سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/02‏/2021

بيرل باك ورفض التنصير

 

بيرل باك ورفض التنصير

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............

     وُلدت الأديبة الأمريكية بيرل باك ( 1892_ 1973) في ولاية فرجينيا الأمريكية، لأبوين يَعملان في مجال التنصير ( التبشير )، وسافرت معهما إلى الصين وهي في شهرها الخامس ، وعاشت سنوات طويلة في الصين ، حيث تعلمت خلالها اللغة الصينية ، وفهمت عادات الشعب الصيني وتقاليده . وقد حاولت جاهدةً أن تجعل رواياتها جسرًا بين الثقافة الأمريكية والثقافة الصينية، رغم الاختلافات الفكرية ، والتناقضات الثقافية.

     لم تكن باك تنتمي لأسرة من الْمُنصِّرين ( المبشِّرين بالمسيحية ) فَحَسْب ، بَل كانت هي أيضًا مُبشِّرة ، عملت في صفوف هيئة الإرساليات التبشيرية . وتأثرت بتجارب والدَيْها ، فقد كانت أُمُّها راوية بارعة للقصص ، خصوصًا القصص المتعلقة بالحرب الأهلية الأمريكية . كما أن جولات والدها التبشيرية في الأرياف والمناطق المنعزلة وَفَّرت له رَصيدًا هائلاً من القصص ، التي كان يرويها لأولاده عِند عَودته ، وقد تركت أثرًا عميقًا في نفْس ابنته بيرل .

     ومن الأحداث الصادمة في حياتها وحياة عائلتها ، نشوء جمعية صينية سرية في عام 1900 ، قادت ثورةً لطرد الأجانب ، وطالبت الصينيين الذين تنصَّروا بالعَودة إلى دياناتهم الأصلية . وهذا الأمر اضطرها هي وعائلتها للهروب مِن منزلهم إلى ساحل البحر ، للنجاة من هذه الثورة . ورغم هذه المعاناة ، إلا أن باك كانت تعتبر الثورة نتيجة منطقية للاستغلال الغربي ، وما عاناه الصينيون مِن ظُلم الغرب وحِقد أبنائه . فقد كان التنصير وسيلة للسيطرة على الشعب الصيني ، وإخضاعه للثقافة الغربية . وفي عام 1910 ، سافرت باك إلى أمريكا ، للالتحاف بكلية راندولف للبنات ، وهناك واصلت الكتابة في المجلات والصحف، وفازت بجائزتين أدبيتين . الأولى لأحسن قصة تكتبها طالبة، والثانية لأفضل قصيدة . وقد عانت كثيرًا في الكلية ، إذْ ظَهرت الاختلافات بينها وبين زميلاتها، بسبب أفكارها وطريقة تربيتها ، وتَمَّ اعتبارها غريبة الأطوار ، لكنَّها استطاعت أن تعيد تشكيل حياتها لتنسجم مع الحياة الغربية في طريقة الحياة والحديث واللباس .

     حصلت على  ليسانس الآداب من كلية راندولف ماكون للبنات عام 1914 ، ثُمَّ عملت مُدرِّسة للفلسفة في نفْس الكلية لمدة سنة واحدة ، وبعدها عادت إلى الصين ، للاعتناء بوالدتها المريضة . وفي الوقت نفْسه ، قامت بتدريس اللغة الإنجليزية للطلاب الصينيين . كما استغلت وقت فراغها لدراسة المؤلفات الصينية بشكل أكثر عُمْقًا .

     والجديرُ بالذِّكر أنَّ الاسم الحقيقي لهذه الكاتبة هو"بيرل سيدينستريكر"،ولكنَّها عندما تزوَّجت حَملت اسم عائلة زوجها " جون لوسينج باك " ، وهو خبير زراعي عيَّنته هيئة الإرساليات البروتستانتية لتعليم الصينيين طرق الزراعة الأمريكية ، وهكذا تحوَّل اسمها إلى " بيرل باك".

     سافرت باك مَعَ زوجها في أنحاء الصين ، وشاهدت عن قُرب النِّزاعات الاجتماعية في المجتمع الصيني ، وتفكك الأُسرة ، والصراعات النفسية التي تسيطر على حياة الصينيين ، ورأت مشاعر التمزق بين القديم والحديث ، والصِّدام بين النظام الأبوي الصارم والحياة المتحررة للفرد . فقد انتشر في المجتمع الصيني التدخين على نطاق واسع ، وازداد الاختلاط بين الجنسين ، وانتشر الرقص الأمريكي ، وبَرزت فكرة التمرد ضد السُّلطة الأبوية ، وصار الشابُّ يتَّخذ قرار الزواج بعيدًا عن أُسرته ، وقد كانت الأُسر الصينية تختار الزوجات لأبنائها ، وتتولى تزويجهم . وفي ظل هذه الظروف ، ظَهرت الدعوات إلى الشيوعية ، كرد فعل مضاد لفلسفة الحياة الغربية .

     في عام 1925 ، سافرت إلى أمريكا من جديد، لعلاج ابنتها كارول التي كانت تعاني من التخلف العقلي ، ولكنْ تَبَيَّنَ أنها ستظل مُعاقة طيلة حياتها . وفي عام 1933 ، كتبت باك مقالاً انتقدت فيه المنصِّرين ( المبشِّرين ) الذي يحرصون على زيادة أعداد الداخلين في دِينهم عن طريق ابتزازهم واستغلال جهلهم وفقرهم ، ودُون مُراعاة ظُروفهم الإنسانية .

     أدى نشر المقال لاستقالتها من هيئة الإرساليات التبشيرية، فكان طلاقًا أبديًّا بينها وبين المؤسسة التي عملت في صفوفها وانتمت إِلَيها . وفي عام 1935 ، طَلَّقها زوجها جون لوسينج باك ، وتزوَّجت في العام نفْسه ريتشارد جون والش ، رئيس شركة جون داي للطباعة والنشر ، ورئيس تحرير مجلة آسيا ، وأقامت معه في أمريكا حتى وفاته عام 1960 .

     تعلمت باك الصينية قبل الإنجليزية ، ثُمَّ تعلمت الإنجليزية ، وهذا وَفَّرَ لها ثَروة لغوية هائلة ، وجعل أسلوبها الأدبي قويًّا ومتماسكًا . وقد انكبَّت على قراءة القصص مُنذ نعومة أظفارها ، وهي كاتبة غزيرة الإنتاج . وقد لُقِّبت بالكاتبة الصينية لأن معظم كتاباتها مُستوحاة من الحياة في الصين.

     حصلت على جائزة بوليتزر ( 1932) عن روايتها الأرض الطيبة ، وحصلت أيضًا على جائزة نوبل للآداب عام 1938 ، لتكون بذلك أول كاتبة أمريكية تفوز بهذه الجائزة العالمية .

     من أبرز رواياتها: الأرض الطيبة ( 1931).بيت منقسم ( 1935). جناح المرأة ( 1946) . الموجة الكبيرة ( 1948) . رسالة من بكين ( 1957). الموت في قلعة ( 1965) .

27‏/02‏/2021

المعنى المعرفي والرمز الفكري

 

المعنى المعرفي والرمز الفكري

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................

   الفكرُ الإنساني ليس له معنى ولا فائدة في العلوم الاجتماعية ، إذا لَم يُقَدِّم حُلولًا منطقية قابلة للتطبيق العملي . والعلومُ الاجتماعية تفقد قيمتها الوجودية وسُلطتها الاعتبارية ، إذا لَم تُقَدِّم مشروعًا لخَلاصِ الفرد من الاغتراب النَّفْسي ، وتَحَرُّرِ المجتمع من القَلَق الوجودي . وهذا يستلزم أن يندمج الفكرُ الإنساني معَ العلوم الاجتماعية، مِن أجل إنقاذِ الإنسان مِن الوحش الساكن فيه،ونَقْلِ العلاقات الشعورية من التوحُّش إلى الإنسانية. وهذه هي الخُطوة الأُولَى لنقل المعنى المعرفي من جسد اللغة إلى تجسيد اللغة على شكل رموز قادرة على حمل تاريخ المجتمع ، والحفاظ على هُويته الحضارية . والرموز تُمثِّل أركانَ فلسفة الطاقة الذهنية العابرة لحدود الزمان والمكان . وكُل ظاهرة اجتماعية محصورة في لحظتها الزمنية الآنِيَّة وإطارها المَكاني الضَّيق ، يُمكن إيجاد تفسير عقلاني لها عن طريق فهم رمزيتها المُجرَّدة مِن مركزية الأفراد ومصالحهم الشخصية . فالرَّمْزُ هو النَّوَاةُ الفلسفية ، والمركزُ الذي يستقطب الأضدادَ ، ويُعيد صَهْرَها في بَوتقة الذاكرة الجمعية ، لتحويلها إلى نظام عقلاني مُتجانس . وهذا النظامُ قائم على التكامل ، حيث يُتمِّم العُنصرُ الآخَرَ ويتَّحدان معًا . لذلك يَقبل هذا النظامُ الاختلافَ ( تلاقح الأفكار المُتعدِّدة ) ، ويَرفض الخِلافَ ( تعارُض المصالح ) . وكما أنَّنا لا نستطيع الوصول إلى النَّواة إلا بإزالة القِشرة الخارجية ، كذلك لا نستطيع الوصول إلى الرمز إلا بإزالة الغلاف اللغوي . وهذا يعني أنَّ الرمزية عملية تعرية مُستمرة للشعارات النفعية والأبجديات المُغرِضة والأيديولوجيات الفئوية ، مِن أجل الوصول إلى الوجه الحقيقي للشيء خارج نُفوذ الأقنعة وسُلطةِ المرايا .

2

     الرمزُ الإنساني في مصادر المعرفة الاجتماعية لَيس شخصًا ، ولكنه تشخيص ، وليس جسدًا ، ولكنه تجسيد. إنَّه تشخيص للحالة الشعورية من أجل تفسيرها نفسيًّا واجتماعيًّا، وتجسيد لأشكال التفاعل الاجتماعي بين الوعي الأخلاقي واللغة النَّقِيَّة الخالية مِن الشعارات ، كالماء المُقطَّر الخالي من الشوائب . وهذا يُسبِّب اتِّزَانًا في عناصر المنظومة الثقافية العامَّة ، ويُحدِث توازنًا في التجربة الإنسانية الشخصية . أي إنَّ تفعيل ثنائية ( التشخيص / التجسيد ) في الفكر الاجتماعي يُؤَدِّي بالضرورة إلى تجذير ثنائية ( الاتزان / التوازن ) في المجتمع الإنساني ، وهذا يكشف مدى الترابط بين المعنى والرموز التي تُعبِّر عنه . وإذا تكرَّسَ المعنى كَطَوْق نجاة للمجتمع ، فإنَّ الرموز سَوْفَ تتَّحد لتصبح رمزًا واحدًا يُمثِّل بَرَّ الأمان وشاطئَ السلامة .

3

     أخطر إشكالية تُهدِّد طبيعةَ التسلسل المنطقي في الأنساق الاجتماعية ، هي مَوت المَعنى المعرفي ، وغياب الرمز الفكري . والنَّوَاةُ المركزية في اللغة تتكوَّن من المعنى والرمز ، وإذا زالَ هذان المُكوِّنان ، زالت شرعيةُ اللغة ، واختفت مشروعيتها ، وفقدت جَدْواها ، وخسرت ماهيتها . وبدون اللغة سيتحرَّك الإنسانُ في الفراغ  ، ويتنقَّل بين الأوهام ضِمن متاهة لا مَخرَج مِنها ، ونَفَق لا ضَوء في آخره . وهذا يعني أن غياب اللغة هو غياب للإنسان . وبما أنَّ اللغة هي الجهة المانحة للضَّوء في نهاية النَّفَق ، فينبغي بناء الأنساق الاجتماعية وَفق مَنطق اللغة ، والحِرص على تَوليد المعنى ، وتأسيس الرمز . وهكذا يَحْمي الإنسانُ نَفْسَه مِن السقوط في الفراغ ، ويَحْمي أفكارَه مِن الغرق في العَدَم . وفي نَفْس الوقت ، يُحافظ المجتمعُ على معناه الروحي ، وكِيانه المادي ، وقُوَّته الناعمة المُتمثِّلة في الثقافة الحقيقية ، التي تُعلِّم الإنسانَ التَّحليقَ في عوالم الإبداع ، ولا تُعلِّمه كيفيةَ الدُّخول إلى القفص .

26‏/02‏/2021

بيرسي شيلي والدعوة إلى الإلحاد

 

بيرسي شيلي والدعوة إلى الإلحاد

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............


     وُلِد الشاعر الإنجليزي بيرسي شيلي ( 1792 _ 1822 ) في أحد عقارات الأسرة المعروف باسم فيلد بليس ( الترجمة الحرفية تعني مكان الحقل ) ، وهو بيت رحب بالقرب مِن هورشام في سسكس . وأنجبت أُمُّه بعده أربع بنات ، وبعد ذلك بمدة طويلة أنجبت له أخًا . ونشأ بيرسي بين أخواته، فأخذ منهن شيئًا مِن الرقة والخيال وسرعة الاستثارة، وكَوَّنَ مع أخته الكبرى علاقة حميمة.

     التحقَ بإحدى المدارس ، لكنه عانى بِشِدَّة بسبب إلزامه بخدمة تلاميذ أكبر منه ، وامتنعَ عن ممارسة كُل أنواع الرياضة إلا التَّجديف . ومِن سُوء الحظ أنه لَم يتعلم السباحة قَط . وسُرعان ما نبغَ في اللغة اللاتينية ، فراحَ يُساعد زملاءه في دُروسهم ، فردَّ لهم بذلك الكَيل بِتَنَمُّرِهم عليه .

     خلال الإجازة وقع في حب قريبة لَم تتجاوز ستة عشرة ربيعًا . اسمها هاريت جروف التي كانت تزور أسرته في فيلد بليس كثيرًا. وراحا يتبادلان الرسائل الحارة ، حتى إنهما في عام 1809 تعاهدا على الإخلاص الأبدي . لكنه اعترف لها بِشَكِّه في الله ، فأظهرت خطابه المنطوي على شُكوكه الدينية لأبيها ، فنصحها ألا ترتبط به .

     التحقَ بالكلية الجامعية في أكسفورد ، وتجنَّبَ هناك الإفراط في العلاقات الجنسية ، فيما عدا ليلة أو ليلتين مارس فيهما الجنس على سبيل التجريب . وكانت العلاقات الجنسية تبدو لمعظم الطلبة الذين لَم يتخرجوا بَعْد أمرًا لازمًا يدل على الرجولة . وكان يستمع بين الحين والحين إلى محاضرات يُلقيها الأساتذة والعمداء الذين لَم يكونوا يتفوَّقون عليه في اللاتينية واليونانية سِوى بخطوة واحدة ، وسُرعان ما راحَ يُؤلِّف الشِّعر باللاتينية .

     كان مقر إقامته مليئًا بالكتب المبعثرة والمخطوطات والتعويذات غير الواضحة الواردة في كتب العِلم القديمة . وكان يؤمن بقدرة العلم على صياغة الكون والإنسان. ولَم يكن يهتم بالتاريخ، لأنه كان مُقتنعًا بما قاله فولتير وجيبون : إن التاريخ هو في الأساس سجل لجرائم البشر وغبائهم .

     كان شيلي شاعرًا ذا أعصاب حسَّاسة ، دافئ المشاعر ، مُستسلمًا للأفكار الغامضة التي لَم تتبلور بَعْد ، لكنه كان ينفر من التاريخ . وكان كباقي الشعراء ، يُركِّز على الحرية الفردية ، ويَشُك في القيود الاجتماعية. وقد ذكر" هوج" أن الليالي في غرفة شيلي كانت رائعة ، عندما كانا يَقرآن الشعر والفلسفة مَعًا ، ويدحضان القوانين والعقائد ، ويظلان يتبادلان الأفكار حتى الساعة الثانية صباحًا ، ويتَّفقان _ قبل كل شيء _ على مسألة أساسية هي " أن الله لا وجود له " .

     وقد أعَدَّ المتمردان الشابان كتابًا عن هذا الموضوع بعنوان " ضرورة الإلحاد"، لِتَحَدِّي كُل ما هو مُحرَّم في المجتمع، ولجذب الانتباه. مع العِلم أن مصطلح " الإلحاد " كان مَمنوع الاستخدام في المجتمع في تلك الفترة .

     يُعتبَر شيلي واحدًا من أفضل الشعراء الغنائيين باللغة الإنجليزية . وكانت حياته غير العادية وتفاؤله العنيد وصوته القوي المعترِض ، عواملَ ساهمت في جعله شخصية مُؤثِّرة، وعرَّضته للتشويه خلال حياته وبعد مَماته . وقد أصبح أيقونةً للجيلَيْن الشعريين الذين تلياه .

     يُعرَف شيلي بقصائده القصيرة : أوزيماندياس . أغنية للريح الغربية . إلى قُبُّرة . ومعَ ذلك ، فإن أعماله الهامة تتضمن قصائده الرُّؤيوية الطويلة : ألاستور ( أو رُوح العُزلة ) . ثورة الإسلام. أدوناي . بروميثيوس طليقًا . وعمله غَير المنتهي " انتصار الحياة " .

     أُعجِب به كارل ماركس وبرتراند راسل . كما اشْتُهِر بصحبته لكل من جون كيتس ولورد بايرون . وكانت الروائية ماري شيلي زوجته الثانية .

     كان شيلي يُعاني من الاضطراب والقلق إلى حد كبير ، وكان أقرب ما يكون إلى الاستثارة ، وكانت قدرته على التحمل دَوْمًا يتَّسع مداها، حتى يكون لطيفًا مع الآخرين مُتَذَرِّعًا بالصبر. وَظَنَّ أن بمقدوره تخفيف آلامه بتناول وجبات نباتية ، وتمسَّكَ بهذا الأمل .

     تُوُفِّيَ شيلي في 8 يوليو في عام 1822، قبل شهر من عيد ميلاده الثلاثين، حيث عُثِر على مركب الشاعر أثناء عاصفة في خليج سبيتسيا الإيطالي، وكان كُل من شيلي وصديقه وفتى المركب البالغ مِن العمر 18 عامًا قد ماتوا غَرَقًا .

     غُسِل جسم شيلي على الشاطئ بعد أسابيع لاحقة ، وحُرقت جثته على الشاطئ بحضور مجموعة من أصدقائه من بينهم الشاعر اللورد بايرون .

     وقد حَدَثَ أمرٌ غريبٌ يُطابِق واحدةً مِن قصائده ، حيث إن قلب شيلي أبى الاحتراق أثناء مراسم حرق الجثة . ويُحتمَل أنه عانى مِن مرض ما أدى إلى تكلُّس قلبه .

     وقام أحد الأصدقاء الذين حضروا مراسم الحرق بانتشال القلب مِن ألسنة اللهب ، وأعطاه لزوجة شيلي، ماري شيلي ، مؤلفة رواية فرانكشتاين . ويُقال إنها أبقت على رماده في مكتبها .

25‏/02‏/2021

بيثنتي أليكساندري والمراحل الشعرية

 

بيثنتي أليكساندري والمراحل الشعرية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............


     وُلد الشاعر الإسباني بيثنتي أليكساندري ( 1898_ 1984) في إشبيلية ، وتُوُفِّيَ في مدريد.ينتمي إلى جيل 27 ، وهو الاسم الذي يُعرَف به شعراء الأدب الإسباني في القرن العشرين. وهذا الجيل ظهر على ساحة المشهد الثقافي عام 1927 في المجمع الأدبي في إشبيلية .

     التحقَ بالأكاديمية الملكية الإسبانية عام 1950.وحازَ على الجائزة الدولية للأدب عام 1933 لكتابه " الدمار أو الحب " ، وجائزة في النقد عام 1963، وجائزة نوبل للآداب عام 1977 .

     هو ابن لأحد العائلات ذات الأصل البرجوازي في إسبانيا . كان والده مهندسًا في السكة الحديدية . عاشَ طفولته في مالقة ، حيث درس مع الكاتب إميليو برادوس .

     انتقلَ إلى مدريد ، حيث حضر دراسات في كلية الحقوق وكلية التجارة . وتخرَّجَ في كلية الحقوق عام 1919 ، وحصل على لقب رئيس بلدية التجاريين . وعمل كأستاذ للقانون التجاري  ( 1920_ 1922) في كلية التجارة .

     بدأت صحته في التدهور عام 1922 . وفي عام 1925 عَرَفَ أنَّه مريض بالتهاب الكُلى السُّلِّي، وقد خضع لعملية إزالة إحدى كُليتيه عام 1932.

     نشر أشعاره الأُولَى عام1926،كما كان على اتصال برفائيل ألبرتي وفيديريكو غارثيا لوركا. وأخفى طيلة حياته ميوله الجنسية المثلية . وفي الثلاثينيات، تعرَّفَ على أندريس أثيرو، وخاضا قصة حُب شديدة ، ولكنها انتهت بنفي أندريس إلى المكسيك بعد الحرب الأهلية . وكان أليكساندري قادرًا على التحكم بحالته الجنسية المثلية ، حتى لا يُؤذيَ عائلته ، وخاصَّة أُخته .

     لَم يتم نفيُه بعد الحرب الأهلية الإسبانية (1936_ 1938) على الرغم من أفكاره اليسارية، بَل ظَلَّ في إسبانيا ، حتى أصبح أكبرَ الشعراء الشباب .

     يَعرض شِعْرُه عِدَّة مراحل : مرحلة النقاء ، والسريالية ، ومحورية الإنسان ، والمرحلة القديمة .

     1_ مرحلة النقاء : نُشِرَ كتابه الأول " أمبيتو " في مالقة 1928، والذي تَمَّ تجميعه في الفترة ( 1924_ 1927) . ويُعَدُّ الكتاب عملاً أوليًّا لكاتب مُبتدِئ لَم يَشتهر بَعْد . سيطرَ على هذه المرحلة طابع الأبيات القصيرة ذات السَّجْع وجماليات الشِّعر النقي . بالإضافة إلى أصداء الشعر الكلاسيكي الإسباني في فترة العصر الذهبي .

     2_ السريالية : في الفترة ( 1928_ 1932) حدث تغيير كُلِّي في تصوُّره للشِّعر ، مُستلهِمًا مِمَّن سبقوه في السريالية . وتُعتبَر قصيدته " عاطفة الأرض " ( 1935) تعبيرًا للشِّعر النثري . ويَظهر الشِّعر الحر في ثلاث قصائد من قصائده ، وهي " سيوف كالشِّفاه " ( 1932) . " الدمار أو الحب " ( 1932) . ظِل الجنة ( 1944) . ونهجُ هذه الأشعار غير عقلاني . فقد اقتربَ التعبيرُ من الكتابة التلقائية ، مِمَّا أدَّى إلى عَدم قبولها في بعض الأوساط . فالشاعرُ يحتفل بالحب كقوة طبيعية ، بدون أيَّة سيطرة ، حيث تقضي على كُل الحدود الإنسانية . وينتقد الاتفاقيات التي يحاول المجتمع السيطرة عليها .

     3_ محورية الإنسان : تغيَّرت أعماله ، واقتربت من المخاوف السائدة في الشِّعر الاجتماعي، ويظهر تضامنه في مُعالجة حياة الرَّجل العادي ، ومُعاناته ، وأوهامه . وكل ذلك باستخدام أسلوب سهل وبسيط . ويُعتبَر كِتاباه : " تاريخ القلب " ( 1954) . و " في مجال العَظَمَة " ( 1962) ، مِن الكتب الأساسية في تلك الفترة .

     4_ المرحلة القديمة : استخدم الشاعر مَرَّةً أخرى أسلوبَه غير العقلاني ، وهذا يتَّضح في كُتبه الأخيرة ، مِثْل : " قصائد من الكمال " ( 1968) ، و " حوارات المعرفة " ( 1974) . وذلك لتجربته مع الشيخوخة ، واقترابه من الموت . حتى وإِن كان ذلك في شكل مُكرَّر للغاية وهادئ. وبالإضافة إلى هذين الكتابَيْن اللذين تَمَّ نشرهما خلال حياة الكاتب ، يُمكننا إضافة كتاب ثالث لهما ، وهو " في ليلة عظيمة " الذي نُشِرَ عام 1991بعد وفاته ، وهو على نفس النهج الميتافيزيقي للكتابَيْن السابق ذِكرهما .

     مِن أبرز مجموعاته الشعرية : سيوف كالشِّفاه ( 1932) . الدمار أو الحب ( 1935) . الميلاد الأخير ( 1953) . صوت الحرب ( 1971) .

24‏/02‏/2021

بول فيرلين والشعراء الملعونون

 

بول فيرلين والشعراء الملعونون

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...........


     وُلد الشاعر الفرنسي بول فيرلين ( 1844_ 1896) في متز. كان والده مهندسًا عسكريًّا. وبعد استقالته، انتقلت العائلة إلى باريس .

     درس في ثانوية بونابرت( الآن ثانوية كوندرسيه ) في باريس، ثم تولى وظيفة في الخدمة المدنية. بدأ كتابة الشِّعر في سن مبكرة ( 1858 ) . وفي عام 1862 ، دخل كلية الحقوق ، ولكنه ترك الدراسة بسبب المشكلات المادية للعائلة .

     حياة فيرلين الخاصة كانت ظاهرة في أعماله، ابتداءً من حُبِّه لماتيلد مات ، التي أصبحت زوجةً لفيرلين في عام 1870 ، في نفس العام الذي أُعْلِنَت فيه الجمهورية الثالثة .

     أصبح رئيسًا للمكتب الصحفي للجنة المركزية لباريس المحلية . هرب فيرلين من قتال الشارع المعروف باسم " الأسبوع الدامي "، واختبأ في باس دو كاليه . وعاد إلى باريس في آب 1871 .

     جمعته مع الشاعر رامبو علاقة ، يقول عنها البعض إنها علاقة آثمة ومشبوهة بينهما . وقد ضاقَ فيرلين ذرعًا بتصرفات رامبو وحياته التي كانت تُعوِّل على فيرلين طوال الوقت ، وتأزَّمت العلاقة كثيرًا بينهما ، لتنتهيَ بإطلاق فيرلين وهو في حالة سُكر رصاصتين من مسدسه على رامبو في يوليو 1873 ، لِيُصاب في كتفه ، وتنتهيَ العلاقة التي جمعتهما . اعْتُقِل فيرلين وسُجِن في مونس، حيث اعتنق الكاثوليكية الرومانية ، والتي بالتالي أثَّرت على عمله بشكل كبير وواضح .

     كتب فيرلين مجموعة من القصائد الرومانسية في الفترة ( 1872_ 1873 ) مُستوحاة من حنين فيرلين الملوَّن بالذكريات إلى حياته مع زوجته . كما صوَّر الفترة من حياته التي عاشها مع رامبو ومغامراتهما الطويلة . سافر فيرلين إلى إنجلترا ، حيث عمل لعدة سنوات كمُدرِّس ، كما أنه نشر مجموعة شعرية أخرى ناجحة تُدعَى " الحكمة " .

     عاد إلى فرنسا في عام 1877 . وبينما كان يُدرِّس اللغة الإنجليزية في المدرسة في راثل، أصبح مفتونًا بأحد تلاميذه يُدعَى لوسيان لتنويز ، الذي ألهم فيرلين لكتابة المزيد من القصائد .

     في عام 1884 ، نشر مجموعته الشعرية " ذات مَرَّة" وكتاب المقالات النقدية الأدبية" شعراء ملعونون " ، الذي تضمَّن مقالات عن ستة شعراء ، مِنهم رامبو ومالارميه وفيرلين نفسه .

     شهدت السنوات الأخيرة لفيرلين انزلاقه إلى الإدمان على المخدِّرات،والإدمان على الكحول، وعانى من الفقر والحاجة .

     وكان يعيش في الأحياء الفقيرة والمستشفيات العامة ، وقضى أيامه في مقاهي باريس . ولحسن الحظ، فإن حب الشعب الفرنسي للفن كان قادرًا على تقديم دعم مادي لفيرلين ، ومساعدته على كافة الأصعدة .

     تَمَّ الكشف عن الشِّعر المكتوب في أول حياته ، وعن أسلوب الحياة والسلوك الغريب الذي سلكه أمام الناس مِمَّا استقطب إعجابهم ، وانتُخِب في عام 1894 " أمير شعراء " فرنسا مِن قِبَل أقرانه وزُملائه الشعراء .

     كان شعره محط إعجاب ، وكان يُعتبَر كحدث مهم ، بوصفه مصدرًا للإلهام لملحِّنين مِثل غابرييل فاوري ، الذي لَحَّنَ العديد من قصائده .

     تُوُفِّيَ فيرلين في باريس بسبب نزيف في الرئتين ، ودُفِن في مقبرة باتنجولس .

23‏/02‏/2021

بول فون هايس وخيانة أستاذه

 

بول فون هايس وخيانة أستاذه

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...........

     وُلِدَ الكاتب الألماني بول فون هايس ( 1830 _ 1914) في برلين ، وكان والده أستاذًا مُشاركًا في فقه اللغة الكلاسيكية واللغويات العامة . وكانت عائلته مُثقَّفة وغَنِيَّة . وهذه المناخ المنْزلي أدخلَ هايس في قلب المجتمع المثقَّف الذي يهتم بالأدب والموسيقى والفن .

     خاض هايس مجالاتٍ أدبية متعددة ، ولَم يحصر نفْسه ضمن مجال واحد . فله إسهامات متعددة في الشِّعر والمسرح والترجمة . فقد درس اللغات،وترجم أعمال عدد من الشعراء الإيطاليين.وحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1910. ليكون بذلك أول كاتب ألماني يحصل على هذه الجائزة العالمية عن أعماله الأدبية الخيالية ، وثالث ألماني يحصل عليها بعد المؤرِّخ وعالِم الآثار تيودور مُومسِن ، والفيلسوف رودلف أوكن .

     كان هايس طالبًا نموذجيًّا ، وقد بدأ محاولاتِه الشعرية وهو في المدرسة الثانوية ، وشاركَ في إنشاء النوادي الأدبية التي تهدف إلى تبنِّي المواهب الشابة في الأدب عمومًا ، والشِّعر خصوصًا . وقد استغل مكانة عائلته الاجتماعية والفكرية في الوصول إلى الصالونات الفنية في برلين .

     في عام 1847 ، بدأ هايس دراسة فقه اللغة الكلاسيكية في برلين . وبعدها بسنة ، نشر أوَّل قصيدة شِعرية يُعبِّر فيها عن حماسه للثورات الأوروبية ، أو ما سُمِّيَ بربيع الشعوب . وهي سلسلة من الاضطرابات السياسية، حدثت في عام 1848 في جميع أنحاء القارة الأوروبية ، مدفوعةً بالثورة الفرنسية ( 1848 ) . وقد أطلقَ البعض اسم " ربيع الشعوب " على ثورات العالَم العربي        ( 2011 ) مُتأثِّرين بما حدث في أوروبا .

     وبعد عامين من الدراسة في برلين ، التحق بجامعة بون لدراسة تاريخ الفن ، والتعمق في الدراسات الرومانسية . وتُعتبَر جامعة بون من أبرز الجامعات الألمانية . ومن أشهر خِرِّيجيها : الأمير ألبرت ( زوج الملكة فكتوريا ) ، والبابا بندكت السادس عشر ، والقيصر فريدرش الثالث ، والفيلسوف كارل ماركس ، والفيلسوف نيتشه .

     وفي عام 1850 ، قرَّر بشكل نهائي أن يكون شاعرًا، ورسم حياته وفق هذه الأساس. وأعدَّ أطروحةً علمية في فقه اللغة . وبسبب علاقة غرامية مع زوجة أحد أساتذته ، اضْطُرَّ للعودة إلى برلين في عيد الفِصْح . لقد غرق في خيانة أحد أساتذته مع زوجته ، واعتبر هذه العلاقة العاطفية جزءًا لا يَتجزَّأ مِن حياته الشخصية ، ومسيرته الأدبية .

     قام مشروع هايس الشِّعري على الأغنية . فقد اعتبرَ الأغنيةَ الشِّعرية أفضل وسيلة لتمرير الأفكار ، والوصول إلى الجماهير .

     وفي عام 1851 ، بدأ حياته كمترجم ، وقد أقام علاقات متعددة مع وسطاء في الأدب الإيطالي من أجل ترجمته . وبعد سنة ، حصل على الدكتوراة في شِعر الشعراء المتجوِّلين ، بعد منحة دراسية من الدولة البروسية ( الألمانية ) . كما أنه زار إيطاليا لدراسة المخطوطات القديمة في الفاتيكان .

     لَم يَكتفِ هايس بكتابة الشِّعر والترجمة ، بل أيضًا راح يكتب القصص . وقد اعترفَ في سيرته الذاتية أنه يكتب القصص بعد تخطيط دقيق للتخلص من عبء العمل اليومي ، ثم يقوم بتصحيح الأخطاء الكتابية ، ثم يستبدل بعض الكلمات بأخرى مُلائمة ومُناسِبة . وهو يهدف إلى تجنب الوصف السطحي ، والتخلص من التَّطويل الممِل . وفي قصصه تظهر مفاهيم غير سياسية ، تتعلق بمثالية الفن ، والرحلة إلى السعادة ، والحساسية الروحية ، والمثالية المعنوية .

     وفي عام 1910 ، عَيَّنت مدينة ميونخ هايس مواطنًا فخريًّا بمناسبة عيد ميلاده الثمانين ، وأيضًا منحه أحد الأمراء لقب شخصية من طبقة النبلاء ، وفي نهاية ذلك العام فاز بجائزة نوبل للآداب عن أعماله الأدبية ذات النَّزعة الخيالية . وقد تُوُفِّيَ في عام 1914 ، قبل عِدَّة أشهر من اندلاع الحرب العالمية الأولى ( 1914_ 1918) .

     كان هايس من أصول يهودية. وهذا الأمر جعله منبوذًا ومرفوضًا مِن قِبَل الكثيرين ، خصوصًا أن عقود ما بعد الحرب العالمية الأولى ، قد كَوَّنت بيئةً مليئة بمشاعر الانتقام والحقد والكراهية والتمييز العنصري .

     مِن أبرز أعماله الأدبية : قصص قصيرة ( 1855 ) ، كتاب الأغاني ( 1860 ) ، مأساة هادريان ( 1865) ، كلمات لا تُنسَى ( 1883) ، ذكريات الشباب واعترافات / سيرة ذاتية ( 1900) .

22‏/02‏/2021

بول فاليري ونشوء الوعي

 

بول فاليري ونشوء الوعي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............

     وُلد الكاتب الفرنسي بول فاليري ( 1871 _ 1945) في سيت المطلَّة على البحر المتوسط جنوبي فرنسا . وتُوُفِّيَ في باريس .

     كان والده من جزيرة كورسيكا مُوظفًا في الجمارك،ووالدته إيطالية من أسرة نبيلة. بدأ فاليري دراسته لدى الرهبان الدومنيكان ، وتابع في معهد في مدينة سيت. رفض الانتساب إلى المدرسة البحرية عام 1884 ، فقد كان مولعًا بالأدب والرسم والهندسة المعمارية . وبدأ بعد حصوله على الثانوية دراسة الحقوق عام 1888 في مونبلييه ، وحصل على الإجازة عام 1892 .

     اهتمَّ فاليري بالشعراء الرمزيين أمثال: مالارميه، وفيرلين . وكتب نحو مئة قصيدة عام 1889 متأثرًا بالشِّعر الرمزي .

     شهد عام 1892 انعطافًا في حياة فاليري . فعندما كان يُمضي إجازته عند أسرة والدته في جنوا ، بعد خروجه من أزمة عاطفية، أدرك في ليلة عاصفة، كان فيها ضحية الأرق، مخاطر الحياة العاطفية وتأثيرها في النشاط الفكري ، فقرَّر كبت عاطفته وإخماد قريحته الأدبية ، وحُبه للفن والإبداع، وتخلَّصَ من معظم كُتبه عند عَودته إلى مونبلييه. ثم فكَّر فاليري في عمل إداري ، فاستقر في باريس عام 1894 ، ليشغل وظيفة مُحرِّر في وزارة الحرب، وتركها عام 1900 ، ليصبح أمين سر مدير وكالة الأنباء" هافاس" إدوارد لُبي الذي كان مُقْعَدًا . وبقي فاليري مساعدًا له اثنين وعشرين عامًا أكسبته خبرة في الأوساط الباريسية وجعلته يواكب الأحداث. واستطاع في وقت فراغه إجراء بعض البحوث ونشر بعض المقالات وإن كانت بعيدة عن الأدب منها: " مدخل إلى منهجية ليوناردو دافنشي"(1895).وقد كان دافنشي مثاله الأعلى لأنه جمع بين العلم والفن رغبة في الوصول إلى الكمال ، ومقالة عن الغزو الألماني عام 1897 ، مُشيرًا إلى الغزو الاقتصادي.

     بقي فاليري على اتصال مع الوسط الأدبي والفني، فزواجه من جاني غوبيار القريبة إلى أسرة الرَّسام الشهير مانيه ، ربطه بصلات وثيقة مع المشاهير من الوسط الفني . وبفضل الكاتب أندريه جيد والناشر غاليمار ومساعيهما الحثيثة في إقناع فاليري بنشر الأبيات التي نظمها وهو شاب ، شهد عام 1917 صدور ديوانه الشِّعري "بارك الشابة " الذي أكسبه شهرة، وتناول فيه موضوع الوعي وتطوُّره . وكلمة " بارك " المشتقة من كلمة باركا اللاتينية كانت تُطلَق عند القدامى على آلهة تُمثِّل مراحل الحياة البشرية . وقد اختار فاليري مرحلة الشباب أي أصغرها ، للدلالة على مرحلة نشوء الوعي عند الإنسان. وكي لا ينزلق الشاعر إلى الشعر الفلسفي المجرَّد ، اختار رمزًا تصبح به بارك سيدة شابة جريحة الهوى رضخت لقوة الطبيعة وجاذبيتها . وبدأ فاليري يتألق مستجيبًا لذوق العصر ، وفُتِحت له أبواب المنتديات الأدبية الكبيرة في العاصمة، وازداد شهرة بصدور أبياته تحت عنوان " المقبرة الملاحية " في المجلة الفرنسية الجديدة عام 1920 . وهي المقبرة المطلَّة على البحر في مسقط رأسه .

     يُعتبَر فاليري مِن كبار الشعراء المعاصرين مع صدور ديوانه " مفاتن " عام 1922 الذي ضمَّ إحدى وعشرين قصيدة ، وصف فيها مأساة الفكر البشري في مساره ، وما يلقاه من آمال وأهواء وإغراءات وآلام ، إضافة إلى المراحل التي يقطعها وصولاً إلى المعرفة .

     عند وفاة مدير وكالة الأنباء ، قرَّر فاليري التفرُّغ للأدب. وتلقى دعوات من أنحاء العالم لإلقاء محاضرات وكتابة مقالات جَمعها كلها في سلسلة " ألوان أدبية " في الفترة ( 1924_1944 )، وكذلك في سلسلة " تِلْ كِل ، ونظرات على العالَم الحاضر " عام 1931 . وحَظِيَ بالتكريم وبانتخابه في الأكاديمية الفرنسية عام 1925 ، وبتسميته عضوًا في مجالس رسمية مختلفة .

     عمل فاليري بنشاط طيلة خمسين عامًا ، وكانت الكتابة لديه وسيلة تساعده على التقدم في معرفة الذات ، ومِن ثَمَّ معرفة آلية التفكير البشري بعيدًا عن أي تأثير خارجي .

     وكان يريد أن يكون شاعر المعرفة ، وهذا ما بحث عنه في أولى مقالاته " أُمسية مع السيد تِست " عام 1896 . وقد رأى فاليري في هذه الشخصية فكرًا نَيِّرًا كامل الوضوح ذا بصيرة نافذة، يرى الأشياء كما هي ، ويحاول اكتشاف شريعتها واضعًا نصب عينيه السؤالين التاليين : مَن أنت ؟ ، وكيف تعرف نفسك ؟ .

     أرادَ فاليري أن يقول عبر مؤلفاته أن ما يُبعِد العقلَ والفكرَ عن الفهم والوعي والإدراك ، يكمن في المشاعر الكاذبة والأهواء ، فكل هيجان أو اضطراب عاطفي يفقد طاقة هائلة ، كما يرافقه تشويش كبير في الفكر واختلاط في القيم .

     وإذا أراد فاليري كبح عاطفته ليكون سيِّد فكره، فليس بهدف التحكم به، لأن القوة _ كما يقول _يمكن أن تكون خادعة أيضًا ، ولكن بهدف إيجاد سلوك مساعد للفكر لا استبداد فيه ، ولا تكاسل. سلوك نيِّر يُولِي اهتمامًا للذات وللأشياء ، يعتصم بالصبر ، ويلتزم القيود التي يفرضها على صاحبه .

21‏/02‏/2021

بول ريكور والنزعة الفلسفية الإنسانية

 

بول ريكور والنزعة الفلسفية الإنسانية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...............

     وُلد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور ( 1913 _ 2005 ) في مدينة فالنس الفرنسية ، لعائلة بروتستانتية محافظة . تُوُفِّيت أُمُّه بعد ولادته بستة أشهر . وقُتل والده عام 1915 على جبهة القتال في الحرب العالمية الأولى . وشكَّل هذا الحادث الأليم بالنسبة إليه تأسيسًا هاجسيًّا لمسألة مُقلقة ومُزعجة حول إشكالية الشر ، والخطيئة والمعاناة ، وهذا ما جعله يتبنى الشيوعية وهو شاب مراهق. وهو ما سيدفع به إلى معالجة مشكلة العدالة والذاكرة ، ومسألة الأيديولوجيا والعنف .

     بعد هذا اليُتم المزدوَج، تولَّى جَدَّاه وعَمُّته تربيته في بيت عُرف بالصرامة والانضباط السلوكي، إلا أنه لَم يكن يخلو من الحب والحنان ، كما وصفه ريكور نفْسه .

     أنهى دراسته الثانوية في رين ، ثم دخل جامعتها ، وحصل منها على شهادة الماجستير . جُنِّد في عام 1939 للحرب العالمية الثانية في مواجهة ألمانيا ، وسُجن إلى غاية عام 1945 . وينضاف إلى سلسلة المآسي السابقة فاجعة وفاة أخته في ريعان شبابها ، وانتحار ابنه .

     في السجن استثمر وقته في قراءة الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز ، فكانت بداية مسار التعرُّف على الذات . وترجم كتاب هوسِّرل " أفكار " ، ويُعتبَر هذا مثالاً نادرًا عن الصداقة مع لغة العدو من خلال ضحيته. وهذا يعني ترسُّخ مبدأ التعرُّف على الذات من خلال الآخر لدى ريكور . وهو مثال أيضًا عن الفيلسوف الذي يستمع لفيلسوف آخر،ويُصغي إليه في لُغته.حيث إن اهتمامه بالآخر يُغذِّي إبداعه للذات ، وفق قاعدة تقول إنه " لا توجد طريقة للخروج من الذات إلا بالتغرُّب في الغَير " . بعد إطلاق سراحه ، شاركَ مع بعض الفلاسفة الفرنسيين في التعريف بالفينومينولوجيا الألمانية، واستثمرها في سنوات الستينيات في حواره مع العلوم الإنسانية ، وعلى الخصوص مع التحليل النفسي ، غير أن هيمنة البنيوية وأفكار سارتر ولاكان ، حالت دون انتشار أفكاره في فرنسا . اختار ريكور منفاه الفلسفي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انتقل إلى جامعة شيكاغو ، وبقي فيها حتى عام 1990 . تعرَّف عن قُرب على الفلسفة الأنجلوسكسونية ، وساهم في نشر الفلسفة التحليلية الأمريكية بفرنسا ، التي ساعدته على فتح خطابه الفلسفي ومشروعه في تشييد الذات على الفعل ، وربطه بالفكر داخل دائرة تأويل واحدة . وقد ظهرت لدى ريكور ملامح مشروع إمكانية التفكير والفعل بواسطة الذات نفسها ، كما يُوضِّحه عنوان كتابه " الذات عَيْنها كآخر " ( 1990 ) . وهذا المشروع ليس إلا جُزءًا من حياته ومسيرته في البحث عن ذات الفلسفة من خلال ذاته . ولهذا اعتبر ريكور أن الأنا أو الذات تثبت في أفعالها . بعد أن نُفِيَ ريكور عن المشهد الثقافي الفرنسي، عاد إلى فرنسا ، وتَمَّت إعادة اكتشافه من جديد ، ولكن في خضم الصراعات الفكرية والأيديولوجية العنيفة في فرنسا .

     فضَّل ريكور الإصغاء والانتباه للخصوم ، مُحترمًا حُججهم ، ولَم يكن يهتم بشروط إمكان الفلسفة ، ولا بالبحث عن ميدان يكون في النهاية مجال عَظَمة وسيادة ، بل اهتمَّ بالمضامين الفلسفية التي تعمل بطريقة مستترة في الخطابات العلمية ، ذلك أن الفلسفة لا تستغني عن الحوار مع العلوم . ويُذكِّرنا ريكور بأن الفلسفة تموت إذا قطعنا حوارها مع العلوم الدقيقة ، والعلوم الطبيعية ، والعلوم الإنسانية .

     ساهمَ ريكور في إثراء السجالات والحوارات التي يقوم بها الخطاب الفلسفي مع العلوم الأخرى، وهذا بفضل قدرة فائقة على القراءة ، حتى سمَّاه أحد الباحثين الفرنسيين " غول القراءة"، وهو ما أفضى إلى تملكه النص ، وقُدرته على التواصل مع مُحاوريه عبر النصوص ، بطريقة تسمح بالخروج بنتائج عملية ، كما هو حال دلالة عنوان أحد مؤلفاته"من النص إلى الفِعل".

     يرى ريكور أن " الفيلسوف بوصفه مفكرًا مسؤولاً ، يجب أن يسلك طريقًا وسطًا بين الإلحاد والإيمان ، لأنه لا يُمكنه أن يكتفيَ بمزاوجة هرمينوطيقا تُطيح بأصنام الآلهة الميتة ، وهرمينوطيقا موضوعية هي تكرار لموت الإله الأخلاقي وإعادة تجميع الأنبياء والمجتمع المسيحي الأول . إن مسؤولية الفيلسوف هي التفكير ".

     وبهذا فإن الهرمينوطيقا الإنجيلية كانت أقل حضورًا في أعماله من الهرمينوطيقا الفلسفية ، وإن تضمَّنت نصوصه حوارًا مع ما يُسمِّيه ريكور " بالفكر الإنجيلي " . أي الفكر الذي يشتغل على تفسير النصوص الإنجيلية وتأويلها .

     لقد تركت الأحداث المؤلمة في حياة ريكور أثرًا عميقًا في نفْسه، وانعكست فيما بعد على مشروعه الفلسفي المشبع بالنَّزعة الإنسانية ، والساعي إلى إعادة الإنسان في كَوْنيته إلى إنسانيته .

     مِن أبرز مؤلفاته: فلسفة الإرادة ( 1950 ). التاريخ والحقيقة ( 1955 ) . صراع التأويلات ( 1969 ). الاستعارة الحية ( 1975 ) . الذاكرة والتاريخ والنسيان ( 2000 ) .

20‏/02‏/2021

الأنساق والمعنى والمجتمع الجديد

 

الأنساق والمعنى والمجتمع الجديد

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..........

     الغايةُ مِن تحليل الأنساق الاجتماعية هي تفسير مصادر المعرفة ، التي تكتشف تاريخَ الوَعْي الإنساني ، وتُحِيله إلى علاقات وجودية منطقية قائمة على منظومة التَّأسيس والتَّوليد ، تأسيس قواعد المنهج الاجتماعي ، وتوليد أنساق إبداعية تُوازن بين الشكل والمضمون . والأنساقُ الاجتماعية لَيست كُتلةً جامدةً ، أو وِعاءً فلسفيًّا لتجميع الأحداث التاريخية، وإنما هي حَيَوَات مُتكاثرة ومُكثَّفة في بُؤرة إنسانية مركزية شديدة العُمق . وهذه البُؤرة كَبِئر الماء ، إذا أردنا معرفةَ عُمقها ، ينبغي أن نُلقيَ حجرًا فيها ، وننتظر ارتطامه بالماء ، والوقتُ الذي يستغرقه الحَجَرُ في الوصول إلى القاع ، يُظهِر عُمْقَ البِئر . ومركزيةُ الحَجَر في بِئر الماء ، تُشبِه مركزية المعنى الاجتماعي في البؤرة الإنسانية .

2

     التشابك في الأنساق يُؤَدِّي إلى التَّعقيد في المعنى ، ومُهمةُ الوَعْي الإنساني أن يُكثِّف المعنى اجتماعيًّا ، ويَمنعه مِن التَّشَظِّي ، ويُحوِّله إلى كيان رمزي تفاعلي ومُتماسك ، يَحتضنه الناسُ ، ويُشاركون في تفسير مَاهِيَّتِه ، وتأويل أبعاده ، وتطبيقه على أرض الواقع . وإذا انتقلَ المعنى من الغُموض إلى الوُضوح ، ومِن سُطور الكُتب إلى صُدور الناس ، ومِن الهُلامية إلى الواقعية ، اتَّضحت الأنساقُ التي تتحكَّم بسُلوك الناس ، وزالَ التعقيد في معنى حياتهم ، وبالتالي تُصبح الأنساق طريقًا للخَلاص الاجتماعي ، ويُصبح المعنى رحلةً إلى قلب الحقيقة .

3

     بَين الأنساق الاجتماعية والمَعنى الاجتماعي ، يُولَد مجتمع جديد لا يَقِف على الحِياد ، ولا يتفرَّج على الأحداث ، وإنما يَخوض في مفاهيم إنتاج المعرفة ، ويُشارك في صناعة الأحداث ، والتحكُّم بمسارها . والمجتمعُ الجديد لا يعني تغيير الأشخاص أو تبديل الشعارات ، والإنسانُ الجديد لا يعني تغيير الملابس ، أو تسريحة الشَّعْر . إنَّ " الجديد " لا يتحقَّق إلا بالتَّجديد ، وهذا يَستلزم بالضَّرورة مُساءلة الأفكار الذهنية ، واختبار القرارات الواقعية ، وتحليل الأحداث الاجتماعية . وإذا اعتادَ الفردُ على طرح الأسئلة أمام المواقف الحياتية المختلفة ( متى حدث هذا الموقف ؟ ، كيف حدث ؟ ، لماذا حدث ؟ ) ، وبحثَ عن إجابات منطقية مُتسلسلة زمنيًّا ومكانيًّا وفكريًّا ، فإنَّه سيجد نَفْسَه معَ مُرور الوقت فَيلسوفًا حقيقيًّا دُون أن يدرس الفلسفةَ . وإذا وَصَلَ إلى هذه المرحلة المُتقدِّمة صار سهلًا عليه دراسة كافَّة الاحتمالات ، وفحص المُسلَّمات ، وأخذ الدروس والعِبَر مِن التاريخ ، والاستفادة من تجارب الآخرين . وكُلَّما سيطرت الأسئلةُ على عقل الفرد المُتحرِّك في أنساق الفِعل الاجتماعي أفقيًّا وعموديًّا ، صارَ شديدًا على نَفْسِه ، مُتساهلًا مَعَ الناس . وسببُ الشِّدة على النَّفْس ، لأنَّ الفرد يَعلَم أخطاءه وخطاياه ونقاط ضَعْفه ، ويجب ألا يَرضى عن نَفْسه ، لأن الرِّضا عَن النَّفْس يَدفعها إلى الخُمول والغُرور ، والحياةُ الحقيقيةُ هي سَعْي دائم نحو الكمال ، والفِكرُ الإنساني في صَيرورة مُستمرة لا تهدأ ولا تتوقَّف . والتَّوَقُّف لا يَكون أثناء صُعود الجبل ، بَل يَكون عِند الوصول إلى القِمَّة . وهذا التَّوَقُّف مُؤقَّت ، يُشبِه استراحةَ المُحارب ، ثُمَّ تبدأ رحلةُ البحث عَن قِمَم جديدة ، وهذا يعني أن الحياة تجارب دائمة ، ومُغامرات مُتواصلة ، وأحلام مفتوحة على كُل الاحتمالات . أمَّا سبب التساهل معَ الناس ، فيعود إلى كَوْنهم مُختلفين في القُدرات والإمكانيات ، ويَخضعون لظُروف مُختلفة ، وضُغوط مُتعدِّدة ، فينبغي مُساعدتهم ، والأخذ بأيديهم إلى بَر الأمان . والعاقلُ يتكبَّر على نَفْسِه كَي يَقهرها ، ويتحكَّم برغباتها ، ويُعيدها مِن الطريق المسدود ، بحثًا عن طريق مفتوح . وفي نَفْس الوقت يتواضع للآخرين ، كَي يَكسب ثِقَتَهم ، ويُرشدهم إلى الطريق المفتوح ، ويَفتح لهم نوافذ الأمل بوجود غَد مُشرق . وعلى الفَرد أن يَزرع الأفكارَ الإبداعية في كُل حقول المعرفة ، ولا يسأل عن موعد الحصاد ، ولا هُوِيَّة الحاصد . ولَيس شرطًا أن يَكون الزارعُ هو الحاصدَ ، ولَيس شرطًا أن يكون واضعُ النظرية أفضلَ مَن يُطبِّقها.

19‏/02‏/2021

بول إيلوار والتحرر من التقاليد الشعرية

 

بول إيلوار والتحرر من التقاليد الشعرية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.....


     وُلد الشاعر الفرنسي بول إيلوار ( 1895 _ 1952) في بلدة سان دوني بالقُرب من باريس. اسمه الحقيقي : يوجين إميل بول جريندل . كان والده محاسبًا ، وكانت والدته خيَّاطة .

     أُصيب إيلوار في صباه بالسُّل مِمَّا حال بينه وبين مُتابعة دراسته النظامية، فاعتمد على المطالعة في تثقيف نفسه . خلال الحرب العالمية الأولى خدم إيلوار في مستشفى ميداني ، وأُصِيب بتسمم غازي . انحاز إلى الذين يرفضون القيم الزائفة في عالَم يتحكم فيه العنف بعد أن شاهد وَيْلات الحرب وعانى من آلامها، فغيَّر عنوان ديوانه الأول مِن "الواجب"( 1916) إلى " الواجب والقلق" ( 1917 ). ثُمَّ نشر غير آبه للرقابة ديوان "قصائد من أجل السِّلم " ( 1918).

     قرَّبته تجربة الحرب إلى الحركة الدادائية الثائرة على القيم الموروثة ، ثم إلى الحركة السريالية . والدادائيةُ هي حركة ثقافية انطلقت من زيورخ ( سويسرا ) أثناء الحرب العالمية الأولى، كنوع من معاداة الحرب ، بعيدًا عن المجال السياسي، وإنما من خلال محاربة الفن السائد . أمَّا السريالية فهي حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب ، تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق . وتعني حرفيًّا " فوق الواقع " .

      قام إيلوار برحلة طويلة إلى شرق آسيا ، وشارك بصورة فعَّالة عام 1930 في المؤتمر العالمي للكُتَّاب الثوريين الذي انعقد في مدينة خاركوف السوفييتية .

     انعكست المسائل الاجتماعية السياسية لتلك المرحلة ممزوجة بحياة الشاعر العاطفية المضطربة في دواوين عِدَّة ، مِثل : " الموت من عدم الموت " ( 1924) ، و " عاصمة الألم "  ( 1926 ) ، و " الحب ، الشِّعر " ( 1929 ) ، و " الحياة المباشرة " ( 1932 ) الذي تضمَّن موقفه النقدي من الحركة الشِّعرية ووظيفة الشعر الاجتماعية ، وكذلك في ديوان " الوردة العامة "  ( 1934) الذي ضَمَّ آخر أشعاره السريالية .

     ساعدت الدادائية والسريالية بتجاربهما إيلوار على تكوين لغته الخاصة ، المتحررة من التقاليد الشعرية السائدة ومن المعاني المتداولة. ومن أعماله المشتركة مع السرياليين كتاب"الْحَبَل بلا دَنَس" ( 1930 ) ، والذي تلا تجارب الكتابة التلقائية والاستماع إلى الأحلام .

     ألقى إيلوار بمناسبة معرض فني سريالي في لندن عام 1936 محاضرةً عن"البداهة الشعرية "، ركَّز فيها على بداهة ارتباط الشاعر بحياة الناس العامة وبحريتهم . 

     وبمناسبة انعقاد معرض باريس العالمي عام 1937 ألقى إيلوار محاضرة مهمة بعنوان " مستقبل الشِّعر " .

     انضمَّ إيلوار عام 1927 إلى الحزب الشيوعي ، منطلقًا من محاولة السرياليين التوفيق بين الشعر الطليعي وإرادة التغيير الثوري،ولكن صعوبة تقيده بتعليمات ونظام الحزب جعلته يبتعد عنه دون التوقف عن متابعة كفاحه في سبيل تحرير الشعوب. فقد ناهضَ حرب الريف الاستعمارية في المغرب ، ونظم قصيدته " تشرين الثاني/ أكتوبر " ( 1936 ) مُنَدِّدًا بالعنف، ودعم الجمهوريين الإسبان في قصيدته الشهيرة " نصر غيرنيكا " ( 1937 ) وقد متَّنت هذه المرحلة النضالية الروابط بين الشاعر والشعب .

     في الحرب العالمية الثانية ، انضم إيلوار إلى المقاومة الفرنسية السِّرية ضد الاحتلال النازي، وأسهم في ازدهاردار نشر نصف الليل " السِّرية . وقد صدر له في هذه المرحلة مجموعة " شِعر وحقيقة " ( 1942 ) التي اكتمل بها تطوره ، ثم مجموعة " إلى الملتقى الألماني" ( 1944) التي ضمَّت قصائده المنشورة تحت أسماء مستعارة .

     بعد تحرير فرنسا من الاحتلال ، تابع إيلوار كتابة مجموعة " قصائد سياسية " ( 1948 ) ،  و " درس أخلاقي " ( 1949 ) ، مُتَغَنِّيًا بمستقبل الإنسانية وبتغلب الفضيلة . وآخر دواوينه هو " طائر الفينيق " ( 1951 ) الذي انتقل في قصائده من موضوع الحب الفردي إلى الأفكار الاجتماعية والإنسانية . وقد تُوُفِّيَ الشاعر بسبب نزلة صدرية في باريس .

     يُعتبَر إيلوار واحدًا مِن مُؤسِّسي الحركة السريالية . وقد تمتَّعَ بشعبية واسعة لقُربه من الجماهير، ولإحساسه بشعورها . وقد جعلته موضوعات قصائده ولغتها أحد أهم شعراء فرنسا .