سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/01‏/2021

إيمري كيرتيش وصناعة الهولوكوست

 

إيمري كيرتيش وصناعة الهولوكوست

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........

    وُلد الروائي المجري إيمري كيرتيش ( 1929_ 2016) في بودابست لأسرة يهودية فقيرة. واعْتُقِل خلال الحرب العالمية الثانية عام 1944 ، وهو في الخامسة عشرة، وتَمَّ ترحيله إلى معسكر الإبادة النازي في أوشفيتز ( بولندا )، ثم إلى معسكر اعتقال في بوخنفالد في ألمانيا الشرقية،حيث حَرَّرت القوات الأمريكية المعتقلين الموجودين فيه عام 1945. ثم عاد إلى المجر،وعمل صحفيًّا ، لكنه خسر وظيفته عندما انتهجت الصحيفة خط الحزب الشيوعي .

     عكس كيرتيش في إبداعه تجربة "أوشفيتز" و"بوخنفالد". واستغل التجارب التي مَرَّ بها في هذين المعسكرَيْن كمادة ثرية في أعماله .

     وفي ظل الحكم الشيوعي في المجر مَرَّ الكاتب ببعض المعاناة الحادة ، وركَّز في رواياته ومقالاته _ التي طُبِعَت في مجلدات _ على الشيوعية الشمولية التي عايشها في وطنه . وتقوم كتاباته على ثلاثة أركان : المحرقة النازية ( وكان أحد الناجين مِنها ) ، والدكتاتورية ، والحرية الشخصية .

     حصل على جائزة نوبل للآداب عام 2002، وذلك" لنتاجه الذي يروي تجربة الفرد الهشة في مواجهة تعسُّف التاريخ الوحشي "، حَسَبَ بيان الأكاديمية السويدية .

     وقد فاز كيرتيش بجائزة نوبل عن مُجمَل أعماله التي قال عنها المحكِّمون إنها تُصَوِّر معسكرات الموت النازية على أنها حقيقة مُطْلقة عن مدى إذلال المستضعفين .

     وكان أول مجري يحصل على جائزة نوبل على الإطلاق ، بل إن وطنه بخل عليه بالتقدير وقتًا طويلاً . عاش كيرتيش فترات طويلة في برلين ، مُنذ عام 2000 ، ثم انتقل عام 2012إلى بودابست ، وكان آنذاك مُصابًا مُنذ عدة سنوات بمرض الشلل الرعاش ( الباركنسون ) ، وهو المرض الذي قَلَّصَ كثيرًا مِن إبداعه. وأخيرًا، حصل كيرتيش عام 2014 على وسام " ستيفان " ، وهو أعلى وسام مجري . حِين خرج من معتقل بوخنفالد نهاية الحرب بما يُشبِه الأعجوبة ، قَرَّرَ كيرتيش أن يَكتب ، لاعتقاده أن الكتابة قد تُخلِّصه من جحيم معسكر المعتقلات النازية التي انساق إليه مُرَاهِقًا . وكأن الكتابة مُعادِل آخَر للحياة . بدأ حياته في الصحافة ، لكنه سُرعان ما تخلى عنها ، بسبب هيمنة النظام الشمولي في المجر ( هنغاريا ) . بَيْدَ أن سَطوة الكلمة لازمته ، فوهبَ نفسه للأدب ، كاتبًا ، ومسرحيًّا ، ومُترجِمًا .

     تُعتبَر " كائن بلا مصير " ( 1973) هي روايته الأشهر على الإطلاق . كتبها بعد سنوات من التفكر والتأمل في تجربته وتجارب المحيطين بِه . تحوَّلت إلى فيلم مِن إنتاج ألماني _ مجري في العام 1998. تغوص الرواية في عالَم المعتقلات والعنف والهولوكوست على لسان فتى في الخامسة عشرة ، هو ليس إلا قرين الكاتب نفسه. واستقى كيرتيش عنوان روايته من إحساس داخلي عاشه خلال تلك المرحلة بأنه إنسان مُجرَّد من مصيره ، والأصح قَولاً من إنسانيته بالمعنى الأوسع .

     عُرف عن الكاتب عشقه لألبير كامو الذي يجد فيه صورة المفكِّر الشاب ، والمتمرِّد ، ومُمثِّل الرواية الفلسفية الحقيقية ، وأُعجِب بأعمال نيتشه التي اشتغل على ترجمتها .

     مِن أبرز أعماله : كائن بلا مصير ( 1973) . الراية الإنجليزية ( 1991). يوميات العبودية ( 1992). اللغة المنفية ( 2001) . التصفية ( 2003) .

     وصدرت محاضراته ومقالاته في شكل مجموعات " الهولوكوست كثقافة " ( 1993) .

30‏/01‏/2021

الموضوع الاجتماعي والذات الإنسانية

 

الموضوع الاجتماعي والذات الإنسانية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

............

     العلاقة المصيرية بين الموضوع الاجتماعي والذات الإنسانية هي الأساس العقلاني لتفسير أنماط السيطرة الفكرية في المجتمع . والموضوعُ الاجتماعي هو الحَيِّزُ المعرفي الموجود في الواقع ، والخاضعُ للأحاسيس اليومية والتجارب العملية . والذاتُ الإنسانية هي جَوهر الإنسان، وشخصيته الاعتبارية ، وهُويته الوجودية . وفي ظِل الحركة الاجتماعية المُستمرة أفقيًّا وعموديًّا في التاريخ والجُغرافيا ، يتكرَّس الموضوع كإطار خارجي، يحتوي على إفرازات العقل الجمعي، ويُحقِّق الاستقلاليةَ عن الإرادة والوَعْي ، ويُحقِّق التوازنَ بينهما . وفي ظِل الصراع المُستمر الذي يعيشه الإنسانُ داخل نَفْسه وخارجها ، تتكرَّس الذات كَنَوَاة مركزية تُعبِّر عن الشُّعور والتفكير،وتُترجم تعقيداتِ العَالَم الخارجي إلى أنساق اجتماعية يُدركها العقلُ،مِن أجل تفسيرها والاستفادة منها.

2

     إذا أدركَ العقلُ العلاقةَ بين الموضوع والذات في الحياة الاجتماعية جُملةً وتفصيلًا ، استطاعَ تفسير أنماط السَّيطرة الفكرية بكل تفاصيلها العلنية والسِّرية، لأنَّ الفكر لا يُوجد في العَدَم، ولا يَنتشر في الفراغ ، وهذا يعني أن الفكر موجود مَعَنا ، ويعيش فِينا، ويتدفَّق بَيننا ، وعلى تماس مُباشر معَ حياتنا، نتفاعل معه ، ويتفاعل معنا ، أي إنَّ الفكر كائن حَي له وجود حقيقي محسوس ، وليس أوهامًا ذهنية أو خيالات هُلامية . وكُل شيء مَوجود في دائرة الإحساس إمَّا أن يَكون جوهريًّا ( ثابتًا ) أوْ عَرَضِيًّا ( مُتغيِّرًا ) ، والفِكرُ الجوهري الثابت مَوجود في الذات ، والفِكر العَرَضي المُتغيِّر مَوجود في الموضوع ، ولا تُوجد منطقة وُسطى ، ولا حَل وسط ، لأن طبيعة الفِكر غير مُحايدة ، وتَرفض اللونَ الرمادي . ولا يُوجد فِكر _ سواءٌ كان ثابتًا أو مُتغيِّرًا _ يَحتوي على منطقة وُسطى أو حَل وسط ، فالمنطقة الوُسطى تُوجد في المواقف الاجتماعية ، والحَل الوسط يُوجد في التطبيقات العملية . والحَقُّ واحد لا يتعدَّد ، لكن زوايا الرؤية هي التي تتعدَّد . وكما أنَّه لا تُوجد منطقة وُسطى بين السلام والحرب، كذلك لا تُوجد منطقة وسُطى بين الحق والباطل ، وكما أنَّه لا تُوجد دولة فيها رئيسان ، كذلك لا يُوجد إنسان فيه قَلْبَان ، وهذا يدلُّ على أنَّ الفكر أُحَادي شديد المركزية والاستقطاب ، لكن الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية والضغوطات الاجتماعية هي التي تجعل الفِكرَ مُتَشَظِّيًا في الحياة المُعاشة ، ضِمن عملية تَمييع المواقف ، واللعب على الحِبَال ، والدُّخول في المُسَاوَمَات ، والخُضوع لسياسة الأمر الواقع ، والرُّضوخ أمام حقيقة أن القوي يَفرض شروطَه على الضعيف ، والاستسلام لثقافة المغلوب المُولَع بتقليد الغالب . وهذا يُفَسِّر وجود التناقض بين الفكر والسُّلوك ، وبين النظرية والتطبيق. كما يُفَسِّر قِيامَ الكثيرين بخطوات عملية لا يؤمنون بها ، واتِّخاذهم مواقف واقعية غَير مُقتنعين بها ، وتَرديد شعارات وهتافات لا يُصدِّقونها .

3

     لا يُمكن تحليل عناصر السَّيطرة الفكرية في المجتمع ، إلا بالسَّيطرة على العلاقة بين الموضوع والذات ، لأنهما يُمثِّلان الحاضنةَ الشرعية للفِكر، ولا يُوَاجِه الفِكْرَ إلا الفِكْر، والسِّلاح الوحيد لمُواجهة العقل هو العقل، خُصوصًا أن السَّيطرة الفكرية تكون مُتماهية مع القُوَّة الناعمة، لأنها تعتمد على الجاذبية والإقناع ، وهذا يدلُّ على أهمية الثقافة باعتبارها الأساس الشرعي للقُوَّة الناعمة . ويُمكن إيجاد علاقة منطقية بين هذه المصطلحات المُتعدِّدة وَفَق هذا الترتيب : إنَّ المَوضوع الاجتماعي يَكشف أبعادَ الذات الإنسانية ، ويُشير إلَيها ، ويَمنحها شرعية الوُجود ومَشروعية الإبداع ، وإذا وَجَدَت الذاتُ الإنسانية كِيانَها ، وأدركت ماهيةَ البيئة المُحيطة بها ، وعَرَفَت وظيفتها في الحياة ، واستوعبت دَوْرَها في الوجود ، سَعَتْ إلى امتلاك الثقافة اللازمة لكشف عناصر القُوَّة الناعمة المتغلغلة في تفاصيل المجتمع ، وهذا يُساهم في تحليل عناصر السيطرة الفكرية التي تَحْكُم العلاقاتِ الاجتماعية والإنسانية ، وتتحكَّم بمسارها ومصيرها . وإذا عُرِفَ خَط السَّير ، انكشفَ الهدف ، وصارَ الوُصول إلَيه سهلًا . والأملُ الوحيد للخُروج مِن النَّفَق هو رُؤية الضَّوء في آخره .

29‏/01‏/2021

إيمانويل ليفيناس وتفسير التوراة

 

إيمانويل ليفيناس وتفسير التوراة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........


    وُلد الفيلسوف الفرنسي اليهودي من أصل ليتواني إيمانويل ليفيناس ( 1906_ 1995) في كوفنو في جمهورية ليتوانيا. وقد نشأ في ظل ثقافة يهودية. وبسبب الاضطرابات التي شهدتها الحرب العالمية الأولى، انتقلت إسرته إلى خاركوف في أوكرانيا عام 1916 ، حيث مكث فيها خلال الثورة الروسية ( أكتوبر 1917 ) . وفي مدينة خاركوف تعرَّف إلى الأسئلة الميتافيزيقية الكُبرى عبر قراءته للأدب الروسي . وقد تعلم اللغة الروسية مُبَكِّرًا .

     في عام 1920 عاد إلى ليتوانيا، وأمضى فيها سنتين قبل مُغادرتها إلى فرنسا ، حيث بدأ تعليمه الجامعي . وقد بدأ دراساته الفلسفية في جامعة ستراسبورغ عام 1924 ، وبدأ صداقته مدى الحياة مع الفيلسوف الفرنسي موريس بالنشو .

     قرأ ليفيناس الأبحاث المنطقية للفيلسوف هوسِّرل التي فتحت له " آفاقًا فكرية جديدة " ، وَفْق تعبيره . ومِن شدة إعجابه بهذه الفلسفة، ذهب عام 1928 إلى فرايبورغ ليتابع محاضرات هوسِّرل بنفسه خلال عام كامل. توقفَ هوسِّرل في شتاء 1929 عن محاضراته مُكَرِّسًا وقته لتنظيم مؤلفاته، فحل محله هايدغر ، وكانت فرصة ليلتقيَه ليفيناس الذي كان قد قرأ " الكَينونة والزمان " بالألمانية.

     شجَّعه هايدغر على المشاركة في لقاءات دافوس الفلسفية المنتظمة ، التي جمعته مع بعض الفلاسفة . وظهر ليفيناس في هذه اللقاءات مُدَافِعًا عن هوسِّرل وهايدغر . ونشر حينها مقالة عن هوسِّرل . وأصبح ليفيناس في أوائل الثلاثينيات مِن أقوى المثقفين في الفلسفة الفرنسية ، مِمَّا لفت انتباه هوسِّرل وهايدغر عن طريق ترجمته كتاب هوسِّرل " التأملات الديكارتية " في عام 1931 .

     قدَّم أطروحة الدكتوراة عام 1930 تحت عنوان " نظرية الحدس في فينومينولوجيا هوسِّرل" ونالت الإعجاب الشديد . فُوجِئ ليفيناس عام 1933 بإعجاب هايدغر بهتلر . وفُوجِئ أيضًا بالطريقة التي تناولَ بها بالنشو اليهودَ في الصحافة الفرنسية ، مُتأثرًا بفكرة قومية مُعيَّنة عن فرنسا . ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية ، ندم ليفيناس على حماسته في وقت مبكر لهايدغر، بعد أن انضمَّ الأخير إلى النازيين .

     كتب ليفيناس خلال هذه المرحلة مقالات عديدة في المجلات اليهودية ، موضوعها الحالة الجديدة التي خلَّفتها الهتلرية ، واعتبرها " المحنة التي عانتها اليهودية " .

     حصل ليفيناس على الجنسية الفرنسية عام 1931 . وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية ، عمل مترجمًا عن اللغة الروسية . وبما أنه صار مواطنًا فرنسيًّا ، فقد التحقَ بالجيش الفرنسي ، وتَمَّ أسره خلال الغزو الألماني لفرنسا عام 1940 .

     قضى ليفيناس بقية الحرب العالمية الثانية أسير حرب في معسكر بالقُرب من هانوفر في ألمانيا . حيث مكث خمس سنوات هناك . وقد وُضِع في مكان خاص بالسجناء اليهود الذي حُرِموا من أي شكل من أشكال العبادة الدينية. وكانت الحياة في المخيَّم صعبة، ولكن وضعه كأسير حرب يَحميه من المحرقة .

     بعد الحرب العالمية الثانية ، عمل ليفيناس في مدرسة ثانوية يهودية خاصة في باريس ، وأحد المعاهد العُليا في باريس، وأصبح في نهاية المطاف مديرًا له . وقد نصحه أحد الباحثين بإنجاز دكتوراة دولة نشرها عام 1961 بعنوان " الكُلانية واللامُتناهي " ، لتفتح له الجامعات أبوابها ، وتمنحه الشهرة والمجد الفلسفي .

     درَّس عام 1961 في بواتييه ، وانتقل بعدها إلى مدينة نانتير ليبقى فيها ( 1968_ 1972). تابعَ بحذر انتفاضة الحركة الطلابية عام 1968 . وأصبح أستاذًا في جامعة السوربون خلال الفترة ( 1973_ 1976 ). وتقاعدَ عن التدريس عام 1979 .

     كتب ليفيناس عِدَّة تفاسير حول التوراة.وساهمَ في التعريف بفينومينولوجيا هوسِّرل في فرنسا.

     اتَّهمَ ليفيناس الفكر الغربي بِرُمَّته ، على أنه أولاً فكر كُلِّياني ، يقوم بإقصاء وتغييب فكرة اللاتناهي، وثانيًا على أنه فكر يهتم بمفهوم الحق ، ويُقصِي جانبًا مفهوم الخير .

     لذلك اقترح ليفيناس تأسيس فلسفة تُواصِل المشروع الميتافيزيقي الغربي القديم في سَعْيه نحو الحقيقة ، وتُؤسِّس لخير مشدود إلى الحق . ووضَّح ليفيناس أن حضور وجه الآخر ليس مدعاة ضرورة للصراع والعنف كما ذهبت إلى ذلك وجودية سارتر ، بِقَدْر ما هي علاقة قَبول . وفي هذا القبول بالآخر دون احتوائه في المنظومة المعرفية الشخصية ، تكمن إنسانية الإنسان .

     من أبرز مؤلفاته : إنسانية الإنسان الآخر ( 1972 ) . الأخلاق واللامُتناهي (  1982 ) . التعالي والمعقولية ( 1984 ) . بَيْنَنا ( 1991 ) .

28‏/01‏/2021

إيمانويل كانت ونقد العقل الخالص

 

إيمانويل كانت ونقد العقل الخالص

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...........


     وُلد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت ( 1724 _ 1804 ) في مدينة كونجسبرغ بألمانيا ( بروسيا آنذاك ) . كان والده يَعمل في صناعة سُروج الخيل ، وأُمُّه شديدة التدين .

     التحقَ بمعهد فريدريش التعليمي خلال الفترة ( 1732 _ 1740 ) ، ثم بجامعة كونجسبرغ عام 1740 حيث تخرَّجَ . لَم يُسافر في حياته كُلها قَط . عاش حياته كُلها دون أن يرى جبلاً أو بحرًا ، معَ أن بحر البلطيق كان على مسافة ساعة فقط من مدينته. ويعتقد البعض أن هذه الأوصاف والعادات ذات صلة بمرض التَّوَحُّد .

     كان كانت في شبابه طالبًا قويًّا في دراسته ، ضعيفًا في بُنيته . تربى في بيت أهله مُتديِّنون بشدة. وتربَّى تربيةً دينية متشددة ، وعلى التفاني والإخلاص في خدمة الدِّين، وعلى التواضع مع الناس . وقد نشأ على التفسير الحرفي "للكتاب المقدَّس". اضْطُر كانت إلى العمل مُربيًّا لبعض الأسر الثرية ، ثم صار مُدَرِّسًا غير رسمي بجامعة كونجسبرغ في مجال القانون الطبيعي والأخلاق واللاهوت الطبيعي، ثم بعد ذلك في علم الإنسان والجغرافيا الطبيعية .

     لَم يُفلِح في أن يكون أستاذًا رسميًّا لعدم اتصاله بأصحاب النُّفوذ السُّلطوي، لكنه سُرعان ما تولى كرسي المنطق والميتافيزيقا عام 1770 ، ثم صار عُضْوًا في الأكاديمية الملكية للعلوم ببرلين عام 1787 . وهكذا أصبح أستاذًا في جامعة كونجسبرغ ابتداء من عام 1770، فمديرًا للجامعة، فعميدًا للكلية خمس مرات .

     طرحت فلسفة كانت أربعة أسئلة أساسية وحاولت الإجابة عنها، وأول هذه الأسئلة هو: ما الذي أستطيع أن أعرفه ؟ . وهو سؤال المعرفة الذي لا ينفصل عند كانت عن بيان شروط إمكان المعرفة وبيان حدودها .

     فأمَّا شروط إمكان المعرفة ففيها ما هو قَبْلي مُسبق ، لا تتم المعرفة إلا بوجوده ، والقبلي منها هو : الإطاران (الزمان والمكان) ، والمقولات العقلية ، ومبادئ العقل البشري . كل هذه تسبق المعرفة لتجعلها مُمكنة .

     تتمثل الشروط البَعْدية في المعطيات التي تُزوِّد بها الإنسانَ حواسُّه (المعطيات الاختبارية). فعنده أن لا معرفة حِسية تكون خالصة (عكس النَّزعة الحسية)، ولا معرفة عقلية تكون بحتة (عكس النَّزعة العقلية ) ، وإنما المعرفة هي ما شاركَ في إنشائه الحِس والعقل معًا .

     أمَّا عن حدود المعرفة عند كانت ، فهي أن المعرفة البشرية تجد نفسها محدودة بِحَدَّيْن: داخلي وخارجي . أمَّا الحد الداخلي فيتعلق بأن الإنسان لا يَعلم مِن الأشياء إلا ظواهرها، بِحُكم أنه يرفد هذه المعرفة _ شاء أم أبى _ بما عنده من سوابق معرفية ، فلا يُدرك الظواهر في ذاتها ، وإنما يُدركها بحسَب ما تظهر به لذاته . الحد الثاني خارجي، ويتمثل في أن الإنسان لا يستطيع أن يُدرك بالعقل الحقائق الميتافيزيقية (الغيبية ) : الله والعالَم والحرية ، وإنما هذه تُدرَك بالعمل ( الإيمان ) . السؤال الثاني مِن أسئلة كانت هو : ما الذي يجب عليَّ أن أفعله ؟. ويتعلق هذا السؤال بمسألة العمل الأخلاقي. والذي عند كانت أنه إذا كان العقل النظري الخالص لا يُسعِف الإنسان في إدراك مبادئ الحياة العملية الأخلاقية ، فإن له عقلاً عمليًّا خاصًّا بذلك ، وِمن شأنه أن يكتشف في أعماق ذاته "آمِرًا قطعيًّا" أخلاقيًّا يدعوه إلى الالتزام بالمبادئ الْخُلُقية، مثل مخاطبة ضمير الإنسان لصاحبه : " لا تقتل ! " . السؤال الثالث عند كانت هو : ما الذي يمكنني أن آمَلَه ؟ . ويتعلق هذا السؤال بالمسألة الدينية ، أي : هل مِن أمل أرجوه إذا أنا فعلتُ ما ينبغي عليَّ فِعله أخلاقيًّا ؟ . يرى كانت أن لا سبيل للعقل لإثبات الحقائق الغيبية ( الله ، العالَم ، ... ) ، وإنما يمكن للعقل فَحَسْب أن يتفهم ما يدعو إليه الدين، لكنه ليس "الدين المزيَّف" القائم على عبادة الله عبادة منفعة وإنما "الدين الأخلاقي" القائم على عبادة الله عبادة محبة . مع العلم بأن كانت هو أول فيلسوف غربي يجعل الأخلاق أساس الدِّين ، وليس الدين أساس الأخلاق .

     السؤال الرابع من أسئلة كانت هو : مَن هو الإنسان ؟ . هذا هو سؤال " الأنثربولوجيا الفلسفية " . والذي يقوله كانت هو : إن الإنسان " كائن مُتناهٍ هشٌّ" مقارنة بالخالق، لأن الإنسان له المقدرة على تصوُّر أمور ، لكنه لا يستطيع تحقيقها .

     أُطْلِقَت على فلسفة كانت أسماء عِدَّة (المثالية الذاتية ، المثالية النقدية ، .. إلخ ) ، لكن الاسم الذي ارتضاه لها صاحبها هو " الفلسفة الترنسندنتالية "، أي تلك الفلسفة التي تبحث في "الشروط القَبْلِيَّة" للمعرفة البشرية. فلا تهتم بالمعارف ذاتها ، وإنما بطريقة معرفة الإنسان بها ، أي بشروط التجربة ، وما يَسبق التجربة منطقيًّا مِن مُقتضيات تجعلها مُمكنة .

     يُعتبَر كانت أحد أبرز الفلاسفة الألمان الْمُحْدَثين ، ومِن أعظم فلاسفة عصر التنوير الأوروبي، كما يُعَدُّ مِن أكبر الفلاسفة تأثيرًا في الفلسفة الغربية الحديثة .

     مِن أبرز مؤلفاته : نقد العقل الخالص ( 1781 ) . نقد العقل العملي ( 1788 ) . نقد القُدرة على التحكيم ( 1790 ) . الدين ضمن نطاق العقل فقط ( 1793 ) .

27‏/01‏/2021

إيفو أندريتش ومعاداة الإسلام

 

إيفو أندريتش ومعاداة الإسلام

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

.......

    وُلد الأديب والسياسي البوسني اليوغسلافي إيفو أندريتش( 1892_ 1975) في مدينة ترافنيك في البوسنة . هو بوسني الأصل ، ولكنه أعلن أنه صِربي بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب انتمائه إلى صرب البوسنة .

     تُوُفِّيَ والده وهو ابن عامَيْن، وأنهى دراسته الثانوية بصعوبة في مدينة سراييفو (عاصمة البوسنة والهرسك )، ودرس الأدب والتاريخ في زَغْرِب ( عاصمة كرواتيا ) في الفترة ( 1912_1913)،وفيينا ( عاصمة النمسا ) في الفترة ( 1913 _ 1914 ) .

     نشأ أندريتش في بيئة متمازجة من المسلمين والمسيحيين واليهود، وهذا الأمر ترك بصمةً مُؤثِّرة في رواياته. بدأ حياته سياسيًّا في خدمة الأهداف التوسعية لمملكة صربيا . وأسَّس في أواخر عام 1911 " منظمة الشبيبة السِّرية " التي عُرفت لاحقًا باسم " البوسنة الفتاة " بعد أن تمكنت من اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو(1914).وكان ذلك سببًا في اندلاع الحرب العالمية الأولى.

     في نهاية الحرب ، وتقديرًا لخدماته ، تَبَوَّأ أندريتش مكانةً سياسيةً في الدولة الجديدة (مملكة يوغسلافيا ) التي كانت قد توسَّعت عن مملكة صربيا . وفي عام 1920 ، انتقل إلى العمل الدبلوماسي في الخارج ، وتنقَّل في بلدان كثيرة .

     حصل على الدكتوراة من جامعة غراتس النمساوية عام 1924عن أطروحته " تطور الحياة الروحية في البوسنة تحت تأثير الحكم التركي " . وفي عام 1937 ، أصبح نائبًا لوزير الخارجية . واختير في عام 1939سفيرًا ليوغسلافيا في برلين . وفي عام 1941 ، عاد إلى بلغراد ( عاصمة صربيا ) بعد الغزو الألماني ليوغسلافيا ، وعاش هُناك في عُزلة تامة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ، مُفضِّلاً أن يتفرَّغ لكتابة رواياته ، لئلا يُؤخَذ عليه أي موقف من الحرب الدائرة .

     في عام 1946، حصل على جائزة الدولة عن روايته" جسر على نهر درينا ". وفي العام نفسه، أصبح رئيسًا لاتحاد الكُتَّاب في يوغسلافيا . وتُعتبَر روايته " الفناء الملعون " ( 1954) أهم رواياته على الإطلاق ، وهي التي ساهمت بشكل كبير في منحه جائزة نوبل للآداب ( 1961) . وهي رواية تتَّسم بالواقعية الفلسفية والتاريخية ، إلى جانب النَّزعة الإنسانية ، مع التأكيد على القيم الروحية ، وأهمية الحضارات القديمة والحديثة . وتحكي الرواية قصة راهب مسيحي مسجون في سجن تركي في إسطنبول(عاصمة الخلافة الإسلامية)، حيث يتعرَّف إلى باشا تركي مسكون بهاجس أحد السلاطين القدماء ، كما تُقدِّم الرواية شخصيات متنوعة مِثل : اليهودي المتشكِّك ، وقراقوش التركي غريب الأطوار ، والرُّهبان الحاسدون في الدَّير البعيد في البوسنة .

     لاقت رواياته رواجًا عالميًّا بعد فوزه بجائزة نوبل . وبعد عام 1967 ، أُثيرت أسئلة كثيرة حول نقاط غامضة في نشاطه السياسي المشبوه ، وحول مواقفه المعادية للإسلام والمسلمين في يوغسلافيا ، سواءٌ أثناء عمله في الخارجية ( 1937_ 1939) أم في رواياته .

     تتميَّز رواياته،وخاصة"جسر على نهر درينا" ( 1945). و" وقائع مدينة ترافنيك "( 1945)، باعتمادها على مصادر تاريخية مُتحيِّزة وانتقائية وغَير مَوثوقة، تخدم الخط السياسي للمؤلف . ويَبدو هذا الموقف واضحًا في أُطروحته للدكتوراة التي رَفض أندريتش أن تُترجَم أو تُنشَر وهو حَي. وهذا الرفض يحمل دلالة شديدة الخطورة ، ويُثير أسئلة حول مَصادره ومواقفه الفكرية وطبيعة كتاباته . لقد كانت العلاقة بين الشرق والغرب هي الموضوع الأساسي في كتابات أندريتش . ومن الواضح أن هذا الموضوع كان يُسيطر على تفكيره وتفاصيل حياته . وقد كانت كلمة " الجسر " مُهيمنة على أعماله الأدبية ، وكأنه يَقصد ذلك الجسر الرمزي الواصل بين الحضارات والأمم والشعوب . لقد أرادَ صناعة جسر يصل بين الشرق والغرب ، ولكنَّ المشكلة تَكمن في طبيعة هذا الجسر ، حيث إِنَّه شَيَّده وفق أفكاره الذاتية ووجهة نظره الشخصية ، دُون تقديم أفكار الآخرين بشكل صحيح ، ولا عَرْض وُجهة نظر الطرف الآخَر بأمانة ودِقَّة . والتحيُّز الواضح وغيابُ الموضوعية جَعلاه عُرضةً لسهام النقد ، والتشكيك في مصادره الفكرية والتاريخية .

     وقد كان التاريخُ قيمةً أساسية في أعماله الأدبية ، تُسيطر على تفكيره . وهذا يُفسِّر اهتمامه الشديد بالرواية التاريخية ، والعودة إلى الماضي . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، رواية " الفناء الملعون " تَدور أحداثها في عام 1432م ، وتَحكي عن رَجل تُخيِّل نَفْسُه تناسخًا روحيًّا مع جمشيد ( ابن السلطان محمد الفاتح ) . وروايته " وقائع مدينة ترافنيك " تدور أحداثها في عام 1560م ، وتحكي عن الثورات التي قامت في المدينة للانفصال عن الحكم العثماني في تلك الفترة . وروايته " جسر على نهر درينا " تدور أحداثُها عام 1571، وتحكي عن الأحداث التي شهدتها مدينة فيتشيغراد . وهذا الجسر الحجري الشهير أُقيم على نهر درينا بمدينة فيتشيغراد ، وكان الغرض من إقامته أن يربط بين البوسنة والصرب ، وهما يومئذ إقليمان من أقاليم الإمبراطورية العثمانية .

26‏/01‏/2021

إيفند يونسون وطبقة العمال

 

إيفند يونسون وطبقة العمال

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............


    وُلد الأديب السويدي إيفند يونسون ( 1900_ 1976) في بودن ، وتُوُفِّيَ في ستوكهولم . يُعتبَر من أدباء طبقة العمال ، وأحد رُوَّاد الأدب السويدي الحديث . أصبح عضوًا في الأكاديمية السويدية في عام 1957، وفاز بجائزة نوبل للآداب في عام 1974مُناصَفةً مع الأديب السويدي هاري مارتنسون .

     كان أبواه فقيرين . وكان مِن المُكافِحين، فقد خَرج من طبقة العُمَّال ، التي لا تختلف مُعاناتهم في الحياة اليومية في أي مكان . غادرَ يونسون المدرسة في سن الثالثة عشرة ، ثُمَّ عمل في عِدَّة وظائف مِثْل : العمل في مطحنة، وبائع تذاكر في السينما ، من أجل كسب قُوت يَومه . لذلك كان يُثقِّف نفسه ذاتيًّا من خلال المطالعة المستمرة ، دون الاعتماد على المدرسة أو الأساتذة .

     في عام 1919،غادر مسقط رأسه،وانتقل إلى ستوكهولم، حيث بدأ ينشر المقالات في المجلات. وكَوَّنَ صداقات مع الكُتَّاب الشباب البروليتاريين . والبروليتاريا مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر ضمن كتاب بيان الحزب الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنجلز، يُشير فيه إلى الطبقة التي ستتولد بعد تَحَوُّل اقتصاد العالَم من اقتصاد تنافسي إلى اقتصاد احتكاري، ويقصد ماركس بالبروليتاريا ، الطبقة التي لا تملك أي وسائل إنتاج، وتعيش من بيع مجهودها العضلي أو الفكري .

     استفادَ من حياته القاسية في كتاباته الأدبية ، وتأثَّرَ تأثُّرًا كبيرًا بالثقافة الأوروبية وتقاليدها ، نظرًا للسنوات الطويلة التي قضاها في مُدن أوروبا . فقد  سافر إلى ألمانيا في العشرينيات من القرن العشرين، وعاش بالقرب من باريس في الفترة ( 1927_ 1930) مع زوجته آيس كريستوفرسن  ( 1900_ 1938).وقد وقف يونسون بقوة ضد الفاشية والنازية. وخلال الحرب العالمية الثانية، كان رئيس تحرير إحدى المجلات ، ونشر روايات تتناول أحداث الحرب .

     بدأ مسيرته الإبداعية بمجموعة قصصية " الغرباء الأربعة " ( 1924) . وانتقلَ بعد ذلك إلى كتابة الرواية. كان قريبًا من الأحداث السياسية والصراعات الإنسانية التي كانت تدور في عصره. ومعَ هذا ، فقد شملت رواياته جميع الاتجاهات . ولَم يتجاهل الواقع المجتمعي الذي كانت تعيشه البلاد التي مَرَّ بها . فقد كانت رواياته وما زالت، موسوعة كبيرة، لكل من أراد التعرف على أوروبا سياسةً ومجتمعًا ، في تلك الفترة التي عاشها. وصار يونسون مِرآةً لأوروبا ، ومرجعًا لكل شخص يُريد أن يَعرف تفاصيل الأحداث التي لَم تتناولها كتب التاريخ .

     وفي عام 1946، نشر إحدى أشهر رواياته " العودة إلى إيثاكا " استنادًا إلى قصة أوديسيوس كما يعود إلى إيثاكا بعد حرب طروادة .

     تَزوَّج يونسون المترجمة سيلا يونسون في عام 1940. وعاشَ مع عائلته في سويسرا في الفترة  ( 1947_ 1949) .

     نشر رواية " أيام سعادته " عام 1960 ، وكانت مِن ضمن أعماله التي رصد فيها ، وحَلَّلَ أغلب خصائص الحكم المستبد ، وما أثَر ذلك على حياة الإنسان ، وما يُواجهه من مصاعب في الحرب والسِّلم . وفي تلك الفترة ، اتَّهمه اليسار بالتعاطف مع أمريكا ومُناوأة الشيوعية.

     لقد خرج يونسون مِن طبقة العُمَّال ، وبنى نفسه بنفسه ، وكافحَ وناضلَ ، وألَّفَ روايات أبهرت الجميع . وآمنَ بالمجتمع العُمَّالي الذي نشأ فيه، وقاومَ سيطرةَ الآلة والماكينات عليه . وحصل على جائزة نوبل بالاشتراك عن روايته " مدينة في الظلام " ( 1927) .

     وكان اختيار يونسون وهاري مارتنسون للفوز بجائزة نوبل في عام 1974مُثيرًا للجدل، حيث كان كلاهما في لجنة نوبل نفسها . وكان غراهام غرين ونابوكوف وبورخيس المرشَّحين المفضَّلين في ذلك العام .

     مِن أبرز رواياته : المطر عند الفجر( 1933). عودة الجندي ( 1940). أحلام الورود والنار ( 1949). بعض الخطوات نحو الصمت ( 1973) .

25‏/01‏/2021

إيفان بونين والتأثر بالقرآن

 

إيفان بونين والتأثر بالقرآن

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..........

     وُلد الأديب الروسي إيفان بونين ( 1870_ 1953) بمدينة فورونيج في عائلة نبلاء . قضى طفولته في القُرى المجاورة لبيت العائلة ، يرعى الماشية مع الصبيان من أبناء الفلاحين ، وربطته علاقات الصداقة مع بعضهم . وهذه العلاقة مع الطبيعة صارت الموضوع الرئيسي لإبداعه الأدبي شِعرًا ونثرًا .

     تعثَّرَ بونين في حياته الدراسية ، واضْطُرَّ لإعادة أحد الصفوف ، وواصلَ التعليم لاحقًا بصورة مستقلة تحت إشراف شقيقه. وفي خريف 1889 بدأ العمل في إحدى الصحف المحلية ، ونشر فيها قصصه وأشعاره، وخُصِّصَ له عمود دائم في الصحيفة ، وكان يكسب رزقه من الكتابة الأدبية.

     تلقَّى أُولَى الصدمات في حياته في عام 1893 ، حيث أفلسَ والده ، وباع ممتلكاته . ووجد الأديبُ الشابُّ نَفْسَه وحيدًا في هذا العالَم ، بلا دعمٍ مالي ولا عائلي .

     تَعَرَّفَ بونين أثناء عمله في الصحيفة على ابنة طبيب في المدينة ، كانت تعمل في مراجعة النصوص قبل طبعها.وقرَّر الارتباطَ بها، لكنَّ عائلتها عارضت زواجها من كاتب فقير.وكانت هذه الصدمة الثانية في حياته. وقد أثَّرت عليه سلبًا فابتعد عن الناس ، حتى اعتبروه شخصًا جافًّا وبارد الأحاسيس. والحقيقة أنه كان من الأشخاص الذين يُخفون مشاعرهم،ولا يَكشفون خفايا نفوسهم.

     أبدى بونين اهتمامًا خاصًّا بأفكار الروائي الشهير تولستوي الذي كان يُوصي بالعَودة إلى الطبيعة ، واتباع أسلوب حياة بسيط . وفي يناير عام 1894 زار تولستوي في ضَيعته ، وأقنعه بالعُدول عن الغُلُوِّ في حياة البساطة التي كان يدعو إليها أتباعَه .

     وفي عام 1895هربت مِنه صديقته كي تتزوَّج أحد أصدقائه . وكانت هذه الصدمة الثالثة في حياته . تأثَّرَ بهذه الحادثة كثيرًا ، وقَرَّرَ أن يَبدأ حياته مِن جديد ، ويُقيم قطيعةً مع الماضي ، فانتقلَ إلى موسكو ، حيث انخرط في الأوساط الأدبية ، وحقَّق هُناك نجاحًا باهرًا ، كما أنَّه التقى مشاهير الأدباء والنُّقاد في ذلك العصر . قام بونين برحلات كثيرة إلى أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، تركتْ فيه انطباعات شديدة، ظَهرت في قصصه التي لَقِيَت إقبالاً كبيرًا لدى القُرَّاء ، وبرز اسْمُه باعتباره واحدًا من أفضل كُتَّاب روسيا في تلك المرحلة .

     وفي عام 1901 ، نشر ديوانه " سقوط أوراق الشجر " ، الذي اعتبره النُّقاد عملاً شِعريًّا مُتَمَيِّزًا . وهذا النجاح الباهر كان سببًا في حصوله على جائزة بوشكين ( 1903) التي تُقَدِّمها أكاديمية العلوم الروسية إلى الأدباء سنويًّا . وقد فاز بهذه الجائزة للمرة الثانية عام 1909 عن قصته " ظِل الطَّير " وترجمته لقصائد الشاعر الإنجليزي بايرون إلى اللغة الروسية .

     كانت روايته القصيرة " القرية " ( 1910) هي الانطلاقة الحقيقية نحو العالمية ، فقد أحدثت ضجةً كبيرة في الأوساط الأدبية،حيث صَوَّرت الرُّوحَ الروسية وأُسسها المضيئة والقاتمة والمأساوية.

     أصبحَ بونين ظاهرة أدبية مُتميِّزة بروسيا في النصف الأول من القرن العشرين ، رغم اضطراره للهجرة من وطنه إلى فرنسا عام 1918 بعد قيام الثورة البُلشفية ( 1917 ) .

     وخلال الفترة ( 1927 _ 1930 )، كتب مجموعةً من القصص القصيرة مِثْل " الفيل " ، و" الشمس فوق الدار" وغَيرها . وحاولَ إيجاد تقنيات جديدة في الألفاظ والمعاني ، وتَوليد أشكال جديدة للكتابة الموجَزة التي أرسى دعائمها تولستوي وتشيخوف .

     وفي عام 1933 مُنح بونين جائزة نوبل للآداب عن روايته " حياة أرسينيف " ، ليكون بذلك أول كاتب روسي يفوز بهذه الجائزة العالمية . ومِمَّا قِيل في حفل تسليم الجائزة : (( بقرار من الأكاديمية السويدية تُمنَح الجائزة لإيفان بونين على الموهبة الفنية الحقَّة التي تَمَكَّنَ بواسطتها من إعادة خلق الشخصية الروسية بقالب نثري جميل )) .

     درس بونين القُرآنَ الكريم ، واشْتُهِرَ بِشَغفه بالشرق . ومعَ أنَّه قد سافرَ إلى بلاد كثيرة ، إلا أنَّه كان يعود إلى البلاد الإسلامية ، وكأنه يُلَبِّي نِداءً ساكنًا في أعماقه . لقد شاهدَ جوانب كثيرة من الحياة الإسلامية، وصارَ يَشعر أنَّه صُوفي مُتحمِّس ، وكتب قصائد عن ليلة القَدْر ، والحجَر الأسود، والحجيج، ويَوم الحساب . وتُعتبَر قصيدة " السِّر " من أبرز قصائد بونين ، وهذه القصيدة مُرفَقة باقتباس مِنَ القُرآن .

     وكان يَحمل القُرآن في حقيبة سَفره طوال حياته ، حتى إِنَّ أُسلوبه في الكتابة _ في بعض الأحيان _ كان يَتبع القُرآنَ بشكل مباشر، وأحيانًا كان يُكرِّر الآياتِ القُرآنية . لقد شَعَرَ أنَّه الوارث الشرعي لبوشكين ( الشاعر الروسي الكبير ) في " مُحاكاة القُرآن "، وكتابةِ القصائد المستوحاة من المعاني القُرآنية .

    مِن أبرز أعماله:تحت السماوات المفتوحة (1898).القرية(1910).كأس الحياة( 1915)، معبد الشمس ( 1917) . ضربة شمس ( 1927) .

24‏/01‏/2021

إيتالو كالفينو والخيال التاريخي

 

إيتالو كالفينو والخيال التاريخي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........


     وُلد الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو (1923_ 1985) في كوبا، ونشأ في سان ريمو بإيطاليا. كان والده مهندسًا زراعيًّا وعالِم نباتات، كما قام بتدريس الزراعة وزراعة الزهور. وكانت والدته عالِمة نباتات وأستاذة جامعية .

     في عام 1941 ، التحقَ كالفينو بجامعة تورينو ، حيث اختار كلية الزراعة . وكان والده قد سبق له تدريس دورات في الهندسة الزراعية. أخفى طموحاته الأدبية لإرضاء عائلته ، واجتاز أربعة امتحانات في سنته الأولى بينما كان يقرأ أعمالاً مُناهضة للفاشية . انتقلَ كالفينو إلى جامعة فلورنسا في عام 1943 ، وقدَّم على مضض ثلاثة امتحانات في الزراعة . وبحلول نهاية العام ، نجح الألمان في احتلال ليغوريا وإقامة جمهورية سالو التابعة لموسوليني في شمال إيطاليا . رفض كالفينو الخدمة العسكرية ، وتوارى عن الأنظار خوفًا من التجنيد .

     حصل كالفينو على شهادة الماجستير في عام 1947، وكانت أُطروحته عن جوزيف كونراد. وكتب قصصًا قصيرة في وقت فراغه ، وحصل على وظيفة في قسم الدعاية في إحدى دُور النشر.

     اهتم كالفينو في الستينيات بالمدارس النقدية والفلسفية الجديدة في فرنسا عمومًا ، وبرولان بارت وجاك دريدا على وجه الخصوص . مِمَّا أثَّرَ كثيرًا على طبيعة أعماله الروائية ، ومنحها عُمْقًا فلسفيًّا ، وأسبغَ على نظرته إلى الأشياء والعالَم طابعًا جِدِّيًّا مختلفًا عمَّا هو سائد. اشْتُهِر بروايته الثلاثية  " أسلافنا " ( 1952_ 1959). وقد استغرب الكثيرون مِن مُتابعيه عدم حصوله على جائزة نوبل للآداب ، وموته في الثمانينيات من القرن الماضي ، وذهابها بعد ذلك بسنوات قليلة، أي عام 1997 إلى مواطنه داريو فو، الكاتب والممثِّل المسرحي، الذي قَبْل منحه جائزة نوبل كان مغمورًا خارج بلده . يمتاز كالفينو برواية الخيال التاريخي ، والمزج الرائع بين الواقع والأسطورة ، عبر لغة جميلة وسرد روائي مُحكَم ، مِمَّا جعل كالفينو يتربع على عرش الرواية الإيطالية والعالمية مع كبار الروائيين ، ويُسجِّل اسمه في سِجل الخلود الأدبي العالمي .

     قال عنه كارلوس فوينتس : (( إن القارئ لا يجد صعوبة في أن يُدرِك بأن رواية ما غير مُوقَّعة هي مِن روايات الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو . إذ يكفي بعد قراءتها أن يشعر بالحسد تجاه هذا الكاتب الذي استطاع أن يهتديَ إلى الفكرة قبل أن تهتديَ إليها أنت . و هكذا تكون كل روايات إيتالو كالفينو ما ترغب أنت أيضًا و بشدة في أن تكتبه )) .

     يتحدث كالفينو عن اقتران الأدب بالسياسة في الحياة المعاصرة.وبعد أن يستعرض سلبيات تأثير السياسة على الأدب ، يرى أن الأدب مع ذلك ضروري للسياسة عندما يُعطي صوتًا لِمَا هو مِن دُون صوت ، وعندما يُعطي اسمًا لمن لا اسم له ، ويُشبِّه الأدب في هذه الحالة بالأُذُن التي تستطيع سماع أشياء أبعد من نطاق فهم لغة السياسة ، أو هو شبيه بالعَين التي تستطيع أن تُبصِر أبعد من نطاق الطيف الذي تلاحظه السياسة. ويستدرك بأن هناك أيضًا نوعًا آخر من التأثير الذي يمكن للأدب أن يُمارسه ، من جانب الكاتب،وهذا يتمثل في القدرة على فرض نماذج من اللغة والرؤية والخيال والجهد العقلي والترابط المنطقي للحقائق ، بابتكار نموذج من القيم ، هي في وقت واحد جمالية وأخلاقية وضرورية لأي خطة عمل ، خاصة في الحياة السياسية .

     ويرى أن أية نتيجة تُكتسَب عن طريق الأدب، قد تُعتبَر أرضًا صلبة لجميع الأنشطة العملية لأي شخص يركن إلى عقله ، ويكون قادرًا على استيعاب الفوضى التي تسود هذا العالَم .

     في عام 1947 ، كتبَ كالفينو روايته الأولى " الطريق إلى عُش العناكب " ، وباعَ منها خمسة آلاف نسخة، وهو نجاح مُفاجئ في إيطاليا ما بعد الحرب. وعلى مدى سبع سنوات، كتب كالفينو ثلاث روايات واقعية: العربة البيضاء(1947_1949).الشباب في تورينو (1950_1951). قلادة الملكة ( 1952_ 1954 ) .

     في الفترة ( 1955 _ 1958 ) كان كالفينو على علاقة مع الممثلة الإيطالية إلسا دي جيورجي ، وهي امرأة مُسِنَّة متزوجة . وقد نَشرت مقتطفات من مئات رسائل الحب التي كتبها لها كالفينو . خاب أمل كالفينو من الغزو السوفييتي للمجر عام 1956 ، وغادرَ الحزب الشيوعي الإيطالي . وفي خطاب استقالته ، شرح سبب مُعارضته : " قمع الانتفاضة الهنغارية والكشف عن جرائم جوزيف ستالين " ، بينما أكَّد ثقته في " وجهات النظر الديمقراطية للشيوعية العالمية " . انسحبَ كالفينو من الحياة السياسية ، ولَم ينضم قَط إلى حزب آخر . على الرغم من القيود الصارمة في الولايات المتحدة ضِد الأجانب الذين يَحملون وجهات نظر شيوعية ، سُمح لكالفينو بزيارة الولايات المتحدة ، حيث بقي ستة أشهر من 1959إلى 1960. خلال صيف 1985،أعدَّ كالفينو سلسلة من النصوص حول الأدب من أجل تقديم محاضرات في جامعة هارفارد في الخريف . وفي 6 سبتمبر / أيلول ، أُدْخِل إلى المستشفى ، حيث تُوُفِّيَ أثناء الليل بين 18 و19 سبتمبر بسبب نزيف دماغي . نُشِرت محاضراته بعد وفاته باللغة الإيطالية في عام 1988 ، وباللغة الإنجليزية تحت عنوان "المذكرات الست للألفية التالية" في عام 1993 .

23‏/01‏/2021

التوفيق والتلفيق والهوية الاجتماعية

 

التوفيق والتلفيق والهوية الاجتماعية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.........

     الهُوية الاجتماعية لَيست تعبيرًا عن الولاء والانتماء فَحَسْب،بَل هي أيضًا تعبير عن السلوك الحياتي اليَومي، ودَوره المركزي في تثبيت شرعية وُجود الإنسان ، وتحقيق الجوهر التاريخي عن طريق توليد أنساق اجتماعية إبداعية ، وتكوين مناهج فكرية تحليلية ، وعدم الاكتفاء بالتلفيق بين الأضداد والعناصر المتعارضة ، ودفن النار تحت الرماد ، فالإنسانُ لن يستعيد جوهرَه الوجودي في بناء التاريخ إلا بالمشاركة في صناعة الأحداث ، وعدم التفرُّج عليها ، ولن يحصل المجتمعُ على شرعيته المركزية في مشروع النهضة الحضارية إلا بتشكيل سُلطة اعتبارية قائمة على قوة المنطق لا منطق القوة، تجمع كُلَّ الأطياف والتيارات ، وتعتمد مبدأ التَّوفيق لا التَّلفيق .

2

     الفرق بين التَّوفيق والتَّلفيق في مفهوم الهُوية الاجتماعية يتَّضح في طبيعة وظيفة كُل مِنهما على أرض الواقع، فالتَّوفيق هو الجمع بين العناصر الاجتماعية المُتَّفقة في الأُصول ، والمختلفة في الفُروع ، لأسباب تاريخية وضُغوطات نَفْسية وأهداف مَصلحية ، وإمكانيةُ التَّوفيق في هذه الحالة واردة بقُوَّة بسبب الجُذور المشتركة ، والأُسس المُتقاربة ، وإمكانية إزالة الموانع العَرَضِيَّة ، لأنَّ الجوهر واحد ومُتَّفق عليه . أمَّا التَّلفيق فهو مُحاولة الجمع بين عناصر اجتماعية مُتناقضة ، ومُختلفة في الأُصول والفُروع ، ومُتضادة بشكل جَذري عميق ، وهذا يجعل إمكانية الجَمْع مُستحيلة بسبب اختلاف المبدأ والظروف .

3

     الإشكاليةُ في السياق الاجتماعي لا تَكمن في الجهل بتعريف التَّوفيق والتَّلفيق،وإنما تَكمن في العِلْم بهما، وتوظيف هذا العِلْم لأغراض غَير عِلمية ، من أجل تحقيق مصالح شخصية ، والحصول على مكاسب نفعية ، تمامًا كالذي يَعرف الحَقَّ من أجل توظيفه لخدمة الباطل . وهذا الأمر في غاية الخطورة ، لأنه يُشكِّل تهديدًا وجوديًّا على الهُوية الاجتماعية، فهو يعني تجميع عناصر الضعف ، وتشتيت عناصر القوة ، وهذا يُمزِّق النسيجَ الاجتماعي ، ويَمنع التنميةَ بكل إفرازاتها وتراكيبها ، ويُلغي إمكانية النهوض بالفرد والجماعة . وهذا الانهيارُ الشامل مُرتبط بشكل وثيق مع سياسة وضع المسؤول في المكان غير المناسب ، خُضوعًا لاعتبارات الولاء ، وليس الكفاءة . وهذا الأمرُ هو أساس البناء السياسي للأنظمة الاستبدادية في كُل زمان ومكان ، فهي تَسعى إلى تثبيت وجودها لأطول وقت مُمكن ، دون أيِّ اعتبار لحل مشكلات الشعوب أو بناء الأوطان ، وهذا يَجعل الولاءَ الأعمى والتصفيق الدائم هُما المِعيارَيْن الوحيدَيْن لاختيار المسؤول . ومِن أجل تبرير هذه العملية ، وإلباسها ثَوبًا شرعيًّا ، يتم التلاعب بالمصطلحات السياسية ، وتَنميق الشعارات الرَّنانة ، وتَغيير طريقة تفكير العَقْل الجَمْعي عن طريق بعض وسائل الإعلام التي ارتضت لنَفْسها أن تكون مأجورةً ومُضلِّلة ، حيث تبثُّ الأكاذيب على مَدار الساعة ، كَي تُصبح حقائق واقعية ، ومِن ثَمَّ يتم تَصديقها ، وتقديمها كمُسلَّمات لا تَقبل النِّقاش. وكُل صاحب صَوت مُعارض لهذه الأوهام يتم تقديمه كخائن ومُنشق ومَدعوم من جهات خارجية لتنفيذ أجندة هَدَّامة . وهذه الحَلْقةُ المُفرغة لا تكتمل إلا عبر التلاعب بثنائية ( التَّوفيق / التَّلفيق ) ، وتوظيفها كسياسة اجتماعية تُحدِّد مسارَ الوجود الإنساني ومصيرَه . ومعَ مُرور الوقت ، وبفِعل الضَّخ الإعلامي والضغط السُّلطوي ، تتحوَّل هذه الثنائية إلى لعب بالبَيضة والحَجَر ، لتجذير الشعارات كمنهج سياسي ونظام اجتماعي دُون فِعل على الأرض ، ثُمَّ تتحوَّل ثنائية ( البَيضة / الحَجَر ) إلى ثنائية (العصا/ الجَزَرة) للتحكُّم بالمجتمع جُملةً وتفصيلًا ، وبسط السَّيطرة الكاملة عليه بالترغيب والترهيب، وهكذا يصير المجتمعُ كائنًا مَسْخًا بلا وُجود حقيقي ، ويتراجع على كافة المستويات ، لأنَّه فقد البوصلةَ، ولم يعد يُفرِّق بين الهُوية والهاوية .

22‏/01‏/2021

أونوريه دي بلزاك وغزارة الإنتاج

 

أونوريه دي بلزاك وغزارة الإنتاج

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...............


     وُلِد الروائي الفرنسي أونوريه دي بَلزاك ( 1799_ 1850) في مدينة تور الفرنسية . كان والده كاتب ضبط عدليًّا على قَدْر مِن الثقافة والتنوير ، أمَّا أُمُّه فكانت امرأة فظة جافة عُرِفَت ببرود علاقتها مع أبنائها .

     في عام 1813، اضْطُرَّ بلزاك لقطع دراسته مُؤقتًا نتيجة مصاعب عقلية ، إلا أنه استكملها بعد أن رَجع إلى طَوْره عام 1816، وظهرت تباشير موهبته الأدبية مُبَكِّرًا . ومع مطلع عام 1832، ظهرت المجموعة الأولى من سلسلة "قصص فكاهة" وأتبعها بالجزء الثاني(1833) ، ثم برائعته "أوجيني جرانديه" التي بلغ بها أوج شهرته ، وهذا ما سمح له بنشر أعمال أخرى .

     تناول بلزاك في رواياته جميع الأفكار والمذاهب الأدبية. ففي الرواية الفلسفية، ألَّف" التحفة المجهولة " ، وفي الرواية الخيالية ، ألَّف " الجِلد المسحور " . وفي الرواية الشعرية ، ألَّف " الزنبق في الوادي " . وفي الرواية الواقعية ، ألَّف " الأب غوريو " . ويُعتبر مع فلوبير ، من أهم مُؤسِّسي الواقعية في الأدب الأوروبي .

     وقد كان بلزاك من مُدمني العمل الأدبي، مِمَّا أثَّر على وضعه الصحي ( تُوُفِّيَ في سن مُبكِّرة عن عمر ناهز الحادية والخمسين ) . حاول خلال عُمره القصير أن يجمع المال ويبنيَ القصور، لكن كُل تجاراته كسدت ، وكل مشاريعه أفلست ، فحاصرته الأزمات المالية . وحِين جَرَّبَ حظه مع الأدب لَم يفكر أنه سيصبح أديبًا عالميًّا خالدًا، وإنما كان مُبتغاه أن يستميل قلوب النساء المتأدِّبات الناضجات اللواتي كان شغوفًا بهن ، لكن الحب أيضًا ظَلَّ كالمال، يتأبى عليه ، ويبتعد عنه .

     لقد عانى في حياته مِن الديون التي أثقلت كاهله بسبب الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر التي غامرَ بالقيام بها ، وقضى عُمره فَارًّا مِن دائنيه مُختفيًا ومُتَقَمِّصًا أسماء وهمية ، وعاشَ في منازل مختلفة . كما عاش مع العديد من النساء قبل أن يتزوج في 1850 من الكونتيسة " هانسكا " التي ظَل يَتودَّد إلَيها لأكثر من سبعة عشر عامًا .

     كانت حياة بلزاك _ بحد ذاتها _ لُغزًا عجيبًا ، فقد كَتب مئات الكتب في حياة قصيرة وقَلِقة. وأيضًا ، كيف استطاعَ الجمع بين الإسهاب والإجادة في بعض أعماله ؟ . إن هذا الأمر يكشف حقيقة هذا الرَّجل وعبقريته . وبشكل عام ، إن حياة المبدِع الخاصة وتجربته في الحياة ، هي التي تتحدَّث على لسانه ، وتُعبِّر عن نفسها مِن خلاله .وإن بلزاك_الذي تربَّى في كنف كاتب عدلي _، كانت الأوراق والأقلام هي كل حياته ، أو بالأحرى أسلحته لِمُقارَعة الحياة . لذلك كان يكتب ثماني عشرة ساعة يوميًّا ، كما أن طفولته المعذَّبة بعض الشيء ساهمت في تفريغ مشاعره وأحاسيسه على الورق ، والتعبير عن ذاته بوضوح وصِدق .

     كانت بدايات بلزاك مِثل الكثير مِن مُعاصريه ، مليئة بالغثاثة والارتباك السردي . وكانت قصصه ورواياته تُعاني الكثير مِن العُيوب ، مِثل: ازدحام حشد غير معقول من الشخصيات الثانوية التي تصعب السيطرة على تنظيم أدوارها وأصواتها في حوارات قصة واحدة ، مِن كاهن مُتحذلِق لا ينطق إلا بالحِكَم والأمثال ، إلى خادمة جوفاء لا تعرف أن تكتم سِرًّا ، ولا يهدأ لها لسان ، وغيرهما من شخوص يُشكِّلون عبئًا حقيقيًّا على الكثير من قصصه، وينخرون بُنيتها من الداخل، وهو ما تنجم عنه قصة أو رواية غَثَّة ، وحبكة مهزوزة غير متوازنة في نهاية التحليل .

     وبفضل تجربته المكثَّفة والمتواصلة في الكتابة ، اهتدى بلزاك في أعماله المتأخرة إلى تجاوز الكثير من هذه النقائص السردية ، وقَدَّم روايات أطول وأكثر انسجامًا وتماسكًا ، وهنا ظهرت عبقريته وقدرته على تأسيس بدايات الرواية الحديثة مع رؤية واقعية هي التي سيشتهر بها لاحقًا . وهي التي يعود لها الفضل في ترسيخ اسم بلزاك في تاريخ الأدب الروائي .

     وأهم ما يميِّز هذه الواقعية هو القدرة على التقاط مشاهد الحياة العادية، وتحويلها الى أيقونات متناسقة لرؤية مُوحَّدة للحياة، مع تركيز خاص على القضايا الأخلاقية العاصفة التي كانت تهز المجتمع الفرنسي المفجوع بإخفاقات الثورة التي تحوَّلت من حلم للملايين، إلى وحش هائج يأكل أبناءه، رغم الشعارات البَرَّاقة التي حملتها في البَدء، فكان بلزاك بذلك شاهدًا على عصر التحولات بين أحلام القرن الثامن عشر وكوابيس التاسع عشر، ورومانسيته أيضًا .

     وفي واقع الأمر ، إِن تصنيف أدب بلزاك الروائي يَحوي في حد ذاته أكثر مِن مخاطرة ، فنظرًا لكثرة وتنوُّع ما كتب من قصص ، نجد البعض يصفه كأب للواقعية ، أو للرواية البوليسية ، أو للرواية الجديدة ، وغيرها . ولعل السبب في ذلك أيضًا أن المصنِّفين ينطلق كل منهم من جزء من أعماله دون جزء آخر، وهي أعمال غير متناسقة مع بعضها البعض، إن لَم نقل إنها غير متكاملة وغير كاملة بطبيعة الحال ، شأن أي عمل أدبي .

     مِن أبرز رواياته : أوجيني جرانديه ( 1833) . الأب غوريو ( 1835) . الأوهام الضائعة ( 1837_ 1843) . العمة بيت ( 1846) . مباهج ومآسي العشيقات ( 1847) .