سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/12‏/2021

نيقولاي بيرديائيف وعيوب الفلسفة المادية

 

نيقولاي بيرديائيف وعيوب الفلسفة المادية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

وُلد الفيلسوف الروسي نيقولاي بيرديائيف ( 1874 _ 1948 ) بمدينة كييف ، لعائلة أرستقراطية. أمضى طفولته في عزلة ، حيث تمكن من الاطلاع على كمية هائلة من الكتب، حصل عليها من مكتبة أبيه، وحين بلغ الرابعة عشرة ، بدأ قراءة أعمال كبار الفلاسفة الألمان أمثال : هيغل ، وشوبنهاور ، وكانت . وقد برع في اللغات منذ صغره .

التحق بجامعة كييف لدراسة القانون والعلوم الطبيعية عام 1894 ، وكانت هذه فترة الحمى الثورية بين الطبقة المعروفة باسم ( الإنتلجنسيا ) ، وهي طبقة لا تعني بالضروة رجال الفكر، بل تعني كل الناشطين السياسيين، سواءٌ كانوا من أهل الفكر والثقافة أَم لَم يكونوا .

في عام 1898 ، قُبِضَ عليه في مظاهرة طلابية ، وفُصل من الجامعة. ورغم أنه درس بجامعات أخرى إلا أنه لَم ينل الدرجة الجامعية ، فقد تورَّطَ في أنشطة غير شرعية، ونُفِيَ إلى فولونطا بشمال روسيا. وفي أثناء المنفى كتب كتابه الأول ، الذي تحوَّل فيه من الفكر الاشتراكي الماركسي إلى الفردية الوجودية .

وفي عام 1904 ، تزوج بيرديائيف ، وانتقل إلى سان بطرسبرج العاصمة الروسية حينها ، ومركز النشاط الفكري والثوري . حيث دخل في العديد من المناقشات الفكرية والروحية، وتخلى أخيرًا عن الراديكالية الماركسية لِيُركِّز اهتمامه على الفلسفة والدين .

ورغم أن بيرديائيف كان مسيحيًّا مؤمنًا إلا أنه كان ناقدًا للكنيسة كمؤسسة ، وقد تسبَّب مقاله الناري في نقد مُقدَّسات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في اتهامه بالكفر ، الذي كانت عقوبته النفي إلى سيبيريا مدى الحياة، إلا أن قيام الحرب العالمية الأولى والثورة البُلشفية، حالا دون النظر في قضيته . اعتنقَ بيرديائيف بعض جوانب الاشتراكية، إلا أنه لَم يقبل النظام البُلشفي الشيوعي بسبب تسلُّط النظام، وسيطرة الدولة على حرية الأفراد. ومعَ هذا ، سُمح له بإلقاء المحاضرات والكتابة . ولكن في عام 1922طَردت الحكومة البُلشفية مئة من المثقفين البارزين،كان بيرديائيف من بينهم.

في البداية توجَّهَ وغَيره من المهاجرين إلى ألمانيا إلا أن الظروف الاقتصادية والسياسية في ألمانيا، دفعت الكثير منهم _ بما فيهم بيرديائيف وزوجته_ إلى السفر إلى باريس عام 1924 . حيث أنشأ أكاديمية هناك ، لتعزيز تبادل الأفكار مع المجتمع الثقافى الفرنسي .

استمر بيرديائيف في الكتابة أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا. والعديد من كتبه نُشِر بعد الحرب، والبعض الآخر نُشر بعد وفاته. كتب بيرديائيف في الأعوام التي قضاها في فرنسا خمسة عشر كتابًا، كان من ضمنهم أهم أعماله . وتُوُفِّيَ على مكتبه في ضاحية كلامار قرب باريس .

يُعتبَر بيرديائيف من المفكرين الحدسيين . فلسفته تُعبِّر عن حياته، وعواطفه، وتجاربه الفكرية والعلمية ، وثمرة اطلاع واسع على المذاهب الفكرية في مختلف العصور والحضارات ، ومراقبة للأحداث الكبرى التي حدثت في حياته . وقد ألقى الضوء على مشكلة الإنسان في العصر الحاضر وموقفه بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية والاقتصادية .

يجعل بيرديائيف الشخصية الحرة الخلاقة محور مذهبه، وليست الشخصية عنده وسيلة ، وإن الغاية هي النمو الحر الكامل للشخصيات، وعنده أن الوجود الحق هو وجود الشخصية الحرة .

وفلسفته مُشتقة من تصوُّره للروح الإنسانية . وفي نظر بيرديائيف أن عيوب الفلسفة المادية هي أنها تُضعِف في الإنسان الشعور برسالته. كما يرى أن الماركسية تسلب التاريخ رُوحَه ، لِتُغلِّفها بفكرة أن الواقع التاريخي الجوهري هو الحركة المادية الاقتصادية،وكما أن الإنسان له روح وجسد فكذلك التاريخ له ثنائيته في نظر بيرديائيف، ومعنى التاريخ يتجلى في الصراع بين الروح والطبيعة.

ويرفض بيرديائيف الرأي القائل إن السعادة والكمال لا يتحققان إلا في العصور المتأخرة، وأن الأجيال السابقة تتحمل الشقاء من أجل الأجيال اللاحقة، فهو يرى أن كل فرد خلال التاريخ عنده إمكانيات بلوغ الأبدية في كل لحظة من لحظات حياته ، ومِن ثَمَّ فإن معنى التاريخ يمكن الوصول إليه في كل لحظة .

يُعتبَر بيرديائيف أحد أهم رواد الفلسفة الوجودية المسيحية . وحاولَ التوفيق بين ماركس وكانت . لكنه ابتداءً من سنة 1901 ، وتحت تأثير نيتشه خصوصًا، تخلى عن الماركسية، وشاركَ في حركة التجديد الروسي،وهي حركة دينية النَّزعة، كما أسهم في حركة إصلاح وتجديد الكنيسة الروسية . انتُخِب نائبًا في مجلس الجمهورية الذي لَم يعش طويلاً .

وفي عام 1920 صار أستاذًا في جامعة موسكو ، حيث ألقى محاضرات نشر بعضها في سنة 1923 في برلين تحت عنوان " معنى التاريخ". وبعضها الآخر تحت عنوان " رُوح دوستويفسكي".

مِن أبرز أعماله : معنى التاريخ ( 1923 ) . الثورة الروسية ( 1931) . المسيحية وحرب الطبقات ( 1931) . العُزلة والمجتمع ( 1934) . العبودية والحرية ( 1939) .

30‏/12‏/2021

نوفاليس وموت الحبيبة

 

نوفاليس وموت الحبيبة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

....................

     وُلد الأديب الألماني نوفاليس (1772 _ 1801) في أوبرفيدرشتيت، وتُوُفِّيَ في فايسنفيلد، التابعتين لإمارة سكسونيا الألمانية . اسمه الحقيقي : فريدريش فرايهير فون هاردنبرج . وقد صاغ اسمه المستعار من الاسم القديم دي نوفالي، الذي كانت تستخدمه عائلته الأرستقراطية.

    نشأ في عائلة بروتستانتية مُتديِّنة . وبدأ _ بعد إنهاء التعليم المدرسي _ بدراسة الفلسفة في جامعة يينا عام 1790 . ثم انتقل خلال الفترة ( 1791 _ 1793 ) إلى مدينتَي لايبزيغ وفيتينبرغ ، حيث درس الحقوق . وعلى أثر وفاة حبيبته وخطيبته صوفي فون كون ، ذات الخمسة عشر ربيعًا بالسُّل في مطلع عام 1797 ، مَرَّ نوفاليس بتجربة عاطفية وفكرية عميقة أثَّرت في إبداعه الأدبي على نحو واضح ، فانتقل إلى فايسنفلز ، وصار يتردد على أجواء الرومانسيين الأوائل في يينا . وخلال الفترة ( 1797 _ 1798 ) درس نوفاليس علم المناجم في أكاديمية فرايبرغ . يُعتبَر نوفاليس من أهم أدباء الرومانسية الألمانية المبكرة التي تحمست بدايةً للثورة الفرنسية (1789)، ومجَّدت شعاراتها المعلنة ( حرية، مساواة، أُخوة)، ولكن منذ 1798/1799 بدأت تظهر آثار خيبة الأمل وانكسار الأحلام تجاه النتائج التاريخية للثورة ، التي رسَّخت أركان المجتمع البرجوازي على حساب شعاراتها ومبادئ معركتها الاجتماعية الاقتصادية الثقافية. وبما أن مثال الإنسانية المبدِعة المحرِّرة لَم يعد قابلاً للتحقيق في حيِّز الواقع، فلا بد من رفعه إلى حيِّز الشِّعر،لكَوْن الشِّعر المجال الوحيد لفعالية غير مُستلَبة في رأي الرومانسيين الأوائل.

     وهذا الميل نحو التكثيف الروحاني مع تأسيس مفاهيم الشعر الرومانسية قد تَجَلَّيَا في مجموعتَي الشذرات، الأولى:" غبار الطلع " ( 1798 )، والثانية : " إيمان وحب " ( 1798 ) ، اللتين تضمَّنتا آراءه الفلسفية الجمالية والاجتماعية السياسية ، من منظور مثالي ذي مرجعيات مختلفة ، كما تبدَّى فيهما تَوْقه إلى "عصر ذهبي" يحل فيه انسجام تام بين البشر ، وتنتفي المشكلات في ظل كنيسة شاملة لا مذاهب فيها ولا طوائف ، مثلما كان الوضع في العصر الوسيط .

     إن إبداع نوفاليس الشعري الذي يمتزج فيه إشراقه الصوفي الأُخروي ببهجته الدنيوية ، كان متزامنًا مع انهماكه في أداء واجبه الوظيفي بإخلاص وتفانٍ ، ومع استغراقه في دراسات العلوم الطبيعية واللاهوت، وكان تعبيرًا خالصًا عن المفاهيم الفنية والفكرية الرومانسية المبكرة ، عن " مثالية سحرية " تُجسِّد عَالَمًا مُنسجمًا متكاملاً على نحو طوباوي يعلو على الواقع الحقيقي، ويتعارض مع مفاهيم الواقعية الاجتماعية التي طوَّرتها الكلاسيكية الألمانية . وفي هذا السياق يندرج ديوانه المهم" تراتيل إلى الليل"( نُظِم عام 1797، ونُشِر عام 1800 في مجلة " أتِنيوم "). وقد نَظَمَ قصائده الست بإحساس عميق ولغة إيقاعية سامية صادرة عن يأسه من موت حبيبته المبكِّر . وفي قصائد هذا الديوان _ النثرية والشعرية معًا _ يضع نوفاليس الموت والمرض في مواجهة الحياة والوجود الدنيوي .

     وفي عام 1799 ، نظم الشاعر مجموعة " أغانٍ دينية " ، وفيها يتَّضح مدى ابتعاد الشاعر عن التفكير الفلسفي ، وتحوُّله المندفع نحو العقيدة الكاثوليكية .

     وفي نهاية عام 1799 خطب نوفاليس يولي فون كاربنتير التي لَم يستطع أيضًا أن يتزوَّجها بسبب موته المبكِّر .

     كانت سنوات حياته الأخيرة غزيرة الإنتاج الأدبي ، فقد كتب نوفاليس في أثنائها رواية " المتدربون في زايس " ( نُشِرت ضمن المؤلفات الكاملة عام 1802) . وقد عَرض فيها آراءه في علاقة الإنسان بالطبيعة ، وكيف يمكن للإنسان المحِب العارف أن يكتشف ذاته من خلال جهوده لاكتشافها ، والكشف عن جوهرها . والرواية في جُزأيها مزيج من الحوارات العلمية والتأملات والحكايات الخرافية الجميلة ذات الهدف التعليمي " أمثولات " .

     كما كتب في هذه المرحلة روايته الشهيرة " هاينريش فون أوفتردينغن " ، وقصد بها معارضة رواية غوته التربوية " سنوات تعلُّم فِلهِلم مايستر " . وقد صاغ نوفاليس روايته بلغة شاعرية إيقاعية في أجواء حكاية خرافية حول المغنِّي الجوَّال " مينيزِنغَر " الأسطوري من العصر الوسيط ومراحل تعلمه بحثًا عن " الزهرة الزرقاء " ، التي صارت رمزًا للحركة الرومانسية ، مُؤكِّدًا فيها معارضة الواقع النثري الجاف المقيت بعالَم الشِّعر الذي منحه المؤلف قوى سحرية تساعد الإنسان على انعتاق روحه وتحرير ذاته . وقد بقيت الروايتان غير مُكتملتَيْن .

     وكان آخر أعماله مقالة " المسيحية أو أوروبا " ، التي لَم تُنشَر قبل عام 1826 ، وهي رثاء لانقسام المسيحية الأوروبية بسبب حركة الإصلاح اللوثرية وعصر التنوير ، واستحضارٌ لعصر ديني جديد يعيش الناس فيه بنعيم وسلام ، ولكن في مستقبل قادم طوباوي الملامح، وهذا على نقيض تمجيده في أعماله السابقة لصورته عن العصر الوسيط الذهبي .

29‏/12‏/2021

نورمان ميلر والعداء للصهيونية

 

نورمان ميلر والعداء للصهيونية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

     وُلد الروائي الأمريكي نورمان ميلر(1923_2007)في بلدة لونغ برانش بولاية نيوجيرسي، ونشأ في حي بروكلين في مدينة نيويورك ، ودرس في جامعة هارفارد ، وتخرَّج فيها مهندسًا ، كما درس في جامعة السوربون في باريس . خدم في الجيش على جبهة المحيط الهادئ في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم عمل في الصحافة محررًا لمجلة " ديسِنت"(معارضة) في الفترة ( 1953_1963) كما أسهم في إصدار صحيفة صوت القرية في عام 1956.ومعَ كَوْنه مِن الذين أسهموا في حركة العصيان المدني والاحتجاج على المنظومة السياسية في الولايات المتحدة،رشَّح نفسه في عام 1969 لمنصب عمدة مدينة نيويورك،لكنه أخفقَ في الحصول عليه .

     حصل ميلر على جائزة بوليتزر مرتين ، وهو أبرز مَن استخدم أسلوبًا كتابيًّا جمع بين الواقعي والمتخيَّل ( مُقارنة بالنثر التَّخييلي ) ، أو ما عُرف بالصحافة الجديدة . ويُعتبَر ميلر مِن الكُتَّاب المتمردين والمتفردين في الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين .

     نشر ميلر في مطلع شبابه وفي أثناء دراسته في باريس، أُولى رواياته وأنجحها" العُراة والموتى " ( 1948 ) ، فلاقت صدى كبيرًا ، وكانت نَفَسًا جديدًا ، حيث صوَّر الحرب بأسلوب الطبيعية والتحليل النفسي ، وقدَّم العلاقات الإنسانية متمثلة في مجموعة صغيرة من الجنود ، والصراع بين التَّسلط في هيئة الجنرال كمنغز ، والحرية والإرادة الفردية في هيئة الضابط الصغير هِرن ، وما ينتج عن ذلك . كان مُمكنًا لهذه الرواية _ التي صارت من معالم أدب الحرب العالمية الثانية _ أن تجعل من كاتبها رمزًا لجيل ما بعد الحرب ، لكن ما تلاها من روايات لَم تَرْقَ إلى المستوى ذاته . ولَم يكن النقد رحيمًا بروايات مِثل : " ساحل البربر" ( 1951 ) ، وهو ساحل كاليفورنيا التي غاص فيها الكاتب في غياهب السياسة الأمريكية ، و " مُتَنَزَّه الأيائل " ( 1955 ) عن مشكلات فنَّاني هوليوود ، و " حُلم أمريكي " ( 1965 ) ، وفيها تتجلى الأمراض الأمريكية من هوس بالعنف والسيطرة والثروة والجنس .

     حاولَ ميلر إيجاد أسلوب كتابة صحفية خاص به ، فنجم عن ذلك مزيج من الأحداث الفعلية والدرامية المعقَّدة في مقالات وقصص مثيرة للجدل مثل : " إعلانات لِذَاتي " ( 1959 ) . وكان الجنس موضوعها الرئيسي،و"الأوراق الرئاسية"(1963) عن اغتيال الرئيس كينيدي، و"مارلين "   ( 1963 ) وهي شبه سيرة للممثلة مارلين مونرو، أثارت كثيرًا من التساؤلات، ومجموعة مقالات  " أكلة لحوم بشر ومسيحيون"( 1966). وتمكنَ ميلر من هذا الأسلوب، فكتب " ميامي وحصار شيكاغو " ( 1968 ) عن الاضطرابات السياسية والاجتماعية ، وأعمال الشغب والاحتجاج في أثناء حملة الانتخابات الرئاسية في عام 1968 . وأيضًا كتابه المهم " جيوش الليل " ( 1968 ) الذي قام بناؤه على المسيرة ضد البنتاغون في عام 1967 احتجاجًا على حرب فيتنام ، والتي شاركَ فيها الكاتب ، واعْتُقِل ، وغُرِّم . وقد حصد هذا الكتاب جائزة الكتاب الوطنية ، وجائزة بوليتزر عام 1969 .

     عادَ ميلر إلى موضوع العنف ، وتحدَّثَ في روايته " أغنية الجلاد " ( 1979 ) عن حياة المجرم غاري غيلمور وإعدامه . وحصلت الرواية على جائزة بوليتزر للنثر التخييلي لعام 1980 .

     بدأ أيضًا كتابة ثلاثية لَم ينشر منها سوى الجزء الأول بعنوان" العُتاة لا يَرقصون"( 1984 )، وهي رواية بوليسية تشويقية ناجحة ، أُخرجت للسينما عام 1987 .

     كتبَ ميلر كثيرًا غَير ذلك . ومن أنجح ما كتب روايته الضخمة " طَيف عاهرة " ( 1991 ) عن وكالة الاستخبارات المركزية، و" الإنجيل حَسَب الابن" ( 1997 ) على لسان السَّيد المسيح، و " القلعة في الغابة" ( 2007 ) ، وهي رواية مُتخيَّلة عن طفولة هتلر . وكانت آخر مؤلفاته .

     عُرف ميلر بعدائه للصهيونية حتى عدَّه بعضهم يهوديًّا لَم يعترف باليهودية ، وقد وقف ضد حرب أمريكا على العراق، لكن ميلر في كتاباته ومقولاته وحياته كان إجمالاً مثالاً للضياع في منتصف القرن العشرين ، وتعبيرًا عن الإشكاليات التي يعجُّ بها المجتمع الأمريكي ، في السياسة والحرب والعنف والجنس .

28‏/12‏/2021

نورمان مالكوم وتطبيق منهج فيتغنشتاين

 

نورمان مالكوم وتطبيق منهج فيتغنشتاين

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     وُلد الفيلسوف الأمريكي نورمان مالكوم ( 1911 _ 1990 ) في سلدن بولاية كنساس . درس الفلسفة والمنطق في  جامعة هارفارد ، ونال منها درجة الدكتوراة، ثم التحق بجامعة كامبردج سنة 1938، حيث التقى الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين ، وواظبَ طوال سنة 1939 على حضور محاضراته حول الأُسس الفلسفية للرياضيات ، ووقع تحت تأثيره ، وتبنَّى منهجه وأفكاره ، فكان من أشد أصدقائه . وكان للفيلسوف المنطقي مور أيضًا أعظم الأثر في تكوينه الروحي والعقلي ، ودفعه في اتجاه تحليلي وضعي منطقي ، أسهم في تطور الفلسفة الأنغلوسكسونية في النصف الثاني من القرن العشرين . ويُعتبَر مالكوم من أبرز مُمثِّلي النَّزعة التحليلية في الفلسفة .

     عاد مالكوم سنة 1940 إلى أمريكا للتدريس في جامعة برنستون، ثم التحق بالبحرية الأمريكية ( 1942 _ 1945 ). ومِن ثَمَّ عاد إلى التدريس في جامعة كورنل الأمريكية ( 1947_1958) ثم هاجر إلى بريطانيا .

     ترك مالكوم وراءه نتاجًا غزيرًا ، أشهره كتابه الرئيسي " المعرفة واليقين " ( 1963 ) ، وهو محاولة لفهم فيتغنشتاين،وشرح لفلسفته واستخدام منهجه لمعالجة موضوعات لَم يتناولها فيتغنشتاين مباشرة. كما نشر مالكوم كتبًا عديدة، منها " مذكرات لودفيغ فيتغنشتاين" ( 1958)، حلَّل فيه مضامين الرسائل التي وجَّهها إليه فيتغنشتاين على مدى أحد عشر عامًا، والبالغ عددها قرابة الخمسين حول مسائل عِدَّة ، وكتابه " فيتغنشتاين، وجهة نظر دينية " ( 1990 ). دوَّن فيه معظم آراء فيتغنشتاين وملاحظاته حول الدين طوال فترة حياته بدقة بالغة، كما عرض فيه الأساليب التي جذبته إلى أنماط التفكير الديني، والعقبات التي حالت بينه وبين الالتزام الديني التام، مقترحًا بالنهاية أربع نقاط متماثلة عمومًا بين مناهج فيتغنشتاين الفلسفية ومواقفه الدينية ، ثم " مشاكل العقل : مِن ديكارت إلى فيتغنشتاين "، و" الشعور والسببية " ( 1984 ) و" الذاكرة والعقل " و"التفكير والمعرفة" ، و " فرضيات فيتغنشتاين ، و " الحلم " .

     بدأ مالكوم نشاطه الفكري قريبًا من مواقع الوضعية الجديدة ، لكنه أولى اهتمامًا بالغًا بفلسفة العقل وحوادث الشعور . وقد تجلَّت أصالته في اتجاهه المنهجي الذي يصوغ به نسقًا تقنيًّا يُطبِّقه على بعض مسائل فلسفة العقل والشعور بهدف حلها ، فقد سعى في كتابه " الحلم " إلى تطبيق المنهج المنطقي التحليلي الذي طبَّقه مور وفيتغنشتاين على فلسفة اللغة والمعاني والدلالات ، كي ينتقد به أفكار ديكارت ، وفرضياته الشَّكية التي أتى عليها في كتابه " التأملات الأولى " ، ويُنحِّيها جانبًا، تلك التي تقول : (( لا يمكن في معظم حالات الحلم التمييز بين حالة الصحو وحالة النوم، بدعوى أن عقل الإنسان لا يعمل في حالة النوم،وأن معظم الحالات العقلية والشعورية  لها الحدوث المتكرر نفسه في الحالتين ( الصحو والنوم )، وما يُشاهَد في الحلم ما هو إلا استمرار للحالات العقلية نفسها التي يتمثلها الإنسان في حالة الصحو )) .

     وفي هذا الصَّدد ، يَسوق مالكوم برهانه على أساس وضع معايير لتمييز العمليات الذهنية ( حالات التفكير والشعور والإدراك ) ، التي تحدث في حالة الوعي وفي حالة النوم العميق، مُرتكزًا بذلك على تحليل معاني الحالات العقلية والشعورية ودلالاتها في الحالتين، وتطبيق منهج فيتغنشتاين المنطقي حول مبدأ قابلية التحقق من صدقها ، أي إمكانية اختبارها ، أو التثبت منها ، بُغية تجاوز التعارض بين الواقعية والموضوعات الخيالية والتناقضات ذات الوجود المستقل عن الذهن البشري ، والتي تُرَدُّ إلى سوء فهم ، أو سوء تحليل التصورات الفلسفية ، الذي ينجم عنه الخلط بين حالات الشعور والعمليات الذهنية ، فيؤدي ذلك إلى خلافات بين الآراء أو المذاهب الفلسفية حول بعض المسائل .

     ويخلُص مالكوم إلى القول إنه لا بُد من ترجمة العبارات الفلسفية وتأويلها ، وتحديد الشروط التي بها تصدق العبارات منطقيًّا ، وتتحدد بها مدلولاتها، وبهذا ينتقل مالكوم من التركيب المنطقي للعبارة إلى معناها وصدقها ، أي تحليلها من حيث هي رموز لبناء الكلام المعرفي، وعلى هذا النحو تستعيد الميتافيزيقا دورها الدلالي في التعبير عن أحوال وجدانية وعقلية .

27‏/12‏/2021

نعوم تشومسكي والنحو التوليدي

 

نعوم تشومسكي والنحو التوليدي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................


وُلد الفيلسوف وعالم اللسانيات نعوم تشومسكي(1928 _ ...) في حي " أوك لين " الشرقي بمدينة فيلادلفيا ( ولاية بنسلفانيا الأمريكية)، لعائلة يهودية يسارية الفكر. أبوه ينحدر من أوكرانيا، وأُمُّه من بيلاروسيا . نشأ مع أخيه في بيئة يهودية ، وتعلم اللغة العبرية التي كان والده يُدرِّسها ، وشهد نقاشات داخلية بين أفراد أسرته حول نظرية الصهيونية السياسية . تزوج مرتين وله ثلاثة أولاد . بدأ تشومسكي دراسته في مدرسة أوك لين كونتري، وأكمل المرحلة الثانوية في مدرسة سنترال بمدينة فيلادلفيا ، وحصل على البكالوريوس في الفلسفة واللسانيات من جامعة بنسلفانيا عام 1949 .

نال شهادة الماجستير عام 1951 بأطروحته " الصيغ الصرفية في العبرية "، والدكتوراة في اللغويات من نفس الجامعة عام 1955 .

انضمَّ تشومسكي في صغره إلى جمعيات متعددة، لكنه عُرف بانزعاجه من طريقة التدريس الصارمة آنذاك . أُعجِب بأفكار التيارات اليسارية ، وإن انتقد الماركسية فكرًا وسياسة .

كان صهيونيًّا في بداية حياته، لكن " صهيونيته كانت من النوع الذي يريد صاحبها قيام دولة اشتراكية في إسرائيل ، يعمل فيها اليهود والعرب جنبًا إلى جنب على قَدَم المساواة " . ثم اتهمته لاحقًا الأوساط الصهيونية بمعاداة السامية ، لأنه دافع عن حق أستاذ جامعي فرنسي في حرية التعبير دفاعًا عن حقوق الفلسطينيين ، وهو الدفاع الذي ما فَتِئَ تشومسكي يمارسه منذ عقود .

top-pageعمل تشومسكي عام 1955 مساعد أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بأمريكا، وعمل أيضا خلال الفترة ( 1957_ 1958 ) أستاذًا زائرًا بجامعة كولومبيا في نيويورك .

وفي نفس الفترة ، حصل على زمالة المؤسسة الوطنية للعلوم التابعة لجامعة برنستون . أصبح عام 1961 أستاذًا في قسم اللغات الحديثة واللسانيات ، بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا . وحصل خلال الفترة ( 1966_ 1976 ) على لقب أستاذ فخري للغات الحديثة واللسانيات، ثم عُيِّنَ عام 1976 برتبة بروفسور في هذا المعهد الذي منحه وظيفة أستاذ فيه مدى الحياة .

في ميدان تخصصه العلمي ، يُوصَف تشومسكي بأنه " أب اللسانيات الحديث" وصاحب نظرية "النحو التوليدي" التي تُعَدُّ أهم إسهام في مجال النظريات اللغوية في القرن العشرين. ومنذ التحاقه بالمعهد قام عِدَّة مرات بتعديل نظريته اللسانية،لكن مع الحفاظ على مُسلَّماتها الأساسية.

كما يُعتبَر مُنشِئ نظرية"تسلسل تشومسكي" الخاصة بالتحليل اللغوي. وفي المجال السياسي، اهتمَّ تشومسكي مبكرًا بالفلسفة الفوضوية ، وتوسَّعَ في انتقاد الرأسمالية الليبرالية والدعاية في وسائل الإعلام إضافة إلى السياسة الخارجية الأمريكية، لذلك فإنه لا يتردد في وصف نفسه بـِ " النقابي الفوضوي ، والليبرالي الاشتراكي ". ساند حركة الطلاب الاحتجاجية عام 1968، واعْتُقِل عِدَّة مرات حيث أدرجه الرئيس الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون ضمن لائحة "أعداء البلاد". كما اشْتُهِر عام 1967 بمعارضته للتورط العسكري الأمريكي في فيتنام من خلال مقالته  " مسؤولية المثقفين " فصُنِّف ضمن " اليسار الجديد". عارضَ الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003، وقال فيما بعد إن ذلك الغزو هو الذي خلق البيئة المناسبة لنشأة تنظيم داعش ، بسبب ما خلَّفه من تدمير للمجتمع العراقي وإرساء للطائفية فيه . ويقول إن الولايات المتحدة تخشى قيام أيَّة ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية، خاصة مع اندلاع ثورات الربيع العربي وتداعي قوى هيمنتها على العالم.زار تشومسكي قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2012 تضامنًا مع أهله المحاصَرين، وهو يُؤكِّد على الدوام أن إسرائيل تنتهج سياسات من شأنها زيادة المخاطر المحدقة بها إلى أقصى حد، " فهي سياسات تختار التوسع على حساب الأمن، وتقود إلى انحطاطها الأخلاقي وعُزلتها ونزع الشرعية عنها، الأمر الذي سَيُؤدِّي إلى دمارها في نهاية المطاف، وهذا أمر غير مستحيل ". ألَّف تشومسكي أكثر من مئة كتاب حول اللغة ووسائل الإعلام والسياسة والحروب، أهمها كتاب صدر عام 1966 بعنوان "مواضيع في نظرية القواعد التوليدية"، و"اللغة والعقل" عام 1968. وأصدر عام 1969 أول كتاب سياسي بعنوان "سُلطة أميركا والبيروقراطيين الجدد"، إضافة إلى كتبه:"حياة منشق" و"الحادي عشر من سبتمبر" و"هيمنة الإعلام" و"القوة والإرهاب". حصل تشومسكي على "جائزة أورويل" عامَي 1987 و1989 التي يمنحها المجلس الوطني لأساتذة اللغة الإنجليزية في بريطانيا، ونال عام 2004 جائزة "كارل فون أوسيتزكي" في ألمانيا. وفي عام 2010 حصل على جائزتين هما: "جائزة إريك فروم" في شتوتغارت بألمانيا، وأخرى من جامعة ويسكونسن تقديرًا لإسهاماته النقدية.صُنِّف في استطلاع للرأي قام به الفيلسوف الأمريكي بريان ليتر في المرتبة العاشرة ضمن أهم الفلاسفة في العالم الناطقين بالإنجليزية( 1945_2000).وتلقى عام 2008 الميدالية الرئاسية من الجامعة الوطنية لأيرلندا . كما حصل تشومسكي على درجات فخرية من نحو 39 جامعة عالمية من داخل أمريكا وخارجها، إضافة إلى عضويته في عِدَّة أكاديميات علمية أمريكية ودولية .

26‏/12‏/2021

نجيب محفوظ وزعامة الرواية العربية

 

نجيب محفوظ وزعامة الرواية العربية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................


     وُلد الروائي المصري نجيب محفوظ ( 1911_ 2006 ) في حي الجمالية بالقاهرة . كان والده موظفًا ، وكانت والدته ابنة أحد علماء الأزهر . سُمِّيَ نجيب محفوظ باسم مُركَّب تقديرًا من والده للطبيب المعروف نجيب باشا محفوظ الذي أشرف على ولادته التي كانت متعسرة .

     التحق بجامعة القاهرة في عام 1930 ، وحصل على ليسانس الفلسفة. شرع بعدها في إعداد رسالة الماجستير عن الجمال في الفلسفة الإسلامية ، ثُمَّ غيَّر رأيه ، وقرَّر التركيز على الأدب . انضمَّ إلى السلك الحكومي ليعمل سكرتيرًا برلمانيًّا في وزارة الأوقاف ( 1938_ 1945)، ثم مديرًا لمؤسسة القرض الحسن في الوزارة حتى عام 1954 . وعمل بعدها مديرًا لمكتب وزير الإرشاد، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة مديرًا للرقابة على المصنفات الفنية. وفي عام 1960 عمل مديرًا عامًّا لمؤسسة دعم السينما، ثم مستشارًا للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتلفزيون . وآخر منصب حكومي شغله كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما(1966_ 1971)، وتقاعدَ بعده ليصبح أحد كُتَّاب مؤسسة الأهرام .

     تزوَّجَ محفوظ في فترة توقفه عن الكتابة بعد ثورة 1952 من السيدة عطية الله إبراهيم، وأخفى خبر زواجه عمَّن حوله لعشر سنوات، مُتعللاً عن عدم زواجه بانشغاله برعاية أُمِّه وأخته الأرملة وأطفالها. في تلك الفترة كان دخله قد ازداد من عمله في كتابة سيناريوهات الأفلام ، وأصبح لديه من المال ما يكفي لتأسيس عائلة . ولَم يُعرَف عن زواجه إلا بعد عشر سنوات من حدوثه عندما تشاجرت إحدى ابنتيه أم كلثوم وفاطمة مع زميلة لها في المدرسة، فعرف الشاعر صلاح جاهين بالأمر من والد الطالبة ، وانتشر الخبر بين المعارف .

     بدأ محفوظ الكتابة في منتصف الثلاثينيات، وكان ينشر قصصه القصيرة في مجلة الرسالة. وفي عام 1939 نشر روايته الأولى " عبث الأقدار " التي تُقدِّم مفهومه عن الواقعية التاريخية. ثم نشر "  كفاح طِيبة "، و " رادوبيس " ، مُنهيًا ثلاثية تاريخية في زمن الفراعنة .

     وبَدْءًا مِن عام 1945 ، بدأ محفوظ خطه الروائي الواقعي الذي حافظ عليه في معظم مسيرته الأدبية برواية القاهرة الجديدة ، ثم خان الخليلي ، وزقاق المدق. وقد جرَّب محفوظ الواقعية النفسية في رواية السراب، ثم عاد إلى الواقعية الاجتماعية مع بداية ونهاية، وثلاثية القاهرة التي تتكون مِن : بين القصرين ( 1956) . قصر الشوق ( 1957). السكرية ( 1957) .

     بعد ذلك ، اتَّجه محفوظ إلى الرمزية في روايتَيْه الشَّحاذ، وأولاد حارتنا التي سبَّبت ردود فعل قوية، وكانت سببًا في التحريض على محاولة اغتياله . كما اتَّجه في مرحلة متقدمة من مشواره الأدبي إلى مفاهيم جديدة كالكتابة على حدود الفنتازيا كما في روايته الحرافيش ، وكتابة البَوح الصوفي والأحلام كما في عملَيْه أصداء السيرة الذاتية،وأحلام فترة النقاهة، اللذين اتَّسما بالتكثيف الشعري وتفجير اللغة والعالَم . تُعتبَر مؤلفات محفوظ من ناحية بمثابة مرآة للحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، ومن ناحية أخرى يمكن اعتبارها تدوينًا معاصرًا لهمِّ الوجود الإنساني، ووضعية الإنسان في عالَم يبدو مهجورًا، كما أنها تعكس رؤية المثقفين على اختلاف ميولهم إلى السُّلطة .

     توقَّفَ محفوظ عن الكتابة بعد الثلاثية، ودخل في حالة صمت أدبي، انتقل خلاله من الواقعية الاجتماعية إلى الواقعية الرمزية . ثم بدأ نشر روايته الجديدة " أولاد حارتنا " في جريدة الأهرام في عام 1959 . وفيها استسلمَ محفوظ لغواية استعمال الحكايات الكبرى من تاريخ الإنسانية في قراءة اللحظة السياسية والاجتماعية لمصر ما بعد الثورة، ليطرح سؤال على رجال الثورة عن الطريق الذي يرغبون في السير فيه ( طريق الفُتُوَّات أم طريق الحرافيش ؟)، وأثارت الرواية ردود أفعال قوية تسبَّبت في وقف نشرها،والتوجيه بعدم نشرها كاملة في مصر، رغم صدورها في عام 1967 عن دار الآداب اللبنانية . جاءت ردود الفعل القوية من التفسيرات المباشرة للرموز الدينية في الرواية، وشخصياتها أمثال: الجبلاوي، أدهم، إدريس، جبل، رِفاعة، قاسم، وعرفة. وشكَّل موت الجبلاوي فيها صدمة عقائدية لكثير من الأطراف الدينية .

     " أولاد حارتنا " واحدة من أربع روايات تسبَّبت في فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب ، كما أنها كانت السبب المباشر في التحريض على محاولة اغتياله . وبعدها لَم يتخلَّ تمامًا عن واقعيته الرمزية، فنشر ملحمة الحرافيش في 1977 ، بعد عشر سنوات من نشر " أولاد حارتنا " كاملةً ، كما أنه قد رفض نشرها بعد ذلك حرصًا على وعد قطعه لمندوب الرئيس جمال عبد الناصر بعدم نشر الرواية داخل مصر . وفي أكتوبر 1995 ، طُعن محفوظ في عنقه على يد شابين قد قرَّرا اغتياله ، لاتهامه بالكفر بسبب روايته المثيرة للجدل " أولاد حارتنا " .

     ومعَ أن محفوظ بدأ الكتابة في وقت مبكر، إلا أنه لَم يلقَ اهتمامًا حتى قرب نهاية الخمسينيات، فظل مُتَجَاهَلاً مِن قِبَل النُقَّاد لِمَا يُقارِب خمسة عشر عامًا قبل أن يبدأ الاهتمام النقدي بأعماله في الظهور والتزايد . يُعتبَر نجيب محفوظ رائد الرواية العربية بلا مُنازع، وأول عربي يفوز بجائزة نوبل للآداب (1988).

25‏/12‏/2021

حماية مسار التاريخ من القطيعة المعرفية

 

حماية مسار التاريخ من القطيعة المعرفية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................

1

     شُعورُ الإنسان بالضغوطات الاجتماعية يُمثِّل واقعًا جديدًا، يقوم على الربط بين العُمْقِ المعرفي للإنسان والبُنيةِ الجذرية للمجتمع . وكُلُّ واقع جديد هو بالضَّرورة منظومةٌ فكرية تشتمل على قواعدِ تفسير المعرفة الإنسانية ومَصَادِرِ الفِعْل الاجتماعي ، وإطارٌ تنظيمي يشتمل على أبعادِ السُّلوك الإنساني وعناصرِ النشاط الحياتي . وهذه المُكوِّناتُ الوجودية تُشكِّل ملامحَ هُوية الإنسان داخل المُحيطِ البيئي ، وتُجسِّد منطقَ اللغة الرمزي في الظواهرِ الثقافية المُتعلِّقة بأنماطِ الوَعْي ، والمفاهيمِ الوظيفية للجَوهرِ ( المَعنى الشمولي ) والهَيكلِ ( الفِكر الإبداعي) والنَّسَقِ (حقيقة البناء الاجتماعي). ومِن أجل منع الاصطدام بين عناصر المجتمع ومُكوِّناته، ينبغي تأسيس علاقات اجتماعية ذات طبيعة إنسانية ، تأخذ بعين الاعتبار حاجة الإنسان إلى الانتماءِ وتبادُلِ المشاعر مع الآخرين ، والارتباطِ بهم فكريًّا . وهذا مِن شأنه كشف تفاصيل الأجزاء المُتفاعلة في الأنساق الاجتماعية الظاهريَّة والباطنيَّة ، التي تُعْتَبَر شبكةً مِن الأنظمة العقلانية والروابط العاطفية والمعايير الأخلاقية . وإذا حافظت هذه الشبكةُ على تجانسها وتوازنها ، فإنَّ المُجتمع سَيُحافظ على التماسك والدَّيمومة وصَيرورة التاريخ . والتَّحَدِّيات الصادمة في هذا السِّياق ، تتجلَّى في كَون العلاقات الاجتماعية في غاية التعقيد ، والأدوات التحليلية للأفكار والمعاني شديدة التشابك ، والإنسان في سِباق معَ الزمن ، مِن أجل ابتكارِ آلِيَّات الوصول إلى فلسفة المعنى الاجتماعي ، وتكوينِ تطبيقات واقعية لتغيير الواقع ، وإنشاءِ تصوُّرات منطقية في عَالَم يَبتعد عن قُوَّة المنطق، ويَقترب مِن منطق القُوَّة. وهذه التحديات عبارة عن امتحان صعب لِقُدرة الإنسان، وإظهار لِمُستوى إمكانياته المعنوية والمادية . ولَيس أمام الإنسان إلا النجاح في هذا الامتحان مِن أجل المُحافظة على وحدة النسيج الاجتماعي ، وحمايته مِن التآكل والاضمحلال ، وتطهيره مِن الشروط القاسية المفروضة عليه ، والناتجة عن سياسة الأمر الواقع . وإذا كان كُلُّ واقعٍ جديدٍ هو منظومةً فِكريةً ، فإنَّ كُلَّ أمرٍ واقعٍ هو أداةُ ضغطٍ ، وأسلوبُ هَيمنةٍ ، ووسيلةُ سيطرةٍ . وسياسةُ الأمر الواقع لا يُمكن مواجهتها إلا بصناعة منهج اجتماعي قادر على صناعة سُلطة معرفية تنتشل الإنسانَ مِن المأزق الوجودي ، وتَحْمي المُجتمعَ مِن عُنصر المُفاجأة الناتج عن التحولات الديناميكية في بُنية الفِعل الاجتماعي ، على الصعيدَيْن الفردي والجماعي.

2

     العلاقاتُ الاجتماعية تَحفِر في الوَعْي الإنساني تاريخَها الخاص ، وهذا يَستلزم إعادةَ تقييم طبيعة المسار الحياتي ، هل هو مسار ناتج عن التراكم المعرفي عبر الأزمنة أَمْ هو مسار يُولَد باستمرار ويُعيد بناءَ اللحظة الآنِيَّة بشكل مُتواصل ؟ . وهذا السؤال في غاية الأهمية ، لأنَّ المسار الحياتي إذا كان ناتجًا عن التراكم ، فهذا يعني أنَّه يُولَد على شكل دفعات مُتتالية ، ووَفْق مراحل مُتعاقبة ، وبالتالي فإنَّ تاريخ العلاقات الاجتماعية لا مكان فيه للقفزات والعناصر الدخيلة . أي إنَّ ولادة المسار الحياتي بالتقسيط تُؤَدِّي إلى الحتمية التاريخية ، وتدل على أنَّ التاريخ يُعيد نَفْسَه ، ويتحرَّك ضِمن دائرة مُغلَقة . وإذا كان المسارُ الحياتي ناتجًا عن القطيعةِ المعرفية وتكوينِ طبقاتٍ مُنفصلة عن مبدأ التراتب، فهذا يعني أنَّه يُولَد بشكل مُفاجئ، وكُل ولادة تُمثِّل انقطاعًا عن الولادة التي تَسْبقها،وبالتالي فإنَّ تاريخ العلاقات الاجتماعية مليء بالصَّدَمات والطَّفَرات(التغييرات المُفاجئة في نمط بناء طبقات المجتمع باعتباره كائنًا حَيًّا ) . أي إنَّ ولادة المسار الحياتي الفَوْرِيَّة تُؤَدِّي إلى الاحتمالية التاريخية ، وتدل على أن التاريخ لا يُعيد نَفْسَه ، وأنَّه يتجدَّد باستمرار كمياه النهر ، ويتحرَّك بشكل خطي .

3

     بُنيةُ المجتمع المعرفية هي مَزِيجٌ مِن الأزمنة المُتَشَظِّية بِفِعْل انكماش الأحلام الفرديَّة ، وخَلِيطٌ مِن الأمكنة المكسورة بِفِعْل تراجع الطموحات الجماعيَّة . ومُهمة العلاقات الاجتماعية أن تُعيد بناءَ ذاكرة المُجتمع الزمنيَّة وذِكرياته المكانيَّة على أساس الوَعْي الإنساني بالذات ، والشعورِ بالعناصر المُحيطة بالذات ، وتبادلِ الأفكار معَ الآخرين بشكل يُحافظ على مسار التاريخ العام للمُجتمع بلا ثغرات لُغوية، ولا فجوات ثقافية،ولا انقطاعات معرفية. والمسارُ المُتَّصِل هو الضَّمانة الأكيدة لتدفُّق الفِكر الاجتماعي الإبداعي مِن المَبنى ( الإطار المرجعي لِسُلطة المجتمع ) إلى المَعنى ( ماهيَّة البُنى الثقافية ) . وكُلُّ علاقة اجتماعية لا تُوصِل إلى بناء ثقافي ، فهي علاقة هُلاميَّة قائمة على عناصر لُغوية مهزوزة ، وقواعد حياتيَّة مُضطربة . وكُلُّ بناء ثقافي لا يَحمل رسالةَ المجتمع الوجودية ، فهو بناء آيِل للسُّقوط ، لأنَّه لَم يتأسَّس على الوَعْي والشعور . وإذا تَمَّ استبعاد الوَعْي والشعور من شرعية الثقافة ومشروعها ومشروعيتها ، فإنَّ السلوك الإنساني سيُصبح حركةً ميكانيكيةً مُجرَّدة مِن روابطِ الماضي ، وأحلامِ الحاضر ، وطُموحاتِ المستقبل .

24‏/12‏/2021

نادين غورديمير والتفرقة العنصرية

 

نادين غورديمير والتفرقة العنصرية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................

     وُلدت الأديبة الجنوب أفريقية نادين غورديمير ( 1923_ 2014) في بلدة سبرينغز في منطقة المناجم في إيست راند بالقرب من جوهانسبرغ ، مِن أب ليتواني يهودي وأم إنجليزية مسيحية ، وتَرَبَّت في بيئة برجوازية بيضاء بمرجعية كاثوليكية . وبسبب مُعاناتها من مرض القلب في طفولتها ومُراهقتها ، كانت تقضي جُل وقتها في المطالعة والقراءة وهي طريحة الفِرَاش .

     ترعرعت في بيئة شهدت الكثير من فترات التفرقة العنصرية ، التي كانت تُمَيِّز أو تُؤمن بتفوُّق العِرْق الأبيض على نظيره الأسود، ولكنها لَم تحمل التفرقة العنصرية والمشكلات العِرقية في بلدها. وكتبت أول قصة لها في سن التاسعة ، وكانت عندها متأثِّرة بما قامت به الشرطة بجنوب أفريقيا مِن عملية مُداهَمة وتفتيش لمنزل خادمتها السَّوداء .

     تُعتبَر ناشطةً حقوقية ، وكاتبة مُناهِضة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا . كتبت ما يزيد على ثلاثين كِتابًا ، وحصلت على جائزة نوبل للآداب عام 1991 عن مُجمَل أعمالها المناهِضة للتمييز العنصري في بلادها . وقد حصلت سابقًا على جائزة بوكر الأدبية عام 1974 .

     وُصِفَت بأنها " سيدة الأدب الأفريقي " ، وأنها من " كُتَّاب الضمير " ، وَوَصفت هي نفسها بأنها " أفريقية بيضاء " .

     بدأت الكتابةُ مُبَكِّرًا ، فَقَدَّمت أُولى رواياتها "تعال غدًا ثانيةً " وهي في الخامسة عشرة . وفي نفس العُمر نشرت بعض كتاباتها في عدد من المجلات الأمريكية ، ثم نشرت مجموعتها القصصية الأولى " فحيح الحيَّة الخافت " عام 1952، وتوالت أعمالها بعد ذلك ، فأصدرت خمس عشرة رواية ، وخمس عشرة مجموعة قصصية ، إضافة إلى بعض الأعمال النقدية .

     تَنَوَّعت أعمالُها بين الروايات والقصص القصيرة، وكانت موضوعاتها الرئيسية تتناول تبعات الفصل العنصري والمنفى والاغتراب .

     وكانت آخر رواياتها " لا وقت كالوقت الحاضر " التي نُشرت عام 2012، عن مُناضِلين مخضرمين في مُقاومة نظام الفصل العنصري ، يُعالِجون القضايا التي تُواجِه المجتمع الحديث في جنوب أفريقيا . وكانت الكاتبة_ التي كرَّست جهودها لمجابهة نظام الفصل العنصري_ عُضْوًا قياديًّا بارزًا في المؤتمر الوطني الأفريقي، وحاربت من أجل إطلاق سراح الزعيم نيلسون مانديلا ، لِيُصبحا بعد ذلك صديقَيْن حميمَيْن .

     منعت الحكومةُ في جنوب أفريقيا عددًا من كُتب غورديمير في فترة الحكم العنصري في البلاد ، وقامت بالتَّضييق على الكاتبة من أجل إسكاتها وتهميشها ، ومنعها من إيصال صوتها الأدبي المؤثِّر .

     كانت غورديمير على علاقة مُميَّزة مع العالَم العربي والثقافة العربية ، وربطتها علاقة وثيقة بالروائي المصري نجيب محفوظ، وكانت مهتمة بأعماله . وقد كتبت مقدمة الترجمة الإنجليزية لكتابه " أصداء السيرة الذاتية " ، فضلاً عن مُناصرتها للقضية الفلسطينية ، ودعوتها لإيجاد حل يكفل حقوق الشعب الفلسطيني ، وإِن كان يُؤخَذ عليها حضور احتفالات الذكرى السِّتين لتأسيس الكيان الصهيوني ( ما يُسمَّى بدولة إسرائيل ) .

     تُرجِمت لها عِدَّة أعمال إلى اللغة العربية، مِنها " ضَيف الشرف "، و"قوم جولاي" ، و" العالَم البرجوازي الزائل " ، و " بلد آخَر".

     مِن أبرز رواياتها : أيام الكذب ( 1953) . عالَم من الغرباء ( 1958) . ضيف الشرف ( 1970) . شعب يوليو ( 1981) . قصة ابني ( 1990) . الحصول على حياة ( 2005) .