سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/02‏/2020

البحث عن التاريخ السري للأحداث

البحث عن التاريخ السري للأحداث

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

............

   إحساس الإنسان بالتغيرات الاجتماعية لَيس خيالاتٍ هُلامية ، وإنَّما هُو نظام فكري مُتماسك يتكوَّن مِن الصُّوَر الذهنية الناتجة عن الواقع ، ومَصادرِ تفسير هذا الواقع . ولا يُمكن فصل الصورة الذهنية التي تتشكَّل في وَعْي الإنسان عن إطارها الواقعي ، لأنَّ الواقع هو المنظومة المعرفية المركزية التي تُقدِّم التفسيرَ المنطقي للأحداث ، كما أن الواقع هو المرجعية لتحليل العناصر المثالية والمادية في العلاقات الاجتماعية ، وهذا يستلزم بالضرورة تفكيك عناصر التاريخ كما هو على أرض الواقع ، وليس كما نُحِبُّ أن يَكون ، وليس كما نتخيَّله في الأذهان.والتاريخُ الحقيقيُّ هو الذي حدث على أرض الواقع، وليس الذي تَمَّت أدلجته وتَسييسه في الأذهان تحت ضغط السُّلطات الأبوية ، التي تَخترع المُسلَّمات الافتراضية لتحقيق مصالح شخصية ومنافع ذاتية .
2
     مَن أُصِيب بالعطش في الصحراء ، عليه أن يَبحث عن المياه الجوفية داخل الأرض ، ولا يُضيِّع وقته في مُطاردة السراب فوق الأرض . ومَن أرادَ التفسيرَ المنطقي للأحداث ، عليه أن يَبحث عن العلاقات الاجتماعية داخل تاريخ الأمم والشعوب ، ولا يُضيِّع وقته في مُطاردة التفسيرات الجاهزة ، والتأويلات المُعَدَّة مُسْبَقًا ، والمُسلَّمات المُكرَّسة بفِعل التَّكرار الخاضع لمنطق القُوَّة لا قُوَّة المنطق .
3
     التفسيرُ الحقيقي للتاريخ يُشبِه الطعامَ الثقيل الذي يُطبَخ على نار هادئة ، ويَستغرق وقتًا طويلًا للنُّضج ،  ولا يُمكن أن يكون وجبةً سريعةً ، لأن عملية التفسير فِعل تراكمي تحليلي يقوم على تفكيك العناصر ثُمَّ تجميعها ، وترتيبها بشكل منطقي تسلسلي ، وهذا يستغرق وقتًا طويلًا، ويتطلَّب مجهودًا فكريًّا كبيرًا . وبما أن أغلب الناس يَميلون إلى الاستسهلال ، ويَتعبون مِن التفكير العميق ، ولا يُريدون إرهاق أنفسهم في عمليات عقلية مُعقَّدة ، فإنَّهُم يَقبَلون بالشيء المُتَدَاوَل دُون فَحْصه ، ويتمسَّكون بالحُلول الجاهزة دُون اختبارها ، ويَقبَلون بالأمر الواقع دُون النظر إلى ما وراء الواقع ، ويَلتزمون بالتفسيرات الشائعة دُون عرضها على قواعد المنهج العِلمي في البحث والاستدلال . إنَّهُم مُعجَبون بجَمَال الشَّجرة التي تُغطِّي الغابة ، ولا يُريدون اقتحامَ الغابة ، ومعرفة أشجارها. وهُم بذلك يُشبِهون الأشخاصَ الذين يتناولون الوجبات السريعة ، ويذهبون إلى النوم ، ولا يُريدون إضاعة وقتهم في المطبخ لتحضير الطعام .
4
     التعاملُ مع التاريخ يعني التعامل مع ثلاثة سِياقات معرفية متشابكة : أ _ التاريخ في الواقع ( التاريخ الحقيقي) . ب_ التاريخ في الذهن ( التاريخ المُتَخَيَّل ). ج _ تفسير التاريخ ( التاريخ المُختبئ وراء التاريخ ). ومِن أجل السيطرة على هذه السِّياقات الثلاثة ، وكشفِ أبعادها ، وتحليلِ مضامينها ، ينبغي إجراء عملية تَنقيب في الأنساق الاجتماعية ، وهذه العملية هي الضمانة الأكيدة للوصول إلى حقيقةِ المشاعر الإنسانية ، وماهيةِ السلوكيات الفكرية ضِمن الزمانِ والمكانِ. ولا معنى للتاريخ إلا مِن خلال إجراء حفريات واسعة في المُكوِّنات المعرفية للحضارة بشكل عام ، والمُكوِّناتِ الإنسانية للمجتمع بشكل خاص . ولا شرعية لتفسير التاريخ إذا لم يتم التفتيش عن الإنسان داخل الإنسان ، والبحث عن التاريخ السِّري للأحداث المَوجود خَلف الكواليس . وإذا لم يتم الوصول إلى الوجه ، فلا فائدة مِن معرفة الأقنعة .

23‏/02‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل السادس عشر

رواية جبل النظيف / الفصل السادس عشر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

     كان فايز يسأل عن حارس المقبرة. لم يَرَه منذ مدة بعيدة. سأل عنه باعةَ الخضار في ساحة مسجد طارق بن زياد . اتفقوا جميعاً على عدم رؤيته ، وتمنوا لو يُهاجر من هذا الجبل لأن قدومه كان نحساً عليهم .. هكذا قالوا . سأل عنه سائقي سيارات الأُجرة فأَخذوا يلعنونه ، ويقولون إنه تسبَّب في مجيء الأشباح إلى الجبل ، وإنهم يَرَوْنَ كوابيس في منامهم بسببه . أخذ فايز يناقشهم في خرافة الأشباح ، وأنها مجرد أوهام . ولكنْ لا حياة لمن تنادي .
     مضى إلى المقبرة فلم يجد غير بسام ابن عمِّه، وهو مشغول في القراءة والكتابة . اقترب منه بهدوء لأنه لا يريد أن يَقطع حبلَ أفكاره. انتبه بسام إلى قدوم ابن عمِّه ، فرحَّب به . جلسا بجانب بعضهما البعض . أسندا ظَهْرَيْهما إلى السُّور الذي تقشِّره أشعةُ الشمس كما تقشِّر السكينُ خدودَ البرتقال . لكن بسام ظلَّ ممسكاً القلم والأوراق ، ويكتب بكل مثابرة .
     قال له فايز :
     _ ماذا تكتب ؟ .
     لم يَقطع بسام عملَه . ظلَّ غارقاً في أفكاره ، وقال وهو مطأطئ الرأس :
     _ أحلُّ مسائل في الرياضيات لطالبة في مدرسة راهبات الوردية .
     ذُهل فايز من هذه الإجابة غير المتوقَّعة ، وقال واللهفةُ تتلاعبُ به :
     _ وكيف تعرَّفتَ إليها ؟ .
     _ أنا لا أعرفها ، ولكنها ترمي الأوراق في المقبرة ، وعندما آتي إلى هنا أجمعُ الأوراق المبعثرة وأُرتِّبها ، وأحلُّها ، ثم أُلصقها على السور الخارجي . وبصراحة ، صرتُ أحب هذه اللعبة .. تذكِّرني بلعبة القط والفأر .
     ابتسم فايز ساخراً ، وقال :
     _ لعبةُ الرياضيات أم لعبة الحب ؟.. ما زلتَ صغيراً على الرومانسية يا وَلد ! .
     ضحك بسام بشكل هستيري كشخص لم يضحك منذ قرون ، وقال :
     _ حرام عليك ! . هذه الطالبة في المرحلة الثانوية .. يعني في عُمر جَدَّتي ! .
     وما إن أنهى كلامَه حتى تفجَّر الدمعُ في عيون فايز . التفتَ إلى قبر جَدَّته قائلاً :
     _ الله يَرحمها .. كان أظفرُها بألف رَجل .  
     وأردف يقول :
     _ أصعب شيء في الحياة أن يموت الأشخاصُ الذين نحبهم قبل أن نخبرهم بأننا نحبهم .
     أحسَّ بسام أن كلماته فَتحت بابَ الآلام ، فاعتذر من فايز ، وقال له إنه لم يَقصد أن يُعيد الأوجاع .
     فركَ فايز عينيه ، وأراد تغيير الموضوع بسرعة ، فقال :
     _ أنا أصلاً جِئتُ لكي أسأل عن حارس المقبرة .. هل رأيتَه ؟ .
     ضحكَ بسام ، وقال بصوتٍ متذبذب بين المرح والمأساة :
     _ الحارسُ صار رَجل أعمال .. لقد افتتح مَكَب نفاياتٍ خاصاً به ! .
     تأفَّف فايز ، وبَدت على وجهه علاماتُ السخط ، وقال :
     _ لا أُحب المزاحَ في هذه المواضيع .. أَجِبْ على قَدْر السؤال أو اخرسْ .
     انتشرت التضاريسُ الخشنةُ على جبين بسام ، وقال بحدَّة :
     _ أنا لا أمزح . لقد صار يُجمِّع النفاياتِ قرب الكسَّارة التي يَعمل فيها أبي ، ويقوم بالتفتيش فيها عن كل شيء له قيمة..وإذا لم تُصدِّقني اذهب وشاهِد بنفسكَ.
     سَقطت أجفانُ فايز على حشائش المقبرة ، وقال بصوتٍ جارح :
     _ قُم .. سنذهب معاً . رِجْلي على رِجْلكَ .
     سارا في لهيب العواصف . خطواتُهما وهجُ الظلال النازف . الصمتُ يقودهما نحو فوهة الشموع الخرساء . كانت النسورُ تطير في رئة الشمس فوق مَكَب النفايات . أجنحتها اللامعةُ تغطِّي الأفقَ الملتهب . والضجيجُ يملأ المكانَ . الجميعُ في حركة مستمرة .
     كان حارسُ المقبرة يَجلس على كرسي هزَّاز قرب أكوام النفايات ، ويُلقي الأوامرَ على الأطفال الغاطسين بين القمامة ، ويُوجِّههم نحو الجهات المختلفة . إنهم في حركة دؤوبة لا تحتمل الكسلَ أو الهدوء .
     وما إن رأى فايز وبسام قادمَيْن حتى قفز في الهواء كلاعب السيرك ، وأسرع إليهما مُرَحِّباً . وقد استغربا كيف صار هذا العجوز الذابل رياضياً رشيقاً .
     قال الحارسُ :
     _ أهلاً وسهلاً بالعُضْوَيْن في مجلس الثورة .
     نظر فايز حَوْله ، وهو غير مصدِّق ما يَحدث ، وقال باستغراب شديد :
     _ ماذا تفعل في هذا المكان القذر ؟! .
     ابتسم الحارسُ قائلاً :
     _ هذه قصة طويلة .. تعالا إلى مكتبي المتواضع لنشرب الشاي ، ونتحدث في الموضوع .
     كان مكتبُه عبارة عن طاولة صغيرة عليها أوراق وأقلام وآلة حاسبة ، ويحيط بها عِدَّة كراسي تافهة .
     نادى الحارسُ على أحد الأطفال :
     _ يا وَلد .. أحضِر لنا إبريق شاي مع ثلاث كاسات .
     وانطلق صوتٌ ذابل من بين أكوام القمامة :
     _ أمرك يا معلِّم ! .
     وبعد وقتٍ قصير جاء طفلٌ صغير يَحمل إبريقَ الشاي مع الكاسات . وضع
الحارسُ الكاساتِ على الطاولة . صَبَّ الشاي فيها ، وقال للطفل :
     _ مع السلامة .. اذهبْ في ستين داهية ! .
     ابتسمَ الطفلُ رغمَ أن الدموعَ السحرية في عينيه كانت تتوهج ، وقال :
     _ أمرك يا معلِّم ! .
     قال فايز :
     _ لماذا تعامله بهذا الأسلوب ؟! .
     صمتَ الحارسُ ، وحدَّق باتجاه أجنحة النسور في أعالي الحزن ، ثم قال :
     _ هؤلاء الأطفال يجب أن تريهم العين الحمراء . يجب أن يظلوا مسحوقين تحت الأقدام لكي يَعملوا على مدار الساعة .. لا وقت عندي للحنان ولا الرومانسية.
     تضايق فايز ، وذابَ قلبُه في البخار المنبعث من الشاي ، وقال :
     _ حرام عليك .. هؤلاء أطفال في عُمر أحفادك .
     تجهَّم وجهُ الحارسِ. طأطأ رأسَه كأنه يَنتشل الذكرياتِ السحيقة من بئر الأيام ، ثم قال والألَمُ يتفشى في حروفه :
     _ أحفادي ! . أين هُم أحفادي ؟ .. أولادي الذين أنجبتُهم ورَبَّيْتهم ودفعتُ دَمَ قلبي من أجل تعليمهم رموني في ملجأ العَجزة والمسنِّين..وأنتَ تقول لي: أحفادك؟!.
     وأردف قائلاً :
     _ اشربا الشاي .. لا فائدة من الأولاد ولا الأحفاد ! .
     أراد فايز وبسام التهرب من شرب الشاي الذي بدا لونُه غريباً بعض الشيء ، كما أنهما أُصيبا بالقرف من منظر القمامة . ووجودُ الشاي في هذا المكان يبعث فيهما الغثيان . أمَّا الحارسُ فكان يَشرب الشاي غير عابئ بكل ما يَجري حَوْله .
     قرَّر فايز تغيير الموضوع ، وإنهاء اللقاء بسرعة ، فقال :
     _ باختصار شديد .. ماذا تفعل هنا بالضبط ؟ .
     _ بدون مقدِّمات . نحن نَجمع الزبالة في هذا المكان ، والأطفالُ يقومون بفصل المواد البلاستيكية وعلب المشروبات الغازية ، وفرزِ كل شيء له قيمة من أجل بَيْعه.
فالأطفالُ عيونهم ستة على ستة . يعني نظرهم حاد ، ويمكنهم تمييز المواد وفصلها . 
     قال بسام بكل براءة :
     _ وما ذَنْب هؤلاء الأطفال الفقراء ؟ .. لا بد أن يُصابوا بالأمراض والجراثيم .
     _ أنا لا أضرب أحداً على يده ليعمل معي. بلا مؤاخذة ، كل وَلد يأخذ أُجرته
نهاية اليوم ، ولا آكل حقَّ أحد . والذي يَمرض أو يَموت مع ألف سلامة .. لَدَيْنا ألف وَلد مكانه .
     كيف صار حارسُ المقبرة قاسياً إلى هذا الحد ؟! . مشاعرُه أضحت في زاوية الربح والخسارة . لقد تغيَّر كثيراً منذ ابتعاده عن المقبرة . وربما غيَّر هاجسُ المال أحاسيسه ، وبدَّل قناعاتِه . هذه الأفكار كانت تَطوف في ذِهن فايز وبسام مع اختلاف زاوية الرؤية . وقد فكَّر فايز أن يَطرد الحارسَ من مجلس قيادة الثورة ، ويمنعه من حضور أي اجتماع للقيادة ، لكنه تخلى عن هذه الفكرة قائلاً في نَفْسه :
     _ الدمُ لا يَصير ماءً ، وسيظل الحارسُ مِنَّا وفِينا رغم كل شيء .
     افترَقوا . ذهب كلُّ واحد في طريقه . كل شخص مؤمن بقناعاته . الشموسُ طَوَتْها ثيابُ الحِداد ، وما زال البشرُ يَمشون . يَركضون في أنفاق العُمر . قد يُولَد ضوءٌ في النهاية ، وقد لا يُولَد . تظل الاحتمالاتُ هي الدستور الشفهي لهذه الوجوه المعجونة بعَتمة الأزقة ، والمختفية وراء ظلال النوافذ المكسورة .
     عاد بسام إلى بَيْته ، والخواطرُ تتلاعب به . دَخل المطبخَ الصغير . جهَّز ثلاث سندويشات ، وأخرج من الثلاجة علبة مشروبات غازية . إنه يتجهز للسَّفر . أينَ سيُسافِر ؟. إنه يسافر عبر الزمان.. يطوي الأمكنة، ويَقفز من نَفْسه ليتزوج بناتِ أفكاره . قرَّر الذهابَ إلى عالَمه الخاص .. إنه قَبْو مَنْزله .
     وهذا القبو لا بابَ له . والدخولُ إليه يتم من خلال فجوة في الجدار. وقد اتخذ بسام القبو صومعةً له ، ومختبراً عِلمياً لإجراء أبحاثه التي تحتاج إلى أدوات ومعدات .
     إن بسام قد قسَّم عُمره إلى قِسْمَيْن : الرياضيات والعلوم . وقد اتخذ من المقبرة مقراً لإجراء الحسابات الرياضية ، والتبحر في نظريات الرياضيات . أمَّا القبو فصار مختبَراً للعلوم ، لأن فيه أدوات عديدة لا يمكن نقلُها إلى المقبرة. ولا نبالغ إذا قُلنا إن حياته هي المسافة بين القبو والمقبرة ، أو بين المقبرة والقبو . وهو يقضي ساعاتٍ طويلة في القبو في إجراء الأبحاث ، ولا يُرافقه غير الصراصير ، وأحياناً الفئران .
     لم يَستطع بسام التحرر من أفكار حارس المقبرة حول مكب النفايات . كان مُعجَباً بفكرة فرز النفايات ، وفصلِ المواد . لماذا لا تتم الاستفادة من النفايات ؟ . إنها كنز ثمين يُنظَر إليه على أنه شيء تافه . السرُّ في الإدارة لا الموارد . وأحياناً يكون البروازُ أجمل من الصورة . قد يَكتب الشاعرُ قصيدةً جميلة عن شيء قبيح ، والعكس صحيح. إذن ، لا بد من إمساك الخيط ، والسيطرة على العناصر المحيطة . فالمسيطر هو القوي .
     أدرك بسام هذه المعاني ، وأدرك كذلك أنه أمام اختبار صعب سوف يُحدِّد مصيرَه العِلمي إلى الأبد. أخرجَ من جَيْبه علبة كبريت، وتناول عودَ ثقاب ، وأشعلَ فتيلةَ المصباح الذي كان مصدر الإضاءة الوحيد في القبو . وراح يُسجِّل بعض الملاحظات السريعة على دفتره بشكل مُرقَّم :
     1_ يجب حماية الأطفال من الأمراض والجراثيم، وتزويدهم بقفازات ، وملابس خاصة للحفاظ على صحتهم .
     2_ ضرورة تصميم جهاز آلي لفصل المواد البلاستيكية ، وعلبِ المشروبات الغازية ، ويكون التجميع في حاويات خاصة .
     3_ إيجاد آلية لجمع النفايات دون التسبب في تلويث البيئة .
     4_ الاستفادة من الغازات المنبعثة من النفايات .
     صار هذا المشروع هو الشغل الشاغل لبسام . إنه مشروع تخرُّجه من جامعة الذكريات . فإذا نجح فيه فسوف يَخرج من تحت الأرض ، ويصبح نقطةً مضيئة في التاريخ . سوفَ ينتشل تاريخَه الشخصي من بئر الإبادة . وإذا فشل سيظل عائشاً تحت الأرض مثل الجرذان ، ويَذهب إلى النسيان مثل الملايين الذين يُولَدون ويموتون دون أن يَتركوا بصمةً في حياتهم .
     وفي هذا القبو ، إمَّا أن تَنطلق شرارةُ المعنى ، أو يَحترق هذا الولدُ إلى الأبد مثل فراشةٍ ماتت قبل أن تُولَد . لا بد من المغامرة وليس المقامرة  . لا يوجد عنده ما يَخسره. سَيَلعب الجوكر ، ويَرمي بكامل ثقله في جسد الأحزان الأخضر ليُفجِّره .. مرة واحدة ، وللأبد .

21‏/02‏/2020

الفرق الجوهري بين اللغة والإنسان

الفرق الجوهري بين اللغة والإنسان

للمفكر / إبراهيم أبو عواد

...............

     الحقائق الاجتماعية لا تتجذر في بنية العلاقات الإنسانية، إلا إذا كانت اللغة هي الحاضنة لأحلام الفرد وطُموحاتِ الجماعة . واللغةُ لَيست آليةً ميكانيكيةً عابرةً ، أو عمليةَ تجميع روتينية للحروف والكلمات ، إن اللغة هي الشرعية الرمزية الدائمة للوجود الإنساني المُؤقَّت . وبعد مَوت الإنسان ، تظل لُغته حَيَّةً ، وشاهدةً على وُجوده وأفكاره وأسلوب حياته ، لذلك ينبغي الاستثمار في اللغة ، لأنَّها البصمةُ المُؤثِّرة التي لا تُزوَّر ، والوجودُ الحقيقي الفَعَّال في عَالَم الأقنعة والزَّيف والرِّياء ، وكُل فلسفة اجتماعية لا تُبنَى في قلب اللغة ، ستسقط في الفراغ ، وتُؤَسِّس للعدم .
2
     التعامل مع اللغة هو تعامل مع وجود الإنسان وعناصرِ الطبيعة ، لأنَّ اللغة هي العَالَم السِّحْري القادر على اختزالِ المشاعر ، وتكثيفِ المضامين الاجتماعية ، وتأطيرِ الزمكان ( الزمان _ المكان ) ،  وصَهْرِ عناصر الطبيعة ومُكوِّنات البيئة في بَوتقة معرفية واحدة ، وربطِ النُّظم العقلانية المُجرَّدة بالرُّوحانية الحالمة . وهذا يعني أن اللغة هي المنظومة الشمولية التي لا تتفكَّك ، والكُل الذي لا يتجزَّأ .
3
     إذا أردنا معرفةَ أهمية الشَّيء ، ينبغي تصوُّر الحياة بدونه . وإذا أردنا معرفةَ أهمية اللغة ، ينبغي أن نتصوَّر وجود الإنسان في هذا العَالَم بدونها . سيكون العَالَمُ كئيبًا مُتَوَحِّشًا ، ويَكون قلبُ الإنسان مُوحِشًا ، وكيانه فارغًا ، وأحلامه ضائعة . سيُولَد الإنسانُ ، ويَعيش ، ويَموت ، ويذهب إلى النسيان ، ضِمن دائرة استهلاكية مُغلَقة تقوم على الأكل والشُّرب والنَّوم . وهذا دليل واضح على أن اللغة هي التي تَمنح المعنى للوجود والجَدوى للحياة . وإذا أدركَ الإنسانُ أن حياته لها معنى ، سيُدافع عنها ، ويعيشها بكل تفاصيلها ، رُوحيًّا وماديًّا . أمَّا إذا أدركَ الإنسانُ أن حياته بلا معنى ، فإنَّه سينسحب منها ، ويتراجع إلى داخل نفْسه ، ويَهرب مِن الزمانِ والمكانِ ، وعندئذ سيشعر أن سِجنه في داخله ، وأنَّه مُحاصر من كل الجهات . وهذا هو المَوت في الحياة ، والانتحار التدريجي .
4
     اللغة تَحْمي الإنسانَ مَن الانتحار المعنويِّ والماديِّ ، لأنَّها تَصنع له حياةً ذات مَعنى على الصعيدَيْن الرمزي والشُّعوري، وتُوجِد في المجتمع منظومةً فكرية قادرة على تفسيرِ المشاعر، واحتضانِ الأشواق الروحية ، والعنايةِ بالنزعات المادية ، فَيَصِل الإنسانُ إلى التوازن الداخلي، الأمر الذي يَجعله ذا شخصية سَوِيَّة قادرة على التعامل مع عناصر الطبيعة بحُب واحترام ، وهكذا تزول العداوة بين الإنسان ومُحيطه الخارجي، وتختفي دوافع الانتقام والثأر من المجتمع ، التي تُسيطر على مشاعر بعض الناس ، نتيجة شُعورهم بأنهم مَنبوذون ومُضْطَهَدُون ومَظلومون ، وأنَّ المجتمع يتآمر ضِدَّهم ، ويتحرَّك باتجاه مُناوئ لمصالحهم .
5
     اللغة مشروع خلاص جماعي ، يُشارك جميعُ الناس فيه بدافع المحبة والإحساس بالواجب ، بدون ضغط ولا إكراه . والسبب في هذا الأمر يَرجع إلى كَوْن اللغة عَصِيَّة على التَّدجين ، ولا تَخضع للاحتكار . ولا يُوجد إنسان _ مهما علا شأنه _ يَستطيع أن يدَّعي امتلاكَ اللغة ، أو يَزعم أن اللغة مِلك شخصي له ، أو سُلطة خاصَّة ورثها عن أسلافه . إنَّ اللغة هي السُّلطة العُليا التي تَفرض قواعدَها على الجميع ، ولا تتلقَّى الأوامرَ مِن أحد ، وهذه السيادة الفَوقية ، تَجعل اللغةَ هي الأُم الحاضنة لأبنائها، الراعية لهم ، حيث يَعودون إلى حِضنها ، ويَحتكمون إلَيها ، وهذا يُشعِرهم بالعدالة والمُساواة والأمان ، حيث إن لهم مرجعيةً شرعيةً ، وحِضنًا دافئًا .
6
     صِفة الجماعية في اللغة هي القادرة على تفسير مصادر المعرفة، وربط المشاعر غَير المحسوسة بالوجود المحسوس، وإنهاء الصراع بين الإنسان ونفْسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان ، وبين الإنسان وعناصر الطبيعة ، لأنَّ الصراع نار مُتأجِّجة في صدر الإنسان ، انتقلت إلى الواقع ، وانتشرت بشكل كارثي ، وأحرقت الأخضرَ واليابسَ ، لأنها لم تجد مَن يُطفِئها في مَهْدها . وَلَوْ فرَّغ الإنسانُ أحزانَه في اللغة ، وأطفأ نارَ حِقده بالكلام المنطقي العقلاني الهادئ ، واعتبرَ اللغةَ هي طبيبه النفسي الذي لا يَخدعه ، ولا يَخونه ، ولا يُجامله ، لاختفى الصراعُ ، وزالَ الصِّدام . فاللغةُ قائمة على القواعد المنطقية ، والحُجَج العقلانية ، والأدلة المعرفية ، والبراهين الفكرية ، أمَّا الإنسان فهو كُتلة مِن المشاعر المُتغيِّرة ، والأحاسيس المُتقلِّبة ، وهو كائن خاضع لضغط العناصر الحياتية ، وهذا يُفَسِّر مِزاجية الإنسان ، واختلاف سُلوكه حسب الوقائع والأحداث . وهذا الفرق الجوهري بين اللغة والإنسان ، يَجعل اللغةَ هي الكائن الحَي صاحب السِّيادة المُطْلَقَة على الإنسان ( الكائن الحَي المِزاجي النِّسبي الذي لا يُمكن أن يَصدُر عنه قِيَم مُطْلَقَة ) .

19‏/02‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الخامس عشر

رواية جبل النظيف / الفصل الخامس عشر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............

     انتهت الحفلةُ . وبدأت حفلةُ الموت الخاصة برأفت . خرج من الفيلا ، ودخل في قصر الليل . صداعُه غابةٌ منسية في رسائل الموج . ودموعُه تحرق الشوارع . شَعر أنه مصاب بعمى ألوان . المناظرُ أمامه تتداخل بصورة غريبة ، والأصواتُ تصير ألواناً ، والألوانُ تصير أصواتاً .   
     أوقفَ سيارة تاكسي ، وطلب من السائق أن يوصله إلى جبل النظيف . جلس في المقعد الخلفي ، وغرق في النوم . لاحظَ السائقُ التعبَ العميق على وجه هذا الراكب العائش بين المومياوات . شَغَّل العدَّاد ، ثم فكَّر لو يَدور في الشوارع ، فتزداد المسافة ، ويحصل على أُجرة أكبر . لكنه طردَ هذا الخاطر الخبيث قائلاً في نَفْسه :
     _ لا تكن نذلاً ، ولا تستغل ضعفَ الآخرين .
     وعندئذ فكَّر في كل الطرقات المختصرة التي يمكن أن تقلِّل الأُجرة .
     وَصلت السيارة إلى المكان المدفون تحت أقواس الحزن لا النصرِ ، وراح السائق يوقظ رأفت . استيقظ رأفت من مَوْته ، وهو يَنظر حَوْله كالمصروع . حاول أن يتذكر مجريات الأحداث ، ويعيد السيطرة على أعضائه . أخبره السائق بأنهما في جبل النظيف. نظر رأفت إلى العدَّاد الذي ظهر كإشارة مرور حمراء . دفعَ للسائق ، وسامحه بالباقي .
     مشى إلى بيته . كلُّ الأزقة أبوابٌ مغلقة أمام طيور الوهج . بيتُه ضريحٌ هادئ . وَحْدَها أُمُّه كانت في انتظاره . وما إن رأتْه حتى قالت له :
     _ هل أُعِد لك طعاماً ؟ .
     اقترب منها ، وقبَّل يَدَها ، وقال بصوتٍ حزين :
     _ أخبرتُك يا أُمِّي ألا تنتظريني ، فسوف أتناول الطعام في الخارج .
     _ خفتُ عليك أن تنام جائعاً .
     وبصورة غير متوقعة ، راح رأفت يبكي كالطفل الصغير ، وارتمى في أحضان أُمِّه . أُصيبت أُمُّه بالحيرة ، واستغربت هذا التصرفَ المفاجئ ، وقالت :
     _ لماذا تبكي يا رأفت ؟ .. هل مات أحد أقاربنا ؟ .
     _ أنا مِتُّ يا أمي ! .
     _ لا تقل هذا يا حبيبي . ستبقى _ إن شاء الله _ كالحصان ، وتعيش لترى أولادك وأحفادك .
     أحسَّت أُمُّه أن أمراً كارثياً قد حَصل ، فليس من عادة رأفت أن يبكيَ ، أو أن يكون ضعيفاً بهذا الشكل . إنها قلقة عليه للغاية ، وخائفة إلى أبعد حَد .
     سألَتْه بحدَّة :
     _ ماذا حصل يا رأفت ؟ .. صَارِحني .
     شَعر أنه في ورطة حقيقية، فهو شخصياً لم يتوقع أن ينهار بهذه الصورة أمام أُمِّه، فلم يجد مفراً من الكذب عليه ليريحها ، فقال :
     _ أحد طلابي رَسب في الامتحان مع أني دَرَّسْتُه جيداً ! .
     تنفست أُمُّه الصعداء ، وابتسمت قائلة :
     _ إن شاء الله تكون هذه أكبر المصائب . الطلابُ يَرسبون ويَنجحون . الأمرُ عادي . وقل له أن يدرس أكثر ، وسوف يَنجح في المرة القادمة بإذن الله .
     مضى رأفت إلى غرفته ، وهو يقول بسخرية :
     _ سوفَ أُخبره أن يَدرس أكثر في المرة القادمة لينجح ، ويتخرج من الجامعة ،
ويصبح عاطلاً عن العمل ! . 
     جلس على كرسي مكتبه . وأدرك في تلك اللحظة المخيفة أن الحل الوحيد لتفريغ عواطفه هو الكتابة . وطالما أحب أن يصبح كاتباً مشهوراً ، لكن " العين بصيرة واليد قصيرة "، كما يقولون . هذه هي اللحظة المناسبة ليؤلف كتابَه الأول . كل الأحداث جاءت إليه . ارتمت على مكتبه بكل تفاصيلها ، وما عليه إلا أن يَنظمها بأسلوبه ، ويصبُّها في قوالب أدبية . ما هو الشكل الأدبي الذي سيختاره ؟ . أطرق ملياً ، ثم لمع العنوان في رأسه : " خواطر رَجل تافه أحب زوجةً خائنة " .
     هل سينشره أم سَيُخَبِّئه في درج المكتب ؟ . عنوان لافت للنظر ، وسَيَجذب آلاف القراء أو ربما الملايين ، فيصبح كاتباً غنياً تركض وراءه وسائلُ الإعلامِ وعدساتُ المصوِّرين . وقد يُتَرْجم إلى عدة لغات فيصبح كاتباً عالمياً مثل ماركيز أو فوكنر. ولكنْ قد تعترض الرقابةُ على العنوان . هل سَيُسَمِّي الشخصيات بأسمائها الحقيقية ؟!. سوفَ يلاحقونه قضائياً، وربما يَمنعون الكتابَ ، ويَخسر كلَّ أحلامه .
هل سيعتمد على أسلوب الفضائح ؟ . إن المنع والفضائح وقضايا المحاكم سوف ترفع نسبةَ توزيع الكتاب ، والترويج له داخلياً وخارجياً . كل هذه الأفكار اصطدمت في ذهنه . وهو حتى هذه اللحظة لم يكتب أيَّ حرف على الورق .
     وصل إلى قناعة مفادها أن الكتابة حاجة شخصية..تفريغ للمشاعر على الورق. وهو لا يَطمح أن يكون رَجل أعمال ، أو يتلاعب بمشاعر الناس ليبنيَ إمبراطورية البزنس . هذا بالضبط ما توصَّل إليه بعد صراع مرير مع نَفْسه .
     جهَّز الأوراقَ ، وأمسكَ قلمَ الحِبر ، وراح يَكتب منقطعاً عن العالَم :
     [ هل ستصبح حياتي المنطقية مجرد نزوة ؟ . هل يتحول القطارُ البخاري إلى إبريق شاي يغلي على نار العشق ؟ . موقدة منسية يجلس أمامها عاشقان في كوخ منسي في غابة من الحطب . لأني أكرهكِ أحبكِ ، لأني أهرب منكِ آتي إليكِ . مِن أين تأتي الأحزان ؟ . كيف يُولَد الحبُّ في الجثث المتفحمة التي تَنشرها القلوبُ على حبل الغسيل ؟. ربما نمتلك نَفْس قارورة العِطر ، لكنه عِطر قاتل يَسيل على نوافذ المطر الذي لم يجيء إلى صحراء الروح. السمكةُ ابتلعت الطُّعمَ أم الطُّعمُ ابتلع السمكةَ ؟. كلماتي محطةُ تشويش تُدمِّر رادارَ أعصابي. وأفكاري بئر التناقضات . هكذا تصبح الفوضى هي النظام الحاكم في مشاعري. أدفنُ جثتي في علبة السَّردين، ويَكتشفُ قَبري الغزاةُ المعلَّبون في أجساد مدافعهم .
     الذكرياتُ الرمادية خلفَ الستائر الذهبية ، والعوانسُ على شُرفات الطوفان . حِقْدي على نَفْسي لا يُوفِّر لي وقتاً لأحقد على الآخرين . كَم أحتاج من الوخز لأموت على صدرها ؟ . هذا العاشقُ لا يَنهار إلا إذا كان لديه قابلية للانهيار . وهذه النملةُ التي تَمشي على مكتبي أفضل مني لأنها لا تَعْصي اللهَ .
     كلُّ وجوه النساء اللواتي مررنَ في حياتي هي وَجْهُ امرأةٍ غامض مَرَّ خلف زجاج أحد القطارات بينما كنتُ جالساً في المحطة . نساء يَسقطنَ في الوهمِ يرسمنَ صورةً مسبقة لقصة حب مخترَعة ثم يُسقطنَ الأحداث وفقها . إن رأيتَ عروساً زُفَّت إلى زوجها ، فهذا لا يعني بالضرورة أنها تحبه . كانت أشعةُ الشمس متعامدة مع شواهد القبور . هذه الأرض التي ندمرها سوف تنتقم منا . ستصبح الذكرياتُ لعنةً تطردنا وتطاردنا . عِشنا معاً يا قططَ الشوارع ، لكننا لم نعرف أننا أصفار على الشمال ، مجرد أصفار لا وزن لها . نضحك ، لكننا نضحك على أنفسنا ، ونلعب بمصيرنا واثقين من الفشل . نحن أرقام .. مجرد أرقام خارج ميزانية الحضارات المنقرضة . نُلدَغ من نَفْس الجحر مئات المرات . تصبحُ الذاكرةُ امرأةً جسدُها مع زوجها ، وقلبها مع رَجل آخَر. ذكرياتُنا مصابة بانفصام في الشخصية. نحن غرباء عن أنفسنا. اكتئابي كالبيات الشتوي للدببة القطبية ، تخرج من بياتها فاقدةً ثلثَ وزنها ، تبحث بكل جنون عن الفقمات . ننتقل من فشل إلى فشل . ومن فَرْطِ ما فشلنا ، صار الفشلُ هو النجاح الوحيد ، وصارت هزائمُنا الكثيرة هي الانتصار الوحيد .
     لا أقلق على مستقبلي لأنه ليس لي مستقبل . صرتُ مثلَ قائد الطائرة ، إمَّا أن يوصلها بسلام أو يموت مع الركاب.. لا مجال للهرب. وعندما تَسقط الطائرة ، ستذهب قصصُ الحب التي خاضتها المضيفاتُ إلى النسيان . تتلاشى الحكاياتُ في وقود الطائرة المحطَّمة مثل الذكريات المحطَّمة. وهذا الإنسانُ دمَّر الأرضَ، وسيذهب لكي يكتشف المريخَ. قضيتُ حياتي هارباً من نَفْسي. صرتُ أخاف الالتقاءَ بوجهي. أخاف من المرايا .. كسرتُها . أن تَطلب مني التخلي عن اكتئابي مثل أن تَطلب من الراقصة التخلي عن رقصتها . كان عليَّ أن أبتعد عن المرأة التي أعشقُها ، لأحافظ على صورتي كأسطورة أو أيقونة .. زجاجٌ بعيد عن اللمس لئلا يُخدَش . لكني الآن أسطورة مَيْتة .. أيقونة محترقة .. مزهرية مكسورة . 
     كُنَّا نحتقر السبايا ، وكلُّنا سبايا . حياتنا أسواق نخاسة كاملة المعالم . حياتي رَجْعُ صدى غامض ، وأُمنيتي أن أكتشفَ الصوتَ . كلُّنا أسرى ننتظر في طابور الحزن لاستلام حِصَّتنا من الموت . خضتُ حربَ استنزاف عاطفية ، وعدتُ مهزوماً أجرُّ أذيال الخيبة . جيوشُ العارِ مهزومةٌ ، وحضاراتُ الإبادةِ مكسورة . فكيف سأكونُ الوردةَ في وسط المقبرة أو قارورة العطر في مزبلة التاريخ ؟! . هل يمكن أن أغار على امرأة من زَوْجها ؟! . هل يمكن أن أغار على امرأة أكثر من زوجها ؟! .
     أطفالٌ يَحملون ألعابهم ويسيرون إلى الذبح . بشرٌ يأكلون بعضهم في المزارع المحروقة. مُسدَّساتُ ماء يشتريها الأطفال في العيد ثم يكسرونها . قُرى تُباد عن بكرة أبيها . والمتفرِّجون يزدادون ضحكاً . أنسحب من حياتي ، ويأخذ مكاني الآخرون. أحترقُ بأوهامي ، والآخرون يعيشون أحلامي . عشتُ مع العبيد والإماء منتظراً ضوء الفجر . كنتُ كاذباً ، وكان الفجرُ صادقاً .
     إنني أحبُّ من أجل الذكريات لا الزواج . ولا داعي أن أنتحر لأني كل يومٍ أنتحر . أشعرُ أني عاجز جنسياً . مشاعري عاجزة . أنا جثة هامدة .. شبحُ إنسان منبوذٍ لا تاريخ له سوى النسيان . ولا أدري هل هذا وهم أم حقيقة . صرتُ مِثلَ لاعب التنس الأرضي الذي فقدَ التوقيت والإيقاع ، فلا بد من الهزيمة . الإماءُ كثيرات لكنَّ النَّخاس قد تقاعد ، والضبعُ سَقطت أسنانه ، وأُغلقت سوقُ النخاسة بالشمع الأحمر ، وعاد المهرِّجون إلى بيوتهم بعد إغلاق السيرك .
     صرتُ رَجلاً آلياً سيتحول _ عمَّا قليل _ إلى خُردة ملقاة في مستودع مهجور. أستغربُ عندما أجد أحداً يحبني لأني شخصياً أكره نَفْسي . فيا قاتلي ، إن سَحقتَ الترابَ بقدميكَ ، فلا بد أن يَعْلوكَ يوماً ما .
     البوفيه مفتوح لكني فاقد الشهية . يتحول الرَّجلُ إلى آلةٍ ، وتصير المرأةُ أثاثاً مستعمَلاً ، وتنتهي الحضارةُ قبل أن تبدأ . إن أصعبَ شيء في الحب هو الوصول إلى نقطة اللاعودة . تغتصبُ المرأةُ مغتصِبَها . تصطاد الفريسةُ صَيَّادَها . يصبح ردُّ الفِعل هو الفعل ، والضحيةُ هي الجاني .
     نعطي ظهورنا لبعضنا البعض ، ونحدِّق في بكاء القمر ، ودموعُنا تحفر الوسادة الأسمنتية . هذا سريرُنا الحجري ، وتبقى نوافذُنا تطل على الخريف رغمَ تعاقب الفصول. البابُ المفتوح لا يمكن فتحُه، والإنسانُ المدمَّر لا يمكن تدميره . والراقصةُ مضطرة أن تتحمل قرفَ الزبائن. لا أحد يَسأل عن مشاعرها. إنها جسد بلا روح . هي آلةٌ مهتزة في العَدَم ، متحركة في الفراغ . في ذلك الظلامِ الأرجواني ، امرأةٌ تأخذ مالاً من زَوْجها لتشتريَ ثياباً تتزين بها لعشيقها .
     الدجاجةُ التي تأكلها في مطعم الوجبات السريعة لا تَعرف مشاعرَها ساعة ذَبْحها . كلما اصطدتُ سمكةً أَطلقتُها. لا أُريد امتلاكَ النساء. لا أُريد امرأةً أُمارس عليها سُلطاتي الذكورية . فلسفتي هي أن يظل العصفور خارج القفص .. أن تظل الزهرة في البستان دون أن يَقطفها أَحد . أنا حاضر دائماً في العُرس . عُرسي لا ينتهي ، لكني لا أَصل إلى ليلة الدُّخلة . أحتاجُ إلى روحِ المرأة لا جسدها . أُمارسُ العشقَ لا الجنس ، أو ربما أُمارس الكراهيةَ لا الحب . أعيشُ على هذا الحب المجنون القاتل كالطفيليات . صرتُ أخاف مِن نَفْسي . أخاف أن أنظر في المرآة . أخاف من الناس . أشعرُ أن ظِلِّي يتجسس عليَّ، يكشف أسراري للينابيع السامة . أخافُ من ظِلِّي . يُخيَّل إلي أنني اتخذتُ قراراً بالانتحار منذ طفولتي، لكني طيلة هذه المدة كنتُ أفكر في طريقة الانتحار ، وأدركتُ أن حياتنا هي الانتحار بِعَيْنه .] .
     وعند هذا الحد توقف رأفت عن الكتابة . ألقى القلمَ على سطح المكتب . وضعَ الأوراقَ في أحد الأدراج ، وأَغلق عليها كأنه يُغلق أبوابَ عُمره ، ويَدخل في صومعة البرق دون مانعة صواعق . أحسَّ براحة كبيرة . قد تكون مؤقَّتة وخادعة . لكنه أحس بها . ربما تكون مشاعره هدوءاً يَسْبق العاصفةَ . ورغم هذا شعر بهدوء عميق. مفاصلُه مرتخية، وعظامُه تزداد نعومة ، ووجهه يَطرد غبارَ الذاكرة ، وشَعره مبتل بالضوء الناعم كأنه خارج من الاستحمام للتو. لم يستحم بالماء ، لكنه استحمَّ بدموع قلبه . خلعَ ملابسَه بالكامل ، وغرسَ نَفْسه في السرير . اختبأ تحت اللحاف كأنه يَنتظر قدومَ مَن يُكَفِّنه ، وراح في نومٍ عميق .

17‏/02‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الرابع عشر

رواية جبل النظيف / الفصل الرابع عشر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     أتى موعدُ الحفلة كالرصاصة في صدر أعاصير غامضة . وصل رأفت متأخراً على غير عادته ، فهو مشهور بين الناس باحترام المواعيد دون زيادة أو نقصان . والسبب أنه قضى وقتاً طويلاً في الشوارع المزدحمة التي كانت تغص بالناس والسيارات. واليوم هو الخميس، وهذا يعني ازدحاماً خانقاً ، وهو لا يَملك سيارةً . وهذا جعله يطارد سيارات الأُجرة من شارع إلى شارع ، ويَغرق في المواصلات البائسة ، ويَتلاشى في دخان السيارات ، وصخبِ الناس الذين كانوا مثل خلية نحلٍ تتكاثر بشكل جنوني .
     لم يَذهب إلى الفيلا مباشرة . نَزل من سيارة الأجرة في مكان قريب . وذلك من أجل مسح الغبار عن وجهه ، وتصفيف شَعره ، وترتيب ملابسه، ومسح حذائه من جديد ، يعني إعادة تنظيم كيانه بالكامل .
     وكلما اقترب من الفيلا ازدادن نبضاتُ قلبه . كانت الأضواء باهرة ، والضحكاتُ تملأ الشارع . أخرج منديلاً ومَسح عَرَقه . شَعر بالتردد والخوف . قدماه ترتجفان كأنه يساق إلى حبل المشنقة ، وليس حفلة راقية تعج بالألوان والأصوات. فكَّر في العودة لكنه طَرد هذه الفكرة سريعاً. وصل إلى نقطة اللاعودة، وسوفَ يتقدم مثل الجندي الداخل إلى المعركة ، ولا يَعرف ماذا يَنتظره ، ولا يَعلم هل سيعود إلى أهله حياً أم سَيَسقط قتيلاً .
     وحينما دَخل إلى الفيلا وَجد عالَماً آخر لا يمكن أن يراه في جبل النظيف . حتى إنه لم يره في منامه . رَجالٌ يرتدون أفخرَ الملابس يُدخِّنون السيجار ، وشخصيات مشهورة لا يشاهدها إلا على شاشة التلفاز . نساء في فساتين مثيرة ، صدورهن مكشوفة .. تنانير قصيرة . روائح العطور تملأ المكان . الجميع مشغولون كأنهم في سوق صاخبة يُقلِّبون البضائع الأجنبية . كل شيء غريبٌ عنه . لم يَعرف أين يَذهب ، أو مع مَن يتحدث . وبينما هو غارق في متاهته ، يلملم شظاياه المبعثَرة في المكان ، اقتربت منه ميادة وهي ترتدي غابةً زرقاء من الأنوثة .. فستان أزرق مُرعِب يُخبِّئ براكين من الشهوة والوهج الحارق . اقتربت منه بشكل واضح . صارت المسافة بينهما أقل من نصف متر . وقالت له :
     _ أهلاً يا شكسبير ! .
     كانت السيجارة تتلوى بين أصبعين في يدها اليسرى . وهذه أول مرة يشاهدها وهي تدخِّن .
     لم يعرف ماذا يقول في تلك اللحظة . انعقد لسانه ، واكتفى بابتسامة خفيفة .
     أخذت ميادة زمامَ المبادرة ، وسَيطرت عليه بالكامل، وأمسكت يدَه ، وقالت :
     _ تعال أُعرِّفك على زَوْجي .
     وراحت تسحبه مثلما تُسحَب الشاةُ إلى الذبح . وهو لا يَملك إلا الاستسلام لهذه الأوامر العسكرية .
     _ هذا زوجي .. الدكتور لؤي عَطْوة ، دكتوراة في الهندسة المعمارية من جامعة السوربون .
     قالت ميادة ، ووجهها يشع مثل إعصار لا يَرْحم على وشك أن يَقتلع الشطآنَ التي ترفع الراياتِ البيضاء .
     كان الدكتور لؤي صاحب شخصية قوية . واثقٌ بنفْسه بشكل ملحوظ . الغليون في فمه . وعندما تراه تَشعر أنك أمام جبل لا يَهتز ، وأنه يسيطر على العناصر حَوْله ، وأن الأحداث خاتم في أصبعه .
     قال الدكتور :
     _ لقد سمعتُ عنك الكثير يا أستاذ رأفت ، وأن أسلوبك رائع في التدريس . وبدون مجاملة .. تأثيرك الإيجابي واضح على رمزي .
     _ شكراً لكم يا دكتور، وأعدكم _ إن شاء الله _ أن أكون عند حسن ظنكم.
     اختار رأفت عباراته بعناية، وتعمَّد أن يخاطب الدكتور بضمير الجمع تعظيماً له، واحتراماً لمكانته .
     _ والآن اسمحوا لي أن أذهب للترحيب بالضيوف .
     قال الدكتور . ومضى إلى ذاكرة المدى ، وذاب في الزِّحام .
     استلمت ميادة القيادةَ ، وقالت :
     _ تفضَّل يا أستاذ رأفت .. اجلس على الأريكة .
     جلس على الأريكة مثل الطفل في حضرة أُمِّه ، وقال :
     _ شكراً يا ميادة .. أقصد يا سيدة ميادة .
     _ قُل لي ميادة فقط .. بدون ألقاب . وأنا سأخاطبك رأفت فقط . ما رأيكَ ؟.
     تردد رأفت قليلاً . بَلع ريقَه ، وقال :
     _ أنا موافق .
     جَلست إلى جانبه . ظهر عليه الارتباك ، وازداد تعرُّقاً .
     قالت له بصوت هامس :
     _ ما رأيكَ في هذا الفستان ؟ .
     قال رأفت وعيناه في الأرض :
     _ رائع .
     _ تَحكم عليه دون أن تنظر إليه ؟ .
     رفع رأفت رأسَه ، وزرع نظراتِه في الفستان ، وحدَّق في كل نقطة فيه مثل جيش يُمشِّط أرضَ المعركة . تأجَّجت الشهوةُ في تفاصيل جسده الحارق المحترق ، وهزَّ رأسَه قائلاً :
     _ كما قلتُ لكِ .. رائع .
     _ لا تنسَ أن لونه أزرق .
     لم يَفهم رأفت هذه الكلمات . وراحت ملامح وجهه تستفسر عن المعنى .
     أدركت ميادة هذا الأمر ، وقالت بصوت راسخ وملتهب :
     _ الأزرق هو اللون الذي تحبُّه .
     وفي تلك اللحظة فقط فَهم رأفت لماذا سألته ميادة _ قبل عدة أيام _ عن اللون الذي يحبه .
     حاصرهما الصمتُ الجارح. فُرض حظر التجول في أعصابهما. انتشرت الحواجز العسكرية بين وَجْهَيْهما . تائهان في عالَم الوخز. مجروحان في فضاء الرعب. لقاؤهما تذكرةُ ذهابٍ بلا عَودة . إنهما مهاجران نحو أوردة الصدى ، والأصواتُ تتلاشى .
     نادت ميادة أحدَ الخدم ، وقالت له :
     _ أحضر لي كأسَ ويسكي .
     والتفتت إلى رأفت قائلةً :
     _ تشرب ويسكي ؟ .
     _ الخمرُ حرامٌ لا أشربها .
     نظرتْ إلى الخادم ، وقالت :
     _ أحضرْ لي كأس ويسكي ، وللأستاذ عصير برتقال . وستجدنا عند المسْبح .
     نظرتْ إلى رأفت ، وقالت :
     _ تعالَ نخرج من هذا المكان الخانق ، ونذهب إلى المسْبح .
     ومشيا عند حافة المسْبح .. هذه حافة الهاوية . تلالُ الحزن تطل على بحرٍ يتبخر بين أصابعهما المرتعشة . غاباتُ القلوبِ تحترق ، ورجالُ الإطفاء نائمون في أحضان زوجاتهم . لم يجيء أحد لينقذ الأشجارَ من المومياوات . سَيطرت الأشباحُ على المكان ، والأمواتُ يَفرضون شروطَهم على الأحياء. جوارحهما تتهاوى بصورة دراماتيكية . هذا المسْبح هو مقبرة مائية قديمة .. لعنةٌ أصابتْ علماءَ الآثار الذين لم يأتوا .
     قالت ميادة بصوتٍ كسير كأنه نداء غامض قادم من القرون الوسطى :
     _ رأفت ، أنا أعشقكَ. قُل عني ما تشاء. اعشقني اكرهني. احترمني احتقرني . ولكن يجب أن تسمعني حتى النهاية . حياتي كلها انتحارات ، أنا بحاجة إلى المنقِذ . لو رأيتَني أغرق في هذا المسْبح ، ماذا ستفعل ؟ . لا بد أنك ستقفز وتنقذني . أنا امرأة لم أشعر بأنوثتي إلا معك . لا أشعر بوجودي إلا عندما تكون موجوداً . لا أتخيل حياتي بدونك . هل تعلم أنني أتردد على طبيب نفسي منذ سنوات ؟ . ولا توجد أية نتائج . هل تعلم ماذا قال لي الطبيب آخر مرة ؟ . قال لي إنني مريضة نفسياً ولا شفاء لي إلا الموت . لا أريد أن أموت .. أريدك أن تنقذني من الموت .
     وانفجرت باكيةً ، وارتمت في أحضان رأفت الذي كاد يَسقط في المسْبح . غَرستْ رأسَها في صدره، وكانت دموعها تتساقط على أزرار قميصه ، وهو واقفٌ كالأبله لا يَعرف ماذا يَفعل . أحسَّ برغبة عارمة في البكاء ، أو الهرب من المكان . تمنى في تلك اللحظة لو يُنادي على أُمِّه لتنقذه من هذا المأزق .. أن يَخلع جِلْدَه ، ويهرول نحو منفى اختياري ، ويموت وحيداً . وصار يردِّد في سرِّه الآية القرآنية : } يا لَيتني مِتُّ قَبلَ هذا وكُنتُ نَسيًّا مَنسيًّا { .
     لم تنجح مفاوضات فض الاشتباك إلا مع قدوم الخادم . وقعُ أقدامه تتوالى كما تتوالى المسدسات على ثياب الأدغال . ابتعد الاثنان. أخذت ميادة تمسح دموعها . أمَّا رأفت فرمى بصرَه على صفحة الماء كأنه يريد أن يفض الاشتباك بين الأكسجين والهيدروجين اللذين يُكوِّنان الماء .
     تناولت ميادة عصير البرتقال ، وأعطته لرأفت . ثم أخذتْ كأسَ الويسكي . لم ينبسا ببنت شفة ، وعاد الخادمُ أدراجه .
     لم تكد تضع حافةَ الكأس على شفتها حتى أمسكَ يَدَها ، وانتزع منها الكأسَ ، وقال بكل شفقة :
     _ لا تشربي هذا السم .. خُذي عصير البرتقال .
     _ تخاف على جسمي ولا تخاف على قلبي ؟! .
     وسكبَ الويسكي على إحدى النباتات السجينة داخل وعاء بلاستيكي .
     قال رأفت :
     _ ميادة ، أنتِ امرأة متزوجة وأُم .
     _ عقدُ الزواج حِبرٌ على ورق . الأوراقُ لا تحدِّد المشاعرَ . زَوْجي مشغول بالعشيقات والسكرتيرات . جسدي معه رغماً عني، لكنَّ قلبي معك . أنا منقسمة . أجزائي متفرقة ، وأُريدك أن تجمعني . أحتاج إلى صديق حقيقي يقف إلى جانبي . أنا وحيدة في هذا العالَم. فلنكنْ صديقَيْن . لا أَطلب أكثر من هذا . هل هذا كثير ؟!.