سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/07‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل السادس

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل السادس )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
في الدير كان على عايدة أن تجمع القمامة الموجودة في السلال وتضعها في كيس أسود كبير . فالمهمات في الدَّير موزَّعة ، وكل راهبة تقوم بعمل ما حسب دورها . فواحدة تقوم بجلي الصحون ، وواحدة تقوم بشطف البلاط ، وواحدة تقوم بالغسيل ، وأخرى تنشره . جمعت عايدة القمامةَ في الكيس الأسود . كان ثقيلاً بعض الشيء ، لذا كانت تعاني من حمله وهي المرأة البعيدة عن الخشونة والعنف . وضعت الكيسَ على باب الدَّير من أجل أن ترميَه أم وهبي في الحاوية البعيدة ، فعمال النظافة في هذا الوقت مشغولون بالأنقاض والأتربة والأوساخ في طرقات هذه البلدة المنكوبة وغير مستعدين لأن يدوروا على المنازل يجمعون القمامة ، فعلى كل بيت أن يتصرف من تلقاء نفسه ويرميَ القمامةَ بنفسه . وقد كانت حاوية القمامة بعيدة جداً عن الدَّير ، بحيث تستغرق المسافة بين الدَّير وأقرب حاوية نصف ساعة على الأقل ، وهذه المسافة ستكون تحت أشعة شمس حارقة لا تَرحم . لذا اتفقت أم وهبي مع سكان المكان على أن يَتركوا أكياس القمامة أمام الأبواب ، وهي ستقوم برميها مجاناً . وأم وهبي هي امرأة غجرية من النَّوَر الذين يسكنون في أقاصي البلدة، كانت تقوم بجمع القمامة من البيوت مجاناً حيث تقوم بالتفتيش عن فضلات الطعام والعلب المعدنية أو أي شيء صالح للأكل أو البيع من أجل أن تُعيل زوجها المشلول وأبناءها الصغار . حملت أم وهبي الكيس الأسود واتخذت ركناً في أحد الأزقة وصارت تفتش في القمامة عن أي شيء صالح . وجدت بقايا طعام وفواكه ، ومرآة مكسورة أَخَذَتْها لعلها تصلحها وتبيعها . وجدت أيضاً ملابس ممزقة ففرحت بها كثيراً كفرح صياد اقتنص حوتاً ، وفكَّرتْ في الملابس إن كانت تصلح لها أو لابنتها بعد تصغيرها . كانت منهمكة في حساب الجدوى الاقتصادية وفق منظورها البسيط ، منظور امرأة تسعى لإطعام زوجها المشلول والأبناء الصغار الذين ينتظرون عودة الأم بفارغ الصبر لعلهم يحصلون على طعام أو أي شيء يفرحهم ، وينسيهم لو للحظة هذا البؤس العارم الذي يجتاحهم بلا هوادة . وأثناء تفتيشها الدؤوب بزغ لمعانٌ صادم من بين بقايا الأطعمة والأشياء البالية. مدت يدها فإذا به صليب أصفر . تناولته بوحشية فائقة وحدَّقت به للحظات وصارت تفكِّر فيما إذا كان من الذهب أم لا . ولو كان من الذهب كم يساوي ثمنه . تركت الكيسَ في الزقاق وكفَّت عن البحث في القمامة ، ونظَّفت الصليبَ من الأوساخ العالقة به . وَضَعَتْهُ في إحدى جيوبها بعد أن تأكدت من أن الجيب ليست مثقوبة . داهمها خاطرٌ سريعٌ يتأجج في داخلها بأن أخذ هذا الصليب يُعتبَر سرقةً من نوع خاص ، وأن عليها أن تعيده إلى الدَّير لأنه من المستحيل أن تقوم إحدى الراهبات برمي صليبها في القمامة . هكذا كانت قناعتها التي لا تقبل التغيير . لكنها طردت هذا الخاطر وقال في نفسها : _ إن الراهبات يجدن من يصرف عليهن ، أما أنا فلا أجد من يصرف عليَّ . لو أعدتُه إلى الدَّير لربما مات أبنائي جوعاً . لن أُعيده ، وسأشتري بثمنه لحماً لأسرتي التي لم تذق اللحم منذ ثمانية أشهر . وانطلقت أم وهبي سعيدةً والصليب في جيبها ، وكلما مشت تحسَّسَتْه لتطمئن على وجوده ، وذهبت به إلى الخباز اليهودي من أجل تقييمه وشرائه ، فقد اعتادت على بيع كثير من الأشياء له ، فهو أدرى بالتجار والأسواق في العاصمة ، فدائرة معارفه واسعة جداً ، أم هي فلا تفهم حركة السوق أو مكان تواجد التجار . وقد صار الخباز هو الوحيد الذي يشتري منها علب المشروبات الغازية التي تجمعها ، إذ إنه على صلة بأحد تجار الخرداوات في العاصمة ، وهو متخصص بجمع العلب المعدنية . والخباز صار حلقة الوصل بين تجار العاصمة وبين أم وهبي التي لا تعرف أين تقع العاصمة، فكل ما قد تقع يديها عليه تذهب به إلى الخباز الذي يشتريه منها بثمن بخس مستغلاً حاجتها وجهلها . دخلت أم وهبي المخبز فوجدت يعقوب يجلس واضعاً رجلاً فوق أخرى على كرسي خشبي مهترئ يشبه كراسي المقهى الذي أُبيد نهائياً بعد عملية القصف الجنوني له ، فالطائرات كانت تعلم أن كثيرين من الجنود يتخذون من المقهى استراحةً لهم ، وهذا جعله هدفاً رئيسياً للقصف الجوي . واضطر صاحب المقهى بعد أن خسره أن يُزَوِّج ابنته ذات الخمسة عشر ربيعاً للمرابي العجوز أبي مسعود الذي يدق أبوابَ السبعين ، وهو بذلك يكون قد أكمل دائرة الأربع نساء . فالآن على ذمته أربع نساء يمكن أن تقول إنه اشتراهن بأمواله مستغلاً ضعف الأهل الذي باعوا بناتهم لمن دفع أكثر . ولستُ أدري لماذا تزوج الرابعة مع أنه ضعيف جنسياً . ربما يكون حب التملك قد سيطر على حياته خاصة أنه يلعب بالمال ولا يهتم كيف اكتسبه ولا فيما أنفقه . المهم أنه يظن أنه بوسعه شراء الناس بأموالهم . وفي إحدى المرات _ كان ذلك قبل عشر سنين _ أُعجب بامرأة متزوجة سيطرت على تفكيره، فصار يقضي نهاره وليله يفكر فيها ، حتى إنه ذهب لزوجها وعرض عليه مالاً طائلاً مقابل أن يطلقها ، لكن زوجها كان رجلاً شهماً ورد عليه رداً عنيفاً يومئذ . لا أدري ما الذي أتى بتلك القصة في هذه اللحظة . عدَّل يعقوب جلسته عندما رأى أم وهبي ، لكنه تعجب لما رآها صفر اليدين ، إلا أنه توقع أنها تملك شيئاً ما في جيوبها فليس من عادتها أن تأتيَ في مثل هذا الوقت إلا إذا كان لديها شيء للبيع . تشجع لهذا الأمر وقال : _ أرجو أن تكوني قد أحضرتِ شيئاً ذا قيمة هذه المرة . قالت أم وهبي والكلام يتدحرج على شفتيها المشققتين اللتين بَلَّتْهُما بلعابها : _ لقد أحضرتُ لكَ صليباً ذهبياً . جحظت عيناه بشكل هستيري وهيأ نفسَه لامتصاص صعقة المفاجأة ، وقال : _ أخرجيه بسرعة ، ماذا تنتظرين ؟ . أخرجته من جيبها . كان ضخماً وثقيلاً بعض الشيء والقلادة أيضاً كانت طويلة نسبياً . بلع يعقوب ريقه وتناول الصليبَ كمن يتناول صيداً ثميناً وصار يتفحصه ويقلبه ويحدِّق فيه بعين خبيرة ، وقال : _ إنه من نحاس رديء لا يساوي شيئاً . لم تطمئن أم وهبي لهذا الكلام ، وشكَّت في الأمر ، وقررت أن تعرضه على شخص آخر ، وقالت : _ إذاً أعطني إياها لا أريد بيعه . ضحك يعقوب ضحكة صفراء ، وقال : _ لقد كنتُ أمزح معك ، إنه ذهب من العيار الثقيل . _ إذاً كنتَ تريد أن تسرقني يا يهودي . _لقد كنتُ أمزح معك يا امرأة. ألم يعد في هذا الشعب أحدٌ يتحمل المزاح ؟!. وأردف قائلاً : _ وما معنى أن أسرقك وأنت سرقتِ صليباً بهذا الحجم ؟، فلا داعي أن تجعلي من نفسك شريفة، لأننا نحن الاثنين حثالة ولصان ، فلا داعي أن نمثل دور الشرف. أنا أعرف أنك سَرَقْتِهِ ، ولكنني على أية حال سأستر عليك وأشتريه منك. لم تجد أم وهبي فائدة في إقناعه بأنها وجدَتْه في القمامة لأنه لن يصدقها ، كما أنها اقتنعت بأنه لا حاجة لتمثيل دور الشرف ، فهي تعلم بينها وبين نفسها أن هذا العمل سرقة من نوع آخر . لذا دخلت في مفاوضات السعر مباشرة ، ولم تتكلف عناء الدفاع عن نفسها ، فقالت متحمسة على أمل الحصول على سعر جيد : _ كم تدفع ؟ . _ مئة دولار ولن أزيد . لم تستوعب أم وهبي ما هو الدولار. صحيحٌ أنها تسمع عنه هنا وهناك، ولكنها تعتقد أنه مادة مثل الذهب أو الفضة ، فقالت بكل سذاجة : _ أريد أوراقاً مالية أمسكها بيديَّ ! . أطلق يعقوب ضحكة استهزاء سريعة بعد أن اكتشف مدى جهل هذه المرأة البسيطة التي تقف أمامه فقال لها : _ انسي موضوع الدولار ، سأعطيك بالعملة المحلية مع أنها لا تساوي شيئاً ، فالبلد خارج من الحرب والاقتصاد في الحضيض . ومد يده وأعطاها بالعملة المحلية ما يعادل ثمانين دولاراً ، لكنها لم تعارِض لأنها لا تفهم كيف تعارِض ، وتناولت المبلغ بكلتا يديها ، وخرجت مسرعةً والفرح يقفز في عينيها كالأرانب المولودة حديثاً بلا بكاء أو ألم . حدَّق يعقوب في الصليب ، واشتبكت الصور في ذهنه بمنظر الصليب الذي كانت ترتديه الراهبة جودي ، وتذكَّر ذلك الوجه الأُنثوي الموغل في الغموض الفاضح . ويعقوب هذا لم يكن يحترم المرأة مطلقاً ولا حتى أمه . كل امرأة بالنسبة إليه هي آلة للتكاثر ، هي كومة أعضاء تناسلية مُغرِية . كان مصاباً بعقدة نفسية تجاه النساء عموماً فهو يعتقد أنهن شر مُطْلق وكائنات جنسية متوحشة، لذا كان يعاملهن على أنهن بشر درجة ثانية أو كائنات حيوانية شهوانية . هكذا قال لأمه عندما كان شاباً ولم يخجل منها فقد كان يحتقرها لأنه يعلم أنها تخون أباه مع الرجال الذين كانوا يقصدون بيتهم في الوقت الذي كان أبوه مسافراً . تلك الصور مطبوعة في ذهنه وهو طفل لا حول له ولا قوة يرى الرجال الأغراب داخلين خارجين من البيت بينما هو لا يملك إلا أن يختبئ في غرفته البائسة ليسترق السمع ، ذلك الصوت الأنثوي الضاحك بشكل هستيري والمختلِط بأصوات الرِّجال الذين تفوح من أصواتهم جنون الشهوة والخيانة في لحظة اللاعودة . وهذا جعل منه إنساناً يحتقر النساء بلا استثناء وأولهن أمه الخائنة . وفي الدَّير كانت جودي تدور في حجرتها كالمجنونة بحثاً عن صليبها . قلبت الغرفةَ رأساً على عقب. أين ذهب ؟ . فتَّشت في كل ما يحيط بها فلم تجده. ازدادت توتراً واكتئاباً . وارتمت على سريرها بعد أن أصابها اليأس الصادم كالجثة المصلوبة . لا بد أنها قد نسيته في مكان ما ، ولكن أين هو هذا المكان . هكذا كانت تفكر في نفسها . ذهبت إلى كاترين ولارا وسألتهما عن صليبها إذا كانتا قد شاهدتاه أم لا ، فأجابتا بالنفي . وصارتا تبحثان في الدَّير عن الصليب بشكل هوسي ، فهنَّ يعلمن حجم الكارثة التي ستقع في هذا المكان لو لم يجدنه . كانت عايدة تتجسس على الحديث الذي دار بينهنَّ في إحدى الغرف واستمعت إلى كامل القصة . وانطلقت مسرعةً إلى تيريز لِتُعْلمها بالأمر . حدث ذلك قبل أن يخرجن من الغرفة ليبحثن عن الصليب . وما إن سمعت تيريز بهذا الأمر حتى رمت السيجارة من بين أصابعها الخشنة وداستها بقدميها ، وجُنَّ جنونها ، وصارت تتصرف كالممسوسة . كانت تيريز مُدَخِّنة شرهة ، وهي لا تدخن إلا سجائر من نوع أجنبي، فالأنواع المحلية لا تعترف بها نهائياً . وهذا الدخان الأجنبي كان يصلها في طرود بريدية من شركات أجنبية في أمريكا وأوروبا. وقد كانت الوحيدة في الدَّير التي تدخن ولا تجد حرجاً أن تفعل ذلك أمام الناس ضاربةً عرض الحائط كل الانتقادات التي تعرضت لها من داخل الدَّير ومن خارجه ، لكنها كانت من نوعية البشر الذين لا يهتمون بكلام الناس مطلقاً . المهم أن تفعل الشيء الذي يدور في رأسها المثقل نتيجة النيكوتين والقطران. وأن ترميَ السيجارةَ من بين أصابعها فهذا يعني أن هناك كارثة مريعة قد حصلت . فليست من عادتها أن ترميَ السيجارة إلا عند امتصاصها حتى الرمق الأخير . وقبل عدة سنوات جاءها نبأ موت أمها ، لكن تيريز ظلت تُدَخِّن ولم يهتز لها رمش ، وقالت لمن نقل إليها هذا النبأ إنها ستفكر في الأمر بعد أن تنتهيَ من التدخين، وستحضر عندما يحين موعد الدفن. هكذا بكل برودة أعصاب كأن الميت قطة أو صرصار . إنها امرأة قاسية من ولادتها وحتى الآن ، ولا يوجد ما يدل على أنها ستغير طبائعها الشرسة . لذا فإن رمي السيجارة ينبئ عن أمر جلل موضوع في أقصى مدى الفظاعة والصدمة . خرجت تيريز من غرفتها هائمة على وجهها ، وفي الممر رأت الراهبات الثلاث يفتشن عن الصليب ، فقالت بصوت أجش : _ عماذا تفتشن ؟ . ارتبكت الراهبات لعلمهن بأن تيريز إذا عرفت الأمرَ سوف تحدث مشكلةً لا أول لها ولا آخر . ولم تجب الراهبات ، بل اكتفين بالصمت الفظيع وهن يحدقن في وجوه بعضهن البعض . وقعت عينا تيريز على صدر جودي الخالي من الصليب ، فقالت لها : _ أين صليبك يا جودي ؟ . احمر وجه جودي وبلعت ريقها بصورة تنبئ عن توترها قبل أن تجيب بكلمات مبعثرة لا رابط بينها والتلعثم يحاصرها من كل الجهات : _ إنه في ... في الغرفة ، أقصد كان في ... في الغرفة ، ولكن .. ثم قرَّرت أن تكون صريحةً في ردها فقالت : _ بصراحة يا أخت تيريز يبدو أنه ضاع مني . انتفضت تيريز ونشرت ريشها كالطاووس المكبوت ، وقالت بصوت أقرب إلى الصراخ : _ ربما قمتِ ببيعه لتطعمي ذلك المجنون أسعد ، فهذا ليس مستبعداً على مراهقة تافهة مثلك تفرط في صليبها الذي يضمن لها الخلاص . صارت عينا جودي بعدما سمعت هذه الكلمات القاسية كرتين من النحاس المصهور نتيجة شدة الحرارة ، وطار عقلها لما سمعت تلك العبارات الحادة ، فقالت وصوتها منقوع في بركان التمرد والغضب : _ لم أقم ببيعه أيتها العجوز الحيزبون ، وأسعد لا علاقة له بالموضوع ، وهذا الصليب لا يقدر أن يُخَلِّص نفسَه فكيف سَيُخَلِّصني ؟ . وإن الإله الذي يُصْلَب على خشبة الصليب لا يستحق أن يكون إلهاً لأنه لم يُدافِع عن نفسه فكيف سيدافع عني ؟ . أنا مؤمنة أن السيد المسيح لم يُصْلَبْ ، وهذا هو الحق المطْلق الذي جاء به القرآن والإنجيل الأصلي ، وكل ما سواه مردود . وكلماتي هذه أعظم من كل الأوهام ، وصكوكِ الغفران التي هي شيك بدون رصيد . أُصيبت الراهبات بالصدمة المدوية التي تنحت في عظامهن أشكال الأعاصير الشرسة . كلهن يحدقن في جلودهن هاربات من جلودهن المصلوبة على خشبة الدهشة . إنه كلام لم يتعودن عليه . ارتجفن مثل زوارق محطَّمة نسيها أحد البحارة على شاطئ الكوليرا . حتى جودي نفسها لم تصدق أن تلك الكلمات قد خرجت منها . إنها أبجدية جديدة تنثر في الأرجاء الطوفان الشامل . هل كانت زلة لسان أم أنها كلمات دُبِّرت بليل ؟ . كانت تيريز تدور حول رحى أشلائها المبعثَرة . أعضاؤها ترتجف بوضوح يشبه وضوح شاهد قبر مهاجِر إلى الباركنسون . تحوَّل جسدُ تيريز إلى مزرعة كهرباء مسيَّجة بكل أشكال الرعاش ، وقالت بصعوبة كأن الكلمات تُسحَب من بئر غائرة في أحداق الموتى : _ أيتها الكافرة الزنديقة الساقطة ! إن هذا ليس كلامك . وإن لم تقولي من أين جئتِ به فسأقتلك مثل الكلاب المتوحشة وأدفنك في أقرب مزبلة . وهجمت تيريز على جودي ، وأمسكت بشَعْرها تجره بوحشية ، وتلطمها على وجهها، وحاولت جودي الدفاع عن نفسها لكن محاولاتها باءت بالفشل. واشتبكت الراهبتان في معركة عنيفة غير متكافئة بينما تدخلت الراهباتُ لفض الاشتباك وحجز كل واحدة عن الأخرى . هربت جودي إلى خارج الدَّير سافرة . رأسها مكشوف ، وثيابها عادية ليست ثياب الكهنوت. وفي قدميها نعلان خفيفان. خرجت والبكاءُ يحتلها ويفرض عليها شروطه القاسية . وكلما مشت ازداد انهمار دموعها. توجَّهت إلى الشاطئ ، إنها تغذ الخطى باتجاه تلك الصخرة التي وجدت عليها الكتاب . جلست على الصخرة وزرعت بصرها في الغيوم المتجمعة على رأس البحر كالتاج . تمنَّت في قرارة نفسها لو يأتي صاحب الكتاب على فرس ويتزوجها ويرحلان معاً إلى بقعة في أعالي الموج ليست فيها تيريز أو صليبها الضائع . بدأت دموعها تجف تدريجياً . الرمل الأصفر واتحاد المد والجزر والطيور التي عادت تُحلِّق من جديد بعد أن هجرت المكان يوم حلَّقت الطائراتُ الحربية مكان الطيور . كل العناصر جفَّفت دمعها . لم تستطع مقاومة إغراء اقتحام الموج المتهادي على أنامل الشاطئ . تقدَّمت باتجاه الماء ودخلت البحرَ بكامل ثيابها دون أن تنزع قطعة واحدة ، ثم خرجت منه مبتلة كقطة سقطت من غيمة حمراء إلى رئة بحر مهاجِر أبداً . عاودت الجلوس على الصخرة وكلها حرص على عدم مس الرمل خوفاً من اتساخ ثيابها المبتلة، فإذا التقى الماء مع الرمل كان اللقاء عاصفاً . فكَّرت في التقاء هذه الشطآن الرملية مع الماء ، في عوالم ساعة الاصطدام . وانتبهت إلى أنها التقاء الطين مع الماء. إنه الإنسان التقاء الطين مع الماء في لحظة غائبة عن آبائنا عندما أنجبونا . كل هذه الأفكار تختمر في ذهنها . وأيضاً صارت تفكِّر في الكلام الذي خرج منها ، هل تقصده فعلاً أم أنه كلام عابر في ساعة غضب ؟ . غيَّرت الموضوعَ بعد أن أقنعت نفسها أنها بحاجة إلى فترة استراحة من الأفكار . استمر نجاحها في تغيير الموضوع مدة بالغة القصر . ولكنها كلما حاولت نسيان ذلك الكلام خرج لها من ثقوب وجهها المتشظي ، من فم البحر، من الغيوم على شرفات الفجر البعيد. رأسها يذوب في حروف تلك الأبجدية الجديدة التي صدمت بها الراهباتِ في الدَّير المنزوي . وبينما هي مشتبكة مع خواطرها وتأملاتها في الماء والطين والشطآن والأحزان لمحت أسعد يبني قصراً رملياً في ناحية بعيدة عنها . قرَّرت أن تذهب إليه لأنها محتاجة إلى أي أحد تتكلم معه حتى لو كان أسعد الذي يُنظَر إليه على أنه مجنون هذه البلدة، وأنه حصة البلدة من جنون البشر . لكن جودي لم تكن تنظر إليه بذلك المقياس ، بل بمقياس الرأفة به والعطف عليه . إنها تعتقد أنه ضدان التقيا في ساعة نحس بفعل أحزان قديمة عَبَرَت هذا الميناءَ المدمَّر . ذهبت إليه فإذا به منهمك في تشييد منزل العمر ! . جلست بالقرب منه لكنه ظل مركِّزاً في عمله ، فقالت له : _ من سيسكن في هذا القصر يا أسعد ؟ . نظر أسعد إلى البحر بعينين دامعتين كأنهما في رأس أرملة تنتظر عودة زوجها البحار الذي ابتلعه البحر لكنها تظل تعيش على أمل عودته الكاذب ، ثم نظر إلى جودي وقال : _ سأبنيه لتسكن فيه قطتي التي قتلوها مثلما قتلوني . _ ومن الذي قتلكَ وقتلها يا أسعد ؟ . _ إنهم الغزاة الذين يصنعون بساطيرهم من جلود الناس الطيبين . وأردف قائلاً : _ هل تريدين أن أقول لك نُكْتة اخترعتها من رأسي ؟ . ردَّت جودي وقد استحوذ عليها الابتسام والفضول : _ نعم ، قلها بسرعة . _ كان هناك مدير مخابرات نائم مع عشيقته ، فحضر أحد الضباط وأخبره بأن هناك محاولة لقلب نظام الحكم . فقال مدير المخابرات إنه سيتم ما بدأه ما عشيقته وسيأتي بعد ذلك دون تأخير . انفجرت جودي ضاحكة من أعماق نخاع عظمها، ولم تستطع إخفاء تعجبها من كلام أسعد ، لكنها تعودت على الأمر فصار حديثه موغلاً في الدهشة بشكل اعتيادي. إنها تعتبره مثل المنجم وعليها أن تكتشفه وتُنقِّب فيه ، لذا كانت تسترسل معه في الكلام لتجعله يُعَبِّر عن كل ما يعتمل في دواخله، وكانت مطمئنة عندما تحادثه لعلمها أنه لن يَنقل كلامها إلى الآخرين ، ويتسبب لها بمشاكل في غنى عنها . لذا أخذ الحوار طابعاً خصوصياً لحاجة جودي الماسة إلى أي شخص يبادلها الحوار حتى لو كان أسعد العائش في التشرد ، والذي يحتقره الناسُ في هذه البلدة ، أقصد ذكريات بلدة هاجرت إلى أعماق الحزن البحري السحيق مثلما هاجر أبناؤها إلى الخارج بحثاً عن فرصة للحياة ، ولكن للأسف منهم من قضى غرقاً بعد أن ابتلعتهم الأمواجُ التي ظنوا أنها ستحملهم إلى النعيم ، وما دروا أن قواربهم التي استخدموها للهجرة غير الشرعية صارت توابيت شرعية لهم ، هذا إن وُجِدَت جثثهم أصلاً . إن أجساد الشباب الغضة تصير طعاماً للأسماك بكل سهولة ودون بيروقراطية . يهربون من الموت البطيء في بلادهم إلى الموت السريع في مياه تفصل بين ذكرياتهم والأغراب أصحاب القبعات المخيفة . التفت أسعد في كل الجهات كأنه يطمئن على عدم وجود أحد ثم حدَّق في وجه جودي متجنباً النظر إلى عينيها بشكل مباشر ، مع ملاحظته أنها لم تلبس الصليب في عنقها ، ثم قال لها : _ سأقول لك نكتة أخرى . تحمست جودي وهزت رأسها كأنها تطلب منه أن يُسرع في قولها ، فقال : _ لو تزوج بيل كلنتون مونيكا ، ماذا سينجبان ؟ . وأردف قائلاً : _ سينجبان صهيونياً صغيراً . انفجرت جودي ضاحكة أكثر من المرة السابقة ، ولم تستطع أن توقف مسلسل ضحكاتها إلا بعد برهة . وعندما هدأت قال لها أسعد وعيناه منقوعتان في نشيد الريح والرمال : _ مليون صليب يشرب دمك ، فاكسري الصليبَ الذي عُلِّقْتِ عليه مثلما كسر ابنُ الزُّبير الصليبَ الذي عُلِّق عليه لتكتشفي وجهكِ ! . وقام أسعد تاركاً جودي القتيلة دَهْشةً بجانب قصره الرملي ، وغادر المكان وهو يصيح : _ إن الغزاة الذين قتلوا قطتي قادمون . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . انهمرت كلمات أسعد كالخناجر على رأس جودي . بدت الكلمات أسرع بكثير من جريان ذهنها على صفحة الفهم . إنها تلهث وراء حروفه لتلتقط أكبر قدر من الاستيعاب. بدأت تخاف من محادثة أسعد الذي صار كلامه كالغابة المدهشة إلى حد الخوف . كل حرف من عباراته غابة من الكهرمان الخام الذي لم يُكتشَف بعد. هكذا صار تحس بهذه الأبجدية الجديدة التي تتعلمها لأول مرة بعيداً عن اللغات الأربع التي تتقنها . _ أسعد ! ارحمني قليلاً ، فأنا لا أتحمل كلماتك الجديدة التي تصعقني بها . قالت في نفسها . وبينما كانت الخواطر تدور في ذهنها هجمت موجةٌ ودمرت القصر الرملي ، وبلَّلتْ قَدَميها . أحست أن الطوفان فعلاً قادم . لأول مرة تشعر أن موتها قد يأتي من إحدى جهات البحر التي أحبته من كل قلبها ، حتى استوطن حبه في أقاصي شرايينها . هبَّت واقفة وابتعدت عن القصر الرملي الذي راح يضمحل شيئاً فشيئاً إثر تتابع الموجات على خاصرة المكان . وفي طريقها كانت تحاول أن تخترع نكتة مثلما فعل أسعد لكي تنتزع من قاع قلبها ضحكة . حاولت مرة ومرتين ففشلت لكنها نجحت في المرة الثالثة حيث ساعدها ذكاؤها الحاد في لملمة خيوط إحدى النكات ، فقالت مخاطبة نفسها في هذه المساحات الملقاة على أفق الجراح : _ كان هناك أمير أوروبي يلعب القمار مع عشيقته ، فجاءه مساعده وأخبره بأن الجيش قلب نظام الحكم ، فقال لهم إن الحكم غير المهم ، المهم ماذا حصل لكلبي ؟ . وضحكت جودي مرة ثالثة بحيث إن من يراها تمشي وحيدة وتضحك يظنها مجنونة ، أو في عقلها مشكلة ما . إنها بحاجة إلى الضحك ، هكذا قرَّرت في نفسها . كل الأحزان هبطت على رأسها كمقصلة متوحشة ينهمر من نصلها أعواد الكبريت المشتعلة . وفي الدَّير كان صراخ تيريز يقتلع الحيطانَ من جذور الريح . فصراخها ملأ المكان متفجراً في كل الجهات . إنها تنحت على ثياب المكان خطواتها المكهرَبة . لم تستطع أن تجلس . لا يمكنها أن تجلس حتى لو أرادت . نفسها تشتعل ناراً تأكل سعالَ البلاط بفعل الخطوات القاسية الخشنة . تدور كالثكلى التي فقدت ابنها في المعركة وصارت تفتش عنه بين أكوام الضحايا كالمجنونة . نظرت تيريز إلى كاترين ولارا نظرة تحمل كل معاني الريبة ، وقالت : _ الآن سوف تخبراني ما الذي غيَّر جودي بهذا الشكل . تلعثمت الراهبتان ولم تستطيعا إبداء أي جواب ، لكن لارا تمالكت نفسها وغلبت لسانها المعقود ، وقالت : _ نحن لا نعرف أي شيء عن أسرار جودي فهي لا تخبرنا بما يجري معها . قالت تيريز وجبينها يتفصد قلقاً وأرقاً واكتئاباً فضلاً عن العرق : _ هل غرفتها مفتوحة ؟ . وهنا تدخلت عايدة بعد أن عدَّلت وضعية نظارتها السميكة التي بدت كأنها احتضار الأسماك في أقاصي الضوء الفُسفوري النابع من عظام الماء الثقيل، وقالت : _ إن غرفتها مفتوحة . رمت هذه الكلماتِ وكأنها تخفي سعادة باطنية بهذا الأمر الجلل الذي حدث في الدَّير وأحال سكونه القبوري إلى رعشة متمردة . ركضت تيريز إلى الغرفة وبدأت تفتش في كل عنصر من عناصرها . قلبت السرير واللحاف رأساً على عقب . رفعت السجادة وبحثت تحتها عن أي شيء . المهم أنها تبحث . بحثت في خزانة ملابسها ورمتها على الأرض بعد انتهاء البحث . فتَّشت تحت السرير. اكتشفت علبةَ المكياج في أحد الأدراج، فقالت مخاطبة نفسها: _ علبة مكياج ؟! . وأردفت قائلة بسخرية بعد أن رمتها على الأرض : _ لم أعد أعرف هل هذا دير راهبات أم مسرح عارضات الأزياء ! . توجَّهت إلى الرف الذي عليه الكتب . قرأت عناوين الكتب عنواناً عنواناً : الإنجيل ، التوراة ، شرح معاني العهد القديم والجديد ، وكتباً كثيرة بلغات غير العربية . لكن الذي استوقفها كتاب " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا " . أمسكته بكلتا يديها ، وقالت للراهبات الواقفات عند الباب كأنهن ينتظرن أوامر عسكرية من جهة عليا : _ إذاً هذا هو الكتاب الذي غيَّر عقيدة جودي ؟ . من أين جاءت به ؟ . في الحقيقة كان الكتاب مكتوباً بلغة مؤدَّبة ، ويعرض العقائد بأسلوب سلس دون شتائم ، ولكن جودي بفعل الضغط الذي تعرضت له ، حوَّلت خطابها إلى خطاب هجومي عنيف . وفتحت تيريز الكتابَ فوقعت عيناها على اسم " زياد خضر"، فقالت بسخرية: _ ومن أين خرج لنا هذا التافه الآخر زياد خضر ؟ .. هل تعرفن أي شيء عن هذا الشخص ؟ . هزَّت الراهبات رؤوسهن بالنفي . أما تيريز فقامت بإلقاء هذا الكتاب باتجاه عايدة فلم تتمكن من إمساكه فارتطم بنظارتها الساذجة ووقع الكتاب والنظارة على الأرض ، فلم تعد ترى إلا غبشاً ، وصارت تتحسس الأرضَ باحثةً عن الكتاب والنظارة. فلما رأت تيريز هذا المنظر ازداد استياؤها وتأففت بصوت عال ، وقالت: _ ساعدن هذه العمياء في إيجاد نظارتها ، ولْيُحْرَق هذا الكتاب فوراً ، ولا أريد أن رأى كتباً إسلامية ما دمتُ في هذا الدَّير .. هل هذا مفهوم ؟ . هزَّت الراهبات رؤوسهن للمرة الثانية ولكن هذه المرة بالإيجاب . فقد كُنَّ لا يجرؤن على الكلام وتيريز في فورة الغضب تلك ، لذا اكتفين بهز رؤوسهن . كانت الغرفة فوضى عارمة مقلوبة رأساً على عقب. الأشياء مبعثرة وملقاة على الأرض ، بحيث يظن من يشاهد هذا المنظر أن لصاً دخل المكان وبعثر كل الأشياء بحثاً عن غنيمة . الملابس على الأرض ، والكتب على الأرض . وبصراحة ظننتُ للوهلة الأولى أنها لن ترميَ الإنجيل والتوراة على الأرض لكنها فعلتْ ، وهذا ما يُحَيِّرني . وفي الوقت نفسه كانت جودي تفكِّر أن تشتريَ خبزاً من مخبز اليهودي الوحيد في هذا المكان لعل تيريز تنسى الموضوع حينما ترى اهتمام جودي بإحضار الحاجيات إلى الدَّير . هذا بالضبط ما كانت تفكر به جودي رغم قرفها من ذلك اليهودي الوقح ، ولكن لا خيار أمامها في الوقت الراهن . ومضت إلى المخبز وهي تتمنى أن لا تصل أبداً . استقبلها اليهودي بابتسامته الصفراء المعهودة ، وأول شيء لاحظه خلو صدرها من الصليب، فاستنتج في قرارة نفسه أن الصليب الذي اشتراه من أم وهبي هو صليب جودي بلا أدنى شك . قال يعقوب مستهزئاً : _ أهلاً بالقديسة الطاهرة جودي . _ دعك من هذا الكلام .. أريد خبزاً بهذا المبلغ . ومدَّت يدها لتناوله المال ، لكنه لم يأخذه كعادته ، وقال بخبث : _ عندي شيء لك أهم من الخبز ! . كانت جودي تعرف أن هذا اليهودي كثير اللغو ، فلم تعره اهتماماً ، وقالت بإصرار : _ لا أريد هذا الشيء المهم .. تَرَكْتُه لك .. والآن أعطني خبزاً . أخرج يعقوب الصليب من جيبه ، وصار يؤرجحه قائلاً : _ هل يُذكِّرك هذا بشيء ما ؟ . بزغت المفاجأة في عقل جودي بشكل صارخ . إنها مصدومة غير قادرة على الكلام . (( كيف وصل الصليبُ إلى يد هذا اليهودي التافه ؟ )) . تساءلت في نفسها . وتمالكت نفسها واستجمعت عضلات لسانها قائلةً : _ أيها السارق ! كيف سرقتَ صليبي ؟ . _ لستُ سارقاً ، لكن هذا الصليب وصل إلي عن طريق أحد اللصوص ، وقد كنتُ أشعر أنه لكِ ، لذا خبأتُه ليصير أحلى هدية أقدمها لك دليلاً على صدق قصة حبنا ! . ولما سمعتْ هذا الكلام طار عقلها ، فقالت : _ ما الذي تهذي به أيها الأبله ؟ .. واحدة مثلي تحب واحداً حقيراً مثلك ؟ .. أعطني الصليب قبل أن ألم عليك الناس . _ لقد دفعتُ فيه دم قلبي ، ولن أعطيَك إياه إلا إذا سمحتِ لي أن أُعَلِّقه على صدرك . صُعِقت جودي عندما سمعت هذا الكلام الوقح ، ولم تستطع تمالك نفسها فبصقت في وجه اليهودي ، وقالت : _ صحيحٌ أنك كلب حقير ساقط لا شرف لك . وانصرفت جودي والأرض تدور بها ودموعها تنحت أسماء الحزن في عينيها اللتين استوطنهما موسم البكاء . كأن اليوم بالنسبة لجودي هو موسم البكاء ، فدموعها لم تكد تجف حتى انهمرت من جديد . أما يعقوب فمسح البصقة بطرف كمه والابتسامة لا تغادر محياه . كان يريد أن يحرق قلبها بهذا الكلام ليفرغ شحنات ساديته . تعمد أن يخدش حياءها ليبدوَ هو السيد الذي يملك أعضاء جاريته ويتحكم بشهوته وشهوتها. هكذا بالضبط كان يفكر . إنه آخر رجل على هذه الأرض يحترم المرأة . ولقد قال لأحد زبائنه ذات يوم إنه يرى تفاصيل حياته من خلال احتقار المرأة ، وإنه يود لو يمضغ جسدَها كالعلكة ثم يبصقه للكلاب الضالة . إنه مؤسس السادية في هذه البلدة المنكوبة . كانت جودي تمشي والدموع تتساقط من عينيها كشلال في أقاصي جسد الدهشة . وصلت إلى الدَّير ولا تعرفُ كيف وصلت . واقتحمت بابَه مثل قائد مهزوم أُغلقت كل الأبواب أمامه إلا باب بيته الذي صار قبراً مفتوحاً على كل الشرايين والأحزان . كانت الراهبات يُحَدِّقْن في وجه جودي كأنهن شواهد قبور منسية . وقد التحفن الصمت الرهيب ، وبدا المشهد كمسرحية مطبوخة مسبقاً . وحينما رأت جودي هذا الوجوم آثرت عدم إلقاء التحية لاعتقادها بأن أحداً لن يجيبها خوفاً من نقمة تيريز . هكذا كانت تعتقد . ويا لها من مفاجأة صاعقة حين رأت غرفتها مقلوبة رأساً على عقب . وهذه الفوضى لم تحدث أيام الحرب ، لكنها تحدث الآن في حرب أكثر شراسة . امتصت جودي الصدمة سريعاً لأن قواها خائرة ولا تقوى على الجدال والعراك . إن كثرة جروحها قد أفقدتها الإحساس بالجرح . إنها تحمل على ظهرها قروناً من التعب . ارتمت على سريرها الفوضوي وغرقت في النوم سريعاً .

27‏/07‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الخامس

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الخامس )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان زياد يذرع غرفته طولاً وعرضاً باحثاً عن كتاب " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا " . أين اختفى ؟ . صار يتناول الكتب كتاباً كتاباً لكن محاولاته لإيجاد ذلك الكتاب باءت بالفشل . هل استعاره أحد زملائه في الجامعة قبل الحرب ولم يتمكن من إعادته بسبب الحرب ؟ . هل أهداه لأحد أصدقائه في المسجد ؟ . ولكنْ ليس من عادته أن يهديَ كتباً ، فهو متمسك بكل كتاب حتى الرمق الأخير كأنه اشتراه بجزء من دمه ولحمه . هل دخل الغرفة أحدٌ في غيابه وأخذ الكتاب ؟ . كل هذه الأسئلة تكوَّمت عليه بصورة أصابته بدوار شديد، مما جعله يرتمي على السرير رامياً بصره على تجاعيد السقف المقشَّر . لقد توقف عقله عن التفكير مؤقتاً ، أو على الأقل هكذا خُيِّل إليه . إنه كتابٌ عزيز عليه قرأه أكثر من ست وعشرين مرة دون أن يمل منه . إنه يملك جَلَداً عجيباً يُمَكِّنه من الاستغراق في القراءة المتواصلة ، فمعظم الكتب التي عنده أعاد قراءتها مرات كثيرة. لقد انطفأ بحثه عن ذلك الكتاب وخمدت همته في التفتيش عنه ، مما سبَّب له حزناً بالغاً كان ينام معه على السرير ويتدثر بعظامه بلا رحمة . لقد نسي زياد الكتاب على صخرةٍ على الشَّاطئ قبل أيام . فقد أخذ الكتاب معه إلى صلاة الفجر ، وبعد أن فرغ من الصلاة ذهب إلى البحر من أجل السباحة كعادته ، ووضع الكتاب على صخرة قبل أن يُسَلِّم للبحر أعضاءه . وعندما انتهى من السباحة عاد إلى منزله ناسياً الكتاب . وفي مساء ذلك اليوم بينما كانت الراهبة جودي تتمشى على الشاطئ عثرت على الكتاب ، ولم تتمكن من معرفة صاحبه رغم أن اسمه مكتوب على الصفحة الأولى . قرأتِ الاسمَ لكنها لم تعرف من هو " زياد خضر" . ومن عادة زياد أن يكتب اسمه على الصفحات الأولى من كتبه بلا استثناء . وهكذا احتفظت به في غرفتها ، واخترعت قصة الإهداء من أجل أن تبدوَ وكأنها مثار اهتمام الرجال،وأنها ما زالت تملك عناصر الأنوثة التي تجذب أي رَجُل. هكذا كانت تفكر وتُمَنِّي نفسها لكي تتخلص من جزء ولو بسيط من الاكتئاب الباطن الذي يحتلها . إنه يوم الجمعة ، وقد بقي على الصلاة والخطبة أقل من ساعة . شعر زياد أن الوقت يحاصره من كل الجهات . وحتى هذه اللحظة لم يغتسل ، فانشغال ذهنه بالبحث عن الكتاب أنساه الاغتسال . نهض من سباتِ الحيطان المصابة بالأرق الحاسم ، وهبَّ واقفاً ثم ذهب لتجهيز ملابسه التي سيذهب بها إلى الصلاة . ثوبٌ أبيض فضفاض وطاقية بيضاء وسروالٌ أبيض ، حتى إن ملابسه الداخلية بيضاء . إنه محاطٌ بالبياض اللذيذ ، وكل أعضائه راكضة نحو بياض أفقي يمتد من نخاع العظم حتى عينيه اللتين تمشيان على سور المسجد . وبعد أن جهَّز ثيابه دخل إلى الحمَّام من أجل الاستحمام حاملاً ثيابه . نزع ثيابه القديمة. وضعها جانباً وقرَّر أن يُنزِلها إلى أخته فاطمة لاحقاً لكي تغسلها في الغسالة، فهو لا يملك غسَّالة في مملكته الصغيرة . سلَّم أعضاءه للماء الدافئ بفعل حرارة الشمس المسلَّطة على خزَّانات المياه على السطح ، حيث يُقيم . لقد وصل الماءُ المقاتِل إلى كل خنادق جسده وانحناءات حلمه الموزَّع بالتساوي على الأكسجين والهيدروجين اللذين يكوِّنان مملكةَ الماء . فرغ من الاغتسال المحتوي على الوضوء . ارتدى ثيابه البيضاء وردةً وردةً . وخرج حاملاً تواريخ العصافير المنفية على مشطه المحدودَب . قرَّر أن يُصَلِّيَ سُنة الوضوء . دخل في الصلاة كشجرة مقطوعة من شجرة لا تاريخ لها سوى الصلاة والخشوع . إنه بين يدي الخالق واقفٌ كعمود كهرباء في المنفى الأرضي، كحبة تراب مهاجرة إلى الكواكب صاعدة إلى الاستغفار الفضائي . أنهى صلاته وانهمك بالتسبيح ثم قرأ سورة الكهف وأهدى ثواب القراءة إلى الأموات . فكَّر في أولئك الأشخاص الذين سيهدونه قراءتهم للقرآن بعد موته . إنه الموت قمة الحياة السرمدية . وها هو يزور ذهن زياد بين الفينة والأخرى ليُطَهِّره من ذكريات أخشاب المراكب الغارقة بعيداً عن رصيف هذا الميناء المهجور . تذكَّر كلمات للشاعر إبراهيم أبو عواد الذي أُعدِم شاباً : (( إذا أردتم أن تغتالوني فأعطوني فرصةً كي أقرأ سورة الكهف وأُصَلِّيَ الجمعة في درب التبانة )) . لقد برقت هذه الكلمات في ذهنه على نحو صاعق . حدَّق في النافذة المفتوحة على زرقة السماء ، ودعا الله بأدعية لا يحضرني فحواها الآن . قُرِع باب حجرته فقال : _ من بالباب ؟ . _ أنا خولة يا عمي.. جَدِّي يقول لك انزل لكي تذهبا سويةً إلى صلاة الجمعة. _ سوف أنزل حالاً . وعادت الطفلة لتخبر جَدَّها ، أما زياد فنهض وتضمخ بالمسك الذي أهداه إليه الشيخُ سليمان ثويني بعدما مجيئه من العُمرة قبل الحرب . خرج من غرفته وأغلق الباب بالمفتاح ، ونزل الدرجات حُلماً للرمال لكنه لم يُضَيِّع وقته في عدها مثلما كانت تفعل خولة . وَجَدَ أباه ينتظره على باب شقتهم . وذهبا معاً إلى المسجد . كانا يشاهدان العمال الذين يعملون على إعادة الإعمار وهم منهمكون في العمل والغوص في ذكريات آلياتهم ورائحة الوقود لمركباتهم الضخمة . لقد صارت البلدة موقفاً للشاحنات وكافتيريا للسائقين الذين يدخنون ويتبادلون النكات الإباحية . والحق يُقال إن منهم سائقين محترمين ابتعدوا عن التجمعات التي يقودها السائقون الزعران الذين يفتخرون بالأشياء التي وقعت بينهم وبين نسائهم في غرف النوم في الليلة الماضية ، وصار كل واحد منهم يريد أن يُثبِت رجولته وفحولته أمام الآخر ، فيخوض في الحديث عن قدرته الجنسية الجبارة بدون أدوية أو كيماويات ، وبالطبع فإن الضحايا هم النساء المشغولات في مطابخ بيوتهن بإعداد الطعام ، وغير العالمات بأنهن صرن علكة تُمضَغ في أفواه السائقين المحقونة بالنيكوتين والقطران . قال الأب لابنه وهما يشقان طريقهما وسط غابة من الغبار والأنقاض : _ هؤلاء السائقون لا يعرفون الصلاة نهائياً . _ إن منهم أناساً محترمين وملتزمين ، وبالطبع فهناك زعران لا يخجلون من العمل أثناء الأذان وأثناء الصلاة . نثرا هذه الكلمات في قلوب ذرات الأكسجين الضئيل ، ومضيا إلى المسجد . وبعد أن دخلا وصَلَّيا تحية المسجد انتشر الأذان في الأرجاء كأنه طوفان من الأنوار والفضاءات . اعتلى الشيخ سليمان ثويني المنبر، وبدأ خطبة الجمعة بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النَّبي ثم قال بالحرف الواحد : (( إن حكومتنا العلمانية التي لا تعرف سوى زيادة الضرائب لسرقة الناس لم تكتفِ بسرقة الناس الذين صاروا يعيشون كالفئران عند سلال القمامة للوزراء والأثرياء ، وإنما سرقت غالبية الأموال التي وصلتها من الدول الشقيقة من أجل إعادة الإعمار . فإلى متى سنظل صامتين على جرائم هذه الحكومة الفاشية ؟ . اللصوص الأنيقون في ازدياد ، وضباط المخابرات في ازدياد ، والفقراء في ازدياد، والمومسات في ازدياد ، والمسابح المختلطة في ازدياد ، والضرائب في ازدياد . إنهم لا يطبقون شرعَ الله ، بل يُطَبِّقون شرع أسيادهم أولئك الغزاة الصليبيين الذين نصَّبوا رئيس دولتنا على أنهار جماجمنا. فإلى متى سنظل غاطسين في أحضان نسائنا؟!. إنها دولة غير شرعية سوف تسقط لا محالة إن بقيت سائرة على خطى إبليس . ما هي الديمقراطية التي يتحدثون عنها ؟ ، إنها رمي المجاهدين في السجون ، وفتح البلاد للراقصات والمطربات المتاجرات بأعضائهن صاحبات جوازات السفر الدبلوماسية . الخمَّارات في كل الأزقة ، والسائحات العاريات قادمات حاملات الإيدز في باقات الورد ، والناس يُسَبِّحون بحمد الحاكم ويقدِّسون له . نساء الوزراء في المسابح المختلطة ، والشعب لا يجد ماء للشرب . وفساتين السهرة الخاصة بهن على حساب الشعب المتسول على أبواب مساجد وكنائس البلاد ، هذه البلاد القائمة على بحر من النفط والغاز والمعادن ، ومع هذا فالشعب صار شحاذاً . يُخَدِّروننا بخرافة حوار الحضارات، لكنني سأقول اقتراحاً من أجل حوار الحضارات. فلنحضر نجلاء فتحي وميرفت أمين وعمرو دياب وتامر حسني وهيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم ، وليحضر أعداؤنا الصليبيون سيلين ديون وماريا كيري وبريتني سبيرز وجودي فوستر وكاترين زيتا جونز ومايكل جاكسون وريكي مارتن، وهكذا يصير هناك حوار حضارات مفعم بالأحاسيس الدافئة والملابس الداخلية ، وتتوحد الشعوب ! ، أما أن تخبرني عن عشرات الآلاف من المسْلِمَات اللواتي اغْتُصِبْن في البوسنة، أو تخبرني عن عشرات الآلاف من الكاثوليكيات اللواتي اغْتُصِبْن في رواندا، فهذه ليست مشكلة ، المهم أن يظل اللصوص الكبار يستعملون الشامبو الفاخر والعطر الفرنسي الراقي ومضادات الاكتئاب ، وأن يظل علماء السلاطين عندنا نائمين مع نسائهم، ويصدرون الفتاوى لشرعنة الأنظمة الطاغوتية ، وأن تظل أميرات أوروبا يعرضن أعضاءهن أمام عدسات المصوِّرين . والذي حجَّت قُرَيْشٌ بيتَه لو تعلم المتاجرة بلحمها ماذا ينتظرها بعد موتها ما تاجرت، ولو يعلم الطاغيةُ ما ينتظره في قبره ما سرق الشعب وحجَّ إلى البيت الأبيض. أعلم أنه سيتم خيانتي مثلما خان الأمويون عثمان، ومثلما خان أهل الكوفة علياً والحسين . وأعلم أنهم سيتركونني في المعركة وحيداً كما تركوا ابنَ الزبير وذهبوا للنوم مع نسائهم ، ولكنني سأظل أُقاتِل حتى نهاية حلم أشيائي . إن اللغة العربية محاصَرة بالإنجليزية والفرنسية في عقر دارها ، والفضل للخونة من أبناء جلدتنا من عبيد الفكر الغربي الذين لا يعرفون سوى التحرش الجنسي بالنساء وتقديس أسيادهم الغزاة الصليبيين الذين يغدقون عليهم الأموال . شكراً أيها اللوبي الفرنكوفوني ، وتحيةً أيها اللوبي الأنجلوسكسوني . إنها الديمقراطية التي تخترعها زوجة الحاكم وهي في قميص النوم الشفاف في المؤتمر الصحفي . أية انتخابات وأية ديمقراطية وأي بطيخ ؟! . لا أهمية للانتخابات لأن النتائج معروفة سلفاً وفق مزاج حكومة التزوير الشريفة كالبغايا الخجولات المرخَّصات من وزارة الداخلية في هذه الجمهورية الضائعة. عندما تغتالني الحكومةُ العلمانية فلتنشئ مصنع بيرة ومرقصاً في نعشي من أجل تشجيع السياحة وتعزيز مسيرة الديمقراطية . أيها الناس استيقظوا قبل أن يأتيَ الطوفان ، وكأنني ألمح بوادره تأتي من بحرنا المنهوب والذي ترسو فيه بوارج أعدائنا بمباركة حكومتنا الرشيدة . يجب أسلمة العالَم وتعريبه وخصوصاً أمريكا وأوروبا . يا أخي المسلم في فرنسا ، أنتَ تذهب إلى بلاد نقابة المومسات لا أجيراً أو عاملاً بل فاتحاً لتحرير باريس من الاحتلال الصليبي ، ورفع الهلال فوق برج إيفل. لا تضيع وقتك مع المراهقات في المسابح المختلطة . قم بأسلمة أوروبا وتعريبها ، وابدأ من الأندلس لتتحرر فلسطين وكشمير وغروزني وسراييفو . أيها الناس أَخرِجوا حب المال من قلوبكم لتسقط فيه الثورة والنصر )). وختم الخطبة كما بدأها وأُقيمت الصلاة ، وصلَّى بالناس إماماً وقد تعمَّد أن يقرأ الآية : }قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ { . أنهى الصلاة واستدار بشكل مواجِه للمصلين. كانت وجوههم مبتلة بالعَرق والخوف على شيخهم . لقد كانت خطبة قوية ، مفرداتها كأنها كتل ثورة ورعد . وعلى الرغم من تعودهم على أسلوب الشيخ في مواجهة الدولة والحكومة إلا أن هذه الخطبة لها مذاق خاص ، فالدولة الآن قد انتهت من الحرب للتو ، وصارت تلتفت إلى الداخل مُحكمة سطوتها على كل تفاصيل الحياة العامة . وأيضاً فإن دائرة المخابرات قد نشرت رجالها في المساجد من أجل كتابة تقارير عن أي شيء يخالف أوامر الدولة . وعلى الرغم من كون خطبة الجمعة في هذه البلاد تُكتَب من قبل رجال الحكومة ، وتُرسَل بالفاكس إلى الخطباء لكي يقولوها بدون زيادة أو نقصان ، إلا أن بعض الخطباء يرمون أوامر الحكومة وراء ظهورهم ، ويكتبون ما يشاؤون حاملين المسؤولية على أكتافهم . وبالطبع فإن الخطبة المرسَلة بالفاكس إلى الخطباء تتحدث عن موضوع واحد ، وهو وجوب طاعة الحاكم في كل الأحوال ، وعن نشاطاته في تطوير البلد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ، وعن ما يسمونه ارتفاع دخل المواطن وتحسن المعيشة بكل جوانبها ، وبالطبع فهذا الكلام ليس له نصيب من الصحة ، فوضع البلاد من سيء إلى أسوأ . وهذه البلاد خارجة من حرب عبثية لا معنى لها ، مما يعني ازدياد الديون وتعقد الحياة ، وازدياد الشباب المهاجرين إلى الخارج ، والمصطفِّين طوابير طويلة كالأشجار الذابلة أمام السفارات الأجنبية . انتهت الصلاة وصار المصلون يخرجون من المسجد كأمواج من النسور الوردية النادرة ، وبقي الشيخ في المحراب يذكر الله . وبعد نصف ساعةٍ تقريباً خلا المسجد إلا من الشيخ سليمان وزياد . كانا وجهين لوهج مجرة راحلة إلى السجود لخالقها ، أو بندقيتين لمجاهِد قديم مرَّ في السديم قبل ولادة مسدَّسات الخريف . ذهب زياد إلى الشيخ سليمان وصافحه وجلس إلى جانبه وقال : _ سَيِّدي الشيخ ، أظن أن هذه الخطبة لن تمر هكذا ، ولا بد أن أزلام الحكومة قد أوصلوا لها نص الخطبة كاملاً ، وسوف يلحق بك الأذى إن بقيت ههنا . رد الشيخ بصوت صلب : _ أعرف هذا يا زياد ، ولكن علينا أن نقول الحق مهما كانت العواقب ، وأن لا نخشى في الله لومة لائم . فسيدنا يحيى قُتل من أجل بغي من بغايا بني إسرائيل ، وحُزَّت رأسُه ، ووُضِعت على صحن فوق رأس الراقصة ، وأنبياء كُثر قُتلوا في سبيل الدعوة ، وسيدنا عمر قُتل وهو في المحراب ، وسيدنا عثمان قتلوه في بيته صائماً بعد أن حاصره الرعاع ، وسيدنا علي قُتل في طريقه إلى صلاة الفجر ، ودُفن ليلاً لئلا تنبش الخوارج قبره، وسيدنا الحسن دسَّت له زوجته السم في الطعام وقتلته بكل خيانة ، وسيدنا الحسين حُزَّت رأسه ، وسيدنا عبد الله بن الزبير صُلب وحُزَّت رأسه ، والإمام زيد بن علي أُخْرِج من قبره وصُلِب ، والإمام مُسْلِم دسُّوا له السم في التِّين وقتلوه، والإمام النَّسائي مات من الضرب، والإمام ابن حزم مات مُحاصَراً، والشيخ حسن البنا قتلوه ، والدكتور عبد الله عزام قتلوه ، والشيوخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وفتحي الشقاقي قتلهم الغزاةُ ، والقائد الرمز أصلان مسخادوف اغتاله الصليبيون هو وأسد البراري شامل باساييف ، وبالتأكيد فلن أكون أفضل من هؤلاء كلهم ، ولن أكون أفضل من الصحابة الذين لقوا أبشع صور التعذيب والترهيب في سبيل الدعوة ولم يتراجعوا . ولن أكون أفضل من أئمة آل البيت الثوار الذين دُسَّ لهم السم واحداً تلو الآخر . وأردف قائلاً : _ لقد عرضت عليَّ الحكومةُ مبلغ ألف دولار عن كل خطبة جمعة أخطبها بشرط أن أمدح الحاكم والحكومة ، ولكنني رفضتُ هذا العرض . وأنا لا أقول لك هذا الكلام لتظن أني أمير المؤمنين الشريف الطاهر ، ولكن لتعلم أن مساري يختلف عن مسار أولئك الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا زائل . _ أعرف هذا يا سَيِّدي الشيخ ، ولذلك عليك أن تُغَيِّر مكان إقامتك سريعاً لئلا تُصاب بأذى . ولديَّ فكرة جيدة حول هذا الموضوع . رد الشيخ واللهفة تحاصره من كل الجهات : _ وما هي هذه الفكرة ؟! . _ تتخفى في زي امرأة ترتدي خِمَاراً وتأتي إلى غرفتي على السطح وتقيم فيها إلى أن تنكشف هذه الغمة ، وسوف أنتظرك بعد ربع ساعة ، ولكنْ احرص على أن لا يراك أحد وأنت تصعد إليَّ لئلا نُشَوِّه سمعة مرتديات الخِمار ، وهذا الموضوع لا يعلمه إلا أنا وأنت . راقت هذه الفكرة للشيخ ، واتفق الاثنان على ذلك. وخرج زياد وبين ضلوعه قلب جديد مغموس في جرأة العشب الاستوائي . وعندما وصل إلى باب المسجد ارتبك قليلاً حين رأى أسعد يمسك حذاءه ويمسحه ، ثم ما لبث أن استعاد رباطة جأشه ، فقال : _ دعكَ من حذائي يا أسعد . يجيب أسعد وعيناه طافيتان في مقلاة الذبول وزيوت المجرة المسافرة أبداً : _ سوف أمسحه جيداً لتلبسه في أعياد ذبح الوطن ، وتبدوَ أنيقاً أمام لصوص الحكومة . _ لا أدري من أين تأتي بهذا الكلام .. لقد حَيَّرْتني يا أسعد ، فلم أعد أعرف هل أنت عاقل أم مجنون . _ أنا نصف عاقل ونصف مجنون، يعني نص نص مثل أغنية نانسي عجرم ولكن للأسف ليس عندي ثديان مثلها لأجذب قطيعَ الغنم ، فأنا المجذوب نحو ذكريات تلمع على كتف ضوء يلمع في آخر نفق بَحْرٍ لا يلمع . اندهش زياد من هذا الكلام ، وقال والدهشة تمزقه بخنجر الوقت : _ إنك شاعرٌ يا أسعد .. من أين تأتي بهذا الكلام ؟ . _ لستُ شاعراً لأن الشعراء قتلوا قطتي ، أنا مجرد شبح ، رقمُ شبح ضمن أرقام أشباح هذا الميناء الذي سيبلعه الطوفان لا محالة . وصار أسعد يصرخ خارجاً من المسجد والحرقة تعتصره : _ إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . ويغرق في البكاء المر حتى الثمالة لدرجة أن نشيجه يكاد يمزق صدرَ زياد الموزَّع بين كلام أسعد العجيب وبين حماية الشيخ الذي سيأتي إليه بعد قليل . وقد كانت الحيرة تتجاذب زياد من كل الأطراف . _ مستحيل أن يكون هذا مجنوناً . قال في نفسه . وانتعل حذاءه وسبق الشيخ إلى غرفة السطح . رتَّبها بحيث كان حريصاً على أن تبدوَ في أحسنِ صورة وانتظر قدومَ الشيخ . كانت دقائق الانتظار كأنها مسامير في جسد الوقت ، دقائق من نار تتدحرج على أكوام أحزان لا بد أن تضحك يوماً ما . أما الشيخ فقد ارتدى زي امرأة ساتراً لكل جسمه ، وما إن وضع قدمه على باب العمارةِ حتى أحس بصوت يتدفق من وراء الباب. ازدادت دقاتُ قلبه ، وظن أن أمره قد كُشِف ، فاختبأ في زاوية إلى أن زال ذلك الصوت . كان الصوتُ للعجوز خضر الزاوي وهو يصيح على حفيدته . ولم يكد الصوت يختفي حتى شعر الشيخ بالطمأنينة ، فخرج من الزاوية التي كان يختبئ فيها ، وصعد الدَّرجَ بخطوات متسارعة تضغط على الدرجات بحنو بالغ لئلا يُحدِث صوتاً فيُفتضَح الأمر . دق على باب الغرفة وهو يتلفت وراءه قائلاً : _ افتح يا زياد .. أنا سليمان ثويني . فتح زياد وأدخل الشيخ، وما إن دخل حتى خلع الخِمَار وكامل الزي النسائي. جلس الشيخ على طرف السرير ، وأخذ زياد يطمئن على حالته ، ويستفسر عن مجريات الأمور ، ويسأله عما إذا كان أحدٌ ما قد رآه . ولما اطمأن زياد إلى سير الأمور قال : _ اعذرني يا سَيِّدي الشيخ ، فسوف أذهب لإحضار الغداء .. دقائق وسأكون عندك . أغلقِ البابَ بالمفتاح ، ولا تفتحْ إلا عندما تسمع صوتي . ونزل زياد مسرعاً ، وهناك على الدَّرج رأى مريانا بقميص النوم وهي تركض وتصيح وزوجها بملابسه الداخلية يركض وراءها حاملاً إحدى سكاكين المطبخ . كان قميص نومها يُفَصِّل جسدها تفصيلاً بصورة مثيرة للاشمئزاز . وصلت إلى شقة العجوز خضر وصار تقرع الباب قرعاً عنيفاً ففتحت فاطمة الباب متأففة ، وما إن رأت مريانا بقميص النوم حتى احمر وجهها خجلاً وذابت في ثيابها ، وبدأ جبينها يتفصد عرقاً بشكل غير طبيعي . وقد كان صراخ زوجها البدين يعدو وراءها كذئب متقاعد راكض باتجاه الماضي . خافت فاطمة من الأمر وارتبكت أيما ارتباك ، ولم تدر ما تفعل . لقد تعطل عقلها عن العمل بفعل هذه الصدمة المدوية ، لكنها في اللحظة الأخيرة تمالكت نفسها وفتحت الباب على مصراعيه فدخلت مريانا وأَغلقت الباب وراءها . وصار زوجها يقرع الباب قرعاً عنيفاً ثم تذكر أنه بملابسه الداخلية فخجل من نفسه على غير العادة وعاد أدراجه ، وبينما هو صاعدٌ التقى بزياد على الدرج ، فقال زياد وهو يحاول أن يفهم الأمر : _ ماذا هناك يا جار ؟ . جحظت عينا يعقوب ، وتكوَّرت نظراته بحيث صار كأنه يريد أن يلتهم محدثه ، وقال بصوت أجش : _ قل لأهلك إن زوجتي إذا لم ترجع في غضون عشر دقائق فسوف أَقتلها وأُنَظِّم في هذه العمارة التعيسة جنازةً لكل سكانها . بصراحة لقد أخذ زياد هذا الكلام على محمل الجد خصوصاً عندما رأى السكينة العريضة في يده، فهذا الرَّجل قد يعمل أي شيء . كل الاحتمالات واردة. عاد يعقوب إلى شقته وأغلق الباب بشدة في حين أن ابنته كانت ترتعد تحت اللحاف . فهي ما إن سمعت الصراخ من أبويها حتى تملكها الرعبُ ، ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح ، وتدثرت باللحاف . إنها ترجف كأن أعصابها قطارات كهربائية انحرفتْ عن السكة أو انقطع فجأةً التيار الكهربائي . لقد ذهبت أعصابها في الرعاش الأسطوري . أسنانها تصطك ، ويداها ترتجفان ، وكل رِجْل تصطدم بالأخرى ضمن معركة لا نهائية مع خيول البكاء الأخرس ، بكاء يقوده كاتم صوت لئلا يسمع أباها صوتَ بكائها فيقترف جريمةً في هذا البيت المشتعل ألماً ودموعاً وذكريات دمار أخرس تحت لحاف قديم . خرج العجوز خضر ليرى ماذا يحدث في بيته فوقعت عيناه على مريانا وهي في هذه الحالة حيث تظهر كامل مفاتنها . احمرت وجنتا العجوز وأرسل نظره باتجاه الأرض قائلاً : _ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ثم نظر إلى ابنته وقال : _ خذوا جارتنا مريانا يا فاطمة ، وأعطيها شيئاً من ملابسك لتستر بها جسمها. وبالفعل قادت فاطمةُ مريانا إلى غرفتها من أجل أن تبحث لها عن شيء تلبسه . أما فايزة فخرجت من غرفتها لتستطلع الأمر ، فلما شاهدت المنظر علمت أن هناك أمراً كارثياً قد حصل ، فالمرأة لا تخرج بهذه الصورة إلا وهناك مصيبة عظيمة ترفرف في الأرجاء. مضت فاطمة وفايزة تقودان مريانا إلى الغرفة ، وارتدت مريانا عباءة سترت كاملَ جسدها، وبعد ذلك اغرورقت عيناها بالدمع وأجهشت بالبكاء بحرقة الثكلى . حاولت المرأتان التخفيفَ عنها ومعرفة سبب المشكلة ، لكن المحاولات ذهبت أدراج الرياح ، إذ تهرَّبت مريانا من شرح مشكلتها . وفي أثناء هذه المحاولات الفاشلة رن جرس الباب . فذهب العجوز لفتحه معتقداً أن يعقوب قد عاد ، فأجمع العجوزُ أمره أن يقسوَ بالكلام عليه على أمل أن يرتدع ويكف عن هذا الجنون . وعندما فتح البابَ قال بشكل عنيف : _ اسمع يا يعقو ... أراد أن يُعَنِّف يعقوب لكنه اكتشف أن الذي رن الجرسَ هو ابنه زياد ، فلم يكمل كلامه ، واكتفى بالقول : _ أهذا أنتَ يا زياد ؟! . دخل زياد مسرعاً وقال : _ أين جارتنا مريانا ؟! . _ ماذا تريد منها ؟! . _ يعقوب يقول إذا لم ترجع زوجته في غضون عشر دقائق سوف يقتلها ويقتلنا. ضحك العجوز بسخرية قائلاً : _ أُف ! صار يعقوب رَجُلاً يقتل ويذبح على مزاجه . وأردف قائلاً : _ أليس هناك قانون في البلد وشرطة ومحاكم ؟! ، هل يظن المسألة فوضى على مزاج أبيه ؟! . _ يا أبي دعنا نُعد إليه زوجته بالحسنى لنتجنب المشاكل ونصلح بين الناس . _ إن زوجته في الداخل مع أختك وزوجة أخيك . ذهب زياد إلى باب الغرفة لكنه لم يدخل واكتفى بالنداء على أخته فاطمة ، فخرجت إليه فأفهمها القصة ، ثم دخلتْ وأقنعت مريانا بضرورة العودة إلى زوجها وأن تتحمله بعد كل هذا العمر دون أن يعرف أحدٌ ما سبب المشكلة . خرجت مريانا وعيناها متجهتان صوب الأرض ، ومشى زياد أمامها . وفي هذه الأثناء كان يعقوب يحرق سيجارةً تلو سيجارة . وهو على كرسيه يحترق مثل رائحة التبغ المنتشر في الجو كجثث الضفادع المسمومة . لم يكن معتاداً على الانتظار بهذا الشكل الكئيب الحارق الذي يلتهمه تدريجياً . كان يَشْتم زوجته في نفسه قائلاً : _ هذه المرأة ابنة الكلب لا تفهم إلا أن تظل ممسحة للأحذية ، سوف أُرَبِّيها من جديد على طريقتي . وبينما هو يحترق في مقعده المشلول قُرِع بابُ شقته فعلم أن زوجته قد عادت . ذهب لكي يفتح الباب ، فإذا به زياد ومريانا تقف وراءه متسمرة في تلك العباءة السوداء . قال زياد وهو يحاول أن يُلَطِّف الجو : _ يا أستاذ يعقوب هذه زوجتك الست مريانا ، وأنتما الاثنان لا تستطيعان الاستغناء عن بعضكما . ولقد عشتما معاً طوال هذه السنوات بحلوها ومرها ، وأنا متأكد أنكما بحاجة إلى بعضكما البعض . كان يعقوب يتأفف بصوت عال قائلاً في نفسه : _ متى ستنتهي هذه المحاضرة الذي يلقيها هذا الولد ؟ . هل يظن نفسه في الجامعة ؟ . وتوجه زياد بالكلام لمريانا قائلاً : _ تفضلي يا ست مريانا إلى بيتك ، وإن شاء الله ستكون حياتكم سعيدة . ودخلت مريانا إلى بيتها مطأطئة الرأس وفي عينيها جبال من الدمع الطازج ، وهي ذائبة في مشاعر الخوف والقلق . أما ابنتها راحيل فكانت تسترق السمع خلف باب حجرتها ، وقد شعرت بقدر كبير من الأمان عندما سمعت كلامَ زياد الذي كان بمثابة المنقِذ بالنسبة لهذه الأسرة المفكَّكة . وأغلق يعقوب البابَ في وجه زياد حتى إنه لم يقل له تَفَضَّل ، أو أية عبارة ترحيبية . بدت مريانا خائفة أكثر من أي وقت مضى خاصة بعد أن أُغلِق الباب، ووقفت أمام زوجها كالتلميذة الصغيرة الخائفة من عقاب مديرة المدرسة الشديدة . وقال لها زوجها : _ هل أعجبكِ ما قمتِ به ؟ . صار من هبَّ ودبَّ يتفرج علينا ويعطينا محاضرات في الشرف والأخلاق .. الآن ارتحتِ يا ست الحُسن والجَمال ؟ .. اذهبي وانتظريني في الغرفة . ومضت المرأة المستسلمة لأمر زوجها إلى غرفتها تجر كل تواريخ الجيوش المهزومة وتحمل كل ذكريات النساء المغتصَبات على كتفها مثل أكياس الدقيق الذي كان يحصل عليها زوجها بطرق غير شرعية من أحد مسؤولي الحكومة . وكانت سبب المشكلة بين الزوجين هو أن يعقوب بنيامين أراد أن يأتيَ زوجته من دُبُرها . وهذا يسبب لها ضيقاً ما بعده ضيق وألماً ينقلها إلى عوالم الاكتئاب والقرف ، فلما رفضتْ حاول إجبارها على ذلك ، وبعد أن أمعنت في الرفض أحضر زوجها إحدى سكاكين المطبخ ليجبرها تحت تهديد السلاح ، وهذا جعلها تفر من بيتها وهي في ملابسها الفاضحة تلك، إذ لم يكن لديها الوقت لتغير ملابسها وتستر نفسها . دخل يعقوب الغرفة وعيناه تلمعان كذئب مسعور لدغته أفعى الشهوة ، وهجم على زوجته كوحش ينقض على فريسته بلا رحمة . وأخذ منها ما كان يشتهيه، وقد كانت تصرخ بصوت عال كدجاجة مذبوحة في حجرات الطاعون . وسمعت ابنتها صراخها من وراء باب حجرتها بعد أن فتحته قليلاً لتتمكن من ملاحظة ما يجري . إن صراخ الأم يقتلع خصلات شَعْر ابنتها من جذورها ، يقتلع يومياتها بلا هوادة . بدا الصراخ كصراخ امرأة في غرفة الولادة أيقنت أنها ستموت بعد وضع طفلها . وتدفق صراخ الأم نحو عوالم ابنتها . كان قلب البنت مشققاً بفعل صراخ داخلي لا تقدر على إخراجه خوفاً من أبيها . إنه بيت الصراخ، وكل الأشياء في ذلك المكان السحيق مصابة بالقشعريرة والكوليرا ، إنه الصراخ حينما تُساق الإناث إلى المذبح واثقات من الهاوية والألم والوخز . وبعد أن شبع زوجها منها ارتمى على السجادة بينما ارتمت زوجته على السرير كقطة ضالة لا تجد من يؤويها ، وقال زوجها بسخرية لاذعة : _ هكذا يشبع الرَّجل من زوجته دون أن ينجب بنتاً عمياء ولا ابناً أحول ! . نزلت هذه الكلمات على رأسها كشظايا طائرات ساقطة على أعشاب الماضي لا حلم لها سوى الدمع . كانت كلماته كوخز الدبابيس المتروكة قروناً تحت أشعة الشمس . تفشى الألم في ذاكرة الحيطان التي تمشي تدريجياً لتحكم سيطرتها على تلك المرأة المهرولة في مدارات الضجر والصراخ والدمع السخين المالح . رجع زياد إلى البيت ليطلب من أخته فاطمة أن تُجَهِّز طعام غداء لشخصين ، وعندما قال لأخته هذا الكلام تعجبت وأمطرته بالأسئلة والتحقيقات ، ثم قالت له في النهاية : _ هل عندك ضيوف ؟ . تردد قليلاً قبل أن يجيب ، لكنه قرر أن يكذب لأن الأمر يتعلق بحياة شخص أو موته ، فالكذب واجبٌ في هذه اللحظة ، هكذا كان يعتقد . فقال وهو يستغفر الله بينه وبين نفسه : _ لا ، ولكني أشعر أني جائعٌ لدرجة أنني مستعد أن آكل طعام رجلين معاً لذلك قلتُ لكِ جهزي الطعام لشخصين . لم تعهد أخته عليه كذباً فصدقته ، ومضت إلى المطبخ حيث كان الطعام جاهزاً فسكبت منه مقداراً معيناً يكفي لشخصين حسب تقديرها ، ووضعت الطعامَ في وعاء مخصص لذلك . حمله وأسرع نحو السطح يمخر عباب هذه الدرجات المشققة ذات البلاط الرديء . كان الشيخ سليمان قلقاً بسبب تأخر زياد كل هذا الوقت . وصارت الخيالات تغزوه من كل الجهات . ربما يكون قد اعتقلوه أو كُشِف أمرنا ، أو ربما رآني أحدٌ وأنا أدخل العمارة فشك في الأمر . كل هذه الأسئلة القاتلة والوساوس المؤلمة تبخرت عندما قرع زياد البابَ وعرَّف عن نفسه . فتح الشيخُ البابَ وتهللت أساريره عندما رأى زياداً . دخل زياد وأغلق البابَ وراءه ، وسأله الشيخ : _ لماذا تأخرتَ يا زياد ؟ . لقد غزتني الخواطرُ والوساوس . لم يرد زياد أن يتناول قصة الجيران لذا اكتفى بالقول : _ أشياء بسيطة أَخَّرَتْني ، والمهم أنني وصلتُ . ووُضع الغداء على الأرض ، وتحلق الاثنان حوله ، وقبل الأكل قال الشيخ : _ أفضل شيء قمتَ به أنك لم تضع الجرائد تحت الطعام مثلما يفعل الجهال . ابتسم زياد ابتسامة المنتصِر الواثق وقال : _ هذه المسائل أنا منتبه إليها جيداً ، فالجرائد التي تدخل بيتنا للقراءة فقط ، ونحن لا نفعل مثل الناس الذين يأكلون على الكلمات المقدَّسة . ومضى الاثنان يتناولان الطعام بشهية مفتوحة على كل الاحتمالات كأنهما لم يذوقا الطعام منذ قرون . وفي أثناء قيامهما بالأكل ذهب زياد لكي يحضر ماءً من الحنفية ، وللأسف كان الماء ساخناً . إذ إن الثلاجة في بيت والده معطلة بسبب انقطاع التيار الكهربائي ، وهذا حرمهما من تذوق الماء البارد . وكلما شربا من الماء الساخن ازدادت نقمتهما على الحكومة التي تحرص على إيصال التيار الكهربائي للأحياء الراقية في حين تُهمِل الأحياءَ الفقيرة بحجة القيام بعمليات الصيانة والأشغال . وبصراحة إن الحكومة لا تجرؤ على قطع الكهرباء عن الأحياء الراقية بسبب وجود السفارات الأجنبية ورجال الأعمال الذين يمسكون باقتصاد البلد ويقودونه كقطيع الأغنام المستسلم نحو أرصدتهم الشخصية وقصورهم المحتوية على برك السباحة الكبيرة في الوقت الذي لا يجد الناسُ في هذا المكان ماءً للشرب. وللأسف فإن الذين يقاتلون في الحروب العبثية التي تشنها هذه الدولة على الجيران هم الفقراء الذين يزدادون فقراً في حين أن الساسة وعِلْية القوم الذين يقضون فترة الحرب جالسين في منتجعات أوروبا هم المستفيدون ، وهم الذين يزدادون ثراءً بسبب متاجرتهم بالسلاح حيث يعملون سماسرة ووسطاء بين مصانع السلاح الأجنبية وبين الحكومة والحكومات المجاورة ، ومن يدفع أكثر يكون له الحق في الصفقة الجيدة ! . وقبل صلاة العصر بنحو ساعة تكاثرت سيارات الجيب العسكرية المهداة من إحدى الدول الغربية لهذه الحكومة . تكاثرت حول المسجد بصورة مثيرة للرعب . ترجل الجنود في حين بقي المسؤول في إحدى السيارات مع سائقه وحرسه . مضى ثلاثة جنود باتجاه بيت الإمام . قرع أحدهم البابَ فلم يجبه أحدٌ. أعاد الكَرَّة لكن محاولته باءت بالفشل . عادوا إلى قائدهم وأخبروه بأنه لم يرد عليهم أحد ، فأصدر القائد أوامره بكسر الباب. وبالفعل ذهبت مجموعة الجنود وكسروا البابَ ودخلوا. ثم حضر القائد وصار يُقلِّب في أشياء المنزل . كان من الواضح أن الشيخ قد أخذ احتياطاته واستعد لهذه الساعة فلم يكن في المنزل شيء ذو قيمة . أما أسرة الشيخ فقد ذهبت إلى الريف لتقضيَ فترة الحرب هناك بعيداً عن القذائف والانفجارات في هذا الميناء الذي صار جزءاً من الماضي بعد الدمار الهائل الذي لحق به. زوجته حملت الأولاد وذهبت إلى بيت أبيها في الريف ريثما تنتهي الحرب ، وها هي قد انتهت . وبالطبع فهي لم تذهب بمفردها بل أوصلها أخوها بشاحنته هي والأبناء. وقد أخبرها الشيخ بأن تبقى في بيت أهلها حتى يأتيَ هو بنفسه ليأخذها . وبالفعل نفَّذت إرادةَ زوجها . قال القائد بهدوء أعصاب مخيف : _ لا أهمية لتفتيش المنزل ، فمن الواضح أن الشيخ قد أخذ كامل الاحتياطات واستعد لهذه اللحظة. يجب أن نبحث عنه في مكان آخر عبر استجواب الناس أو المصلين . وأردف قائلاً : _ ستكون مهمة رجال الأمن مستحيلة عندما يواجهون شيوخاً أذكياء . إنها مغامرة من نوع خاص ، لكنني لن أستسلم . وانتشر الجنود في أرجاء المنطقة يستفسرون عن الشيخ . مَن رآه ؟ . من يعرف أين هو الآن ؟ . لكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح ، فغالبية الناس كانوا خائفين من هبوط هذا السؤال على رؤوسهم فكانت إجابتهم تكاد تكون واحدة وهي أنهم صلوا الجمعة وراءه وبعدها لم يشاهدوه مع إضافة شعار التبرؤ من مهاجمة الحكومة التي حصلت أثناء خطبة الجمعة . وما زلتُ أذكر أحد سائقي الشاحنات المتجمعة في المكان ، كان متكئاً على باب شاحنته وهو يدخن، وقد اخترع محاضرة كاملة ألقاها على مسامع الجنود حيث قال لهم : _ لطالما نصحتُ الشيخَ أن لا يذكر الحكومة بسوء ، فهذه حكومتنا الرشيدة التي ترعى مصالحنا وتعتني بنا . الله يخليها ويزيدها قوة أكثر وأكثر . لكن للأسف الشيخ لم يكن يسمع الكلام ، وكان يمشي على هواه . وبالطبع لا أساس لهذا الكلام من الصحة فهو لم يقابِل الشيخَ وجهاً لوجه مطلقاً لكنه رأى أن يخترع تلك الأحداث الوهمية ليبدوَ مواطناً صالحاً في عيون الجنود . وعندما ذهبوا بصق السائق على الأرض على نحو ذي دلالة رمزية وقال في نفسه : _ الله يخرب بيت الحكومة كما خربت بيوتنا . كلكم لصوص يا أولاد ... ، واللهِ مع الشيخ كل الحق أن يفضحكم ويمسح بكم الأرض . كان كلام السائق يعكس حالة حزن غاضب تسود المجتمع ، فهذا السائق كان يملك أربع شاحنات في الماضي ، ولكن مع زيادة أسعار الوقود على مر الأعوام وزيادة الضرائب وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة والزيادة الجنونية في أسعار الأراضي والعقارات اضطر لبيع الشاحنات واحدة تلو الأخرى على مدار العقدين الماضيين ، ولم يبق عنده سوى شاحنة واحدة ، وقد يبيعها إذا استمر الوضع الاقتصادي في التدهور كما هو حاصل الآن . وكان أسعد يسير هائماً على وجهه مقتحِماً هذه الأنقاض اللانهائية ، بحيث يوقن كل من يراه أن هذا الشخص مختل . استوقفه أحد الجنود قائلاً : _ هل رأيتَ إمام المسجد ؟ . كان مع الجندي زميله الذي قال بصوت خفيض : _ ألم تجد إلا هذا الأبله لكي تسأله ؟ . رد الجندي بثقة مجهولة المصدر : _ هؤلاء المجانين لديهم معلومات قد تفيدنا . وقد سمع أسعد هذا الكلام ورأسه تترنح كرأس المشنوق التي فُصِلت عن الجسد بفعل قسوة الحبل . ولم يجب عن السؤال بل بقي محدقاً في ملامح هذين الجنديين بصورة مثيرة للضحك كأنه مهرج متقاعد في سيرك أَقفل أبوابه . أعاد الجندي سؤاله مرة أخرى بشكل فيه شدة : _ هل رأيتَ إمام المسجد ؟ . _ وماذا تريدان منه ؟ . _ إنه قريبنا وقد جئنا لنُسَلِّم عليه . كانت عينا أسعد تلمعان بشكل غريب. لقد كان مقتنعاً في داخله أنهما يكذبان ويخفيان الحقيقة . إنه يحس بالأشياء إحساساً مُرَكَّباً ، وما زاده ريبة تلك الملابس العسكرية التي تذكره بذكريات سحيقة مرت في حياته . إنه متوتر ، وكلما حَدَّق في النجمات على أكتافهما ازداد قشعريرةً باطنية . عيناه تجحظان كمسدس مبلول بالنار ، أو كغابة هجرها المطر الأحمر . أحس أن خطراً من نوع ما ينتظر الشيخ ، فقال لأحدهما : _ هل أنتَ متزوج ؟ . _ نعم . _ أنصحك أن تركز في مضاجعة زوجتك بدلاً من ملاحقة الشرفاء . هبط هذا الكلام كالصاعقة على هذين الجنديين . توقف تفكيرهما بصورة صادمة ، ودخلا في هستيريا الحطب الذي يحترق في صدريهما . صعد الأحمر بكل جنونه إلى وجهيهما ، فلطمه أحد الجنود على وجهه وبصق عليه . مسح أسعد البصقة المستقرة على سحنته بطرف كمه . تجمعت الدموع الساخنة في عينيه الباردتين . وهم أحد الجنود في فورة الغضب أن يطلق عليه الرصاص لكن زميله قال له : _ دعك من هذا المجنون ، إنه لا يدري ما يقول . وهرب أسعد من المكان . كانت شرايينه تذوب في اللهاث المر . وأخذ يبكي بحرقة وصوت مسموع ، كأن هذا النشيج عوالم لا نهائية من الألم . وراح يصرخ في هذه الأنقاض الشاسعة : _ إن الغزاة الذين قتلوا قطتي قادمون . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . وسمع هذه الصرخة بعض سائقي الشاحنات الذين كانوا متواجدين في المكان فانفجروا ضاحكين . بدا ضحكاتهم مثل دلو ماء مسكوب على وجوههم المحترقة بالقيظ . لم يكونوا يملكون غير الضحك ، وهم يتغامزون فيما بينهم حول أسعد ، ويسخرون منه . وقال أحدهم : _ هل البلد ينقصها مجانين حتى يأتيَ هذا المتخلف عقلياً ؟ . لكن أسعد كان يركض في هذا الأكسجين المخلوط بالحزن والمتراكم على قطيع البيوت التي تم تسويتها بالأرض غير عابئ إلا بالصراخ الذي يعيد تكراره مع الكلام المكرر ذاته : _ إن الغزاة الذين قتلوا قطتي قادمون . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . واستمر سائقو الشاحنات في اختراع النكات الساخرة من أسعد، وهم يشربون الشاي ويدخنون ويطلقون الضحكات في هذا الحر الصارخ . باءت محاولات العسكر في إيجاد الشيخ بالفشل الذريع ، فهم لم يتمكنوا من إيجاده أو الوصول إلى أية معلومة قد تفيدهم في القبض عليه . لكن قائدهم كان رابط الجأش واثق من أنه سيقبض على الشيخ في وقت ما . وبصراحة لم أكن أعرف ما مصدر ثقته المفرِطة ، لكنني كنتُ أعرف أن جبينه يتوهج بصورة متوحشة تقضم غابات الصدى تحت شمس حارقة . وعاد العسكر أدراجهم دون الحصول على صيدهم الثمين على الرغم من أن هذا الموضوع لم يفارق تفكيرهم .

26‏/07‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الرابع

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الرابع )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان يعقوب بنيامين اليهودي يُكَنِّس الرصيفَ الذي أمام مخبزه، فقد تراكم عليه كثيرٌ من الأغبرة والركام بفعل الحرب الماضية . وعندما انتهى من عملية التكنيس دخل إلى المخبز الذي كان مُرَتَّباً ونظيفاً . وقد كان هذا المحل في أحد الأزقة الضيقة مما جعله يَسلم من القصف . وعلى الرغم من شح المواد الغذائية في هذا الوقت بسبب خروج البلاد من الحرب ، إلا أن يعقوب كان على علاقة بأحد المسؤولين الحكوميين الذين كان يُهَرِّب له بعض أكياس الطحين مقابل سعر مضاعَف . دخلت امرأةٌ في العقد الثالث من العمر ترتدي زياً غريباً . إنه زي الراهبات ، وهذه المرأة هي الآنسة جودي ، وهي راهبةٌ تقطن في الدَّير المجاور . مَن يراها يظنها قادمةً من أوروبا بسبب زرقة عينيها وقسمات وجهها الذي يُشبه وجوه السَّائحات الأوروبيات اللواتي يزرن هذا المكان . وبعض الناس يقولون إنها من أصول يونانية ، لكنني لستُ أعلم من أين حصلوا على هذه المعلومة . كانت تُغَطِّي شَعْرها بشكل كامل ، وترتدي ثياباً نظيفة للغاية وساترة لجسمها . أما الجوارب فكانت بيضاء . وحذاؤها مُلَمَّعٌ بشكل جيد ، ولم يتأثر بالركام المتناثر في الأرجاء ، وهذا يدل على أنها كانت تمشي بحذر . كان على صدرها صليبٌ ذهبي ثقيل وكبير الحجم ، وكان حزنها اكتئابَ قطار بخاري . تقدمت الآنسةُ جودي بخطى متثاقلة ، وقالت مخاطبةً الخبَّاز يعقوب : _ لو سمحتَ أريد خبزاً بهذه النقود . ومدت يدها لتناوِل النقودَ للخبَّاز ، مما جعل الخبَّاز يمد يده ليأخذ تلك النقود ، وقد قصد أن يشد على يدها بصورة تحمل كل معاني الشهوة والوقاحة في آن معاً . ناولَتْه النقودَ ، وسحبتْ يدها مباشرةً كأن ناراً قد مستها على حين غرة . جحظت عينا يعقوب كأنهما قفزتا من محجرَيْهما ، وقال موغلاً في وقاحته : _ ما أجمل صدركِ لولا الصليب!، ولكنْ يا خسارة إنه بعيد عن أيدي الرِّجال. ارتبكت الراهبةُ ، وبدأ جبينها يتفصد عَرَ قاً ، والتهمها خجلٌ مُحرِق ، لكنها استجمعت أمرها ، وقالت بلهجة فيها حدة : _ أعطني الخبزَ لئلا ألم عليك الناسَ يا عديم الشَّرف . أجاب الخبَّاز ساخراً : _ الناس ! ، أين الناس ؟ . لقد ماتوا في الحرب ولم يبق إلا أنا وأنتِ . وحينما سمعت الراهبةُ هذا الكلامَ استشاطت غضباً، وهمَّت بالخروج من المخبز لكن الخبَّاز استوقفها قائلاً : _ لا تغضبي مني ، لقد كنتُ أمزح معكِ ، وها هو الخبز على أية حال . وما إن خرجتْ حتى انهمك الخبَّاز في ضحك من نوع خاص ، ضحك يُراد منه السخرية من الآخرين، وإثبات التفوق على الناس، وقال في نفسه المتكورة على غرورها وبعد أن بلع ريقه : _ سوف نصلبكم كما صَلَبْنا إلهكم على الخشبة ! . أخذت الخبزَ وانطلقت مُسرعةً . كانت على أُهبة البكاء ، ولولا وجودها في الشَّارع لأجهشت بالبكاء ، لكنها تمالكت نفسها حتى وصلت الدَّير ، وركضت إلى غرفتها ، وأغلقت الباب ، ثم انفجرت باكيةً . كانت تبكي بحرقة تماثل حرقة زهرةٍ مسحوقة تحت أقدام الجنود العائدين من الهزيمة . في جبينها تتكاثر النباتات السامة وعلى يديها تبكي الحيطان التي يخرج منها جرذان الحزن والضجر . نظرت في المرآة . تحسست جسدَها حَجَراً حجراً . أنوثتها تذبل تدريجياً حتى صارت أعضاؤها كالحجارة التي لا يتفجر منها الماءُ ولا الأحلامُ . أخرجت من جيبها منديلاً ومسحت دموعها . لاحظت بقايا الكحل وقد هبطت على منديلها . _ لماذا أضعُ الكحلَ ولمن أضعه ؟ . سألتْ نفسها هذا السؤال وألقته في قاع حلمها اليابس . وضعتْ يدها على بطنها وتمنت لو أنها تصير أُماً لأطفال كثيرين يقفزون حولها ويتسلقون أكتافها واحداً تلو الآخر ، وتسمع منهم لفظة ماما . إنها أمنية مستحيلة. ولكنْ لماذا هي مستحيلة ؟. لقد هربت من الإجابة على هذا السؤال والتحفت الصمتَ الرهيب . قالت الراهبة كاترين لأختها الراهبة لارا : _ كأنني رأيتُ جودي وهي تبكي قبل أن تدخل غرفتها . _ هل أنتِ متأكدة ؟ . _ أنا شبه متأكدة . _ فلنقم إليها ونعرف ما القصة . ذهبت الراهبتان إلى تلك الغرفة التي تحتل جسد جودي وتحاصره من كل الجهات . قرعت إحداهن البابَ ففُتح البابُ . وظهرت جودي بشكل يحاول أن يتقمص الصلابة والتماسك ، لكنَّ عينيها كانتا تلمعان بشدة بسبب الدمع الذي تَجَمَّع فيهما ، مما جعل أمرها مكشوفاً أمام هاتين الراهبتين . قال لارا وعلاماتُ التألم بادية على جوانحها : _ لماذا كنتِ تبكين ؟ . _ الأمر ليس مهماً . إنها مسألة شخصية وقد انتهت . وأردفت قائلة : _ وإن كنتما تحبانني فانسيا الموضوع لأنه تافه ، وأنا أريد أن أنساه . حاولت جودي أن تُبَسِّط الأمر ظاهرياً لئلا يتسبب ذلك بمزيد من الألم والخوف لدى تلك الراهبتين. وبالفعل فقد تناسى الجميع هذا الأمر نزولاً عند رغبة جودي . وتَقَمَّصت جودي النسيانَ مع أنها كانت تحترق في داخلها ، لأنها لم تتعود على تلك الألفاظ الجنسية التي تَلَفَّظ بها ذلك الخبَّاز الوقح . هكذا كانت تُسَمِّيه جودي في قرارة نفسها . قالت كاترين وهي تحاول أن تنقل الموضوع من جهة إلى أخرى : _ هل تسمحين لنا أن ندخل غرفتك لنلعب الشطرنج ؟ . ردت جودي وقد تهلَّلت أساريرُها : _ بكل سرور . بصراحة لم تكن كاترين لاعبة جيدة في الشطرنج ، لكنها حاولت إحداث جو من البهجة على هذا المكان الكئيب الموغل في الأحزان المتجددة والمتوالدة كالفئران التي تظهر أحياناً في سراديب هذا الدَّير المظلمة، وأيضاً هي تعلم مقدار حب جودي للشطرنج وإتقانها لهذه اللعبة . دخلت الراهبتان وعليهما مسحةُ بهجة منقوعة في سوائل الحزن الغامض . ذهبت كاترين إلى المرآة ، ووضعت قليلاً من أحمر الشفاه بصورة حمقاء فوضوية ، وقالت لرفيقتيها ساخرة : _ انظرا كيف أصبحتُ نجمة سينمائية . ضحكت جودي ولارا ضحكاً متواصلاً نابعاً من قلبين جريحين في هذا المدى الرَّصاصي . ووضعت جودي يدها اليمنى على فمها لتكبح هذا الضحك الذي لم تضحك مثله منذ مدة بعيدة . أما لارا فلم تستطع أن تتوقف عن الضحك ، لكنها زرعت في خضم ضحكتها المدوية سؤالاً مصبوغاً بالضحك ، حيث قالت مخاطبةً جودي : _ من أين جئتِ بأحمر الشفاه ؟! . وتدخلت حينئذ كاترين ، وألقت سؤالها الشخصي الذي بدا وكأنه يُعَزِّز سؤالَ رفيقتها : _ ومن أين جئتِ بعلبة المكياج هذه ؟! . كان هذان السؤالان البريئان يُلَخِّصان حجم الألم الذي تعيشه هؤلاء النسوة . إنهن غارقات في علبة المكياج تلك والتي تَختصر تاريخاً حاشداً من الأنوثة المقموعة بخنجر العزلة المتكور على ذاته . إنهما سؤالان من نوع خاص ، نوع ينقلكَ من أناشيد الرعاة المصادَرة إلى أنوثة السنبلة التي لا تعرف أنها سنبلة تحتاج إلى يد الريح الدافئة من أجل أن يربت الشتاءُ على أكتاف الحزن القادم من شقوق الجدران المتكاثرة مثل الرايات البيضاء للجيوش المهزومة . قالت جودي وقد قطعت مسلسل عنفوان ضحكها : _ لقد طلبتُ من أختي التي تدرس في الجامعة أن تُحضِر لي هذه العلبة من العاصمة . قالت لارا مندهشة : _ وكيف أدخلتِها إلى هنا دون أن تراك تيريز وعايدة ؟! . _ لقد وضعتُها في كيس أسود مع بعض الحاجيات . _ يا لكِ من ماكرة ! . وعادت الراهباتُ إلى الضحك مرةً أخرى . إن الضحك ينبعث من كل أعضائهن ، ويكسر الأقنعةَ الرِّجالية التي ترتديها هؤلاء النسوة المتنكرات لأنوثتهن. هؤلاء النسوة الصاعدات من ذكريات القش في الإسطبلات المهجورة كما الميناء الذي يعيش فيه الناسُ ويموتون فيه . على هامش الذكريات المنسية يعيشون ، ويتيهون ، ويقمعون عواطفهم ، ويموتون . هكذا بكل بساطة يحيون ويميتون ، لكن حياتهم إحدى أشكال الموت . لا أحد يذكرهم سوى الغبار على المكتب الشاهد على انتحار الكاتب الذي جلس عليه في الماضي المستقبلي . أما تيريز وعايدة فهما راهبتان كبيرتان في السن تجاوزتا الخمسين بقليل . إن وجهيهما مملكة التجاعيد القاسية . أعضاؤهما يابسةٌ كالخوخ الساقط على التراب ، والذي لم يجد أحداً يقطفه . إنهما قتيلتان ما زالتا تمشيان لأنهما لم تجدا حفار قبور محترف يدفن الموتى الذين يسيرون بيننا ، ويسلبون منا أحلام الفراشات الضوئية المهاجرة إلى أظافر التراب . في بعض الأحيان يحتاج البشر إلى حفار قبور موهوب لكي يدركوا مذاق الحياة القادمة من شقوق سور المقبرة المنخفض . ويمكن أن نقول إن الدَّير كان فيه تياران ، تيار يمثل الحرس القديم مكوَّن من تيريز وعايدة ، وتيار يمثل الحرس الجديد مكوَّن من جودي وكاترين ولارا . إنه صراع أجيال شرس يتدفق في كل أنظمة الحزن التي تعشعش في زوايا الوجوه المتآكلة كالضوء المهرول نحو الانطفاء . جهَّزت إحداهن رقعة الشطرنج واضعةً إياها على السرير . وتمركزت جودي ولارا بشكل متقابِل ، حيث جلستا على الأرض بينما كانت الرقعة على السرير ، وراحتا تلعبان بكل شراهة . أما كاترين صاحبة الفكرة فراحت تذرع الغرفة عرضاً وطولاً. وأحياناً تُقَلِّب الأشياء التي تجدها هنا أو هناك . استقرت أمام مكتب جودي الخشبي . كان يعلوه رف طويل عليه كتب عديدة ، كتب بالعربية والإنجليزية والفرنسية واليونانية . بدأت تتناول كتاباً إثر كتاب ، وتتصفحه بشكل سريع ، فهي تجيد هذه اللغات الأربع شأنها شأن كل الراهبات في هذا الدَّير . وبينما هي منهمكة في التصفح وقع في يدها كتابٌ بالعربية من نوع خاص . صعقها عنوانُه بشدة . كان العنوان " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا " . ارتبكت أيما ارتباك ، وراحت تُقَلِّب صفحاته بهدوء كأنها تحاول أن تمتص الحِبر المزروع في الورق ، وتستنشق الكلام كلمةً كلمة . كانت زميلتاها مشغولتين باللعب فلم تلاحظا دهشةَ كاترين وانزعاجها من الأمر . إنه الهدوء المخيف يتفشى في ذرات الأكسجين التي تسيطر على الأرجاء . وفجأة صاحت جودي ناسفةً كل هذا السكون المرعِب : _ لقد فزتُ .. لقد فزتُ . وأردفت قائلة : _ تعالي يا كاترين لتشاهدي هزيمة لارا . لم تجب كاترين لأنها عائشة في عالَم آخر بعيد عن هذه الحجرة ، وغارقة في قراءة ذلك الكتاب الذي صعقها عنوانُه . لاحظت جودي ولارا ذهول كاترين فقالتا بصوت واحد كأنهما قد اتفقتا على صيغة الكلام : _ ماذا هناك يا كاترين ؟ . قالت كاترين وقد تغير لونُ وجهها الذي يلهث في مدارات الخيبة : _ مِن أين لكِ هذا الكتاب ؟ . ردت جودي وهي مقتنعة أن الأمر لا يستحق كل هذا الاستغراب : _ أي كتاب تقصدين ؟ . قالت كاترين وهي تمط الكلام مطاً يدل على الاستهزاء والدهشة في آن معاً : _ رسائل الإمام الشهيد حسن البنا . وما إن سمعت جودي هذا الكلام حتى بدا عليها الارتباكُ ، فبلعت ريقها في محاولة منها لامتصاص هذا الارتباك الطفيف الذي طرأ عليها ، وقالت : _ بصراحة ، لقد أهداه إلي شاب مُسْلِم اسمه زياد خضر ، وقد كتب اسمه في أعلى الصفحة الأولى من الكتاب . وهنا تدخلت لارا مستنكرةً هذا الكلام : _ ومنذ متى تتلقين هدايا من شاب ومُسْلِم أيضاً ؟! . _ لقد ألح عليَّ أن آخذه ، و... وهنا سكتت جودي لتزيد حدة التشويق الذي تُبعثره في الأرجاء وتنثره بلا رحمة على رأسَيْ زميلتيها ، لكن الفضول القاتِل انسكب دفعة واحدة في عيون كاترين ، وقالت واللهفة تحتلها : _ وماذا أيضاً ؟ أكملي بسرعة ! . بلعت جودي ريقها للمرة الثانية ، وقالت وقد تطاول عنقُها بصورة واضحة ومقصودة : _ لقد طلب مني موعداً على الشَّاطئ لكنني رفضتُ . وساد الحجرةَ صمتٌ مرعِب ، صمت يتداخل في أجزاء هذه الحيطان المتكاثرة بلا هوادة . شعرت جودي بعد هذا الكلام أن جبلاً كان على كتفيها لكنها ألقَتْه على أكتاف الآخرين . كل العيون المتسمرة في ذلك المكان كانت تلمع. كأن لمعانها قطعان غزلان تعدو نحو السكاكين والمنحدرات الوعرة والنسيان الحاسم . قالت كاترين وقد تكومت في جبينها غاباتٌ من الغيرة والدهشة والحقد : _ لا بد أنك تمزحين ، مؤكَّد أنك تمزحين . وأقحمت لارا نفسها في الحوار قائلة : _ نعم ، إنك تمزحين . نفشت جودي ريشها فخورةً بما تفعل ، وقالت : _ لا أطلب منكما أن تصدقاني ، لأن الموضوع كان سراً أطلعتكما عليه لكونكما صديقتاي . وعلى أية حال لقد رفضتُ ذلك الموعد ، وانتهى الأمر . كان الجميع بحاجة إلى نسيان هذا الكلام لأنه مرعِب من جهة نظر هؤلاء الراهبات. كلهن يَعْلمن أنهن سائرات في درب مضاد للعلاقات مع الرجال أو الحب أو الزواج . هذه مفردات محذوفة من قاموسهن الذي يخترعه الألم الطالع من زوايا سراديب الدَّير المعتمة ، من منعطفات مفاصلهن المختبئة داخل جلود رقيقة ، ودماءٍ ليست زرقاء بأية حال من الأحوال. لقد اقتربت الجدرانُ شيئاً فشيئاً من هذه العتمة الصاعقة . كان هناك في الجهة المقابِلة لعيونهن الخرساء نافذة تطل على حديقة يبدو أنها تعيش خريفها مبكراً بعد الشيء مع أننا في فصل الصيف . يخترق الحجرةَ ضوءٌ رصاصي قادم من أشجار الصنوبر الحبلى بالدماء بلا أجنة . إنها تلد سكوتاً رهيباً في كنف كل هذا الحرمان الممتد كالخناجر القديمة التي تُشَرِّح جسدَ شاعرٍ مجهول قبيل اغتيال قصائده . قالت كاترين مخاطبةً لارا : _ لنترك جودي لوحدها ، ونذهب للقيام ببعض الأعمال . _ كما تشائين . وانطلقتا مثل جرادتين مستحمتين بالسموم المتوحشة . خرجتا من الحجرة دون أن تنبس جودي ببنت شفة . كان الوجوم يتسلق أقدامهما وهما تسرعان نحو الباب الذي ظهر أضيق مما هو عليه في الواقع . كل شيء يضيق في هذا المكان المنقوع في قارورة الحزن المفترِس . نظرت جودي في الأشياء التي تحيط بها . حدَّقتْ في أحجار الشطرنج ، وغرقت في ثنائية الأبيض والأسود . داهمها خاطرٌ سريع لماذا لا توجد حجارة شطرنج إلا بهذين اللونين ؟ . لم تعرف الإجابة . استفزها عدمُ تمكنها من الإجابة ، فغضبتْ وألقت حجارة الشطرنج على الأرض . ثم ذهبتْ إلى الباب وأغلقَتْه بالمفتاح ، وتوجَّهت إلى المرآة . زرعتْ نظراتها في جسد المرآة خناجر ، خلعتْ غطاءَ رأسها وألقَتْه على السرير . نزعت الصليبَ ووضعته إلى جانب علبة المكياج . بدأت تنزع ملابسها قطعةً قطعةً حتى أضحت عاريةً تماماً أمام المرآة. وراحت تتحسس أعضاءها حجراً حجراً . انفجرت باكيةً بصورة درامية ، فركضت نحو سريرها ، واستلقت عليه ، وتغطَّت باللحاف الأملس . كان اللحاف يغطي كامل جسمها من رأسها حتى أخمص قدميها . علا النشيج من تلك الكومة اللحمية المصلوبة على ذلك السرير المعدني . إن دموعها تتصاعد من قاع السرير ، من أعمق نقطة تحت ملمس اللحاف، حيث يتوحد الجسد العاري مع الرغبة المتفجرة من عظام الحيطان المدهونة جيداً . إنها الآن في أقصى عويل الدموع التي لا ترحم . كان بابُ الدَّير الرئيسي يُقرَع بشدة ، بحيث صار الصوت الناتج عن القرع المتواصل بالغ الإزعاج والقرف . وقد أدى ذلك الصوت المزعِج إلى تعكر مزاج الراهبة تيريز حيث كانت تقرأ في إنجيل برنابا الذي لا تعترف به الكنيسة ، ولكن كل ممنوع مرغوب . تَأَفَّفتْ بصورة مثيرة للكآبة وقالت لعايدة التي كانت تستمع إلى المذياع : _ اذهبي وافتحي الباب لنرى من هذا الشخص اللطيف الذي يقرع الباب بكل أدب ! . وطبعاً كان كلامها يحمل كل معاني السخرية والاستهزاء ، وكل التفاصيل المرة للكوميديا السوداء التي تحتل كلماتِها . كانت تيريز امرأة قاسية الملامح ، متجهمة على الدوام ، عيناها كأنهما جمرتان على سطح تفاحة تحترق اكتئاباً . أما عايدة فكانت تعابيرها تكشف سذاجتها وضعف شخصيتها ، والنظارة السميكة التي تضعها على عينيها الذابلتين زادتها سذاجةً إلى سذاجتها ، وهي منصاعة لأوامر تيريز . فما تقوله تيريز يُعتبَر كلاماً مقدساً بالنسبة لعايدة ، وهذه الأخيرة عليها أن ترضخ للأوامر دون مناقشة . ذهبت عايدة وقد تركت المذياعَ يعمل ، وكلما اقتربت من الباب شعرت أكثر فأكثر بهذا الصوت المزعج ، وهي تتساءل في نفسها : من هذا الذي يقرع الباب بهذا الجنون ؟ . فتحت البابَ فإذا به أسعد بشَعره المنكوش الذي يصل إلى منكبيه ، ولحيته الطويلة جداً والمتروكة بدون تهذيب، وثيابه المرقعة ، وعصاه الهالكة التي يتوكأ عليها ، وحذائه الرياضي الممزَّق ذي الألوان المختلفة ، ففي قدمه اليمنى حذاء ذو لون أخضر ، وفي قدمه اليسرى حذاء ذو لون أزرق . قالت عايدة وقد خف منسوبُ حنقها وقرفها بسبب القرع المتواصِل حين رأت أسعد بهذه الهيئة التي يُرثَى لها : _ ماذا تريد يا أسعد ؟ . رد أسعد وكأنه يستخرج الكلماتِ من قعر بئر سحيقة : _ أريد .. أريد جودي . _ جودي غير موجودة هنا ، عُدْ في وقت آخر . _ لقد .. لقد رأيتُها .. لقد رأيتُها تَدخل . ردت عايدة وقد ملَّتْ من هذا الحوار السقيم : _ انتظرني حتى أُحضرها لكَ . أغلقت البابَ في وجه أسعد ، ومضت إلى الداخل باتجاه غرفة جودي ، لكن تيريز استوقفتها قائلة : _ مَن بالباب ؟ . _ إنه أسعد المخبول . _ وماذا يريد ؟ . _ يريد جودي . تأففت تيريز لتُعَبِّر عن عدم رضاها وقالت في نفسها إن الطيور على أشكالها تقع . وصلت عايدة إلى غرفة جودي . قرعت البابَ بسرعة ، فتدفق الصوتُ إلى أُذن جودي ، فقد كانت نصف نائمة . كشفت اللحافَ عن وجهها ، وقالت : _ من هناك ؟ . _ أنا عايدة .. افتحي يا جودي .. أسعد يريدك . نهضت جودي وقد نفضت النعاس عن عينيها ، وحاولت أن تخفيَ أية آثار للدموع التي تفجرت في عينيها قبل وقت بسيط . لاحظتْ أنها تسير عاريةً تماماً ، فبدأت بارتداء ملابسها بعصبية وارتباك بالغَيْن . اقتربتْ من المرآة ، وفكرت أن تُخفيَ علبة المكياج لئلا تراه عايدة فتخبر تيريز ، وتخترع هذه الأخيرةُ مشكلة لا أول لها ولا آخر . احتارت أين تضع تلك العلبة التي صارت أشبه بتابوت يمتصها رويداً ، وفي زحمة ارتباكها ارتطمت يدها بعلبة المكياج فانزاحت باتجاه الصليب وأزاحته ، وسقط في سلة المهملات الموضوعة على الأرض إلى جانب المرآة ، لكنها لم تنتبه إلى هذا الأمر ، فسقوط الصليب لم يُحدِث ضجيجاً لأن وقع على كومة أوراق وأشياء أخرى امتصت صوت الارتطام حتى الرمق الأخير . فتحت جودي بابَ حجرتها فلم تر عايدة ، إذا أنها طرقت البابَ وانصرفت . مضت جودي إلى باب الدَّير ، وقد اغتاظت تيريز لأن جودي أثناء مرورها لم ترد عليها التحية . فتحت البابَ فوجدت أسعد يجلس القرفصاء وهو يُحَدِّق في السماء بصورة تجعل كل من يراه يتأكد أنه أبله . أشفقتْ عليه وقالت : _ لماذا تجلس هكذا يا أسعد ؟ . _ إنني أنتظر القطار ! . ضحكت جودي بملء فمها من هذا الكلام المجنون ، إذ إن هذه البلدة برمتها لا يوجد فيها قطار ، ولستُ أدري من أين جاء بلفظة "القطار" . وضحك أسعد لما رأى ضحكة جودي المجلجلة . وبعد انتهاء جرعة الضحك هذه قالت له : _ ماذا تريد يا أسعد ؟ . وما إن سمع هذا الكلام حتى هبَّ واقفاً على قدميه قائلاً : _ أريد رغيفين . _ لماذا تريد رغيفين ؟ . _ واحدٌ لي ، وواحدٌ لقطتي التي ماتت ! . _ سأعطيك رغيفاً واحداً فقط . وأسرعت جودي إلى الداخل ، وأحضرتْ رغيف خبز ، وبينما هي مسرعة نحو الباب سألتها تيريز بخبث : _ لمن هذا الرغيف ؟ . _ إنه لأسعد المسكين . ردت تيريز وملامحها تركض في التوحش والغضب : _ وهل من وظيفة الكنيسة أن تصرف على هؤلاء المجانين وتطعمهم مجاناً ؟! . أعيدي الرغيف إلى الداخل . قالت جودي وهي تزداد احتقاراً لكلام تيريز وتمسكاً بهذا العمل : _ لن أعيده ، وسأُعطيه إياه . ومضت نحو الباب ، وبالفعل ناولَتْه الرغيف قائلة : _ اعتنِ بنفسك جيداً يا أسعد . وانطلق أسعد فرحاً بهذا الرغيف . صار يقضمه كأنه يريد الوصول إلى أقصى لحظات اللذة والنشوة . إنه يقضم رائحته ومذاقه وكل شيء فيه. منظره وهو يمشي يثير البكاء والضحك في آن معاً . كان يمشي صارخاً في هذا الفضاء : _ يا وطني المقبرة . اقتلني وانْهِ لعبةَ المطارَدة . لا أخضع لشروطك ، ولا تخضع لشروطي . نحن قتيلان لأن اللصوص سرقوا الحياة من وجهينا . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . وغرق في البكاءِ بعد أن ألقى هذه العبارات في الفضاء الأرجواني الملوَّث بالقنابل التي لم تنفجر ، وبذكريات الضحايا ، والعناصرِ السامة المنبعثة من الأسلحة المتطورة . ويقطع بكاءَه بصراخٍ جديد كأنه ينادي على مجرة بعيدة راحلة إلى قبرها الكوني السحيق : _ اللهم حَرِّمْ جسدي على نار الدنيا والآخرة . اللهم حَرِّمْ جسدي على نساء الدنيا . ويغرق من جديد في البكاء ، بكاء ينقله من نشوة الحزن المعتَّق كأصوات الضحايا إلى يوميات خنجر يصير آخر الليل فراشةً لا لون لها سوى الركام . هذه هي حياة أسعد . وبصراحة لستُ أعرف كيف أصفها بدقة . إنه رَجُل غارق في دموعه وضحكه ، يبكي بلا سبب ، ويضحك بلا سبب . وقد انقسم الناسُ بشأنه . طائفةٌ منهم تقول إنه مجنون ، وطائفة تقول إنه أحد أولياء الله المجاذيب ، وطائفة تقول إنه مُخبِر يُمَثِّل دور المجنون ليحصل على المعلومات . وتكاثرت الحكايا والقصص حوله حتى صار حكايةً شعبية يتداولها الناسُ في مخادعهم ومجالسهم العامة وأعراسهم وأتراحهم . وكل قصة تُوَلِّد قصةً جديدة . فالذين يقولون إنه مجنون اختلفوا في سبب جنونه ، فمنهم من يقول إنه كان أستاذ جامعة مُعارِضاً للحكومة فتم اعتقاله وتعذيبه حتى فقد عقلُه ، ومنهم من يقول إنه كان رجل أعمال وقد اكتشف أن زوجته تخونه مع السائق ففقد عقلُه منذ ذلك الحين . والذين يقولون إنه أحد أولياء الله المجاذيب لهم في ذلك مذاهب شتى ، فمنهم من يقول إنه كان يعرف الاسم الأعظم لكنه لم يستطع تحمل أنواره فجُذِب . ومنهم من يقول إنه كان يُعطِي دروساً للجن ويتعامل معهم لكنه لم يتمكن في اللحظة الأخيرة من السيطرة عليهم فأصابه مس وصار مجذوباً . ولستُ أدري ما علاقة المس بالجذب . ومنهم من يقول إنه شيخ صوفي ظهرت على يديه كرامات خارقة فجُذِب من شدة تلك الكرامات . والذين يقولون إنه مُخبِر اختلفوا في تحليلهم لهذه الحالة ، فطائفة تقول إنه عميل للمخابرات ، وطائفة تقول إنه عميل للاستخبارات العسكرية ، وطائفة تقول إنه عميل لمخابرات دولة شقيقة ، وطائفة تقول إنه عميل للموساد . وبصراحة أنا لا أعرف حقيقة هذا الرَّجل لأن الناس يريدون قصةً لكي يظلوا يزيدون ويُنقصون فيها على مزاجهم ، ولكي تصير حكاية ينسجونها على هواهم . حتى إن بعض الأمهات صرن يُخَوِّفْنَ أبناءهن قبل النوم فَيَقُلْنَ لهم إن أسعد سوف يأتي إذا لم تناموا . وما إن يسمع الأطفال كلمة "أسعد" حتى يتدثروا باللحاف خوفاً ، وحتى الأطفال الذين لا يريدون النوم يُمَثِّلون دور النائم خوفاً من أن يأتيَ أسعد. وفي واقع الأمر لقد صار أسطورةً حيةً في هذه البلدة، والناس يعرفونه في هذا المكان أكثر من معرفتهم لرئيس الدولة أو رئيس الوزراء . لقد صار مشهوراً هذا الأسعد، وما زال الناس حتى يومنا الحاضر يخترعون القصص حول أسعد وحقيقة أمره . وهناك في الدَّير كانت صوتُ تيريز عالياً وهي تصيح على جودي وتُوَبِّخها بسبب ذلك الرغيف الذي صار قضيةً عالميةً لا يمكن تجاوزها في تلك البقعة السوداء المحاصَرة . بدأت تيريز تصب الشتائمَ القاسية على رأس جودي ، وباقي الراهبات يقفن متفرجات وخائفات من كبح جماح تيريز . مضت جودي إلى غرفتها دون أن تنبس ببنت شفة أو ترد على تلك الشتائم المؤلمة ، وهذا الأمر أغاظ تيريزَ بشكل صاعق فارتفعت عقيرتها بالسباب والشتم أكثر من ذي قبل ، خاصة بعد أن أغلقت جودي بابَ حجرتها بقوة مبالغ فيها ، ربما كان هذا احتجاجها الوحيد على سلوك تيريز . والتفتت تيريز نحو الراهبات المتسمرات في أماكنهن ، فصرخت في وجوههن قائلةً : _ إلى ماذا تَنْظُرْنَ ؟ .. لتذهبْ كل واحدة منكن إلى عملها . وما إن فرغت من هذا الكلام حتى تبعثر شمل الراهبات وتفرقن ، كل واحدة ذهبت في ناحية ما ، فالتي لديها عمل ذهبت لإكماله ، والتالي لا عمل عندها في تلك الساعة اخترعت عملاً وذهبت كي تغوص فيه ، المهم أن لا تقع نظرات تيريز الحادة على واحدة منهن . كان ذلك الدَّير الموحش مجاوِراً لكنيسة مهجورة صغيرة الحجم ، تَهَدَّمت أجزاء كثيرة منها بفعل القصف الجوي أيام الحرب . وقد كانت هذه الكنيسة في السابق مسجداً إلا أن الفاتيكان ضغط على الحكومة من أجل تحويلها إلى كنيسة لقاء مساعدات مالية إضافية لإقامة توازن طائفي في هذا الميناء الحيوي ، وتشكيل مركز ثقل ديني مُكَوَّن من الكنيسة والدَّير . فالدَّير كان موجوداً منذ زمن بعيد ، وعندما حاول المجلس الكنسي شراء الأرض التي بجانبه لإقامة كنيسة رفض المالكون بيع الأرض ، مما اضطر المجلس لمخاطبة جهات خارجية منها الفاتيكان الذي قام بلعبته المعهودة ( الجزرة أو العصا ) بكل احتراف . وقد عارض السكان تحويل مسجدهم إلى كنيسة إلا أن القرار نُفِّذ تحت حراسة مشددة . ولقد نشب بعد ذلك كثير من أحداث العنف ، إلا أن المخفر المحلي كان يتأخر في التدخل عمداً من أجل ابتزاز الكنيسة الغربية والحصول على أموال إضافية . وبصراحة فقد خطَّطت الحكومةُ لضرب السكان المحليين في هذا المكان وتفريقهم وفق نظرية فَرِّقْ تَسُدْ ، فهذه البقعة كانت معقلاً للمعارضة الإسلامية ، فأرادت الحكومة شغل الناس بالنعرات العنصرية والخلافات الدينية كي تسهل تفتيت هذه البُقعة والسيطرة عليها وإخماد المعارَضة بعد تحميلها المسؤولية أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، خصوصاً بعدما نجحت المعارضة في تقليص نفوذ الحزب الحاكم في البرلمان رغم كل التزوير الذي قامت به الحكومة في وضح النهار. وبالنسبة لراعي الكنيسة الأب إدوارد خزيم فقد تم طرده من قبل المجلس الكنسي الأعلى وذلك بعدما ثبت تحرشه جنسياً بالأطفال والنساء اللواتي يأتين من أجل الاعتراف ، وقد ثبت عليه أنه كان ينظر إلى الراهبات وهنَّ يُغَيِّرْنَ ملابسهن بواسطة منظار مُرَكَّز في برج الكنيسة الذي كان مئذنة يوماً من الأيام . وقد اكتشفت أمره الراهبةُ جودي بينما كانت على سطح الدَّير تُنَظِّفه بالمكنسة الخشبية الأثرية . وما زاد الطين بِلة أن الأب إدوارد خزيم كان يؤجر قبو الكنيسة لبعض السياح الذين ينتمون لعبدة الشيطان حيث يمارسون فيه طقوسهم . فصار القبو أشبه بجمعية سرية يلتقي فيها عبدةُ الشيطان الذين يأتون من أوروبا للسياحة وأشياء أخرى . وعندما افْتُضح أمره اعترف أمام لجنة تحقيق كنسية بكامل هذه الأعمال ، وهذا كَلَّفه منصبه بشكل كلي ، حيث تم تجريده من كافة الألقاب ، وطرده من سلك الكهنوت للأبد . وقد بقيت الكنيسة مغلقة لفترة بسيطة بلا مسؤول عنها ، وعندما قرَّر المجلس الكنسي إرسال راعي كنيسة جديد نشبت الحربُ ، مما أدى إلى العدول عن ذلك القرار والانتظار ريثما تضع الحرب أوزارها ، وقد وَضَعَتْها . وبقي الآن أن يأتي راعي كنيسة جديد . وعندما طُرِد الأب إدوارد خزيم من سلك الكهنوت ذهب إلى العاصمة ، وفتح مطعماً للعائلات في حي راق . وبصراحة أنا غير متأكد من هذا الكلام لأني لم أره إلا أن أناساً كثر أكدوا ذلك .

25‏/07‏/2010

حول تنظيم القاعدة وأمريكا

تنظيم القاعدة وأمريكا
( من يضحك أخيراً يضحك كثيراً)
إبراهيم أبو عواد
جريدة القدس العربي
لندن ، 24/7/2010م .
إن الأداء الاجتماعي الأمريكي المنهار والخالي من نطاق التفكير الحر ، والمحصورَ في الشهوانية الاستهلاكية، ساهم بشكل كبير في تحمل دافعي الضرائب عبء الأخطاء السياسية الفادحة للإدارات الأمريكية المتعاقبة. وقد استغلت التنظيمات المعادية لأمريكا كل أخطاء إدارات البيت الأبيض ، وقامت باستخدام أخطاء أمريكا لتبرير ضربها ، كما حصل في الملابسات المرافقة لأحداث 11/9 . فتنظيم القاعدة استند إلى كثير من الدوافع، وقام بتوظيف خطايا الإدارات الأمريكية من أجل شَرْعنة قتل المدنيين ، واستهداف الأبرياء . وفي ضوء جدلية الأفكار الداعية للصدام، تقوم التنظيمات المعادية لأمريكا مثل " القاعدة " بتثبيت أفكارها وفق الحرب الاستباقية . ويمكننا تأطير فهم أبعاد فلسفة تنظيم القاعدة في حروبه الفكرية والعسكرية ضمن عدة مستويات عامة : 1) تأسيس الوعي السياسي الهجومي في مواجهة أمريكا ، عبر الوصول إلى ذروة الحدث المندفع انطلاقاً من نقطة الصفر في مدة زمنية قصيرة للغاية لا تسمح للخصم باتخاذ إجراءات دفاعية . والمعنى التطبيقي لهذا المبدأ هو الوصول إلى رأس القطب الأمريكي الأحادي داخل النظام العالمي الجديد بشكل مباشر ومُوَجَّه . والوصول إلى ذروة الفاعلية القطبية الشاملة يستلزم تسليط مبدأ الهجوم في الداخل الأمريكي عن طريق استهداف الناس ، والمرافقِ الحيوية ، دون أي تمييز للأهداف المدنية أو العسكرية. وهذا يعني أن تنظيم القاعدة _ عبر إيمانه بالحرب الاستباقية _ سينقل المواجهة مع أمريكا في عقر دارها كي تفقد توازنَها في محيطاتها الاجتماعية الذاتية. وهذا بالقطع ينسف جغرافيةَ الامتداد الأمريكي الكلاسيكي ، ويمنع كلَّ الروافد التي تغذِّيه. 2) حشر النظامِ الأمريكي في زاوية السقوط العناصري الشامل بحيث يتم استئصال احتمالات الطفرة الناهضة ، ومنعُ مشاريع عودة القطار المنحرف إلى السكة. وهذا يتطلب إبعاد القطار عن السكة أو إبعاد السكة عن القطار. والوسيلة الأكثر نجاعة_ حسب معتقدات تنظيم القاعدة_ في تشريح جسد الدولة الأمريكية، هي إقامة حاجز معنوي مادي هائل يقف سداً منيعاً بين قطار الأمركة كنظام سياسي ذي استعارات ضاغطة على محيطات الأنسنة ، وبين سكة التواجد الحقيقي العالمي . وتنظيمُ القاعدة يرمي من وراء هذه العملية إلى إتمام عملية فصل أمريكا عن العالَم ، لكي تفقد هذه الإمبراطورية قدرتها على الامتداد والإمداد ، فتتآكل ، فتسقط نهائياً لأن الهواء والماء قد قُطِع عنها معرفياً . وإذا سقط العقلُ المدبِّر سقط الجسدُ نهائياً ، حتى لو كان منقوعاً في الطعام والشراب والثروة. وهذه _ بالضبط_ فلسفةُ تنظيم القاعدة في تنويع عملياته داخل أمريكا وخارجها ، حيث يهدف إلى حصر الأداء الأيديولوجي للسياسة الأمريكية في خانة رد الفعل لا الفعل ، وهذا هو الفخ الشمولي الذي تنصبه " القاعدة " من أجل تحقيق حلم السيطرة والنفوذ . كما أن أعداء أمريكا في الشرق والغرب سيعملون _ بكل طاقة _ على إدخال النظام الرأسمالي الأمريكي في فوضى العقلية الذاتية ، مما سيؤدي حتماً إلى شروخ هائلة في الجسد الأمريكي الذي يبدو أمام وسائل الإعلام متماسكاً ، لكنه _ في الحقيقة _ يعاني من احتراق داخلي في مدار مغلق . 3) تأسيس البؤر الفكرية المحيطة برمزية الدلالة الصاعقة ، من أجل ضرب الحصار الشامل على العقيدة الأمريكية التفكيكية . فنظام الذهنية الهادفة إلى تعرية النظام الرأسمالي من رمزية الوعي الكلي ، سيُنْشِئ تياراً رافضاً لمشروع الأمركة ( العولمة ) ، مما يؤدي إلى انتكاسة في المشروع الخارجي لصالح التقوقع الذاتي حول الداخل . وإذا استمر تنظيم القاعدة في نقل المعركة إلى الداخل البؤري الأمريكي ، سيتكرس المشهد الواعي الضاغط على سوسيولوجيا الأداء السياسي الركيك، الأمر الذي يدفع باتجاه تقليص حركة الإدارة الأمريكية على مستوى سياساتها . ومع استمرار عملية الضغط المنهجي على صورة أمريكا ، ستتدفق فضاءات أكثر اتساعاً ضد مسار الوهم الأيديولوجي لعسكرة السياسة. فصورة أمريكا ركيكة للغاية في أنحاء العالم . فإيران مثلاً تصف أمريكا بالشيطان الأكبر ، الذي يغوي الآخرين ويوقعهم في الهاوية . وابن لادن زعيم تنظيم القاعدة يسمِّيها هُبَل العصر ، وهو الصَّنم الأكبر المعبود في الجاهلية ، ويتوجه الناس إليه لنيل حاجاتهم. والزعيمُ الشيوعي ماوتسي أطلق على أمريكا وصف " نمر من ورق " . 4) محاصرة الإدارة الأمريكية في مناطق نفوذها من العالَم بكل الطرق المدنية والعسكرية ، وهذا يقطع الخطوطَ المتوازية التي تعتمد عليها الرأسمالية في لعبة العصا والجزرة على الصعيدين : ميكانيكا السياسة العسكرية ، وانكسار الرؤى الإنسانية الأخلاقية لقيمة الحرب . وإذا أرادت البشرية تفعيل منهجية العيش المشترك على كوكب الأرض ، فلا بد من إيقاظ كيان الإنسان الاستقلالي المندفع الحر كقيمة رفض ثابتة لا مفر من تكريسها ، وذلك من أجل القضاء تماماً على التكريس الأسطوري لإشكالية الوهم . لكن أشكال البناء الذاتي لمشاريع عسكرة السياسة تتمحور حول شخصانية انكسارها . فالطاقة الخارجة من الجسد الهزيل لا يمكن تعويضها . والمشكلة الأساسية في الفعل الدبلوماسي الأمريكي أن إدارات البيت الأبيض المتعاقبة بعثرت طاقتها في العالَم يمنةً ويسرة . كما أنها قامت بشن حروب مفتوحة لم تعرف كيفية إغلاقها ، مما استنزف طاقتها المالية والبشرية . ومهما استولت على النفط ، فإنه لن يغطيَ خسائرها الفادحة . كما أن أمريكا كرَّست تشتيت قواتها وقواعدها العسكرية في كل أصقاع العالَم دون تنظيم ، وكل هذه العوامل امتصت طاقة الدولة الإمبراطورية المريضة . ولأن الجسم هزيل ، لم يعد قادراً على إنتاج طاقة ذاتية تقوم بسد حجم المخرَجات ، أي إن عدم قدرتها على تأسيس مدخَلات تكافئ أو تتجاوز المخرجاتِ سيجعل منها مثل البناية الضخمة التي يتم إسقاطها عن طريق تفريغها من الهواء ، فيصير الضغطُ الخارجي أكبر من الداخلي، فتنطبق الجدران على بعضها ، وتهوي البناية الضخمة .

22‏/07‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الثالث

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثالث )
تأليف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
هناك ، في ناحية مُعتمة كانت تجلس ديالا. إنها متسمرة على الكرسي خلف طاولةٍ منبوذة . على الطاولة زجاجة شمبانيا طعمها كوخز المسامير الصدئة في نعوش جنود مجهولي الهوية . عيناها تدوران مثل كوبين من عصير الطماطم الذي تكرهه لأنه لا يُسكِر . أمسكت زجاجةَ الشمبانيا ، وصَبَّتْها في فمها الذي يُشبه مستنقعاً للطحالب أو جسداً غامضاً نخرته الخلايا السرطانيةُ . _ للأسف ! لم يبق شيء في الزجاجة . قالت في نفسها والحسرة تقضم أشلاءها المبعثَرة . طلبت زجاجةً أخرى ، لكنها هذه المرة غَيَّرت نوع مشروبها من الشمبانيا إلى الويسكي . نادت على الخمار هاكوب الأرمني : _ يا هاكوب ، أحضر لي زجاجةَ ويسكي من النوع الثقيل . هز هاكوبُ رأسَه مُوافقاً . وهل يملك أن يرفض ما دامت تدفع ؟! . المهم أنها تدفع . هكذا كان هاكوب يُفَكِّر في عقله الباطن . إنه رَجُلٌ قصير القامة ذو كرش واضح من كثرة الشُّرب ، وعيناه عميقتان كصخرتين مستقرتين في قلب واد سحيق . وفي عُنقه صليبٌ مع أنه ملحد عملياً . وربما كان يضع أربعة خواتم في أصابعه . بصراحة لم أنتبه إلى عدد الخواتم، ولكن منظر يديه من بعيد مثل النار اللامعة على رأس جبل على وشك الانهيار . نعم ، إن الخواتم في يديه تعطي لمعاناً صادماً ، وأكبر صدمة في جسده كانت رائحة فمه المقرِفة التي تزيد السكارى في الحانة قرفاً مُضاعَفاً واكتئاباً متزايداً ، لدرجة أن أحد زبائن الحانة قال له في مرة من المرات ساخراً : _ عندما أكونُ بحاجة إلى السعادة فإنني آتي إلى الحانة لأشرب ، وعندما أكون بحاجة إلى القرف آتي إلى الحانة لأشم رائحة فمك ، يعني في كل الحالات أنا زبون دائم ! . وحينما سمع هاكوبُ هذا الكلام ابتسم بخبث رغم أن داخله يغلي من شدة الغيظ ، لكنه لا يريد ان يخسر زبوناً من أجل إهانة يوجهها . الإهانات لا قيمة لها . المهم أن هناك مالاً يُدفَع . هذه هي عقيدة ذلك الأرمني العجوز التي كانت خليطاً عجيباً فهو نصف ملحد ونصف أرثوذكسي ، هكذا كان ينظر لنفسه . أحضر الأرمني زجاجة الويسكي إلى ديالا ، ووضعها على الطاولة ، ثم فتحها بخفة تُنبئ عن خبرة طويلة في هذا المجال ، وقال لديالا التي صارت صنماً خشبياً على كرسي خشبي : _ ليس من عادتك أن تجلسي في هذه الحانة ، لقد كنتِ تشترين المشروب وتدفعين وتذهبين . ردت ديالا وهي في حالة سكر خفيفة : _ إنني أنتظر ابنك المحترم هاني كي يأتيَ . رد الأرمني العجوز : _ وماذا تريدين من ابني ؟! . _ أريد منه بعض المعلومات عن الحزب من أجل برنامج وثائقي في التلفاز . _ أخشى أن يطول انتظارك ، فهاني مشغولٌ هذه الأيام . _ لا يهم ، سوف أتغلب على الملل بشرب الويسكي ريثما يأتي . غرقت في الشرب بصورة فظيعة . كانت المرأة الوحيدة في الخمارةِ ، وحولها رِجال سكارى يحيطون بها من كل الجهات . جحظت عيناها بصورة رهيبة بفعل كمية الكحول التي احتستها . إن دمها وردة تذوي بصورة دراماتيكية ، ووجهها صار كحقل قمح مُسرطَن أو غارق في إشعاعات يورانيوم قادمة من قنابل نسي الغزاةُ تفجيرها . جسدها مُخَدَّر كأنه مزارع خشخاش خارج نفوذ الحكومة التي تحارِب المخدرات ظاهرياً ، وتتستر على المتنفذين الذين يتاجرون بها . ألقت برأسها على الطاولة ، وغرقت في سبات شرس . بعد مدة طويلة نسبياً جاء هاني إلى خمارة والده . ألقى التحية على أبيه ، ولم ينتبه إلى وجود ديالا ، فقال له أبوه : _ إن ديالا في انتظارك . رد هاني متعجباً : _ وأين هي ؟! . أشار أبوه إلى الناحية التي توجد فيها ديالا متكومة على نفسها ، ومُلقيةً رأسها على الطاولة . توجَّه هاني إلى تلك الطاولة ، وعندما وصلها دق عليها بأصابع يده اليمنى ، فلم يلق جواباً ، فقال بصوتٍ عال وهو يهز رأسَ ديالا بشدة : _ ديالا .. ديالا .. استيقظي يا امرأة .. ديالا . وبفعل الهز الشديد استيقظت بصعوبة كأنها تنفض عن جسدها أطناناً من جثث التماسيح الثقيلة . عيناها نصف مُغمضتين صارتا منتجعاً لتجاعيد غامضة لا يُعرَف مصدرها . وقالت بصوت متثاقل : _ ماذا تريد ؟! . رد هاني مازجاً تعجبه من سؤالها بالقرف من منظرها وهي في هذه الحالة : _ ما الذي تريدينه مني ؟ . جالت ديالا في أرجاء ذاكرتها ، فلم تعرف سبب مجيئها لهذا المكان . حاولتْ مرة أخرى ، ولكنْ عبثاً ذهبتْ محاولاتها . إنها في حالة سُكْرٍ شديدة . وصل الخدر الصاعق إلى أقاصي زوايا لحمها المتكوم على حطامها اللانهائي . فقالت وهي تفرك عينيها : _ لا أعرف لماذا جئتُ إلى هنا . أُصيب هاني بالامتعاض من جوابها ، وأحس أنه يُضَيِّع وقته في محادثة هذه السكيرة التي لا تعي أقوالها . لكنه ذهب وأحضر زجاجة ماء باردة جداً ، ثم سكبها على رأسها . انتفضتْ مثل عنكبوت محشورة تحت مزراب مُكَسَّر في ليلة شاتية . بدأت علامات الصحوة تظهر عليها . شعرتْ بقوة غريبة تسري في جسدها . ثم قرَّب إلى أنفها مادة كانت في جيبه فانتفضت مستيقظةً ، وهي تشعر بأحاسيس يقظة من نوع غريب مُدَمِّر . كانت تلك المادة أفيوناً ، قرَّبها إلى أنفها ثم أخفاها في جيبه دون أن تلاحظها ديالا . بدأت ديالا تعي ما يجري حولها ، حدَّقت في الأشياء التي تحيط بها . أيقنت أنها المرأة الوحيدة في هذا المكان الكئيب . نظرتْ إلى وجه هاني وقالت : _ حسناً فعلتَ أنك جئتَ إلى هنا . _ ماذا تريدين مني ؟ . _ أريد عمل برنامج وثائقي عن الحزب الشيوعي الذي تنتمي إليه، وأحتاج إلى بعض المعلومات التي تفيدنا في عمل هذا البرنامج . _ بكل سرور . _ دعنا نخرجْ من هذا المكان المقرِف ، ونذهب إلى الشاطئ لأستعيد حيويتي . وخرجا معاً إلى بقعةٍ على الشاطئ كانا يقصدانها في الأيام الماضية . ولم تكن المسافة بين الخمارة والشاطئ طويلة . إنها تستغرق ربع ساعة مشياً على الأقدام . مشيا وفي عيونهما انعكاسات الأنقاض ، وصراخ العمال الذين حَوَّلوا المكان الهادئ إلى ورشة كبيرة صاخبة من أجل إعادة الإعمار . كانت الجرَّافات الضخمة تُفَجِّر أبجديةَ الصخب في ذلك المكان. والآلات بدت أنها جديدة . ربما استوردتها الحكومةُ من الخارج لإعادة البناء . أُعجبت ديالا بهذا المشهد الذي يعكس نشاطاً حكومياً ملحوظاً ، وقالت : _ لقد ظَلَمْنا الحكومةَ ، فها هي تعمل بكل نشاط لإعادة الإعمار . رد هاني باستخفاف : _ هذه حكومة ساقطة ، تدفع دولاراً للإعمار وتسرق مليوناً . لا تُصَدِّقي هذه المسرحية البائسة . إنهم يقومون بذلك أمام وسائل الإعلام لتتحسن صورة الحكومة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي . كلهم لصوص ويُنَظِّرون في الشَّرف والمبادئ. إنهم لا يعرفون من الحياة سوى مضاجعة نسائهم التافهات أو عشيقاتهم الساقطات وسرقة الشَّعب . إن الحكومة مثل الأم الخائنة التي تُعَلِّم بناتِها الخيانة لئلا يصبحن عوانس . بدت كلماته كالحجارة التي تسقط على رأس ديالا . كل كلمة تتدحرج على حيطان ذاكرتها مثل كرة الثلج أو النار . إنها محاصَرة بقطيع من الجُمل المتلاحقة التي تبتلع وجهها تدريجياً . ولم يكن هاني يخجل من ترديد أية كلمة ذات دلالة جنسية أمام ديالا ، لعلمه أنها فتاة متحررة من كل الضوابط . قالت ديالا متعجبة من هذا الجواب الذي لم تكن تنتظره : _ إنك تخلط الحابل بالنابل . _ دعكِ من هذا الكلام ، ولنبحث عن مكان نجلس فيه لنقوم بهذا الحوار البائس حول حزبنا الساقط . _ ما دام أنه ساقط كما تقول ، فلماذا انضممتَ إليه ؟ . _ هذه قصة طويلة سأخبرك بها فيما بعد . ساد المكانَ دهشةٌ من نوع خاص ، لكن وقع نعالهما الخشن يدب على الأرض بصورة شبه وحشية . وصلا إلى الشَّاطئ ، واختارا صخرة قريبة ، وذهبا إليها ليجلسا عليها . صورةُ الموج أمامهما كقنديل بنفسجي عالق على أطراف ثُرَيَّة في سقف القلب المهجور . إنه الميناء المهجور ، ذكرياته الراحلة إلى النهايات الحاسمة . وجه الشمس المغموس في الماء الثائر . يا له من ميناء ، لقد رحلت السُّفن إلى فضاءات الرعشة ، أما البشر فتركوه لأسماك لم تعد تجيء إلا لتبكيَ على حواف الصدى الوحشي . إنهما في قلب الصَّدى المسافر أبداً في هذا الميناء الباكي . قالت ديالا بعد أن جلست على الصخرة برفقة هاني : _ لن نبدأ الحوار حتى تجيبني عن سؤالي ، وهو لماذا انضممتَ إلى الحزب وأنت تقول إنه ساقط . تنهد هاني ، وأغمض عينيه لبُرهة ، ورمى بصره في الموج المغادِر ، ثم قال : _ سأقول لكِ كلاماً لكنه ليس للنشر . ثم توقَّف عن الكلام ، حيث بدا أنه متردد بعض الشيء ، لكنه أجمع أمره ، وقال : _ كلنا في الحزب الشيوعي نعلم أن الله موجود . فالأمين العام للحزب اسمه عبد السَّلام ، فإذا كان مُلحداً حقاً فلماذ هو راض باسم عبد السلام . إننا انضممنا لتحقيق مصالح ذاتية وزيادة دخلنا وشهرتنا . فمثلاً محمود درويش وعبد الوهاب البياتي ما كانا سيصبحان شاعرَيْن مشهورَيْن لولا انضمامها للحزب الشيوعي . صحيحٌ أنهما شاعران من الدرجة العاشرة ، ولا يفقهان في الشِّعر الحقيقي شيئاً ، لكنهما استطاعا تحقيق شهرة كبيرة بسبب انتمائهما الحزبي . وكلامهما سيُرسلهما إلى الخلود في النار . وأنا أعرف أن نهايتي إلى جهنم إذا بقيت هكذا ، ولكنني أريد أن أُصبح مشهوراً ، وتكفيني الدنيا ولا شيء سواها . إن الله يُعطي الدنيا لمن يُحب ومن يَكره ، أما الآخرة فلا يُعطيها إلا لمن يُحب . تعجبت ديالا من هذا الكلام الذي تسمعه لأول مرة من هاني ، وقالت والدهشة تتلاعب بها وتحاصرها من كل الجهات : _ ماذا تستفيد إذا ربحتَ الدنيا وخسرتَ الآخرة ؟ . ضحك هاني وطوفان الهواء يتوغل بين فَكَّيه ، وقال : _ اسألي نفسكِ هذا السؤال ، فأنتِ تقضين حياتك في السُّكر والضياع ، وتمشين على حل شَعْرك. هل تستطيعين أن تمنعي مدير المحطة من التحرش بك ؟ . إنك تبيعين جسدك من أجل المال والشهرة ، وأنا أبيعه من أجل المال والشهرة . أنا وأنتِ حُثالة . لا ينبغي أن نُمَثِّل أدوار الشَّرف والأخلاق . هذه البلاد صارت مقبرتنا، لأننا بعناها لنشتريَ ملابس السباحة لنسائنا على الشطآن العارية ، في هذا الوطن الكل سيحترمكَ ما دمتَ تملك مالاً ، لذلك أنا بعتُ نفسي من أجل المال لكي يَحترمني الناس . أنا أعرف أنني غبي وتافه، وأنني آخر من يُنَظِّر في الأخلاق ، لكنني قرفتُ من نفسي كما قرفت ديانا من تشارلز . صُدمت بهذا الكلام الذي ضربَ أجزاءها كالإعصار . دارت بها الأرض . ضربتها أمواجُ الذاكرة الخادشة التي لا تَرحم . تناثرت خدودها على الرمال ، حيث يطبع السائحون وقع أحذيتهم الثقيلة . لقد أحسَّت أن مفاصلها قد تشققت أو اندثرت . تفجرت في حلقها مرارةٌ عمياء . أرادت أن ترميَ نفسها في البحر وتبكيَ في القاع ، فلا يرى دموعها إلا السمك أو الرمال . ساد البُقعةَ صمتٌ رهيب . وأطلق الاثنان نظرهما باتجاه الشمس التي بدت وكأنها تسقط في نهايات البحر الشاسعة . تجمَّعت في زوايا عينيها دموعٌ حَجرية تشبه حجارةَ مذبحٍ تُغتصَب في دهاليزه الراهباتُ البريئاتُ بلا شفقة . لكنها ليست راهبة بأي حال من الأحوال. إنها تمضي في شكوكها حول غاية وجودها . لو كانت بريئة لما أعطت لجسدها لونَ الرمال وعاشت بين شواهد القبور المتحركة التي لا تدل على ديانةِ صاحبها . هذه المرأة خليط من العَبثية والعَدمية ، ولكنْ ما الفرق بينهما ؟ . هي نفسها لا تعرف ، لكنها تمضي في طريق وعر موحش. هي خليطٌ من أفكار شتى . تَذَكَّرت في طفولتها كيف أن والدها ضربها لأنها ارتدت الحجاب مثل باقي تلميذات صَفِّها . تخيَّلت صورة والدها السِّكير على صفحة الموج وهو يصف ابنته بأنها مُعَقَّدة لأنها ارتدت الحجاب. ما زالت هذه الكلمة ترن في أُذنها ، وهذا جعل منها لا تستسيغ الحجاب. إنها قاتلةٌ وضحية في نفس الوقت . أما هاني فأخرج من جيبه الأفيون وراح يَشمه تارةً ، ويتذوقه تارةً . نظرت إليه ديالا متسائلة عن طبيعة هذه المادة : _ ما هذا الذي تشمه وتتذوقه ؟ . رد هاني بكل ثقة وبدون أدنى خجل : _ إنه أفيون . لم تُصَدِّق ديالا هذا الكلام ، وقالت : _ لا بد أنك تمزح . _ إنه أفيون ، فأنا لا أمزح في هذه المواضيع . استجمعت هذه المرأة الوحيدة أمام كل هذه الأمواج قوتها الوهمية ، وقالت بكل وقاحة : _ أريد أن أُجَرِّب ! . استغرب هاني من هذا الكلام ، لكنه قال بلهجة الشَّيطان الذي يتقمص دور الممرضة الطيبة : _ سأجعلك تُجَرِّبين لأنني أحبك ، فأنا وأنت قاتلان ومقتولان في الوقت نفسه، وكلانا ذاهبٌ إلى الدمار الحتمي . وابتسم ساخراً من نفسه كأنه يستعيد ذكرياتِ كل الأشباح التي مَرَّت على هذا الميناء المهجور. وناول رفيقته الأفيون . لأول مرةٍ تُمسك ديالا بالمخدرات . كان إحساساً مجنوناً عابثاً . تَذَوَّقَتْه فوجدتْ طعمه مُقرِفاً ، فألقته في البحر الذي يرتمي أمامها كالجدائل المنسية على أكتاف غجرية راحلة . ثار هاني بشراسة منقطعة النظير ، واستولت عليه نوبةُ جنونٍ عارمة ، وبدأ يصب الشتائم الجنسية على رأس ديالا ، وقال بعد أن فَرَّغ ما في جعبته من شتائم : _ ما الذي فعلتِه يا ساقطة ؟ . ردت بكل هدوء أعصاب وبسخرية لاذعة : _ لم أفعل شيئاً ، وإذا أردتَ المخدرات فارم نفسك وراءها في البحر إن كنتَ تعرف السباحة . إنها تعرف أنه يحسن السباحة، ولكنْ أرادت استفزازه بكل ما أُوتيت من حيل. أرادت أن تلعب به مثلما لعب بها في مرات كثيرة ماضية . اشتهت تعذيبَه ليشعر بجزء من الألم الذي تحس به، والذي تسبب به هذا الصديق الخائن من وجهة نظرها. تمقته وتحبه في آن معاً . لقد قلتُ لكم إنها كتلة متناقضات متحركة . جحظت عيناه بصورة هستيرية ، وأمسك بشَعْرها بشدة بالغة مما سبَّب لها ألماً فظيعاً . وارتمى عليها يضربها على وجهها . تارةً يضربها على خدها الأيمن ، وتارة على الأيسر . ثم بدأ يَنزع عنها ملابسَها . أحست بأنه يريد شيئاً آخر ، فقاومت بضراوة ولكنْ دون فائدة إذ كانت قوتها لا تسعفها على دفعه . أحست ديالا بحاجتها المجنونة والوقحة إلى الجنس . كل تلك الأحاسيس تكالبت عليها في ساعة نحس مستمرة ، فاستسلمت له ولانت أعضاؤها مثل نعجةٍ تُساق إلى المذبح اللذيذ وهي تضحك من كل قلبها لأنها استمرأت الذبح المتواصل . وعضَّها في أماكن حساسة من جسدها الذابح المذبوح ، كأنه يريد التنفيس عن سادية مكتشَفة للتو . أخذ منها كل ما يمكن للرَّجل أن يأخذه من المرأة ، ثم ارتمى إلى جانبها بعد أن خارت قواه . بقيا عَارِيَيْن تماماًَ على صخرة الجنون اللانهائية . بقيا كذلك لعدة دقائق قبل أن يقوما بارتداء ملابسهما . ارتدت ديالا ملابسها وعاودت الاستلقاء على تلك الصخرة الشاهدة على العار والخيانة ، وأغمضت عينيها كأنها تغرق في عُلبةِ سُباتٍ لا قعر لها ، وتكاثرت بعض الدموع الخفية في زوايا عينيها . بدأ ظهرها يؤلمها لأنها كانت مستلقية على صخرة ذات سطح بالغ الخشونة . انطبعت على ظهرها آثار شديدة بعض الشيء كأنها بصمات الشَّاهد على ذلك العمل . وآثار أسنانه الحادة على أجزاء مختلفة من لحمها المقلي باللعاب الكريه. ثم استجمعتْ قواها واقتحمت رملَ هذا الشاطئ حتى وصلتْ إلى البحر ، ورمت نفسها فيه بكامل ثيابها . تسللتْ إلى تفاصيل أعضائها الملوحة واللذة المتكوِّمة . إنها تغتسل لوحدها في هذا الزخم المائي العملاق . كم بحراً أحتاج حتى يغسلني من الخطايا ؟. سألتْ نفسها، لكنها أعرضت عن الإجابة حين أحست بمداعبة الموج لجسدها الممزَّق . أما هاني فقد انصرف من ذلك المكان مرتدياً كامل ملابسه وهو يشعر بحجم الكارثة التي أقدم عليها . بصراحة كانا يمارسان الجنس لأول مرة في تاريخهما. كان يمشي وهو يبكي بشكل متواصل ويمسح دموعه. اندفع إلى تلك الممارسة بكل شهوة المكبوتين جنسياً . كان يقول في نفسه إنه مجرم ، وكل من حوله مجرمون ، فالحكومة مجرمة، والشعب مجرم لأنه راض بتلك الحكومة التعيسة . هكذا كان يقول. وقد كان يُسَمِّي ما فعله جريمةً، لكنه أراد إيجاد برواز لتبرير فِعْلته . إنه بِفِعْلته تلك أراد أن ينتقم منها ويذلها . اعتقدَ أنه يُثبت عُلُوَّه عليها وأنها مجرد دمية في يديه يفعل بها ما يشاء ، وهي لا تملك أن تعترض . طوال حياته وهو ينظر إلى المرأة نظرة دونية ، ينظر إليها على أنها حيوان جنسي يجب امتطاؤه وترويضه وقهره ، لدرجة أنه قال لأمه ذات يوم بكل وقاحة إنها ممسحة لحذاء أبيه ، مجرد ممسحة ، وإن المرأة كالحِذاء يستبدله الرَّجلُ إذا ضاق على قدميه . فإذا كان هذا هو تعامله مع أمه ، فكيف سيكون تعامله مع باقي النساء ؟! . شعرت ديالا أن جسدها مفكَّك ، وأنها صارت تحمل في أحشائها كرةَ نارٍ تكبر تدريجياً. كل عضوٍ في جسمها صارة كرة نار . عيناها قنبلتان على وشك الانفجار. حدَّقتْ في السماء بينما هي على الصخرة مستلقية على ظهرها المشقَّق . في ذهنها تتكاثر الخناجرُ التي تمزق وجهها الراكض في التلاشي . تحسستْ وجهَها ففرحتْ أنه لا زال موجوداً . قامت ونفضت الغبار والأتربة عن ثيابها . وسارت على الشَّاطئ وحيدةً كرمال البحر البنفسجية . اختارتْ بقعةً ما وجلستْ وبدأتْ تكتب على رمل الشاطئ هذه العبارة : (( لقد أنقذتُ الكثيرين من الاكتئاب لكني لم أجد أحداً ينقذني منه )) . وما إن فرغت من كتابتها حتى هجم الموجُ على تلك الكتابة وأزالها كأنه يرفضها بكل حزم . إنها كتبتْ تلك العبارة لتجد مخرجاً لها من الأشياء التي ارْتَكَبَتْها . إنها تبحث عن مبرِّر تماماً كما فعل هاني . هكذا قاما بذلك الفِعل ، وراحا يبحثان عن شَمَّاعة يُعَلِّقان عليها ما قاما به. إنهما يرميان على الناس أخطاءهما من أجل أن يستمرا في المشي مثل كل الأشباح التي مرت على الميناء المهجور ثم رحلتْ عنه إلى الأبد . عاد هاني إلى الحانة التي يملكها والدُه . بدا وجهه غارقاً في شحوب صارخ . لاحظ أبوه منظر وجهه المنزوي ، فقال له : _ ما بك يا هاني ؟ أأنتَ مريض ؟ . _ لستُ مريضاً ، لكنني مُتعَب ، وسأدخل لأرتاح . ومضى الشاب إلى غرفة داخلية يُدخَل إليها من باب منزوي في إحدى زوايا الحانة. دخل إلى الغرفة فرآها خرساء كما تعود أن يراها. شَغَّل المروحة لأن الحرارة كانت عالية كقطعان غزلان طلَّقت المرتفعات المتجمدة وعاشت في الصحاري الملتهبة . ارتمى على السرير ، وزرع رأسه في المخدة كالنَّعامة ، وغرق في بكاء حارق . بدت الغرفة أضيق مما هي عليه في العادة ، كأن الحيطان تركض نحو حتفها لتُضَيِّق الخِناق على هذا الشخص الوحيد . مليون حائط يحيط به ولا يوجد أية نافذة يطل من خلالها على موته المتكرر كالشطآن الموبوءة . إنها الحيطان المحتوية على صور كارل ماركس ولينين وغيفارا وهو يُدَخِّن السِّيجار . وبعد أن أجال بصره في الصور المعلَّقة على الحيطان ، قال في نفسه : _ إن ثمن السِّيجار الذي تأخذونه مجاناً من عَرَق العمال كفيلٌ بإطعام عدة أُسر. إنكم تسرقون الفقراء باسم الدفاع عن الفقراء لتعيشوا كالأباطرة في صالات الرقص ، ولتعيش بناتكم كالأميرات في مسابح الخيانة الزوجية . إنكم تركبون سيارات فارهة ، وتسكنون في القصور المسيَّجة بمئات الحراس ، وتوزعون طاقتكم الجنسية بين زوجاتكم وعشيقاتكم ، وتُدَخِّنون ، وتشربون الويسكي مرتفع الثمن . وبعد كل هذا تسمون أنفسكم مدافعين عن الفقراء والعمال . والتفتَ يمنةً فرأى زجاجة كُنياك موضوعة إلى جانب السرير ، فأمسكَ بها ورماها على برواز صورة ماركس ، فانكسر الزجاج وتساقط على الأرض مُحدِثاً ضجة سمعها أبوه ، مما جعله يأتي مسرعاً ليرى ماذا يحدث . جاء الأب والخوف يأسر ملامحه بكل عنف ، فقد كان صوت تكسر الزجاج عالياً ومزعجاً . وعندما رأى الأب الزجاج المتناثر على الأرض سأل ابنه : _ ماذا حدث يا هاني ؟ . _ لا شيء يا أبي ، لكن زجاج البرواز انكسر . _ وكيف انكسر ؟! . قال هاني بلهجة الشخص الذي يريد أن يُنهيَ الحوار سريعاً : _ أرجوك يا أبي ، إنني مُتعَب لدرجة جنونية ، ولا طاقة لي بالحوار . وأردف قائلاً : _ وبالنسبة للزجاج فالآن سوف ألمه ، وأرميه في القمامة . وانتهى الحوار سريعاً مثل كل الأشياء التي تذهب إلى النهايات الصاعقة . وما إن فرغ هاني من كلامه حتى سمع أبوه أحدَ الزبائن يطلب مشروباً ، فذهب لكي يُقدِّم له حاجته . أما هاني فدخل الحمَّام لكي يغتسل . فتح الدوش فنزل الماء البارد الذي يقضم جِلْده بالمناشير . حتى الماء في هذا المكان يخنقه ويُحاصِره . هكذا كان شعوره النازل مع كل قطرة ماء تلمس جِلْده وتحرقه بالذكريات المحمَّلة في أكياس تنقلها القطارات الذاهبة إلى الاصطدام .