سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/10‏/2016

سنكلير لويس وإدمان الكحول

سنكلير لويس وإدمان الكحول

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 28/10/2016

....................

   يُعتبَر الكاتب سنكلير لويس ( 1885_ 1951) أول أمريكي يفوز بجائزة نوبل للآداب ( 1930) . وقد حقَّق شُهرةً عالمية بسبب رواياته التي هاجم فيها أشكال الضعف في المجتمع الأمريكي ، وكشف عوالم الرياء والنفاق .
     وُلد في ولاية مينيسوتا . وفي سِن الحادية والعشرين عاشَ فترةً قصيرةً في هيليكن هول ، وهو مركز مجموعة اشتراكية في ولاية نيوجيرسي . وفي عام 1908تخرَّج من جامعة ييل ، ثُمَّ عمل صحفياً. وفي عام 1914نشر أُولَى رواياته " صاحبنا السيد رن "، والتي تُمثِّل سَرداً ساخراً بشكل لطيف عن موظف من نيويورك يذهب في رحلة إلى أوروبا ، ويقوم بمغامرات رومانسية ساذجة .
     انتقلَ لويس إلى العاصمة واشنطن ، وكرَّس نَفْسَه للكتابة. وقد كتب أربع روايات ، لكنَّه لَم يُحقِّق نجاحاً كبيراً . وفي عام 1916 ، بدأ التَّحضير لروايته الجديدة "الشارع الرئيسي" التي تَتحدَّث عن الحياة الواقعية في بلدة صغيرة . وقد أكملها في منتصف عام 1920 ،ونشرها في نفس العام، ولاقت نجاحاً كبيراً، وأثارت تعاطفاً هائلاً مَعَ أفكارها ، وحقَّقت له شُهرةً سريعة .
     أحدثت الروايةُ ضجةً هائلة في المجتمع الأمريكي، وكان صدورها حَدَثاً مثيراً في التاريخ الثقافي الأمريكي . وكانت التوقعات الأكثر تفاؤلاً أن تَبيع الرواية 25 ألف نسخة في الأشهر الستة الأُولَى ، لكنها باعت 180 ألف نسخة . وفي غضون بِضْع سنوات ، قُدِّرت المبيعات بمليونَي نُسخة . وصار الكاتب من الأغنياء .
     وَجَّهت الروايةُ نقداً قوياً لبلادة الذهن ونقص الثقافة في بلدة أمريكية صغيرة ، كما أنَّها سَخِرَت من ضيق التفكير والرضا عن الذات لدى سُكَّانها . وقد كُتبت الرواية بعناية فائقة ، وتَعرَّضت لأدق التفاصيل، وأظهرت معاناة بطلة الرواية وجهودها الضائعة من أجل تحسين مدينتها، وإيقاظها مِن سُباتها العميق . والكاتبُ يُركِّز على مبدأ غياب الأمل في التغيير ، واستحالة تحقيق نهضة أخلاقية في مجتمع مادي استهلاكي .
     واصلَ لويس سلسلة نجاحاته الأدبية ، فأصدرَ في عام 1925 رواية " أروسميث " ، التي تصف خيبة أمل طبيب شاب مثالي في صراعه مع الفساد والحسد وحب الذات والأذى . فازت الرواية بجائزة بوليتزر للعام 1926 . وقد رفضها لويس لاعتقاده أنَّه كان من الواجب أن يَحصل على الجائزة قبل ذلك . وفي روايته " إلمر جَنْتري " ( 1927) يسخر لويس من النفاق الديني والتزمت في بلاد الغرب الأوسط . وكانت روايته دورسورث ( 1929) آخر أعماله الجيدة على المستوى الفني . وهي تتحدث عن التناقضات بين الحياة الأمريكية والحياة الأوروبية ، وتصف مصاعب زواج رجل أعمال أمريكي مشهور خلال جولته الأوروبية .
     وفي عام 1928م تزوج لويس من دوروثي طومسون (1894 – 1961م ) وهي مراسلة أجنبية شهيرة ، وكاتبة عمود صحفي . وانتهى زواجهما بالطلاق عام 1942 .
     حصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1930لقدرته على رسم الشخصيات، ووصف الأحداث بدقة وعُمق ، مع الطرافة والفُكاهة ، مَعَ استخدام أساليب لغوية جديدة . كما يمتاز الكاتب بنقده للرأسمالية الأمريكية المادية في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين . وقد تَمَّ تكريمه بعد فوزه بالجائزة، وذلك بوضع اسمه على طابع بريد تذكاري ضمن سلسلة الأمريكيين العظماء .
     والمضحك المبكي أنَّ الكاتب لم يُعْثَرْ عَلَيه خلال مراسم جائزة نوبل ، ليتسلَّم جائزته من يد ملك السويد ، ووُجد نائماً في دَورة المياه التابعة لدار( الكونسرتو )، وهو في أسوأ حالات السُّكر، وقد أُغلِق عَلَيه باب المرحاض !.
     بعد فَوزه بجائزة نوبل . كتب لويس أكثر من عشر روايات ، لكنَّ مستواها الفني ضعيف . فهي روايات تُصوِّر الواقعَ بصورة ضحلة وساذجة.يعتبره النقادُ في وقتنا الحالي فنَّاناً دقيق الملاحظة، يمتاز بأسلوب وصفي بارع ، لكنَّه ليس مُبدِعاً حقيقياً لافتقاره إلى الأسلوب الأدبي الرفيع .
     إنَّ المشكلة الرئيسية في حياة لويس هي إدمانه على الكحول . وقد نصحه الأطباء بالتوقف عن الشُّرب إذا كان يُريد أن يَعيش . لكنَّه لم يتوقف . وتُوُفِّيَ في رُوما من إدمان الكحول في عام 1951 . وتَمَّ حرق جُثته ، ودُفن رُفاته في مسقط رأسه .

     مِن أبرز رواياته: صاحبنا السيد رن ( 1914 ) . الهواء مجاني ( 1919) . الشارع الرئيسي ( 1920) . بابيت ( 1922) . أروسميث ( 1925) . إلمر جَنْتري ( 1927) . دورسورث ( 1929) .

21‏/10‏/2016

القصيدة والتاريخ الجديد

القصيدة والتاريخ الجديد

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

.................

     إن الحلم القصائدي لا يمكن أن ينتشر في المجتمع بدون الصور الفنية الرمزية البناءة، وهذه الصور هي النظام الذي يجسِّد الشعورَ الوجداني العام، ويَحمل التصورات الاجتماعية التي تعيد اكتشاف أبجدية الثقافة والدلالاتِ الإنسانية العميقة . وهذا لا يعني تحول القصيدة إلى عملية نسخ للعلاقات الاجتماعية . فالقصيدةُ هي منظومة متفردة تصنع تاريخها الشخصي ، وتولِّد أزمنتها وأمكنتها دون ضغط من أحد.وبذلك تَكون الأبجديةُ الشعرية معياراً إنسانياً جديداً متحرراً من ردود الأفعال ، لأنه هو الفعل الحقيقي المتبوع لا التابع .
     والمجالُ الحيوي لنظام القصيدة هو وجوه الناس. فهذا النظامُ المتميز يصنع تاريخاً جديداً للبشر، فهو ينقلهم من فوضى النمط الاستهلاكي إلى فضاءات إبداعية تزرع دهشةَ الحياة في الواقع المادي الضَّيق ، وتنشر لذةَ الوجود الإنساني في العلاقات الاجتماعية ، وتكتشف رمزيةَ العناصر الحياتية . وبالتالي يتم تأريخ الواقع المعاش ضمن أبجديات الرؤية الشِّعرية التي تبحث عن عوالم الماضي في الحاضر ، وتفتِّش عن ذاكرة المستقبل في الحاضر أيضاً ، وهكذا يصير الحاضرُ زمناً قصائدياً ، وتاريخاً كاملاً لا حدود له ، وتدخل القصيدةُ إلى عوالمها وفق سياق معرفي محدَّد المسار والهدف ، مما يقضي على فوضى الأداء العاطفي التي تظهر أحياناً في التقنية الشِّعرية .

     وكلُّ هذه التراكيب المعرفية تساهم في إقناع المجتمع بأن القصيدة ليست ترفاً زائداً ، أو هلوسات عائشة في عالَم الفوضى . وعندما يقتنع المتلقِّي بأن القصيدة جزء لا يتجزأ من شرعية وجوده الروحي والمادي ، نكون قد نجحنا في جعل القصيدة ذاكرةً حية لجميع الناس ، ومشروعاً إنسانياً عاماً يُحرِّر الفكرَ الاجتماعي من ميراث القمع بكافة أشكاله .

17‏/10‏/2016

عوالم القصيدة والمجتمع الإنساني

عوالم القصيدة والمجتمع الإنساني

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............

 القصيدة هي مشروع تنموي لا يهدف إلى التعبير عن الأشياء فَحَسْب ، بل أيضاً الدخول إلى حقيقة المجتمع الإنساني. وهذه النظرة من شأنها مزج المضامين الثقافية مع السلوك الاجتماعي ، والمزاوَجة بين طبيعة المعرفة الإنسانية ومركزية اللغة الشعرية المحرِّكة لمشاعر الناس . وهذا الارتباط الوثيق بين القيم الثقافية والقيم الاجتماعية سيؤدي إلى صناعة عالَم محسوس موازٍ للعالَم الشعري الحالم .
     وكلما ازدادت التداعياتُ الشعورية ، تكاثرت العوالِمُ المحسوسة وغير المحسوسة . وهنا يظهر دور القصيدة المحوري في التوفيق بين الأضداد، وصهر التناقضات الناشئة في بَوتقة واحدة للوصول إلى أرضية مشتركة تجمع بين النَّص الشعري والفكر الاجتماعي . لذلك فإن القصيدة تقف سداً منيعاً في وجه الفوضى ، والإحباطاتِ الحياتية، والاستنْزافِ العاطفي . وبالتالي فليس غريباً أن تصبح اللغةُ الشعرية هي ضابط الإيقاع في مجتمع القصيدة ومجتمعِ الإنسان على حدٍّ سَواء .
     وبما أن العلاقة بين القصيدة والمجتمع الإنساني تبادلية وتكاملية ، فإن الواقع المعاش يساهم في تخليص القصيدة من الهوامش الزائدة التي تصبح عبئاً على قلب الكلمات النابض . مما يؤدي إلى الحصول على لغة شعرية عالية التكثيف تماماً كالماء المقطَّر .

     والمشكلة الحقيقية التي تواجه بُنية العالَم الشعري ، هي وجود قصائد كثيرة مُحمَّلة بشوائب فكرية يتم تقديمها كمسلَّمات ، فصارت القصيدة في كثير من الأحيان بُوقاً إعلامياً ، وسلعةً يراد  ترويجها بكل السُّبل الممكنة. وهذا يقتل الإحساسَ الشعري، ويجعل من الفكر الشعري قيمةً مُبْتَذَلة خالية من المضمون والإيقاع الصادق ، ويهدم كلَّ العناصر الخيالية والواقعية . لذلك ينبغي أن تحافظ القصيدة على اسمها وسُلطتها ولمعانها وأبجديتها الخصوصية ، فهذه هي الضمانة الوحيدة لتكريس القصيدة ككائن حي حالم وواقعي ، يحشد عنفوانَ اللغة في الحلم الاجتماعي ، وينشر فلسفةَ الحلم بغدٍ أفضل .

14‏/10‏/2016

سيغريد أوندست والخيانة الزوجية

سيغريد أوندست والخيانة الزوجية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 14/10/2016

......................

     وُلِدَت الأديبة النرويجية سيغريد أوندست ( 1882_ 1949) في الدنمارك . ولكنَّ عائلتها انتقلت إلى النرويج عام 1924 . وفي عام 1940 هربت من النرويج إلى الولايات المتحدة ، بسبب مُعارَضتها للنازية ، والغَزْوِ الألماني للنرويج . ولكنها عادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. حَصلت على جائزة نوبل للآداب عام 1928 ، بعد النجاح الكبير لروايتها " أولاف أودنسن "  ( 1925_ 1927) .
     نشأتْ في مدينة ( كريستيانيا ) التي سُمِّيت فيما بعد أوسلو ، وصارت عاصمة النرويج . والدُها كان عالَم آثار ، وأمها ابنة محامي دنماركي . وقد عاشت في مناخ عائلي يَسُوده القلق والاضطراب وغياب الإيمان ، لأنَّ وَالِدَيْهَا كانا مِنَ الملحدين . كان لوالدها تأثير كبير عليها ، فقد وجَّهها نحو أساطير التاريخ الإسكندنافي. وشَكَّلَ مَوْتُه وهي في الحادية عشرة من العُمر صَدمةً كبيرةً لها، وأثَّر سلباً على الوضع الاقتصادي للعائلة ، مِمَّا دفعها إلى التخلي عن الأمل في التعليم الجامعي . وفي سِن السادسة عشرة ، حصلت على وظيفة سكرتيرة في شركة هندسية لتساعد عائلتها مادياً . وعِندَما بلغت الخامسة والعشرين ، انضمَّت إلى اتحاد المؤلفين النرويجيين .
     بَدأت الكتابةَ الروائية في مطلع شبابها، حيث إِنها كتبت روايةً عن العصور الوُسطى للدنمارك، ولكنَّ دُور النشر رَفَضَتْهَا ، ولَم تقتنع بموهبتها وأسلوبها . وبعد عامين من هذه الحادثة ، كتبت روايةً أخرى ليس لها علاقة بالعصور الوُسطى ، وإنما تصف حياةَ امرأةٍ واقعيةٍ . وقد رُفِضَتْ مِن قِبَل الناشرين في بداية الأمر ، ثُمَّ تَحَمَّسَ لها أحد الناشرين بعد صعوباتٍ كثيرة ، فوافق على طباعتها . وهذه الرواية هي " السيدة مارتا أولي " ( 1907) ، وكانت الجملة الافتتاحية فيها على لسان بطلة الرواية :  (( كُنتُ خائنةً لِزَوْجي )) . وهذه الجملةُ الصادمة أثارتْ زَوبعةً في المجتمع النرويجي ، وأحدثتْ فَضيحةً هائلةً ، وحقَّقتْ شُهرةً واسعة للكاتبة وهي في الخامسة والعشرين ، وأصبحت قادرةً على العَيش مِن كتاباتها .
     انتشرت هذه الرواية بين القُرَّاء بسرعة فائقة ، ونَجحت بشكل أسطوريٍّ ، لأنَّها كَشفت العلاقات المستورة في المجتمع ، والتي يَنبغي أن تظل طَي الكِتمان . وفَضحت الروايةُ نِفاقَ المجتمع المتغطِّي بالفضيلة والطهارة ، والذي يَحْصُر مَعنَى الشرف في جسد المرأة ، وأظهرتْ عواطفَ المرأةِ وحاجاتها المعنوية والجسدية ، وأثارتْ عاصفةً مِن الأسئلة المتعلِّقة بالصراع بين الإنسان وأشواقه الروحية، وحَذَّرَتْ مِن مَوت الأحاسيس والذكريات، وضياعِ الإنسان في الفراغ العاطفيِّ الموحِش، وأظهرتْ تناقضاتِ النَّفْس البشرية ، وحَيرةَ الإنسان بين المبادئ والغرائز .
     وفي عام 1911 ، أصدرتْ رواية " جيني " ، وهي بمثابة سيرة ذاتية ، حيث تَتحدَّث فِيها عن رحلتها إلى إيطاليا بعد نجاحاتها الهائلة في عالَم الأدب ، وقصةِ الحب التي جمعتها بالرَّسام سفارستاد الذي تَزَوَّجَتْهُ وانفصلتْ عنه فِيما بَعْد كَي تَتفرَّغ لكتاباتها وتربية أطفالها .
     ثُمَّ جاءت روايتها الملحمية " كريستين " ( 1920_ 1922) ، التي تقع في ثلاثة مجلدات ، وتَتحدَّث عن الحياة في الدول الإسكندنافية في العصور الوسطى ، وتَدور أحداثها في محيط نرويجي كاثوليكي مندمج مع المشاعر الإنسانية الشخصية . ومِنَ الواضح أنَّ هذه الرواية أثَّرت بشكل مباشر على الحياة الشخصية للكاتبة ، إِذ إِنها قَد اعتنقت الكاثوليكية عام 1924 ، أي بعد كتابة هذه الرواية . وهذا فاقمَ غُربتها ، لأنَّ الغالبية الساحقة من سكان النرويج من البروتستانت .
     اكْتَوَت الكاتبةُ بنار السياسة، فقد قامت بالتبرع بقيمة جائزة نوبل لدعم المجهود الحربي لفنلندا ( وهي دولة إسكندنافية ) في عام 1940 ، وذلك بعد غزو الاتحاد السوفييتي لفنلندا فيما عُرف بحرب الشتاء . ثُمَّ أُجبرت على الهروب بعد غَزْو ألمانيا للنرويج في نفس العام ، فهربت إلى السويد وأمريكا ، وشجَّعت من هُناك المقاومة النرويجية ضد الاحتلال النازي. وقد انتقدها هتلر بشدة منذ العام 1930 ، وقامت النازية بحظر مؤلفاتها . وقد قُتل ابنها البِكْر أندرس ( الملازم الثاني في الجيش النرويجي ) وهو في السابعة والعشرين في اشتباك مع القوات الألمانية .
     عادت إلى النرويج بعد التحرير عام 1945 ، وتُوُفِّيَت بعد أربع سنوات . وحَظِيَتْ بتكريم هائل . فقد سُمِّيَت فُوَّهة على سطح كوكب الزُّهرة باسمها. وَوُضِعَتْ صورتها على العُملة النرويجية فئة 500 كرونة . وقامت السويد بوضع صورتها على الطوابع في عام 1998 ، باعتبارها رمزاً لحرية الدُّول الإسكندنافية .

     ويمكن القَول إن الأفكار في كتاباتها تَدور حَوْلَ أربعة مبادئ رئيسية : 1_ العلاقات الإشكالية بين الآباء والأبناء ، وبين الرجال والنساء . 2_ الإعجاب بثقافة القرون الوسطى المسيحية للدول الإسكندنافية . 3_ الصراع النفسي في داخل الإنسان ومشكلاته الجنسية .  4_ اعتماد الكاثوليكية كمرجعية للأفكار والمجتمع .

08‏/10‏/2016

هنري برغسون وفلسفة الروح

هنري برغسون وفلسفة الروح

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

صحيفة رأي اليوم ، لندن ، 7/10/2016

.........................

    يُعتبَر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون ( 1859_ 1941) مِن أبرز الفلاسفة في القرن العشرين . ساهمَ في نشر منهج التفكير وأسلوب التعبير اللذين يَعتمدان على الإيمان بالرُّوح . وهذه الفلسفةُ تَركت أثَرَها على النتاج الفكري الأوروبي ، لأنَّها جاءت كردة فِعل ضِد المذهب المادي الذي يُلغي القيمَ الروحية ، ولا يَعترِف إلا بالأمور المحسوسة .
     كانت فلسفة كانط هي المسيطرة على الساحة الفكرية الفرنسية بين عامَي 1870 و1918، وهي فلسفة مُستوردة من ألمانيا، قائمة على الوَضعية التي تعتبر المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحِسِّية . هاجمَ برغسون التطرف المادي لفلسفة كانط ، وانتقدَ إهمالَها للجوانب الروحية والأمورِ الخارجة عن نطاق المادة .
     دَرَسَ برغسون في مدرسة المعلمين العُليا ، ثُمَّ أصبحَ أستاذاً في الكوليج دو فرانس . وهي مؤسسة فرنسية تختص بالبحث العلمي والتعليم العالي ، وتقوم بالتدريس على مستوى الباحثين وطلبة الدراسات العُليا . وفي عام 1914تَمَّ انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية . ثُمَّ سافرَ في عام 1917 إلى الولايات المتحدة لإقناع الرئيس ويلسون بدخول الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا.
     استقالَ من التعليم العالي عام 1921 ، كَي يَتفرَّغ بشكل كامل للقضايا السياسية والشؤون الدولية . وفي عام 1927حصل على جائزة نوبل للآداب اعترافاً بإنجازاته الفلسفية ، وتأثيره الهائل على المذاهب الأدبية والدينية والفلسفية . وخلال العشرين سنة الأخيرة مِن حياته ، لم يُؤلِّف إلا كتاباً واحداً . وقد ماتَ برغسون عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية ، وكانت فرنسا مُحتلة مِن قِبَل الألمان .
     والغريبُ في الأمر أنَّ برغسون حَقَّقَ في حياته شُهرةً عالميةً ، وانتشرت فلسفته في الآفاق . ولكنْ بَعد وفاته ، انقلبت الشُّهرة إلى انطفاء ، وابتعدَ الناسُ عن أفكاره ، وصارت فلسفته جُزءاً من الماضي ، وذَهبت كتاباته إلى النسيان والإهمال . وحدث انصراف تام عن فلسفته وكُتبه ، مِن نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم ، كأن شَيئاً لم يَكُنْ . وقد مَسَحَت الوجوديةُ فَلسفته تماماً ، وجَعَلَتْها أثَرَاً إِثْرَ عَيْن . 
     تقوم فلسفة برغسون على أربعة مبادئ أساسية: المبدأ الأول ( وهو مبدأ سياسي ) _ الإشادة بالديمقراطية واعتبارها نظاماً فكرياً وسياسياً يَعلو على ظروف المجتمع المغلَق ، واعتبار السلام محاولة لتجاوز حالة الطبيعة الموجودة في المجتمع المغلَق ، إذ إن الأصل في الحروب هو الأنانية وحب التَّملك سواءٌ كان فردياً أَم جماعياً . وقد أشادَ بِعُصبة الأمم باعتبارها منظمة دولية تهدف إلى إنهاء الحروب ، وركَّز على ضرورة القضاء على الأسباب المؤدِّية إلى الحروب مثل : تضخم السكان ، والتوزيع غير العادل للثروة .  
     المبدأ الثاني _ اعتبار الروح هي أصل جميع الأشياء ، وأنَّ الزمن مسار مُتَّصل لا فواصل فِيه ، يَمتاز بالدَّيمومة والحركة المستمرة . ولا يمكن معرفة الدَّيمومة إلا بالحدس ( الإدراك الصوفي ) ، حيث يتطابق فِعْل المعرفة مَعَ الفِعْل الذي يَصنع الواقعَ . والحدس _ وَفْقَ تعريف برغسون _ هو الجهد المبذول لمعرفة الموضوع من الداخل ( اكتشاف باطن الشَّيء ) . والحدسُ لَيس ناتجاً عن الغريزة، بل هُوَ ناتج عن التفكير العقلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر .
     المبدأ الثالث _ اعتبار الذاكرة ظاهرةً نَفسية ، وليست ظاهرة فسيولوجية ( والفسيولوجيا هي علم دراسة وظائف الأعضاء والأجهزة الحيوية ) . ويُفرِّق برغسون بين نَوْعَيْن من الذاكرة : الذاكرة العادية وهي المكتَسَبَة بالتكرار ، والمرتبطة بالجهاز العصبي ، حيث تستعيد الماضي بطريقة آلية بحتة . والذاكرة المحضة التي تَختزن الماضي وتَحيا في دَيمومة مستمرة . إنها ذاكرة النَّفْس التي تُصَوِّر الحوادث الذهنية ، وتحتفظ بخصائص الأشياء وتاريخها . والذاكرة _ وفق برغسون _ هي نقطة البداية ، وتَمهيد لحل مشكلة العلاقة بين النَّفْس والجسد .
     المبدأ الرابع _ التمييز بين نَوْعَيْن مِنَ الأخلاق : الأخلاق الساكنة المغلَقة ، والأخلاق المتحرِّكة المفتوحة . الأخلاقُ الساكنة المغلَقة تشتمل على مجموعة العادات التي تَفرضها الجماعة على الفرد ، وتنحصر وظيفتها في حماية كيان المجتمع من التَّفكك . أمَّا الأخلاق المتحرِّكة المفتوحة فتتجاوز حدود الجماعة ، لأنها لَيْسَتْ ناتجة عن الضغط الاجتماعي ، وإنما هي استجابة الفرد لنداء الحياة .
     إنَّ قوة برغسون الفلسفية تتجلى في تأثيره الهائل على الفكر والأدب ، كما تتجلى في أسلوبه البليغ الذي ساهمَ في رَواج كُتبه . أمَّا نِقاط ضَعفه فكثيرة ، مِن أهَمِّها : كثرة العبارات الغامضة وعدم تَوضيحها ، واللجوء إلى الإنشاء وغياب التحليل والمنطق في كثير من الأحيان ، ونَسخ أفكار الفلاسفة السابقين، فمبدأ الصَّيرورة منقول عن هيجل، والتلقائية منقولة مِن ( دي بيران )، والدافع الحيوي منقول عن أفلوطين ، وآراؤه الدينية منقولة عن اليهودية .  

     مِن أبرز مؤلفاته : فكرة المكان عند أرسطو( 1889 ) . المعطيات المباشرة للشعور ( 1889) . المادة والذاكرة ( 1896) . الضحك ( 1900) . الطاقة الروحية ( 1919) .

07‏/10‏/2016

جورج برنارد شو ومتاهة التناقضات


جورج برنارد شو ومتاهة التناقضات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 7/10/2016

................

     وُلد الكاتب المسرحي الإيرلندي جورج برنارد شو ( 1856 _ 1950) في دَبْلِن ، لعائلة بروتستانتية من الطبقة المتوسطة. وعندما بلغ الخامسة عشرة ، ترك المدرسة ليعمل موظفاً . كان نباتياً لا يأكل اللحم إطلاقاً ، كما أنه لم يشرب الخمر في حياته ، لأن والده كان سِكِّيراً ، وهذا الأمر شكَّل صدمةً له .
     انتقل إلى لندن حين أصبح في العشرينات، وعاش في فقر مُدْقِع . لذلك صارت مكافحة الفقر قيمةً مركزية في كتاباته . كما أنه انخرط في العمل السياسي ، وانضم إلى الجمعية الفابِيَّة ( وهي جمعية تهدف إلى نشر المبادئ الاشتراكية بالوسائل السلمية ) .
     قام برنارد شو بتثقيف نفْسه بنفْسه ، فاستمر بالقراءة ، وأخذ يتردَّد على المتحف البريطاني ، وتَعَلَّمَ اللاتينية والفرنسية ، وقد اعتبرَ أن المدارس سجون ومُعتقَلات، كما أنه كان مُعادِياً لحقوق المرأة، ومُنادِياً بالمساواة في الدَّخْل ، ومُتسامِحاً مع الأديان ، معَ أنه _ فكرياً _ كان من اللادينيين.
     والمفارَقة العجيبة هي أن برنارد شو لاديني ، ومعَ هذا كان مَثَلُه الأعلى هو النبيَّ محمداً صَلَّى الله عليه وسَلَّم ، فقد كان يرى أن حياة الجهاد التي عاشها النبيُّ هي الحياة المثالية التي أراد هو نفْسه أن يعيشها . وبلغ به الإعجاب أن حاولَ كتابة مسرحية " محمد " من أجل نشر تعاليمه الدينية ، والكفاح في سبيل حرية الرَّأي ، والخلاص من التعصب الأعمى واستبداد السُّلطة . وقد قامت الرقابة في البلاط الملكي برفض تمثيل النبيِّ محمد على خشبة المسرح، خَوفاً من ردود الأفعال ، وحرصاً على رضا السفير التركي لدى بريطانيا في ذلك الوقت .
     ولم يقف التناقض في حياة برنارد شو عند أفكاره الدينية ، بل شَمِلَ أيضاً أفكاره السياسية ، فقد تَحَدَّث في كثير من الأحيان بشكل إيجابي عن الدكتاتوريات من اليمين واليسار ، وأعربَ عن إعجابه بموسوليني وستالين على حَدٍّ سَواء، رغم ما بينهما من عداوة وتناقض أيديولوجي صارخ .
     يُعتبَر برنارد شو أحد أشهر الكتاب المسرحيين في العالَم ، وهو الكاتب الوحيد في التاريخ الذي حازَ على جائزة نوبل للآداب( 1925)، وجائزة الأوسكار لأحسن سيناريو( عن سيناريو بِجماليون في العام 1938 ).
     وقد فجَّر برنارد شو مفاجأة من العيار الثقيل ، حين رفض جائزة نوبل حِينَ أُعلِن فَوزه به ، ولكنه قَبِلَها بعد ضغوطات كثيرة ، وقال : (( إن وطني إيرلندا سيقبل هذه الجائزة بسرور, ولكنني لا أستطيع قبول قيمتها المادية. إن هذا طَوق نجاة يُلقَى به إلى رَجل وصل فِعلاً إلى بَر الأمان , ولم يَعُدْ عليه مِن خطر )) . وقد تبرَّع بقيمة الجائزة لإنشاء مؤسسة تُشَجِّع نشر أعمال كبار مؤلفي بلاد الشمال إلى اللغة الانجليزية .
     ظل برنارد شو يكتب المسرحيات لمدة نصف قرن . ومنهجه في الكتابة المسرحية هو اعتماد الواقعية الجديدة في الدراما ، وذلك باستخدام الأفكار الأدبية لنشر المبادئ السياسية والاجتماعية والدينية . وتجاوز عدد مسرحياته الطويلة والمتوسطة الخمسين مسرحية ، وتم إخراج عدد كبير من هذه المسرحيات أثناء حياته في أهم العواصم العالمية. وقد تُرجمت أعماله الكاملة إلى اللغة العربية ، وصَدرت على شكل أجزاء ، كما صدرت كل مسرحية على حِدَة .

     مِن أشهر مسرحياته: المال ليس له رائحة ( 1892 ).البطل والجندي ( 1894 ). تلميذ الشيطان ( 1896 ) . رَجل وسوبرمان ( 1903 ) . بِجماليون ( 1912) . بيت القلوب المحطمة ( 1919) . سَلَّة التفاح ( 1929 ) . الملياردير ( 1934 ) .

02‏/10‏/2016

الفصل الأول من رواية جبل النظيف

الفصل الأول من رواية / جبل النظيف

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     إنه الصراخ يقتلع حيطانَ الغرفةِ الكالحةَ. في تلك الزاوية من الحلم الذي يتكوَّم كجثث الفئران المنفية يبدأ المنفى بكاءه حنيناً إلى ذاكرة صارت مَنفى. كل أجزاء صوتها يتداخل في جليد المنافي، والنسوة حولها يحاولن التخفيف من ألمها . دهان الحيطان آخذ في الانحسار ، ويكشط ضوءُ الاحتضارِ المؤقَّتُ ألوانَ المواد الكيماوية على خدود الأسمنت الطازج. ويتواصل الصراخ بشكل هستيري ، ويجتث رئاتِ صدأ حديد الشبابيك المفضية إلى الشبابيك .
     _ استعيني بالله يا أم بسام، لستِ أول واحدة تلد في هذا العالَم ، وهذه ليست أول مرة ، فقد صرتِ خبيرة في الولادة .. لقد صارت نسوان هذا الجبل مثل الأرانب ، الواحدة لا تعرف إلا الحمل والولادة .
     قالت الحاجة سعدية وهي تتأفف بصوت عالٍ ممزوج بمشاعر متضاربة ، فهي تنام في الجلسة ثم تستيقظ على صراخ أم بسام .  
     وتدخلت إحدى النسوة في هذه المعركة لتثبت أن لها وزناً في جلسة الولادة هذه ، فقالت وقد أخفت العلكةَ في قلعة حصينة في فمها الواسع :
     _ لا وقت لهذا الكلام ، المرأة تموت أمام عيوننا ، وتضيع من بين أيدينا . وحتى الآن لم يأت ابنها ، أرسلناه لإحضار الداية عواطف لكي تُوَلِّد هذه المسكينة ، فلم يأت بسام ولا عواطف .
     لم تقدر أم بسام على الرد ، ودخلتْ في صراخ أشد من ذي قبل ، فجسدها شعلة نار في الصحاري الجليدية . جِلْدها يتمزق كمداخن أكواخ الخنجر الدائم . بطنها أضحت معقلاً لكل الانقلابات العسكرية في العالَم . إن ناراً تريد الخروج من رحمها. اشتدت عليها الآلام بصورة دَفَعَتْهَا إلى الدخول في غيبوبة سريعة ، ثم أفاقت وهي لا تكاد تميِّز وجوه النسوة المحيطات بها . إن أحشاءها في تلك اللحظات كرة نارٍ في ذاكرة منجنيق وُلِدَ في المعركة ، وعاش في المعركة ، ومات في المعركة .   
     وحينما تمالكت أم بسام نفسَها ، ركَّزت في وجوه النسوة الجالسات حولها .
بدت وكأنها تريد افتراس الملامح النسائية لكي تميِّزها بشكل دقيق . مدَّت يدها تحت الوسادة بتثاقل رهيب ، وبدا أنها تسحب شيئاً ما كأنها تنزع جثةً ثقيلة من بئر سحيقة .
     وبعد أن فرغت من رحلة الاستكشاف تلك، ارتسمت على محياها ابتسامة عريضة وهي تمسك علبة دُخان مع القداحة .
     نظرت النسوة إلى بعضهن البعض في استغراب ، وقالت إحداهن _ وأظنها الحاجة سعدية_ :
     _ ليس وقت الدخان الآن يا أم بسام . أنتِ بين الحياة والموت . لا تُدمِّري صحتك ، وتضيِّعي نَفْسَكِ يا حُرْمة .
     تدخلت زليخة الأرملة بعد أن قَطعت أفكارها الشاردة مع ابنها يونس الذي يعمل ميكانيكي دبابات في الجيش ، ولم يأخذ إجازة منذ مدة طويلة :
     _ اتركيها تُدخِّن يا سعدية . سيجارة واحدة لن تقضيَ عليها ، اتركي كلام الأطباء ، هؤلاء دجالون يبيعون الكلام في الهواء من أجل الفلوس ، ولا يفهمون شيئاً.. اذهبي إلى أية مستشفى، ستجدين الأطباء يغازلون الممرضات في غرف العمليات ، والناس يموتون مثل الفئران .  
     انقطع نَفَسُها من كثرة الكلام . وبعد أن تنفَّست بعمق ، قالت :
     _ أنا زليخة على سِن ورُمح ، أفهم أكثر من كل الأطباء الذين درسوا في بلاد الأجانب . لي عشرون سنة أُربِّي الأرانبَ على سطح الدار ، وأُجري لها عمليات ولادة وعمليات جراحية . ولم يمت أيُّ أرنب في أي عملية . هذا هو الشغلُ على أصوله .
     كانت زليخة امرأة أُمِّية تلقي الكلام ثم تفكر فيه . وهي تعيش حياتها ببساطة ساذجة . وقد كرهت الأطباء وعلم الطب وكل ما يتعلق به منذ أن طردها أحد الأطباء من باب المستشفى لأنها لا تملك ثمن العلاج .
     ربما كانت هذه الحادثة قبل أربع سنوات أو أكثر. لستُ متأكداً بالضبط . فقد كُسِرت رِجْلها على سطح بيتها عندما حاولت وضع الذُّرة للحمَام فسقطت على الأرض . وذهبت إلى المستشفى بالعكازة، وبمساعدة الحاجة سعدية ، ولم تكونا تملكان أجرة سيارة التاكسي ، فكان الطريقُ قطعةً من الجحيم ، وحينما وصلت إلى باب المستشفى طردوها ، فوقعت على الأرض ، ووقعت عليها العكازة . ومنذ تلك اللحظة أعلنت الحرب على الأطباء كلهم ، وكرهت المستشفيات .
     كان بسام يتبختر في مشيته كأن شيئاً لم يكن . اشترى قطعة شوكولاتة من النوعية الرخيصة من بقالة الخيَّامي، ومضى إلى بيت الداية عواطف ، والأزقةُ القذرة تقتل رائحةَ ظلالها مثلما تخرج جثامين أسماك القِرش من كتابات الأولاد على الحيطان البائسة . صارت الأزقة تضيق وتضيق، وكلما ضاقت أكثر عَرف أن البيت المقصود صار أقرب .
     ففي جبل النظيف، ذلك المكان المنسي في حِبر الخرائط، والبُقعة المنبوذة في تاريخ أحزان الشوارع غير المعبَّدة. ذلك المستودع من أسرار النساء المسحوقات والرجال العائشين على الهامش بلا مستقبل أو أحلام، حيث وجوه الناس مُصادَرة ، وأحلامهم موؤدة قبل أن تُولَد. كلُّ عجوزٍ تَجلس على درج بيتها تنتظر ما لا يأتي، وكلُّ أرملةٍ تخيط أحزانَها في ليالي الشتاء .
     في هذا المكان الموحل، لا يصل ضوء الشمس إلى نخاع الأزقة الضيقة ، فالمنازل العشوائية مبنية بصورة متلاصقة إلى حد التزاوج مع جنون الأسمنت المغشوش ، فلا الشمسُ تدخل في شرايين جغرافيا الحلم الواقعي ، ولا البشر ينتظرون قدومَ ضوء الشمس .
     في هذا المكان كلما اقتربتَ من الأشياء ابتعدتَ عن نَفْسك ، وكلما ابتعدتَ عن الأشياء اقتربتَ من حزنكَ . لن تقع عيناك في هذا المحيط الشاسع من أكواخ الصفيح والأوحال والروائحِ الكريهة وأكياسِ القمامة المبعثرة على طول المدى والتي مزَّقتها القططُ العمياء ، إلا على عيون مكسورة للبشر والحيوانات التي انتخبت المنفى الاختياري في هذا الجبل الذي ليس له من اسمه نصيب .
     ولن تجد سلال قمامة أمام أبواب البيوت لأن السكان يُوفِّرون بقايا النقود لشراء ما هو أهم من سلال القمامة ، لكي يظلوا على قيد الحياة لا أكثر. الحياة من أجل الحياة ، حيث التاريخ متروكٌ للقادرين على الدفع، وحيث المستقبل لم يعرف طريقَ هذا الجبل المنسي في انكسار الروح . هنا يصير الهدفُ من الحياة أن تظل على قيد الحياة أطول فترة ممكنة هارباً من تاريخ الصراصير المقتولة تحت الأحذية الممزَّقة.
     وبعد أن تعب بسام من اللعب في الشارع ، ورمي الحجارة على القطط المغضوب عليها في هذه القذارة الشاسعة ، وأنهى امتصاص قطعة الشوكولاتة حتى الرمق الأخير ، فقد لا يقدر على شراء قطعة ثانية في المدى المنظور، ذهب إلى بيت الداية ، وقرع الجرس بشكل هستيري متواصل.
     كانت الداية في قميص النوم برفقة زوجها محمود بائع الخضار ، وقد كانا شبه عاريَيْن على السرير المكسور ، وهما يخترعان نظرياتٍ جديدة في الغزل على ألحان رائحة المجاري الفائضة في الأزقة المحيطة ، وحينما سمعا قرع الجرس بهذا الشكل المرعب، وقعا على الأرض، وهبَّ الرجل واقفاً ، وهو لا يعرف ماذا يفعل ، وأين يذهب ، لكنه قال بصوت متذبذب نتيجة القلق البالغ :
     _ استري على حالك يا امرأة ، ضَعِي اللحاف عليك . يا فرحة ما تمَّت ، كل يوم يصير نفس القصة ، لا أعرف متى سننجب الأطفال إن بقينا على هذه الحال .
     قالت عواطف وهي في غاية الارتباك ، ولا تعرف كيف تستر نفسها :
     _ اترك هذا الكلام .. اذهب وافتح الباب .
     وطيلة هذه المدة لم يتوقف الرنين المجنون ، فقد غرس بسام أصابعه كلها في الجرس كأن لديه ثأراً شخصياً معه .
     ارتدى ثيابه على عَجَل ، وانطلق كالملسوع لكي يفتح الباب . وعلى الرغم
من أن بيتهم عبارة عن غرفة واحدة ضيقة وحَمَّام ومطبخ صغيرين ، إلا أنه أحس المسافة بين السرير وباب البيت كأنها مسافة بين كوكبَيْن .
     فَتح البابَ ، والعرقُ يكتسح وجهَه ، وبسبب ارتباكه لم ينتبه إلى الصغير بسام بسبب قصر قامته . فصار بسام يرفع نفسه ليجذب الانتباه .
     فلما انتبه محمود إلى هذا المشهد الذي بدا فصلاً من مسرحية كوميدية ، قال بصوت مستسلم، وعلامات الخيبة تقتلع ملامحَه، والكلام يخرج من جوفه بصعوبة :
     _ ماذا تريد يا بسام ؟ .
     _ أريد خالتي عواطف لأني أمي سوف تلد .
     _ حاضر يا سيدي .
     وقد استمعت عواطف إلى الحوار كاملاً ، فارتدت كامل ثيابها ، وهي تقول في نفسها :
     _ أنا أُوَلِّد النسوان ، وأظل بلا ولادة . صدق من قال : باب النجار مخلَّع .
     ثم قالت لزوجها وهي تهم بمغادرة بيتها :
     _ ضع الماء على النار ، وانتظرني في السرير ، ولا تلمس قميص النوم لأني استأجرته من جارتنا .
     وانطلقت الداية برفقة الصغير بسام بسرعة كبيرة ، يقتحمان الرائحةَ الكريهة في أزقة الوباء. وفي أثناء سيرهما المتماهي مع الركض، كُسر كعب حذائها ، فوقعت على الأرض ، وقد التوى كاحلها بصورة طفيفة ، لكنها واصلت السير ببطء شديد وهي تعرج، والألم ينهش رِجلها، ويسري كالرماد الحارق في شرايينها .
     وما إن وصلت إلى بيت أم بسام حتى سمعت صراخ طفل يُفجِّر المكانَ ، لكنها لم تقدر على تمييزه هل هو ذَكر أم أنثى . وحينما دخلت إلى جلسة الولادة تلك ، نسيت النسوةُ الجالسات موضوع الولادة ، وصِرْنَ يحدقن في هذه المرأة التي وصلت بعد فوات الأوان ، وكان العَرقُ يأكل وجهَها ، والقاذورات عالقة بثيابها .
     شعرت عواطف في تلك اللحظة بأنها وحيدة في هذا العالَم، وأنها غريبة عن هذا المكان . أحست برغبة شديدة في البكاء، لكنها قاومت الدموعَ بشراسة جندي محشور في الزاوية ، ولم تعرف ماذا تقول في ساعة الولادة تلك المصبوغة بالصراخ الذي يدهن حيطانَ الغرفة البائسة . لكنها ألقتْ نظرها إلى الأرض ، وقالت :
     _ مبروك يا أم بسام .
     وغادرت تلك البقعة المشتعلة بالأحاسيس المتضاربة . وبدأت الدموع تسيل من عينيها بحرقة في الطريق ، لدرجة أن سخونة الدمع أنستها وجع قدمها .
     وحينما وصلت إلى بيتها ذُهِل زوجها حينما رآها في هذه الهيئة التعيسة ، فقد بدت كالمتسولة. ولم تقدر على النظر في عيون زوجها، وإنما دخلت إلى الاستحمام بالماء الذي تم تسخينه لأمرٍ آخَر .
     وزَّع الرجلُ نظراته في أنحاء الغرفة ، ورمى مشاعره في سقفها المصنوع من الصفيح المتهالك ، وراح يتحسس نعومةَ قميص النوم الملقى على السرير ، ثم اختبأ تحت اللحاف ، والنعاس والبكاء يتصارعان في جسده المنهَك .
     وعلى الضفة الأخرى للحلم المشتعل كان بكاء المولودة الجديدة يملأ المكان ، ويزرع الخناجر في حلوق النساء المبتسمات حول هذا الكائن الحي الجديد القادم إلى هذه الأسرة . أما أم بسام فتشعر أن جسدها قد غادر مدارَه ، وانفصل عن الحياة برمتها . فالألم ينهش جسدها نقطةً نقطة ، وهي تمارس الألم لكي تنسى الألم في بقعة أخرى .  
     وزَّعت النسوةُ الأعمالَ فيما بينهن . فواحدةٌ تجهز الماءَ الساخن ، ورفيقتها تحاول إيقاف سيلان الدم بطرق بدائية مضحكة ، وأخرى تحاول تنظيف المولودة . وقد بدت أفعالهن ارتجالية غارقة في الفوضى، لكن هذا هو أسلوب الولادة المتوارث في هذا الجبل المنسي . وكلُّ واحدة تريد إثبات نفسها كقائدة لفريق العمل .
     وفي زحمة هذه الفوضى العارمة المختلطة بطقوس الولادة المتوارثة  ،  والبكاء
الصادم ، والارتباك ، وضوضاء النساء الأميات ، جاء بسام كالرصاصة ، وهو يلهث ، ووقف أمام تلك الجلسة النسائية المخيفة ، والتي تبرق في عينيه كرؤوس الرماح ، وقال :
     _ لقد ماتت جدتي سارة .
     ألقى هذه الكلمة الحارقة ، وأصابع الموت تزحف على جِلده ، والدموعُ تصعد إلى جفونه ، وغادر المكان هارباً كشخص يلقي قنبلة على مجموعة بشر ، ويهرب قبل أن يمسكه أحد .
     كان الموتُ ينثر معناه في أرجاء الفضاء . لقد سيطرت النهايةُ على مشاعر النسوة الغارقات في فوضى طقوس الولادة . أما بسام فكان يركض إلى اللامكان . فالموتُ يحمل معنى جديداً في نفسه الطفولية . وهو الطفل المحصور في العاشرة من عمره .
     ظهر المشهد كخليط شرس من الأضداد ، حيث المشاعر تقتل المشاعر ، ولا يعرف الإنسان أين يذهب . لقد شعر بسام في تلك اللحظة الرهيبة أنه نقل بحوراً من المتفجرات ، ولم ينقل خبراً عادياً . لم يفهم بدقة ماهية الموت . لكنه متأكد أن الغياب هو الذي سيفرض شروطَه ، وأنه لن يرى جدته سارة بعد اليوم .
     كانت الحاجة سارة كبيرة العائلة . وهي أشبه بشيخ قبيلة، فكلمتها مسموعة ، وسارية على الصغير والكبير . وبعض الناس يقولون إنها وُلِدت في عام 1900م ، والبعض الآخر يؤكد أنها وُلدت عندما أُلغيت الخلافة العثمانية . وآخرون يقولون إن تاريخ ميلادها نفس تاريخ ميلاد هتلر. وصار تحديد تاريخ ميلادها قضية أمن قومي ، وكل واحد يخترع تاريخاً من بنات أفكاره ، والجميع مشغولون بهذا ، ويحاولون ترك بصماتهم في هذه المسألة التي تمس ثقافة هذه البقعة الجغرافية البائسة .
     والحاجة سارة نفسها لم تعد تعرف كم عمرها من كثرة السنوات التي عاشتها والأمراض التي حاصرتها . لكن الشيء الذي بقي عالقاً في ذهنها طيلة عمرها هو محاولة أبيها أن يُسمِّيَها " رعد " رغم أنها أنثى . وقد قال حينها إنه يرى في عينيها اللامعتين صفات زعماء العشائر ، وإن اسم " رعد" يناسب الزعامة . لكن أمها أقامت الدنيا ولم تقعدها ، وقالت له إنك ستفضحنا في العائلة ، وتسبِّب عقدةً نفسية للبنت . وقد تراجع عن فكرته بعد تدخل عدد من كبار العائلة .
     لكنَّ حكاياتٍ كثيرة مرتبطة بهذه العجوز الأسطورية ، لكن الحكاية الأكثر غرابة ، والتي يتناقلها الناس بكثافة هي أنها حاولت عقد مصالحة بين الفلسطينيين والأردنيين في حرب أيلول 1970م ، وقد رفعتْ عَلَمَي فلسطين والأردن على سطح بيتها ، وأقامت بمساعدة طبيب محلي عيادةً لعلاج الجرحى من الجانبين ، وقالت إن أهل جبل النظيف لن يرفعوا بنادقهم في نار الفتنة ، على الرغم من عدم وجود بنادق مع السكان ، ولا يملكون ثمن الرصاصات ! . فهم بالكاد يجدون ما يأكلونه ، لكن الأمر _ آنذاك_ بدا جزءاً من خطبة حماسية .    
     والناس شبه متفقين على هذا الأمر ، وما زال بعض السكان يضعون صورة ذلك الطبيب في منازلهم احتراماً له. وهم يعتقدون أن الموساد قام باغتياله في باريس التي هاجر إليها فيما بعد ، لأنه كان أحد أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وأحد المقرَّبين من وديع حداد . لكن الجميع يعرف أنه كان يؤدي الصلوات الخمس في المسجد ، كما أن زوجته كانت محجَّبة ! .
     وبصراحة لا يوجد شيء موثَّق في كلام أهل هذا الجبل الضائع . وكلام الناس خليط من الحق والباطل ، فهم يرددون ما يسمعونه بدون تدقيق ، ويقولونه بحسن نية ، فلم يتخرجوا من الجامعات لكي يعرفوا المنهجَ العلمي ، كما أن لهاثهم وراء كسرة الخبز جعل تفكيرهم لا يتعدى حدود الراتب الشهري إلا في حالات نادرة .
     ولا شك أن وفاة مثل هذه المرأة التي تُعتبَر شيخة جبل النظيف سوف يترك أثراً سلبياً. وعلى أية حال سوف تستمر حياكة الأساطير حولها ، لأنها ليست مجرد امرأة منسية في هذا الجبل المنسي، بل هي مادة غنية بالتراث والفلكلور والرموز الشعبية، لدرجة أن السائحات كنَّ يلتقطن الصور التذكارية معها . فهي مَعْلم أثري وتاريخي، وقد صارت مثل كليوبترا ، إلا أن قَدَرها أحضرها إلى هذا البقعة المنبوذة في تاريخ الحضارات .
     كانت الأحداث تتسارع بصورة مرعبة . يتَّحد الميلادُ والموت في لحظةٍ واحدة. ويمشي الفرحُ إلى جانب الحزن في مدارات النسيان . كلُّ طريقٍ سيخلعُ وجهَه ويلبس قناعه هرباً من الشمس . لكن الشمس الكامنة في داخل الإنسان لا يمكن الهرب منها أبداً .
     أقبل أبو بسام وهو لا يَعلم بولادة ابنته أو وفاة أُمِّه . فمهنته تفرض عليه طَوقاً من العزلة. فهو يعمل في إحدى الكسَّارات المجاورة . غارقٌ في الجبال المعانقة للغيوم يقوم بتكسير الحجارة ، وزرع المتفجرات في باطن الأرض ، وتحويل هذه الجبالُ العالية الحاملة لذكريات العمَّال إلى حجارة بناء أو رُخام .
     وفي طريق عودته كان الوجومُ يخيِّم على الأزقة ، والانطفاء يكشط أحلامَ البيوت. ورغم أنه عاش كل حياته في هذا الجبل إلا أنه أحس بشعور غريب في تلك اللحظات الخشنة . شعر أنه دخيلٌ أو منفيٌّ ، وأن الزمان والمكان لم يعودا يتقبلان وجودَه . وقد أدرك أن أمراً كارثياً قد حدث . فالطرقاتُ شبه فارغة ، ولا أثر للضجيج الذي كان يملأ الفضاء . وقد واصل المسير بخطى مثقلة متوقعاً أن يسمع خبراً مؤلماً في أية لحظة .
     لمح يوسفُ صاحب بقالة الخيَّامي خطواتِ أبي بسام المتعَبة ، فقفز إليه كالمجنون قائلاً :
     _ عَظَّمَ اللهُ أجركم ، واللهُ يغفر لها . لقد كانت امرأة تساوي ألف رَجُل . كلنا على هذا الطريق . صَدِّقْني كنتُ سأغلق الدكانَ قبل قليل ، لكنَّ هؤلاء القرود      [ وأشار إلى بعض الأطفال ] أصروا على شراء عصير وشوكولاتة .  
     أدرك أبو بسام أن أُمَّه قد ماتت . وأن الدائرة قد اكتملت . والذاكرةُ أُغلقت
فلم تعد تتسع للذكريات . سيتحول البشرُ إلى براويز خرساء على الحيطان . والنهايةُ التي كانت تبدو بعيدةً صارت واقعاً ملموساً. تجمَّد الدمعُ في عينيه، وأسرع إلى بيته بخطى ميكانيكية لا شعور فيها، كأنه رَجل آلي يمشي ولا يعرف لماذا يمشي . وكلما رآه أحد المارَّة صافحه وعَزَّاه ، وأثنى على الحاجة سارة خيراً . وكلهم مُجْمِعون على عبارة " تساوي ألف رَجل " ، وكأنهم اتفقوا على قولها ، وجعلها شعاراً للمرحلة .  
     وصل أبو بسام إلى بيته . والصورُ تتشابك في ذهنه ، بحيث شَكَّ في بداية الأمر
هل هذا بيته أم لا . لكنه تأكد حينما سمع ضجيجَ الرجال وبكاءَ النساء . وما إن دخل إلى البيت حتى هُرع الجميعُ إليه كأنه كان مسافراً منذ سنوات . لكنه واصل المشي إلى غرفة أُمِّه لذا ابتعد الجميعُ عنه وخلُّوا طريقه . ولَمَّا دخل إلى الغرفة خرج منها كلُّ مَن كان فيها . لقد أراد أن يختليَ بأُمِّه ، تلك المرأة التي سَيْطرت على جبل النظيف بحكمتها ، وكان الرجال لا يجرؤون على كسر كلمتها . وها هي الآن جثة هامدة لا تتكلم ولا تتحرك ، مُسجَّاة على حصيرٍ خشن ، ومغطاة بقطعة قماش بيضاء .
     تقدَّم أبو بسام من أُمِّه، ورفع الغطاء عن وجهها ، وقَبَّلها على جبينها ، ثم غطَّى وجهها . غروبٌ أبدي لا شروق بعده ، ووداعٌ نهائي لا يمكن التراجع عنه . وراح يُكلِّم أُمَّه كما لو كانت على قيد الحياة .
     وفي خارج الغرفة كان يقف عمران وزهدي وسليم أبناء الحاجة سارة . وهُم يحترقون بنار الانتظار . ماذا يفعل خميس في الداخل طيلة هذه المدة ؟! . المرأةُ ماتت وارتاحت من هذا القرف . والحيُّ أبقى من الميت . كانت هذه الأفكار تجول في ضمائرهم .
     اقترب عمران ( الأخ الأكبر ) من زهدي ، وقال له بصوت منخفض يُشبِه صوتَ النوارس المذبوحة :
     _ أخوك خميس ليس سهلاً . أنا متأكد أنه يبحث عن الذهب تحت البلاط ، أو يفتِّش في ثياب أُمِّنا بحثاً عن المال .
     فُوجئ زهدي من هذا الكلام ، وارتبك في البداية ، لكنه قال :
     _ يا رَجُل ، حرام عليك . بلا ذهب بلا بطيخ . المرأة ماتت ، وأنتَ تحلم بالذهب والمال .
     بدت علاماتُ الخيبة والاستياء على وجه عمران ، وقال لأخيه :
     _ ستظل طيلة عمرك أهبل . أخوك آخر العنقود سيأخذ كلَّ شيء ، وستظل شحاذاً مثل أخيك سليم .
     ولم يكد عمران ينهي كلامَه حتى خرج خميس من غرفة أمِّه ، ووجهه كتلة من الأسمنت ، وشَعره رصاصةٌ مطاطية ، وعيناه وردتان ذابلتان .
     تقدَّم عمران من أخيه خميس ، ورَبَت على كتفه ، وقال له :
     _ ارحم نَفْسَكَ يا خميس . الحاجَّةُ ذهبت إلى رحمة ربِّها . وعلينا أن نحافظ على ذِكرى أُمِّنا .
     وأردف قائلاً :
     _ كنتُ قبل قليل أقول لزهدي إن خميس أفضل واحد بين إخوته، فهو أكثرهم حناناً وأقربهم إلى المرحومة . ولم يفارقها في حياتها ولا موتها . وأكيد هُوَ في الغرفة يتذكر أيامه مع المرحومة ويُوَدِّعها بكل محبة .
     ونظر عمران إلى وجه أخيه زهدي ، وحدَّق فيه بقسوة قائلاً :
     _ ألم يَحدث هذا يا زهدي ؟ .
     اكتفى زهدي بهز رأسه تصديقاً لكل ما قاله عمران .
     قال خميس مخاطباً إخوته :
     _ سندفن المرحومة اليوم بعد صلاة العِشاء . سيكون الناسُ قد عادوا من أعمالهم ، وسوف يصلِّي عليها جميع سكان الجبل .
     استغرب باقي إخوته هذا الكلام . وقال عمران :
     _ لماذا لا ننتظر إلى غدٍ وندفنها في النهار ؟ .
     _ إكرامُ الميت دفنه، ولن أُؤخِّر دفن أمِّي . سندفنُ جثمانها الطاهر وهو ساخن. أم هل تنتظرون خروج رائحة من جثمانها وتصبح فضيحة في كُلِّ الجبل ؟! .
     ألقى خميس هذه الكلمات وغادر المكان بسرعة من أجل تجهيز أمور الجنازة والدفن . ومع أنه أصغر إخوته إلا أن كلماته في تلك الساعة كانت حاسمة ، ولا تقبل النقاش . 
     وبعد أن ذهب ، قال عمران لأخوَيْه :
     _ سأقطعُ يَدِي إن لم تكن هناك وصيَّة للمرحومة . لا يمكن أن يقرر خميس دفنها ليلاً إلا تنفيذاً لوصية . ولا أحد يَعرف ماذا في الوصية من الذهب والأموال التي كانت تخزِّنها المرحومة . على أية حالٍ لا نقدر إلا أن نقول : اللهُ يرحمها .
     وهنا تدخَّل سليم قائلاً :
     _ يا جَماعة، المرحومة كانت أُمِّيةً لا تقرأ ولا تكتب، لا يوجد مالٌ ولا وصية.
     ردَّ عليه عمران قائلاً :
     _ أنتَ وأخوك زهدي نَفْس النُّسخة. مسكينان، القط يأكل عَشاءكما. فِعلاً ، هذه عائلة فاشلة تتوارث الفقرَ والغباء . اللهُ يُخلِّصني منها بأسرع وقتٍ .
     كان الصغير بسام يركض باتجاه المقبرة المقابلة لمسجد طارق بن زياد . تسلَّق سورَها مثل الأفعى ، وقفز إلى داخلها باحثاً عن شيءٍ ما . وفي إحدى الزوايا وَجد فايز ابنَ عمِّه ، فأسرع إليه وهو يَلهث ، وعندما وصل عنده وقف هُنيهة يلتقط أنفاسه . نظر إليه فايز باستغراب شديد ، وخبَّأ زجاجةَ الويسكي خلف ظَهره . ماذا يَفعل هذا الطفل هنا ؟ .
     قال بسام ونبضات قلبه تكاد تخلع ألواحَ صدره :
     _ جَدَّتي سارة ماتت .
     ألقى هذه القنبلة ، وعاد أدراجه مثل جنيٍّ لا يمكن الإمساك به .
     وقف فايز كالأبله ، والذهول يحتل قسماتِ وجهه . وراح يضحك بشكل هستيري ، ثم أمسك بزجاجة الويسكي المغلقة وأطلقها على الحائط كالرصاصة ، فانكسرت ، وانتشر الخمرُ على حشائش المقبرة . كان المشهدُ أشبه بسدٍّ ضربته صاعقة فانهار وأغرقت المياهُ كل القرى المحيطة به . لقد غابت الذكرياتُ من ذهنه كأن إعصاراً ابتلعها ، ولكنْ ذكرى واحدة برزت في تلك اللحظة القاسية ، وهي كيف كانت جَدَّته توقظه من النوم بعُكَّازها بعد أن يفشل أهل الدار في إيقاظه ! . كان توقظه رغمَ أنفه لئلا تفوته مواعيد الامتحانات في المدرسة .     
     كان فايز عمران شاباً في نهاية المرحلة الثانوية ، وقد كان معروفاً بأنه سِكِّير من الدرجة الأولى . ومن هنا جاء لقبه " خمراوي " نسبةً إلى الخمر التي كان يعبُّها بصورة جنونية . وكثيرٌ من الناس لا يعرفون أن اسمه " فايز " ، فقد تفوَّق لقبُه على اسمه . وقد ذاع صيته بعد حادثة شهيرة . فقد زار مدرستَه مديرُ التعليم في المنطقة برفقة وفد من المعلِّمين القُدامى. وأثناء تجواله في المدرسة للاطمئنان على سير العملية التعليمية ، سأل بعض الطلاب عن مشكلاتهم وأحلامهم . وقد سأل المديرُ فايز بدون معرفة مسبقة :
     _ ما الذي تغيَّر في حياتك عندما انتقلتَ من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية ؟ .
     ابتسم فايز كالأحمق ، وسأل :
     _ هل تريد الصراحة ؟ .
     _ يا ابني ، المدرسة بيتك الثاني ، وهي تُعلِّمنا الصدق والتعبير عن الرأي .
     _ بصراحة ، لقد تغيَّر مزاجي ، فصرت أشرب الويسكي بدلاً من البِيرة ! .
     وقعت هذه الكلمات على رأس المدير كالمطرقة ، واحمرَّ وجهُه ، وارتفع الزبدُ فوق شفتَيْه، ونظر إلى مَن حَوْله كالطفل الخائف الذي يبحث عن أُمِّه . وقال بأعلى صوتٍ :
     _ هل أنا في خَمَّارة أم مدرسة محترمة ؟! . هذا الولدُ مكانه في الشارع وليس في المدرسة . سوف أُرَبِّيه مثل كل الزعران الذين رَبَّيْتُهم في المنطقة .
     وغادر مسرعاً ، وخلفه الوفد التعليمي يحاول اللحاق به .
     وحصلت ضجة هائلة ، ليس في جبل النظيف وحده ، بل في البلد كلِّه . فقد فُصل فايز من المدرسة فصلاً تأديبياً ، ومُنع من إكمال دراسته . وكاد والده يُطلِّق أُمَّه لأنه اتهمها بأنها أفسدت الولدَ بالدلع والمال . وتبرَّأ منه أبوه ، وقال إنه سيقتله ويعتبره كلباً ميتاً . وتدخَّل بعضُ الوجهاء للإصلاح بين الأب وابنه . واستغرب الناسُ حين علموا أن فايز السِّكير هو شقيق الشيخ عبد الرحيم عمران . فالشيخ عبد الرحيم يحفظ القرآنَ الكريم ، وهو من الدُّعاة الذين لهم وزن ، كما أنه يُلقي درساً أسبوعياً في المسجد . ولكنْ هذه حال الدنيا ! . 
     وتناقلت قصةَ فايز وسائلُ الإعلام المحلية والعالمية . وقال البعض إنه فاسق يجب جَلْده ، وتطبيق حَد شرب الخمر عليه . والبعض الآخر اعتبر الأمر حرية شخصية . وتدخَّلت منظمات حقوق الإنسان في القضية . واختلط الحابلُ بالنابل . حتى إن إحدى المجلات الأمريكية أجرت مقابلةً مع فايز باعتباره مثالاً للشباب المتمرد في دول العالم الثالث، وسألوه أسئلة عديدة لكشف شخصيته أمام الرأي العام ، لكن أكثر الأسئلة إحراجاً : هل أقام علاقاتٍ جنسية مع النساء ؟ . وعندما يتذكر فايز هذا السؤال يضحك من كُلِّ قلبه ، فهؤلاء جاؤوا من آخر الدنيا ليعرفوا هل له علاقات جنسية أم لا .
     وقد أجاب بأنه لم يمارس الجنسَ مع أية امرأة، لكنه حاولَ الاختباء في حفر المجاري ليرى النساءَ اللواتي يَمشين على الشارع، خصوصاً اللواتي يَرتدين تنانير !. لكن محاولته باءت بالفشل . وقد كان يَذهب إلى وسط البلد ليلةَ العيد للتحرش جنسياً بالنساء بسبب الازدحام الهائل . فالجميعُ يريدون شراءَ ملابس العيد ، وهو كان يستغل هذه الفرصة التي لا تأتي كل يوم ! .
     ومنذ ذلك الحين صار فايز شخصيةً معروفة . وقد تلقى العُروض من الملاهي الليلية للاستفادة من خبرته وشهرته. لكنه أخبر أصحابَها أنه يُفكِّر حالياً في دراسته، وكيفية العودة إلى المدرسة ، والملاهي الليلية لن تطير ! . وقد عاد إلى مدرسته بسبب ضغط منظمات حقوق الإنسان .
     انتشر خبرُ وفاة الحاجَّة سارة في أنحاء جبل النظيف والمناطقِ المحيطة كانتشار النار في الهشيم ، كما انتشر موعدُ صلاة الجنازة، وصار الناسُ يتوافدون على الجبل بكثافة من كل ناحيةٍ . ومن المضحك المبكي أن نقول إن موتها قد ساهم في دعم الاقتصاد ، فقد ازدادت حركة سيارات الأجرة ، وازداد الإقبال على المحلات التجارية ، وقامت محلات الأقمشة بعَرْض أنواع أجنبية من ثياب الحِداد ، حتى إن الصيدليات باعت كمياتٍ هائلة من المهدِّئات النفسية . ويقال إن بعض السُّياح الذين كانوا يتجولون في وسط البلد قد جاؤوا إلى جبل النظيف للاطلاع على هذا الحدث الكبير ، ومعرفة الفلكلور الشعبي ، ورؤية ماذا يحدث في الجنازات في هذه الأماكن البدائية . لقد كانت _ بالنسبة إليهم _ فرصةً لا يمكن تعويضها . وبالطبع سيعودون إلى بلادهم حاملين الكثير من الحكايات والصور التذكارية. وربما يقومون بكتابة خواطر فلسفية أو اجتماعية عن حياة الناس في هذه البُقعة الضائعة . وقد يلتقطُ بعض العلماء هذه الأفكار ، ويصوغون منها نظرياتٍ في العلوم الإنسانية .
     تجمَّع الناسُ في صلاةِ العِشاء ، وبعد انتهاء الصلاة . قام حفيدها الشيخ عبد الرحيم عمران بالصلاة عليها وخلفه جموع المصلِّين . ثم حُملت على الأكتاف ، والناسُ يرددون عِبارة " لا إله إلا الله " . وعندما خرج المصلون من المسجد حدث ما لم يكن بالحسبان ، فقد انقطع التيارُ الكهربائي عن الجبل ، وصار الناسُ غارقين في الظلام ، وعمَّت الفوضى ، وارتفعت الأصوات . وهنا تدخَّل عمران ( ابنها البِكر ) ، وقال :
     _ يا ناسُ  ، لِيُحْضر كلُّ واحد مصباحاً أو شمعة . نريد أن تمضيَ هذه الليلة
على خيرٍ .
     وانتشرت المصابيحُ والشموعُ . وكان ضوءُ القمر يُظلِّل الناسَ السائرين إلى المقبرة .
     وعلى الرغم من أن المقبرة كانت مغلقة منذ سنواتٍ ، ولا مكان فيها لقبرٍ جديد ، إلا أن سكان الجبل رَفضوا أن تُدفن الحاجَّة سارة إلا في تلك البُقعة . فهي _من وجهة نظرهم _ تراثٌ قَوْمي يجب أن يظل موجوداً في جبل النظيف بأي ثمن .
     وأظن أن حارس المقبرة قد تدخَّل حينها ، فَقُلِعت إحدى شجرات الصنوبر ، ليحل مكانها القبرُ الجديد والأخير . وبصراحة لا أدري هل تقاضى حارس المقبرة مبلغاً نظير هذا العمل ، أم أنه فعله مجاناً . وفي كلا الحالتين فإن حارس المقبرة قَد تصرَّف فيما لا يَملك . ولكنْ في هذا المكان لا أحد يُحاسِب أحداً .
     وقفَ عمران عند قبر أُمِّه ، وراح يُلقي بعض الكلمات التي بدت وكأنها جزء من خُطبة مُعدَّة سابقاً :
     _ يا سُكَّان جبل النظيف، إن المرحومة كانت من أولياء الله تعالى . وما انقطاع
الكهرباء إلا دليل على أن نور وجهها هو الذي يضيءُ المكان. ولأول مرةٍ في تاريخ جبل النظيف تَسير جنازة على ضوء المصابيح ، وهذا يدل على تميُّز المرحومة عن باقي الأموات . كما أنها دُفنت في مكانِ شجرة صنوبر ، وهذا لم يحصل مسبقاً ، فالمرحومة عاشت مثل الشجرة ، وماتت مثل الشجرة . ويوم غَد سَيَظهر نَعْيُها في أكبر جريدة في البلد . صفحةٌ كاملة في صفحة الوفيات باسم الحاجَّة سارة .
     لقد جمعَ عمران مالاً من كل أفراد العائلة لنشر النعي في الجريدة. فهو يعتقد أن هذا الأمر سيُبرِز مكانةَ العائلة ، ويَرفع اسمَ العشيرة بين باقي العشائر .
     بدا كلام عمران وكأنه خُطبة حماسية أو إعلان تجاري. وربما أراد استغلال هذه اللحظة من أجل إبراز عائلته ، واختراع مكانة خاصة لها . وأدرك الكثيرون أن هذا الكلام لا يتلاءم مع موضوع الموت ، وطبيعة المكان . لذلك لَمَّا سمع الشيخُ نايف
رَيَّان إمام مسجد طارق بن زياد هذا الكلام ، قال :
     _ إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وسبحان الذي قَهر عبادَه بالموت . والموتُ قد سَوَّى بين الناس ، فقد تساوى الغنيُّ مع الفقير ، والعالِمُ مع الجاهل ، والذَّكر مع الأنثى .  
     دُفنت الحاجة سارة، وأُهيل التراب عليها ، ووُضع شاهد القبر . وكان مكتوباً عليه: (( الفاتحة على روح الحاجَّة سارة محمد عبد اللطيف أرملة المرحوم لطفي سعيد المخلوسي . إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون )) .
     تفرَّق الناسُ وعادوا إلى بيوتهم. وفي مساء ذلك اليوم جَمع خميس إخوته عمران وزهدي وسليم وأختهم الوحيدة رسمية . وقال لهم بالحرف الواحد :
     _ أُمُّنا تَركت خاتِماً وعِقداً من الذهب ، وثلاث أساور فضة ، ومبلغ مئة وخمسة وعشرين ديناراً .
     لم تَقدر رسمية أن تسيطر على نفسها حينما سَمعت هذا الكلمات ، وراحت تبكي بحُرقة ، وقالت بصوتٍ مختلط بالأسى :
     _ أُمُّنا دُفنت قبل قليلٍ ، ونحن نريد أن نَرِثَها .
     قال خميس :
     _ الدنيا فيها حياة وموت . وأنا جمعتُكم لكيلا تقولوا إن خميس ضَحك على
أُمِّنا في حياتها ، وبَلع كلَّ شيء قبل وفاتها .
     وفي تلك اللحظة قال عمران واللهفة تقتلع عينيه :
     _ حاشاكَ يا " أبو بسام ". لكنْ بصراحة أنا أعرف أن أُمَّنا تملك أكثر مما قلتَ. 
     _ يعني أنا كذَّاب يا " أبو عبد الرحيم " ؟! .
     _ يا سيدي ، لا أنتَ كذاب ولا أنا كذاب . وحقكَ عليَّ . وبالنسبة إِلَيَّ لا أريد شيئاً منكَ ولا من أُمِّي . سامحتكما في الدنيا والآخرة .
     وخرج عمران غاضباً، وأغلق الباب خلفه بقسوة واضحة ، بحيث أزعج صوتُ
الباب جميعَ مَن كان في البيت .
     وعندئذٍ قال سليم :
     _ باللهِ عليك يا " أبو بسام " غَيِّر الموضوعَ . لا نريد أن نخسر بعضَنا من أجل قِرْشين .
     وانفضَّ المجلسُ ، وذهب كل واحد إلى حال سبيله .
     كان عمران يَسرد على زوجته مديحة تفاصيل ما جرى في بيت خميس بشأن الميراث . فما كان منها إلا أن قالت :
     _ يا عيب ! ، أخوك الأصغر ضَحك عليك ، وخرجتَ من المولِد بلا حُمَّص . غداً سيبني أكبر فيلا في عَمَّان الغربية بأموالك أنتَ وإخوتك. الحق عليَّ أني رضيتُ بزوجٍ مِثلك . ضيعتُ شبابي من أجلك بلا نتيجة . ولكنْ لا يفيد الندم . بقي أبي  _ الله يرحمه _ يقول لي : ظِلُّ رَجل ولا ظِل حائط . ولم يَعرف أني تزوجتُ رَجلاً مثلَ الحائط .
     _ يا امرأة، كل يوم أسمع نَفْس الموَّال . لقد مضى العمر. الذي ضَرب ضربته ضربها زمان ، ولا يمكن أن يرجع الزمان . الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة ، إمَّا أن تستغلها أو راحت عليك .
     _ يا عيني على هذه الحِكَم ! ، لا آخذ منك إلا الكلام . قضيتَ حياتك بيَّاعَ
كلام يا فالح ! .
     ثم ذهبت إلى تغيير ملابسها ، وارتدت قميص نوم أحمر يبرز مفاتنها ، وجاءت تتمايل أمام زوجها المرهَق . وعندما رآها زوجُها قال :
     _ أستغفر اللهَ العظيم وأتوب إليه . يا حُرمة استري على حالك . نحن في حالة وفاةٍ . خلِّي هذه الليلة تمر على خيرٍ .
     _ ومَن أين سيأتي الخير ؟! . تريد مني أن أدفن نفسي في الحياة ؟ . الذي يموت
مع السلامة .
     تأفَّف زوجُها بصوتٍ عالٍ ، وقال بعد أن أتعبه الجِدال :
     _ أنا حمار لأني أناقش امرأة جاهلة مِثلك .
     واستلقى على السرير، وغطَّى جسمه المنهَك باللحاف، وراح في سُباتٍ عميق.
     أمَّا زوجته فذهبت لكي تشاهد التلفاز ، وهي تكيل الشتائم في سِرِّها ، وتندب حظَّها .
     وفي البيت المجاور كان خميس يطمئن على صحة زوجته ، ويحدِّق في طفلته الجديدة . فهو لم يجد وقتاً في هذا اليوم لممارسة دوره كأبٍ . حَمل طفلته بين يَدَيْه ، وشعر _ لأول مرة في حياته _ أنه يحب إنجابَ البنات ، وقال :
     _ هذه سارة الجديدة . لقد ماتت سارة ووُلدت سارة . لا أريد أن يختفيَ هذا الاسم من حياتنا .
     وهكذا صار لخميس ثلاث بنات : سارة وحورية وهند . بالإضافة إلى ابنه الوحيد بسام .
     كان هذا اليوم من أطول الأيام في حياة هذه العائلة . ويبدو أن هذا الليل لا يريد الانتهاءَ . فعند الساعة الرابعة فجراً قُرع باب منزل عمران قرعاً عنيفاً . قام عمران من نومه كالمصروع، وزوجته هبَّت من نومها غير قادرة على تمييز ما يجري.
     فَتح عمران الباب فإذا به أحد المسؤولين عن شبكة الكهرباء في المنطقة . تأفَّف
عمران ، وراح يلتقط أنفاسه بعد هذا الفيلم المرعِب .
     وقال عمران وهو بين الحياة والموت ، وعيناه مزروعتان بالقذى :
     _ يخرب بيتك ، ألم تقدر على الانتظار حتى الصباح ؟ .
     أطلق المسؤول ضحكةً صفراء كَشفت عن أسنانه التالفة ، وقال :
     _ أنا أنتظر أي شيء إلا المال . يجب أن أذهب إليه بسرعة لأنه يطير مثل الدخان .
     ودخل عمران إلى منزله ، وقال لزوجته التي كانت واقفة تسترق السمعَ :
     _ أحضري عشرين ديناراً بسرعة .
     _ لن أحضر شيئاً حتى تخبرني بقصة هذا الرَّجل .
     _ هاتي المال الآن قبل أن يفضحنا. فهو مستعد أن يبيع أباه من أجل رُبع دينارٍ، وسأخبرك بالقصة بعد أن يغور في ستين داهية .
     أخذ المسؤولُ المالَ وعاد أدراجه . وتنفس عمران الصعداء لأن الموضوع انتهى على هذا النحو بدون انتباه الجيران . لكن زوجته حاصرته بالأسئلة ولم تتركه . فما كان منه إلا أن قال :
     _ لقد اتفقتُ مع هذا المسؤول أن يقطع الكهرباء أثناء جنازة أُمِّي ، وذلك ليبدوَ المشهد غريباً يتناسب مع مكانة عائلتنا، فيتحدث الناسُ عن هذه الحادثة في كل مكان . وهكذا يصبح لنا وزن بين العائلات ، وتشتهر قصتنا على كل لسان .
     ومضى إلى النوم كأن شيئاً لم يكن ، في حين أن زوجته بقيت واقفة غير مصدِّقة لما سمعتْه ، وقد طار النومُ من عينيها ، ومضت تقول :
     _ أنا متأكدة الآن أنني أعيش مع رَجل مجنون ! .