُحوِّله إلى أداة لتنقيةِ حياة الفرد من الوَعْي الزائف ، وتَطهيرِ المُجتمع مِن تَضَارُب المصالح وصِرَاعات مراكز القُوى، وتحقيقِ الاتِّزَانِ بين الهُوِيَّات والتوازنِ بين الطُّمُوحات ، مِن أجل النُّهُوض بالمُجتمع . وإذا حدث تصادُم بين مُكَوِّنات المُجتمع فَلَن يَقْدِر على الانطلاق في فضاء الإبداع . ولا شَكَّ أنَّه إذا حَدَثَ تعارُض بين عمل الجَنَاحَيْن ، فَلَن يَقْدِر الطائرُ على الطَّيَرَان ، وبالتالي يَكُون قد دَفَنَ نَفْسَه في الحياة بلا أمل في الحياة .

08‏/10‏/2022

وظيفة الفلسفة في الروابط الإنسانية والحراك الاجتماعي

 

وظيفة الفلسفة في الروابط الإنسانية والحراك الاجتماعي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................... 

1

     الروابطُ الإنسانية لا تتشكَّل اعتمادًا على بُنيةِ الهَيمنة الاجتماعية ، ومنهجيةِ القَهْر الحَيَاتي ، ومنطقِ القُوَّة التاريخية ، وأسلوب القَمْعِ الروحي ، ونمطِ الكَبْتِ الجسدي . وإنَّما تتشكَّل اعتمادًا على الوَعْي المُستمد من تفاصيل الحياة اليومية ، التي تَبْني جِسْمًا ثقافيًّا مُستمرًّا لا يتنكَّر لأحلام الفرد ، وتُؤَسِّس جُغرافيا معرفيةً مُتجددةً لا تتعارض مع طُموحات الجماعة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكريسِ النَّزعات الإنسانية في كِيَان الحضارة ، وتخليصِها مِن قِيَم التَّوَحُّش . وهذا مِن شأنه ترسيخُ علاقة مُتوازنة بين الحرية الفردية وسُلطة المجتمع ، وتشييدُ البناء الاجتماعي على التجارب الروحية والخبرات المادية ، مِمَّا يَكشِف نِقَاطَ الاتصال والانفصال في أنساق الفكر ومراحل التاريخ . والمنظومةُ الثنائية المُتكوِّنة مِن النسق الفكري والمرحلة التاريخية ، تُمثِّل إطارًا زمنيًّا يُحدِّد مظاهرَ القُوَّة في المعرفة ، ويُعيد تشكيلَ المعرفة بحيث تُصبح تَرَاكُمًا واعيًا للشُّعور والأحلام والذكريات، وليس تجميعًا ميكانيكيًّا لِرُكَام النظريات والفرضيات . وهذا التَّرَاكُمُ الواعي يُنتج تاريخَه الخاص الذي يتقدَّم إلى الأمام ، وذلك بإعادة ترتيب الأحداث اليومية وفق منطق اللغة التحليلي ، من أجل تفسير الماضي والحاضر باعتبارهما وجهًا واحدًا للمُستقبل الذي لا يَقْبَل الأقنعةَ .

2

     إذا أرادَ الفردُ إيجادَ مكان له في المُستقبل ، فلا بُدَّ أن يُوحِّد عناصرَ الزمان في ذِهنه وجسده ، بحيث يَصِير الحَرَاكُ الاجتماعي تَزَاوُجًا بين الماضي والحاضر ، فَهُمَا مُتكاملان مَعْنًى ومَبْنًى. وإذا شَعَرَ الفردُ بأنَّ الماضي والحاضر نقيضان لا يَجتمعان ، أوْ ضِدَّان لا يَلتقيان ، فقد سَقَطَ في الفَخ القاتل ضِمن مَتَاهة الحضارة الاستهلاكية . وهذا السُّقُوطُ بمثابة حَاجِز نَفْسِي بين الأحداث اليومية وطُرُق تفسيرها ، وبالتالي يَعْجِز الفردُ عن ابتكار نظام فلسفي للأشياء والعناصر. والفلسفةُ القائمة على الشُّعور المنطقي والإدراك المادي ، لا تَحرِص على الجديد باعتباره مُوضة فكرية وبَلاغة خَطابية ، وإنَّما تَحرِص على إعادةِ تفسير الأشياء البسيطة ، وإعادةِ تأويل الأمُور العادية . وأكبرُ تهديد للفلسفة هو التَّعَوُّد على الأشياء ، لأنَّه يَمنع رؤيةَ الأشياء على حقيقتها ، ويَسْلُب قِيمَتَهَا وجَمَالَهَا . ولا يُمكن للمُجتمع أن يُؤَسِّس منظومته الحضارية إلا باستنباط فلسفة غير عاديَّة مِن الأشياء العاديَّة . والأشياءُ البسيطة تَحتوي على أفكار إبداعية مُذهِلة ، كما أن التُّرَاب يَحتوي على الذهب . وبشكل عام، إنَّ الفلسفة الحقيقية هي منظومة الدوافع الخَفِيَّة التي تَكمُن وَرَاءَ الأشياء، وتختبئ خَلْفَ العناصر.

3

    وظيفةُ الفلسفة في الروابط الإنسانية والحَرَاك الاجتماعي هي دَمْجُ الأشكال التاريخية معَ سِيَاقاتها المعرفية، وتفسيرُ الآلِيَّات اللغوية المُسيطرة على الأنظمة الداخلية للمُجتمع ، وتشخيصُ السِّيَاسات الفردية والجماعية ضِمن الثقافة الاستهلاكية ، وتثبيتُ شخصية الفرد الإنسانية في الأحداث اليومية كفاعل أساسي ، ولَيس رَدَّةَ فِعل هامشية ، مِمَّا يُساهم في اكتشافِ المَعنى الوجودي لإفرازات اللغة في الحياة ، وتحليلِ انعكاسات التاريخ في كَينونة الزمان وجسد المكان ، وفَحْصِ تأثيرات الحضارة في الظواهر الثقافية والأنساق الفكرية والمعايير الأخلاقية، وإظهارِ الأبعاد الروحية والجَمَالِيَّة للوُجود الإنساني . وكُلُّ هذه القضايا مُجتمعةً سَتَدفع باتجاه تحقيقِ تغييرات جوهرية في العلاقات الاجتماعية ، وتحقيقِ التوازن بين رمزية اللغة وفاعليَّة المُجتمع ، مِن أجل إنتاج أفكار قادرة على التغيير الواقعي . وكُلَّمَا تكرَّست الأسئلةُ المصيريةُ داخل اللغة ، تجذَّرت الدوافعُ الإبداعيةُ داخل المُجتمع ، وهذا يعني أن التَّحَوُّلات الفكرية سَتَؤُول إلى أحداث واقعية ، وهذه العملية مُتزامنة مع تفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة ، وتوليدِ مصادر المعرفة الكامنة في شخصية الفرد الإنسانية . وانبعاثُ اللغةِ هو تَحَرُّرُ الذات، وتحريرُ المَعنى. وانبعاثُ المعرفةِ هو فَتْحُ الفضاءات، وتفتيحُ العقول. وإذا كانت اللغةُ هي القُوَّةَ الرافعةَ للوجود الإنساني ، فإنَّ المعرفة هي السُّلطة التي تَفرِض الوَعْيَ الحقيقي لا الزائف ، في الحضارة الإنسانية والتاريخ الحضاري . وقُوَّةُ اللغةِ وسُلطةُ المعرفةِ تُشكِّلان معًا مركزيةَ الفِعل الاجتماعي ، وتَحْمِيَان العلاقاتِ الاجتماعية مِن التَّحَوُّل إلى أنظمة ميكانيكية وسِلَع استهلاكية خاضعة لقانون العَرْض والطَّلَب .