سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/12‏/2019

فشل السياسة المحصورة بين الرهائن والغنائم

فشل السياسة المحصورة بين الرهائن والغنائم

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................

     الفكرُ الاجتماعي لا يَنفصل عن منظومة المشاعر الفردية ، ولا ينفصل عن الإطار العملي للرموز المعرفية ، ومراحلِ تاريخ العقل الجمعي . وهذا الترابط المركزي المصيري يُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى وعاء حاضن لأحلام الناس وآمالهم ، مِمَّا يدل على أن الأنساق الاجتماعية تُمثِّل رُموزًا فكرية ذات مرجعيات نفسية عميقة،وضاربة جُذورها في كيان الفرد وبُنية المجتمع. ولا يُمكن اعتبار الأنساق الاجتماعية مُجرَّد تحوُّلات في بُنية التاريخ ، أو تغيُّرات في طبيعة الجُغرافيا ، لأن المجتمع لا يتحرَّك في الإطار المادي فَحَسْب ، بَل أيضًا يتحرَّك في الفضاء المعنوي غَير المَحسوس ، والذي يقوم على إفرازات الظواهر النفسية الداخلية المتجذرة في وَعْي الفرد وإحساسه بذاته ، وشُعوره بالعَالَم المُحيط به. وكُل فرد أثناء رحلته في الحياة يبتكر منهجه الخاص في التعامل مع الظواهر النفسية والحقائق الاجتماعية ، وهذا يَدفع باتِّجاه توليد تصوُّرات خُصوصية عن الأشياء والقِيَم والرموز والعلاقات التي تنتشر في المجتمع الإنساني ، وتتحكَّم باتِّجاه حركته ، وماهية أفكاره، وهُوِيَّة مساره، وشخصيته الاعتبارية . وتعدُّدُ التَّصَوُّرات واختلاف الأحكام ، لا يدل على تشظِّي المجتمع الإنساني وانفصام شخصيته وانكسار أحلامه ، وإنما يدل على تعدُّد زوايا الرؤية ، واختلاف وجهات النظر المُرتكز إلى اختلاف قُدرات الأفراد . لذلك تتعدَّد الأحكامُ حول الحقيقة الواحدة ، لأن كُل فرد يَراها بعَيْنه ، ويَحكم عليها وَفْق تصوُّره الشخصي . وكما أن المِرْآة واحدة ، والصُّوَر فيها مُختلفة تَبَعًا لاختلاف الأفراد الواقفين أمامها ، كذلك المجتمع الإنساني واحد ، ووجهات النظر مُتباينة بسبب تبايُن القُدرات العقلية للأفراد . وإذا لم تكن الصورةُ في المِرْآة جميلةً ، فإن المُشكلة في شخصية الفرد، ولَيست في طبيعة المِرآة .
2
     العلاقةُ الوثيقةُ بين أبعاد الوجود الإنساني ( الشُّعور ، الرَّمْز ، التاريخ ، الجُغرافيا ) هي الضمانة الأكيدة للحفاظ على إحساس الأفراد بالحقائق المعرفية والبُنى الاجتماعية ، ومَنع التعارض بين المُعطيات النفسية والعلاقات الاجتماعية . وكُلَّما اتَّجَهَ الشُّعورُ الإنساني إلى الرَّمْز الاجتماعي ، اتَّضَحَ منهج تفسير مصادر المعرفة في المجتمع الإنساني ، لأن الشُّعور والرَّمْز عابران للتَّجنيس ، ولا يَخضعان لعملية الأدلجة ، لذلك كانت القيم الأخلاقية المُطْلقَة _ التي تقوم على ثنائية الشُّعور والرَّمْز _ واحدةً في كُل المجتمعات ، رغم اختلاف العقائد والثقافات . فمثلًا ، إن الصِّدق والإخلاص والأمانة والاحترام ... إلخ ، قيم ثابتة في كل المجتمعات ، وتتمتَّع بسُلطة أخلاقية اعتبارية نابعة من العقل الجمعي ، ومُعْتَرَف بها في كُل الأوساط دُون الحاجة إلى عمليات أدلجة ، أو ضغط نفْسي ، أو إرهاب فكري . وهذه القيمُ مفروضة في أنساق المجتمعات بحُكم قُوَّتها الذاتية وماهيتها المُطْلَقة ، وليس بقرارات سياسية أو أحكام سُلطوية عُليا . وأكبرُ خطر يُهدِّد المنظومةَ الفكرية المُتكوِّنة مِن الشُّعور والرمز والقيم الأخلاق المُطْلَقة ، هو المصالح الشخصية الضَّيقة والنَّزوات الذاتية والرغبات الأنانية، لأنها تُحوِّل القيمَ المُطْلَقة إلى مُكوِّنات نِسبية ، وتُحوِّل العقائدَ الدينية إلى أيديولوجيات سياسية نفعية لحشد الناس واستغلالهم والسيطرة عليهم . وخطورةُ هذه العملية تتجلَّى في جَعْلِ اختلاف الآراء الفكرية صراعًا اجتماعيًّا دمويًّا ، وتحويلِ تعدُّد وجهات النظر إلى صِدَام دِيني مُرتكز إلى التناحر المذهبي والعصبية القَبَلِيَّة والعُنصرية العشائرية . وبعضُ الزُّعماء يرسم مُستقبله السياسي اعتمادًا على طائفته وقاعدته الانتخابية، دُون اعتبار لمركزية الوطن والشعب بكافة مُكوِّناته وشرائحه. وهذا يستلزم بالضرورة ترسيخ سياسة التَّحشيد والأدلجة ، وأخذ الطوائف رهائن لتوجُّهات بعض السياسيين ومصالحهم الشخصية . لذلك ، يُصبح الوطنُ مُجرَّد فندق للإقامة المُؤقَّتة بدون انتماء حقيقي . مِمَّا يُسبِّب اضطرابات اجتماعية ، وتفكُّكًا في النسيج الوطني، وانهيارًا شاملًا في مؤسسات الدَّولة. وفي ظل هذا السُّقوط المُريع،يَبرز تُجَّار الحروب، وزُعماء الطوائف ، وسماسرة الكوارث . وبعضُ السياسيين مُستعد للتَّضحية بطائفته كاملةً مُقابل الحفاظ على منصبه وامتيازاته ومُكتسباته الذاتية ومصالحه الشخصية ومنافعه المادية . وهكذا ، يختفي معنى الوطن، ويغيب من الأذهان، وتَحُل مكانه الحِزبية والطائفية والمذهبية . والسياسةُ _ أوَّلًا وأخيرًا _ هي وسيلة منطقية وأداة فكرية لتغيير الواقع إلى الأفضل ، وتسهيل حياة الناس ، وتحقيق أحلامهم . وكُل مجتمع يَنظر إلى السياسة مِن هذه الزاوية ، سيتقدَّم إلى الأمام ، ويَصهر المراحل في الطريق نحو الازدهار والرخاء الشامل . ولَيست السياسةُ أخذَ الطوائف رهائن للحصول على الغنائم ، وتحقيق منافع شخصية ، والمُتاجرة بأحلام الناس وآلامهم ومُعاناتهم ، كما يَفعل بعض السياسيين ، الذين يَدفعون بلادَهم إلى الهاوية ، وأبناءَ شعبهم إلى اليأس .  
3
     كُل أيديولوجية سياسية تُوظِّف الدِّينَ لتمزيق المجتمع ، وتقطيع أوصاله ، والتمييز ضِد أبنائه، مصيرها الفشل الحتمي والسُّقوط المُدوِّي . ومهما كان تُجَّارُ السياسة ماهرين في التَّوظيف السياسي للدِّين لتحقيق أهداف شخصية، والتلاعب بمشاعر الناس المذهبية ، ودَغْدغة عواطفهم الإيمانية ، إلا أنهم سيقعون في شر أعمالهم ، وينقلب السِّحْر على الساحر ، ومَن يَلعب بالنار تَحرِق أصابعَه ، كما أن دفن النار تحت الرماد ليس حَلًّا لعلاج الأزمات ، وكثرة الضغط تُولِّد الانفجارَ . وحتى لو بدا البُركانُ خامدًا ، فلا أحد يَعرِف موعد ثَورانه . وإذا ثَارَ سيحرق الأخضر واليابس. لذلك ، ينبغي إطفاء حِقد القُلوب بالعدل والمُساواة ، وإخماد الفِتَن النائمة نهائيًّا بإطلاق قطار التنمية الحقيقية الذي يتَّسع لجميع الناس ، وإشراكهم في مسيرة التَّقَدُّم والازدهار ، كَي يَنشغلوا بالتَّعمير لا التَّدمير ، والبناءِ لا الهدم . ونَفْسُكَ إن لم تَشْغلها بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل .

21‏/12‏/2019

السلوك الاجتماعي والفكر الإنساني

السلوك الاجتماعي والفكر الإنساني

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..................

     فلسفةُ السُّلوك الاجتماعي ليست ظاهرةً مَصلحية مَحصورة في الأُطُر المادية ، والسلوكُ الاجتماعي ليس فِعلًا روتينيًّا يوميًّا عابرًا، لأن أفعال الإنسان تنبع من قناعاته الداخلية والقيمِ الفكرية الرمزية المُسيطرة على مشاعره . وبعبارة أُخرى، إن أفعال الإنسان _ مهما بَدَت سطحية وساذجة وظاهرية وعَرَضِيَّة _ تنطلق من جوهر رمزي مركزي في داخل الإنسان ، وهذا هو المنبع الفكري الذي يُسيطر على روافد السُّلوك الاجتماعي، ويتحكَّم فيها ، كَمًّا ونَوْعًا، رُوحًا ومادةً. وكما أن فَلَتَات اللسان البسيطة تَكشف _ في الغالب الأعَم _ عن مُحتويات القلب ، كذلك الأفعال الإنسانية البسيطة تكشف عن أنساق ثقافة المجتمع، وطبيعةِ النظام الاجتماعي المُسيطر على القيم الفردية والجماعية . والإنسانُ أوَّلًا وأخيرًا هو ابن بيئته ، ونتاج عَصْره .
2
     لا يُمكن إنكار تأثير العقل الجَمْعي في ثقافة الفرد ومبادئه وقناعاته ، ولا يُمكن تجاهُل الإحساس الإنساني بإفرازات الشُّعور العام في المجتمع . وهاتان المُسَلَّمَتَان تُجسِّدان الأساسَ الفلسفي لمنظومة الوَعْي والوَعْي المُضاد. ومهما كان الإنسانُ قويًّا ، لا يَستطيع الإفلات مِن سَطوة المكان ( بمعنى الذِّكريات المُتمركزة في الذهن ، وليس التضاريس الجُغرافية ) ، كما أنه لا يَستطيع الخُروج مِن جِلْده ، والقفز في الفراغ ، تمامًا كالسَّمكة التي لا تَستطيع الخُروج مِن البحر ، والقفز على اليابسة. وهذه البُنية الإنسانية المحصورة في إطار الزمان وحَيِّز المكان،تُنشِئ وَعْيًا خاصًّا بها، يتماهى مع ذاتية الإنسان كبُنية اعتبارية مُستقلة نسبيًّا ، ويندمج مع مصالحه الشخصية ضمن التيار العام في المجتمع . وفي نفْس الوقت ، يَنشأ وَعْي مُضاد ناتج عَن العقبات الاجتماعية في طريق الإبداع الشخصي للإنسان . وهذا الوَعْيَان الجُزئي ( الفردي ) والكُلِّي ( الجماعي ) سَيَصطدمان عندما تتناقض مصلحةُ الفرد معَ مصلحة الجماعة، وتُصبح الحُرِّيةُ الفردية تهديدًا لوُجود المجتمع . وبالتأكيد ، لا تُوجد حُرِّية مُطْلَقة في الأنساق الاجتماعية، ولا يُمكن ترك الحبل على الغارب . والحُرِّيةُ المُطْلَقة هي الفَوضى الشاملة. وهذا الأمر يَدفع باتجاه بناء حُرِّية الإنسان النِّسبية على قاعدة العمل الجماعي لتحرير المجتمع مِن الأمراض الروحية ، والخَوفِ مِن المُستقبل ، وتَطهيرِ الفكر الاجتماعي مِن الاتِّكالية ، والسَّلبية ، وجَلْد الذات ، وانتظار الخَلاص والحُلولِ السِّحرية ، والبحثِ العبثي عن مُجتمع مثالي . وإذا أدركَ الإنسانُ أن حُرِّيته الحقيقية تعني أن يَبدأ فَوْرًا بإصلاح نفْسه، ويَقتلع شَوْكَه بيده، ولا يضع أخطاءه على الآخرين، ولا ينتظر مجيء أحد ليُساعده، فإن المُجتمعُ _ عِندئذ _ سيُصبح مُتَقَدِّمًا ، بدون صِدام بين وَعْي الفرد ووَعْي الجماعة ، وبدون نزاع بين الحُلم الجُزئي والمصلحة الكُلِّية . ولا يُمكن للإنسان أن يَحصل على حُجرة هادئة ومُريحة في سفينة تغرق ، وهذا يعني وُجوب تحويل الحُلم الإنساني إلى مشروع للنهضة الجماعية. ومِن غَير المَعقول حُصول صِدام بين الإنسان ومُجتمعه ، إذا تَكَرَّسَت النَّهضةُ كحُلم جماعي يُوازن بين الرُّوح والمادة ، وإذا صارت فلسفةُ السُّلوك الاجتماعي سفينةَ نجاةٍ تتَّسع للجميع ، لأنه عندئذ لن يخاف الإنسانُ مِن المجتمع ، ولن يَشُكَّ المجتمعُ في الإنسان ، وهذا يعني الوصول إلى حالة السلام الرُّوحي، والسِّلْم الاجتماعي، والمُصالحة الداخلية، ولن يخاف البَحَّارَةُ مِن بعضهم البعض، ولن يُوجِّهوا جُهودهم لتدمير أنفسهم، وإغراق السفينة، لأنهم أمام خطر واحد يُهدِّد حياتهم جميعًا، وهو مَوج البحر . وإذا تَكَرَّسَ الخَطَرُ كتهديد وُجودي شامل وعام ، اتَّحدت الجُهودُ لمُواجهته ، والتَّصَدِّي له .
3
     إن كَينونة السُّلوك الاجتماعي نتاج لتفاعُل الفكر الإنساني مع الجَوْهَر ( حقيقة الوُجود ) . والوُجودُ الإنساني لا يتم تحليله إلا مِن خلال خصائص الثقافة الاجتماعية ورُموزِ الظواهر العقلية . وإذا تَمَكَّنَ المجتمعُ مِن التفريق بين الخصائص والرموز في أنساقه، وصناعة توازُن منطقي بين الفاعلية الذهنية والدافعية الواقعية، ومعرفة الحدود الفاصلة بين العناصر الوجدانية والتراكيب العملية، استطاعَ النُّهوضَ ، والانطلاق إلى الأمام . وعمليةُ النهضة لا معنى لها إذا انفصلت عن قيمة الانطلاق ، لأن النهضة لَيست مقصودة لذاتها ، وأهميتها تتجلَّى في كَوْنها مرحلة أساسية لصناعة الوَعْي بأهمية الانطلاق . وإذا صار الوَعْيُ ثقافةً اجتماعيةً عامَّةً ، انطلقَ المجتمع إلى أحلامه ، وتَجَاوَزَ حاضرَه ، وتَقَدَّمَ إلى المُستقبل ، بدون خَوف ولا تردُّد . وكما أن الخَوف يَشُلُّ قُدرةَ الإنسان على التفكير،كذلك يَشُلُّ قُدرةَ المجتمع على الانطلاق واقتحام المُستقبل .
4
     لا يَستطيع الإنسانُ أن يَلعب دَور البطولة على خشبة مَسرح الحياة ، إلا بعد خُروجه مِن الكواليس وإزاحة السِّتار الفاصل بينه وبين الناس، ومُواجهتهم . وهذه المُوَاجَهَة ضرورية ، لأنها تُمثِّل لحظةَ الحقيقة، وتُجسِّد عمليةَ صناعة الحَدَث . وكُل حَدَثٍ منطقي هو نظام مِن العلاقات الفكرية ، التي تُشكِّل إيقاعًا اجتماعيًّا واعيًا، يَربط بين القواعد التفسيرية للمعنى الإنساني وطبيعةِ الإنسان بكل تناقضاتها. وقُوَّةُ النظام الاجتماعي لا تتجلَّى في مَنْع تَشَظِّي الأنساق الإنسانية ، وإنَّما في السَّيطرة على الشظايا، لأن التَّشَظِّي لا بُد مِنه.وأيضًا، إن المجتمع المُنظَّم ليس الذي يَخلو من عناصر الفوضى، وإنَّما الذي يُسيطر على عناصر الفوضى،ويجد لها مكانًا ضِمن آلِيَّة البناء الاجتماعي رُوحيًّا وماديًّا .

14‏/12‏/2019

تحقيق الحلم الإنساني في المجتمع الاستهلاكي

تحقيق الحلم الإنساني في المجتمع الاستهلاكي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.............

     إن الحُلم الحقيقي في حياة الإنسان ليس الذي يراه في المَنام ، وإنما الذي يراه في الواقع . والحُلم منظومة اجتماعية تُفسِّر القيمَ المعرفية ، وتستمد شرعيتها وجَدْواها مِن تكريس العلاقة بين قُدرة الفرد على الإبداع ، وقُدرةِ المجتمع على احتضان إبداع الفرد . وإذا تكرَّسَ الحُلم في المجتمع كبُنية مركزية، فإن التفاعل بين الأنا والكُل سيغدو ظاهرةً فلسفية عامَّة ، تمنع انقلابَ المعنى الإنساني على التطبيقات الاجتماعية ، وتَحْمي المعنى الإنساني مِن إفرازات النظام الاستهلاكي المادي المُغلَق ، الذي يَقتل رُوحَ الإنسان ، ويُحوِّله إلى كَوْمة شظايا مُتناثرة في صخب الحياة اليومية ، وتائهة في ضجيجِ الأحلام الضائعة والآمال المقتولة .
2
     كُل حُلم إنساني هو بالضرورة سُلطة معرفية ، تَقتل الوهمَ ، وتُحيي الأملَ . وهذا الدَّور المِحْوَري للحُلم الإنساني ينبغي أن يُوظَّف للكشف عن الآمال المقتولة في داخل النَّفْس البشرية، لأن الإنسان _ في أثناء سَيْره في تفاصيل الحياة _ يَخسر كثيرًا مِن أحلامه وذِكرياته ، وتَموت فيه كثيرٌ مِن القِيَم والمبادئ . ومِن أجل إعادة إنسانية الإنسان إلى قيمة المعنى ، والإحساسِ بالوَعْي البَنَّاء ، ينبغي عَقْد مُصالحة بين الإنسان وذاته ، والوصول إلى حالة من السلام الداخلي ، قبل البحث عن السلام مع عناصر الطبيعة ، ومُكوِّنات البُنى الاجتماعية ، والتصالح معها .
3
     أسوأ كابوس يُمكن أن يحصل في المجتمع الإنساني ، هو تحوُّل الإنسان إلى مقبرة مُتَنَقِّلة ، ومدفن للآمال والطموحات والأحلام ، وهذا هو الموت في الحياة ، الذي يجعل الإنسان ظِلًّا باهتًا للذكريات المُتَوَحِّشَة والماضي المُوحِش والحاضر القاسي والمستقبل المجهول. وللإبقاء على شُعلة الحياة في قلب الإنسان بدون انطفاء ، ينبغي تسخير القيم الاجتماعية المعرفية من أجل تأسيس الذات الإنسانية كحالة مِن الوَعْي المنهجي ، الذي يربط بين السلام الروحي الداخلي والتوازن الاجتماعي الخارجي. وهذا يُمثِّل ضمانة أكيدة لمنع انحراف القطار الإنساني عن السِّكة الاجتماعية . ويجب على الإنسان _ أثناء رحلته في هذه الحياة _ أن يَستوعب العناصرَ الفكرية في مُحيطه الداخلي وبيئته الخارجية ، تمامًا كالرُّبَّان الذي يجب عليه   _ لضمان إبحار السفينة بشكل آمِن _ أن يَستوعب حركةَ المياه في البحر ، واحتمالية دُخول المياه إلى داخل السفينة ، لأن هذا يعني الغرق الأكيد والهلاك الحتمي . وإذا عُرِفَ الشَّر مُسْبَقًا ، يُمكن الوقاية مِنه بسهولة .
4
     إذا أُجْبِر الإنسان على السَّير في حقل ألغام ، فينبغي أن يُحافظ على هُدوئه واتِّزانه وتركيزه ، ويبتعد عن نَدْب حَظِّه ، أو لَوْم الظروف ، أو شتم الألغام ، لأن هذه أفعال طائشة لا فائدة مِنها ، وهي تستنزف جُهدَ الإنسان ، وتسرق إمكانياته الذهنية ، وتَسلِب قُدرته على التَّحَرُّك والمُرَاوَغَة . ولا يَقْدِر الإنسانُ على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح ، إلا إذا امتلكَ مشاعره ، وسيطرَ على عواطفه . وإذا انتشرَ الهدوءُ كحالة وجدانية واعية في داخل الإنسان ، استطاعَ السيطرةَ على العناصر الخارجية . وإن السَّباح في عُرض البحر ، ليس أمامه إلا مُواصلة السِّباحة كخيار وحيد ، وإذا خاف أو ارتبكَ غَرِقَ ، والتَّقَدُّمُ إلى الأمام أسهل مِن العَودة إلى الوراء ، لأن الشاطئ الذي انطلقَ مِنه السَّباح صار بعيدًا جِدًّا عنه ، ولا يُمكن العَودة إلى الخَلْف ، وعقاربُ الساعة لا ترجع إلى الوراء. والحَلُّ الوحيد هو مُقَاوَمَة الأمواج حتى الوصول إلى بَر الأمان. والدربُ الموصل إلى الغاية النبيلة شاق ، والطريق إلى قِمَّة الجبل لا بُد أن يكون صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر، ولكنَّ لَذَّة الوُصول تُنسِي الإنسانَ عذابَ الطريق ، والانتصار الحقيقي هو انتصار الإنسان على نفْسه ، والتَّفَوُّق عليها ، وتجاوزها .

07‏/12‏/2019

رحلة البحث عن الخلاص الجماعي

رحلة البحث عن الخلاص الجماعي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..............

     إن الأفكار الاجتماعية مِلكية عامة ، وليست مشروعًا شخصيًّا احتكاريًّا . وهذه الأفكار تُمثِّل حصيلةً معرفية نابعة من العقل الجمعي وتجاربِ الأمم والشعوب على مدار التاريخ . والأفكارُ تيارات ذهنية وإفرازات وجدانية عابرة للأزمنة والأمكنة ، ولا يُمكن تجنيسها والسيطرة على عملية تفجُّرها وانطلاقها ، لأن الأفكار تسبح في داخل الإنسان، وتتناثر في الذهن البشري كالشظايا ، وتنطلق في كل الاتجاهات، لذلك كان من المُستحيل حصر إبداعات العقل البشري في أنساق التاريخ وطبيعة الجُغرافيا . والسؤالُ الذي يَطرح نَفْسَه في هذا السياق : ما فائدةُ الأفكار إذا كُنَّا عاجزين عَن السيطرة عَلَيها ؟ . إن الأفكار تطير في الذهن كما تطير العصافيرُ في الفضاء . والحلُّ الوحيد للسيطرة على العصافير هو الإمساك بها ، وإدخالها إلى القفص. وهذا المبدأ يجب تطبيقه في عَالَم الأفكار القائم على الخيالاتِ الهُلامية ، والتَّصَوُّراتِ الذهنية ، والشظايا العقلية المُتناثرة . ينبغي إدخال الأفكار إلى حُدود الحياة العملية ، وإخراج البُنى العقلية مِن الذهنية غير المحسوسة إلى الواقع المحسوس، مِمَّا يؤدِّي بالضرورة إلى صناعة تطبيقات حقيقية فعَّالة ذات تماس مباشر مع حياة الفرد وطبيعة المجتمع . وصُورةُ الإنسان مهما كانت جميلةً في المِرْآة، تظل مُجرَّد صورة محصورة في إطار ضيِّق ، والعِبرةُ كامنة في الأصل، والتَّعويل إنما يكون على الشكل الحقيقي للإنسان على أرض الواقع ، خارج نفوذ المرايا والإضاءة والمُؤثِّرات البصرية وزوايا الرؤية . والأمرُ ينطبق على عوالم الإنسان الذهنية، والأفكار مهما كانت جميلة ، تظل مُجرَّد إفرازات ذهنية هُلامية سابحة في فضاء العقل، والعِبرة كامنة في تجسيدها على هيئة كيانات واقعية ومشاريع محسوسة.
2
     يُمثِّل مبدأ نقل الأفكار الخيالية إلى أرض الواقع مشروعًا لخلاص الفرد من مأزقه الحياتي ، ونجاةِ المجتمع من أزمته الوجودية . ولكن الأمر ليس بهذه السهولة ، لأن هناك عوائق معنوية ومادية في طريق تحويل الأفكار إلى واقع مُعاش.ومن أبرز هذه العوائق أن يَشعر الفردُ بالغُربة عن نَفْسه ، والاغترابِ عن مُجتمعه ، معَ أنه عائش في قلب مُحيطه وبيئته ، وهذه الثنائية الصادمة ( الغُربة / الاغتراب ) تَجعل الإنسانَ يَنكمش على ذاته ، وينسحب من الحياة العامة ، ويَتَقَوْقَع على أحلامه الشخصية ، بحثًا عن مصلحة شخصية وخَلاص فردي ، مِمَّا يُشكِّل تهديدًا على وَحدة المجتمع وتجانسه وتماسكه ، لأن فلسفة الخلاص الفردي تعني أن الفرد يُريد القفزَ مِن السفينة ، للبحث عن النجاة الشخصية ، وترك السفينة ومَن فِيها لمُواجَهة مصيرهم . وهذه الفلسفةُ خطرة وغير مضمونة النتائج ، لأن الفرد إذا قفز من السفينة في عُرض البحر ، لن يتمكَّن من السباحة إلى شاطئ الأمان ، بسبب بُعد المسافة ، وتلاطم الأمواج ، وطاقته المحدودة على السباحة . والشاطئُ إذا كان بعيدًا ، فليس مِن الذكاء أن يثق الإنسانُ بقدرته على السباحة، ولا يوجد عاقل يُعرِّض نَفْسَه لامتحان صعب ، مهما كان واثقًا مِن قُدرته العقلية وقُوَّته البدنية، لأنه _ ببساطة _ قد يَسقط في الامتحان . وكما يُقال في المثل الشعبي : (( المَيَّة تُكذِّب الغطَّاس )) . وأفضل علاج لأزمة الإنسان الوجودية، هو أن يبقى مع مُجتمعه في السفينة ، ويُحاول الجميعُ إصلاحَها بشتَّى الوسائل ، وتحصين الجبهة الداخلية عن طريق منع وصول الماء إلى داخل السفينة . والسفينةُ لا تَغرِق مِن مياه البحر العظيمة ، ولكنها تَغرِق إذا تَسَلَّلَت المياهُ إلى داخلها . والتعاونُ الجماعي لتحصين السفينة يُحقِّق مَصالح الكُل، ويَضمن النَّجَاةَ للجميع، فيختفي الصراع بين الفائز والخاسر، لأن الجميع سيكونون فائزين. ومهما كانت السفينةُ قديمة ومُهترئة ، فإن قضاء العُمر في إصلاحها أفضل مِن أن يُصبح الإنسانُ طعامًا للأسماك ، ويذهب إلى النسيان في أعماق البحر . وإن الوقت الذي يأخذه الإنسانُ لتبرير أخطائه ، أو نَدْب حَظِّه ، أو التباكي على حياته ، أو جَلْد ذاته ومجتمعه ، أو شَرْعنة تعاسته ، يَكفي لإصلاح أخطائه ، والمُساهمة في علاج أزمات المجتمع ، والتَّقَدُّم إلى الأمام ، وَفْق الإمكانيات المُتَوَفِّرة والظروف المُتاحة . وإذا وَجد الإنسانُ الطريقَ مَسدودًا ، فعليه أن يَبحث عن طريق آخَر ، ولا يُضيِّع وقته في البكاء على الأطلال . والحياةُ رحلة بحث طويلة حتى اكتشاف الطريق الصحيح . والمُحاولة بحد ذاتها إنجاز.
3
     على الإنسان أن يبدأ مسيرةَ الإصلاح والتطوير بما يَملك مِن إمكانيات وقُدرات، حتى لو كانت ضئيلة وبسيطة . وكما أن رَجل الأعمال الناجح يبدأ مشروعه التجاري بما يَملِك مِن مال ، ولا يَنتظر حتى يُصبح مليونيرًا ليتحرَّك ، كذلك المُصلِح الاجتماعي يبدأ مشروعه الاجتماعي بما لَدَيه من أفكار وتصوُّرات ، ولا يَنتظر أن يُصبح فَيلسوفًا ، أو يُصبح المجتمعُ مثاليًا وخاليًا مِن العُيوب . ووظيفةُ الطبيب علاج المرضى لا علاج الأصِحَّاء ، ومُحاربة المرض ، وليس مُحاربة المريض . وهذا المبدأ الإنساني هو أساس العلوم الاجتماعية .

30‏/11‏/2019

النظام الاجتماعي بين الفردية والإنسانية

النظام الاجتماعي بين الفردية والإنسانية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

............

     تُشكِّل السياقاتُ المعرفية في النظام الاجتماعي صياغةً مُتجددة لعلاقة الفرد مع نفْسه ، ضمن مُحيطه الإنساني وبيئته الوجودية. وكُل نظام اجتماعي لا يمكن أن يستمر إلا إذا تركَّزَ عُنصرُ التَّجَدُّد في نواته المركزية ، لأن التَّجَدُّد هو الضمانة الأكيدة لمنع الجمود والانغلاق ، وبالتالي ضمان جريان الماء تحت جُسور المعرفة ، ولا شَك أن سُكون الماء يَجعله آسِنًا . والحَلُّ الوحيد يتجلَّى في الحركة المُستمرة في الاتجاه الصحيح ، ولا فائدة مِن سُرعة القِطار إذا كان سائرًا في الطريق الخاطئ ، كما أن التَّجَدُّد هو العامل الثقافي القادر على إحداث توازن بين سُلطة المعرفة وسياسة الحداثة، التي تقوم على الإبداع الذاتي ، وليس تقليد الآخرين ، واستيراد النظريات مِنهُم . وكُل حداثة لا تنبع من الذات ، ستسقط لا مَحَالة ، لأن مصير الأقنعة السُّقوط ، وسوفَ يَنكشف الوجهُ الحقيقي في يوم مِن الأيام. لذلك، ينبغي أن يكون التَّعويلُ على تَجميل المجتمع بالإنجازات الحقيقية على أرض الواقع ، وليس باستخدام عمليات التجميل ، أو انتهاج أسلوب التَّرقيع ، ودفنِ النار تحت الرماد. وكما أن جَمال الشجرة الحقيقي ينبع من جَودة ثمرها ، وليس شكلها الخارجي، كذلك جَمال المجتمع الحقيقي يَنبع من إبداع أفراده ، وليس أشكالهم وملابسهم .
2
     إن تكوين علاقة منطقية بين قُدرة الأفراد على الإبداع، وبين قِيَمِ المجتمع الإنساني ، يُمثِّل تَحَدِّيًا حقيقيًّا، وامتحانًا لضمير المجتمع. ففي كُل مجتمع أعداء للنجاح،وفي كُل بيئة سياسية قوى شَد عَكسي ، تُحارب الإبداع والحداثة والتجديد ، حِفاظًا على مصالحها الشخصية وامتيازاتها الذاتية. وإذا أردنا أن يسير قِطارُ المجتمع على السِّكة بأمن وأمان، فينبغي إزالة العقبات مِن طريقه، وحَمْل جميع الرُّكاب في القِطار، لئلا يَشعر أحدُهم أنه مَنبوذ أو مُهمَّش أو مرفوض.وإذا شَعَرَ الرُّكابُ أن القِطار يُحقِّق مصالحهم جميعًا، ويُوصلهم إلى أهدافهم، فسوفَ يُدافعونه عنه، ويَعتبرونه جُزْءًا مِن نسيج حياتهم وأفكارهم وحاضرهم ومُستقبلهم،لا يُمكن الاستغناء عنه،ولا الاعتداء عليه. وهذا يدل على أهمية الحاضنة الشعبية في تبنِّي الأفكار ، وتطبيقها بشكل صحيح. وتحقيقُ هذا الحُلم لا يتأتَّى إلا باختيار القرار الصحيح في التَّوقيت الصحيح ، ولا أحد يستطيع أن يتجاوز طبيعة الزمن ، أو يَقفز على عُنصر الوقت ، لأن الفرد يتحرَّك في قالب محصور ، وصيغة زمنية محدودة ذات خصائص مُعيَّنة ، يجب أخذها في الاعتبار ، لحماية الفرد مِن السقوط في الفراغ ، ومنعِ المجتمع من القفز في المجهول .
3
    
     كُلُّ الإنجازات المادية في طبيعة النظام الاجتماعي ، هي انعكاس للمشاعر الإنسانية الفردية ، وإفراز للأحاسيس البشرية الجماعية . والعواطفُ الوجدانية لَيست خيالات هُلامية ، أو جُزءًا من الرفاهية الرومانسية الحالمة . إن هذه العواطف تُجسِّد شرعيةَ الوجود الإنساني في الإطار المكاني والحيِّز الزماني ، وهي سُلطة معرفية اعتبارية ، تَمنح الفردَ مشروعيته الوجودية ، وتَصنع التحولات الاجتماعية . وكما أن القَلْب مَلِك الجوارح وزعيم الأعضاء ، وليس مُجرَّد كلمة في أغنية عاطفية ، كذلك العواطف الوجدانية ، هي مَلِكة الحَراك الاجتماعي ، وزعيمة السُّلطة الشُّعورية المركزية الفردية ، ذات الامتدادات في تفاصيل بُنية المجتمع ، وقواعدِ السُّلوك الفردي .
4
     الفردُ لَيس كُتلة أسمنتية ، ولا آلة بيولوجية للأكل والشُّرب والتكاثر . إن الفرد كيان اجتماعي سياسي قائم بذاته ، وهو صانع سياسات ذهنية وواقعية ، بغض النظر عن مُستواه العِلمي والثقافي. وكُل فرد في الحياة له سياسته الخاصة ، التي تنعكس على سُلوك وتعامله مع الناس وعناصرِ الطبيعة ، وهذا لا يَعني أنه صار سياسيًّا . وكُل فرد في الوجود له فلسفته الخاصة ، التي تنعكس على تصوُّراته الفكرية وقناعاته الحياتية ، وهذا لا يعني أنه صار فَيلسوفًا . وهناك فرق واضح بين السياسة كإجراء واقعي لَحْظي ومُمارسة يومية ، وبين السياسات كتخطيط للحاضر والمستقبل . وهناك فرق جوهري بين الفلسفة كنظام تفكيري عقلاني تجريدي ، وبين الفلسفات كقواعد للسلوك الإنساني ومبادئ للتعامل مع  الآخرين .
5
     إن سَعْي الفرد الدؤوب نحو صناعة حُلمه الشخصي ، والمُساهمةِ في تحقيق آمال المجتمع وطُموحاته، يُؤدِّي _ مع مرور الوقت _ إلى تحوُّل حُلم الفرد إلى مشروع لخلاص المجتمع ، وانتشاله مِن مأزقه الوجودي ، وكُل جُزء إذا وُضِع في مكانه الصحيح ، سَيَتَحَوَّل إلى منظومة جماعية مركزية لا غِنى عَنها . وقيمةُ الأشياء لا تتحدَّد حَسَب حَجمها ، وإنما تتحدَّد حَسَب السياق الذي وَردت فِيه. والكلمةُ لا تملك تأثيرًا فعليًّا إلا ضِمن الجُملة اللغوية والسياق العام للكلام . ولا يمكن معرفة قيمة البُرغي إلا مِن خلال مَوقعه ودَوره في الآلة الميكانيكية . والكُلُّ يَمنح الشرعيةَ والأهميةَ للجُزء ، والجُزء يَمنح الإضافة النَّوعية اللازمة للكُل . وهذه المنظومة الفلسفية ( الجُزء / الكُل ) القائمة على المنفعة المتبادلة ، لتحقيق المصلحة المشتركة العُليا ، تنقل الفردَ مِن فَرْديته إلى إنسانيته. أي إن الفرد مِن خلال بحثه عن معنى وجوده وجَدوى حياته ، وإسهامه في نهضة مجتمعه ، وصناعة حاضره ومستقبله ، والنهوض بالحضارة الإنسانية والمدنية العالمية ، يُصبح إنسانًا ذا موقع مركزي على خارطة الإبداع ، وذا بصمة مؤثِّرة في تاريخ الحضارة والمدنية . وهذا يُشير إلى أن الفَرْدية خُطوة في طريق الوصول إلى الإنسانية ، كما أن المَحَلِّية خُطوة في طريق الوصول إلى العالمية . وبعبارة أُخرى ، كُل إنسان فرد ، وليس كُل فرد إنسانًا . وكُل عَالَمِيٍّ مَحَلِّيٌّ ، وليس كُل مَحَلِّيٍّ عالميًّا .

23‏/11‏/2019

البنى الاجتماعية والسيطرة على عنصر المفاجأة

البنى الاجتماعية والسيطرة على عنصر المفاجأة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...............

1

     إن تحليل النُّظم الرمزية في البُنى الاجتماعية ضروري من أجل فهم التغيرات النفسية للأفراد، واستيعابِ السلوكيات المُتقلِّبة للمُجتمعات الإنسانية. ولا يُمكن فهم حركة الأفكار والمشاعر في النَّسق الاجتماعي العام،إلا بفهم الأساس الفكري لهذا النسق . وإذا أردنا فهم الطبيعة النفسية للإنسان، لا بُد من العودة إلى طُفولته وتحليلها . وإذا أردنا معرفة طبيعة الشجرة ، لا بُد من العودة إلى جُذورها ودراستها . وهذا يدل على الترابط الحَتمي بين الماضي والحاضر ، باعتبارهما كيانًا واحدًا مُتَّصِلًا ، وصيغةً رمزية فلسفية ، وكُتلةً اجتماعية مُترابطة ومُتشابكة ، وليس مرحلتَيْن مُنفصلتَيْن زمانًا ومكانًا .
2
     الماضي لا يَمضي . هذه حقيقة فلسفية لها تطبيقات على أرض الواقع ، تتعلَّق بعودة الإنسان إلى مَاضيه وجُذوره ، من أجل فهم حاضره . وكُل شخص وَصل إلى البَيت ، ينبغي ألا يَحصر تفكيره بين جُدران البَيت ، لأن هذا يدل على قِصَر النظر ، وعدم رؤية الأشياء مِن كل الزوايا. والواجب عليه أن يَنشغل بالطريق المُوصل إلى البيت، ويُفكِّر في طبيعة المسار الذي أوصله إلى هدفه ، والعلاقة بين الوسيلة والغاية ، والسبب والنتيجة . والبيتُ مكان الراحة والهدوء والاستقرار، في حين أن الطريق مكان التعب والمَشَقَّة والحركة . والإنسانُ الواعي يَقضي وقته لإيجاد حُلول للمشكلات ، وعلاج الأزمات ، ومُواجهة التحديات ، ولا يَقضي وقته في تحصيل الحاصل ، والتفكيرِ بالأشياء المضمونة الجاهزة . وبعبارة أُخرى ، إن الوعي الإنساني والجُهد العقلي يجب أن يتم تركيزهما على الأشياء المطلوبة لا الأشياء المضمونة .
3
     الطالبُ الناجح يَحصر تفكيره في الإجابة عن أسئلة الامتحان بشكل صحيح ، ولا يُضيِّع وقته في التفكير بالنتيجة وما بعد الامتحان . والقائدُ العسكري الناجح يَسعى إلى الانتصار في المعركة، ولا يُفكِّر في الأوسمة العسكرية وأكاليل الغار . والأديبُ المُبْدِع يُفكِّر في صناعة نَص لُغوي باهر ومُدْهِش، ولا يُفكِّر في الجوائز الأدبية وقيمتها المالية . والصَّيادُ الماهرُ يَنظر إلى الفريسة البعيدة عنه ، ولا يُفكِّر بالفريسة الواقعة في يده .
4
     المشكلةُ المنتشرة في المجتمعات الإنسانية ، هي استعجال الأشياء قبل أوانها ، لأن الإنسان كائن محدود القُدرات ، قصير النظر ، يَمَلُّ بسُرعة ، ولا يَملك نَفَسًا طويلة ، ولا يُتقِن الطبخَ على نار هادئة ، ولا يُريد التخطيط على المدى البعيد. والتَّسَرُّعُ والعَجَلَةُ صِفتان لازمتان للإنسان. إنه يُريد كُلَّ شيء بضربة واحدة ، وَيَنسى أن الحياة سباق مسافات طويلة ، وينبغي توزيع الجُهد الروحي والطاقة الجسدية على المسافة كُلِّها ، ومَن يَضحك أخيرًا يَضحك كثيرًا. والمُباراة تنتهي معَ صَفَّارة الحَكَم. وكَم مِن فريق افتتحَ التسجيلَ في المُباراة، وفرح اللاعبون ، ثُمَّ خسروا المُباراة . وكَم مِن شَخص ضَحِكَ في البداية ، وبَكى في النهاية . وكَم مِن قائد انتصرَ في معركة ، وخَسِرَ الحربَ . وهذه التحديات التي تمتاز بالتغيُّرات والتقلُّبات ، يُمكن السَّيطرة عليها إذا تَمَّت السيطرة على عُنصر المفاجأة القاتل ، وهذا لا يتأتَّى إلا بحساب احتمالات الربح والخسارة معًا ، ووضع خُطَط عملية للتعامل معَ حالة الانتصار وحالة الهزيمة . وعندئذ ، لا يُصاب الإنسان بخَيبة الأمل ، ولا تنزل الأحداثُ على رأسه كالصاعقة، ولا يُباغته عُنصرُ المُفاجأة الذي قَد يَقضي عَلَيه، ويُحطِّمه، ويُسبِّب له الانهيار . والوعيُ الإنساني الفعَّال ، لا يَترك شيئًا للمُصادَفة أو المُفاجأة ، فكل شيء مَحسوب ومدروس ومُسَيْطَر عَلَيه، وهناك خُطَّة أساسية، وخُطَّة بديلة لحالات الطوارئ ، وهناك تشكيلة أساسية ، وتشكيلة احتياط ، للتعامل مع كافة المواقف وجميع الحالات . والعاقلُ يُقَاتِل مِن أجل كُل شيء ، ولا يتوقَّع أيَّ شيء .

إدغار رايس بوروس وشخصية طرزان

إدغار رايس بوروس وشخصية طرزان

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..........

     وُلد الكاتب إدغار رايس بوروس ( 1875 _ 1950 ) في شيكاغو ، إلينوي . درس في عدد من المدارس المحلية ، ثم انتسب إلى أكاديمية فيليبس في أندوفر ، ماساتشوستس . وبعدها تخرَّج في أكاديمية ميتشيغان العسكرية في عام 1895، ثم أصبح عضوًا في فوج الخيَّالة السابع، لكن حياته العسكرية انتهت عندما اكتشف الأطباء مشكلةً في قلبه ، فتمَّ تسريحه من الخدمة العسكرية .
     انتقلَ من مهنة لأخرى حتى عمل بائعًا للقرطاسية.في أحد الأيام ، وعندما كان بانتظار صاحب متجر ليبيعه بعض من منتوجات الشركة التي كان يُمثِّلها ، وقع نظره على مجلة قصص مُصوَّرة ، وبدأ يطَّلع عليها. ويقول في مذكراته إنه بدأ يُفكِّر بصوت عالٍ قائلاً: (( إذا كان الكُتَّاب يقبضون ثمنًا لكتابة مثل هذه الخزعبلات ، فإن بإمكاني كتابة خزعبلات احسن من هذه )) .
     كانت أول قصصه بعنوان" أميرة المريخ " ( 1912 )، وفي ذات العام في شهر تشرين الأول/ أكتوبر ، كتب أولى قصص طرزان وحملت عنوان " طرزان الرَّجل القرد " .
     بعدها بعامين أصدر كتابًا كاملاً من قصص طرزان ، ليتم تحويل قصة طرزان إلى السينما في عام 1918 . وقد أدَّى دور طرزان الممثل إلمو لينكولن ، إلا أن الممثل جوني ويزمول ، والذي أدى الدور لاحقًا ، هو الذي اشْتُهِر بدور طرزان .
     تُوُفِّيَ بوروس بعد أن كتب 91 رواية ، 26 منها حول شخصية طرزان . وقد باعت كتبه ملايين النسخ ، وتُرجِمت إلى نحو 30 لغة . وقد كتب في مذكراته :  (( أنا أكتب لأهرب ... لأهرب من الفقر )) .
     بوروس هو مُبتكر شخصية " طرزان رَجل الغابة " . ويعتبر البعض شخصية طرزان واحدة من أشهر الشخصيات الخيالية ، حيث ظهر طرزان بعد نشر الرواية في أفلام وكتب الأطفال وبرامج تلفزيونية وإذاعية ودعايات للبنزين ولُعب الأطفال والملابس الداخلية والأحذية الرياضية . وتَمَّ إنتاج 88 فيلمًا عن هذه الشخصية ، خلال الفترة ( 1918 _ 1999 ) .
     ذاع صِيت هذه الشخصية الروائية لدرجة أن البعض كان مقتنعًا أن طرزان هو شخصية حقيقية. وحسب رواية " طرزان القردة " ، فإن طرزان واسمه الحقيقي هو جون كلايتون، هو ابن أحد النبلاء الإنجليز ، وكان والداه على متن سفينة بالقرب من سواحل أفريقيا، وقد ثار البَحَّارة على قبطان السفينة، واندلعت أعمال شغب وفوضى انتهت بانجراف واستقرار السفينة على الساحل الأفريقي. وبعدها يموت والدا جون كلايتون وهو رضيع، ويقوم قرد ضخم الحجم من نوع مانجاني برعايته ، ويتم إطلاق اسم طرزان عليه ، والذي يعني ذو البشرة البيضاء في لغة القردة . والقردة التي تقوم برعاية طرزان هي فصيلة خيالية خاصة، لا وجود لها في التصنيفات العلمية . وعندما يبلغ طرزان مرحلة الشباب يقع في حب فتاة أمريكية اسمها جين، وعندما تغادر جين الجزيرة يقوم طرزان بالبحث عنها وينتهي البحث بنهاية سعيدة بزواج طرزان من جين ، ويُرزَقان بابن اسمه كوراك ، ويعيشان لفترة في لندن، ولكنهما يُقرِّران العودة إلى نقاء الطبيعة، بعيدًا عن ازدواجية ونفاق المدينة ، فيعودان إلى الجزيرة ، وتنتهي الرواية بتحولهما إلى شخصين خالدَيْن ، حيث لا يزالان على قيد الحياة، حسب رواية " طرزان القردة " .
     تجري أحداث الرواية ، التي هي مليئة بالمعارك التي يخوضها طرزان مع الحيوانات وسُكان الجزيرة الأصليين ، في سنوات قريبة من عام 1908 . ويُصوِّر الكاتب بوروس طرزان بشكل إنسان يُشبه إلى حد ما تمثالاً يونانيًّا قديمًا. ولون عينيه رمادي،يقص شعره بين حين وآخر مستعملاً سكينًا قديمة ، تركها له والده قبل أن يموت وهو رضيع ، وشخصيته متوحشة وعنيفة .
     وبالرغم من النجاح الساحق الذي حققته الروايات الأولى والأفلام الأولى في سلسلة طرزان ، إلا أن مستوى الأعمال اللاحقة لَم ترتقِ إلى مستوى البدايات . وفي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات ، اعتبر البعض قصة طرزان من الأساس قائمة على مبدأ عنصري بسبب ما اعتبره البعض اسم طرزان الذي يعني باللغة الخيالية للقردة " ذو البشرة البيضاء وتصوير القصة حسب اعتقاد البعض لفوقية البيض على الأفريقيين الذين تم تصويرهم كمتوحشين وبربريين ، بينما انتقد البعض من أنصار حركات حقوق المرأة شخصية طرزان لأنها تُمثِّل فكرة تفوُّق الرَّجل على المرأة.

22‏/11‏/2019

إدغار آلان بو وحياة التشرد

إدغار آلان بو وحياة التشرد

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............

     وُلِد الأديب الأمريكي إدغار آلان بو ( 1809_ 1849) في بوسطن . وكان الطفل الثاني لِمُمَثِّلَيْن . هجر والده الأسرة في عام 1810 ، وتُوُفِّيَت والدته في العام التالي ، فأصبحَ يتيمًا . وقامت إحدى الأُسَر برعايته والاعتناء به ، رغم عدم تَبَنِّيه رسميًّا . وكان هناك مشكلات بين بو والأسرة الحاضنة ، وفي النهاية انفصلَ عنها .
     فازَ بو في مسابقة أدبية ، حيث كتب قصة قصيرة في سن الرابعة والعشرين ، وأصبح بالتالي ناقدًا أدبيًّا لمجلة ( رسول الأدب الجنوبي ) . وفي سن السابعة والعشرين ، تزوَّج ابنةَ عَمِّه التي كانت تبلغ من العُمر في ذلك الوقت ثلاثة عشر عامًا .
     أصبحَ بو مشهورًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين نشر قصيدته "الغراب" ( 1845). لكن حياته انهارت بسبب إدمانه الشديد على الخمر، وصارت سُمعته سيئة للغاية في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ.
     بعد وفاة زوجته في عام 1847، انهارَ بو عاطفيًّا ، وتُوُفِّيَ بعد ذلك بعامين ، في سن الأربعين، في أحد شوارع مدينة بالتيمور . وقد هاجمه النُّقاد بشدة بسبب مُعاقَرة الخمر ، واتَّهموه بأنه مدمن على المخدِّرات. وقال البعضُ إنه يجب أن لا يُترَك الجمهور معَ رَجل مِثله ، غير مستقر نفسيًّا وعقليًّا، يجلس في غرفة معتمة، مع غراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوب مليء بالأفيون.  كان بو واحدًا من أفضل الكُتَّاب في تاريخ الأدب الأمريكي . وكان يُؤثِر الوَحدة في حياته ، ويُعبِّر عنها ببلاغة في قصائده الشِّعرية . وكتاباته تجعل القارئ يتفاعل معه عاطفيًّا .
     في كُل ما كَتب بو مِن قصص وقصائد ، تبرز نقاط توتره وكآبته وقلقه ومواهبه الخارقة التي شَكَّلت شخصيته الإبداعية المغايرة ، التي لَم يُفلِح الدارسون حتى اليوم في تفكيك كل ألغازها ، وفي دخول كُل سراديبها . فكتابات بو غاية في الصعوبة والجمالية .
     كان بو في نظر أبناء جيله رمز الشاعر الملعون ، ورمز الشاعر المتسكع المعاكس للتيار ، المشاغب في الكتابة الشعرية، المخرِّب في النثر، المتمرد على كل المدارس الأدبية والشعرية السابقة له، المدمن والمغامر والمتفلِّت مِن كل القوانين، الثائر على التقليد، الحزين حتى الموت، الكئيب حتى الثمالة ، والمتألم والمحِب والعاشق حتى الجنون . وقد أكَّدت إحدى الدراسات على أنه بو لَم يستفد مِن كُتبه كُلِّها على مدار حياته سِوى ثلاثمئة دولار فقط لا غَير .
     في كل مراحل حياته ، لَم يُفلِح بو في تأمين عمل يساعده على سَد نفقات معيشته ودُيونه المتراكمة ، الأمر الذي ساهمَ في عودته الدائمة إلى الإدمان. ومع أنه عمل صحفيًّا في أكثر مِن مجلة إلا أن ذلك لَم يُساعده سِوى على نشر بعض أعماله الأدبية فيها ، فنشرَ أولى مجموعاته القصصية في مجلة "برتون جنتلمان " عام 1840، ثم انتقل ليصبح رئيس تحرير مجلة أخرى نشر فيها روايته البوليسية "جريمة قتل في المشرحة" التي سُرعان ما تُرجمت إلى الفرنسية وتناولتها الصحف بمقالات نقدية إيجابية . إلا أن الخطوة الأولى نحو النجاح كانت مع نيله جائزة "جريدة فيلادلفيا" وكانت تبلغ يومذاك مئة دولار عن قصة "الحشرة الذهبية" ، ثم عمل في مجلة "غراهام" ليتركها بعد عام ويعود إلى نيويورك لينشر قصيدته "الغراب" التي بدأت معها شهرته في الأوساط الأدبية من دون أن يساعده ذلك على النهوض مِن غَرَقه في الدُّيون الهائلة .
     تتكرر معظم موضوعاته حول مسائل الموت ، بما في ذلك علاماته الجسدية وآثار التحلل ، والمخاوف من الدفن السابق لأوانه ، أو " القتل الرحيم " ، والإنعاش من الموت، والحِدَاد .
     وتُعتبَر كثير من أعماله جُزءًا مِن هذا النوع مِن الرومانسية السوداء،وهي رَدَّة فِعل أدبية للفلسفة المتعالية التي كرهها بو بشدة .
     في مرحلة ما بعد الرُّعب ، اتَّجَهَ بو نحو الأسلوب الساخر والحكايات الفكاهية والخدع . ولإضفاء طابع كوميدي ، استخدم السُّخرية ببذخ في كثير من الأحيان في محاولة منه لتحرير القارئ من المطابقة الثقافية . كما أعاد بو ابتكار الخيال العِلمي في استجابة  للتكنولوجيا التي ظهرت في ذلك الوقت مِثل مَناطيد الهواء .
     مِن أشهر أعماله : حُلم داخل حُلم (1827) . الدُّودة الفاتحة (1837) . بعض كلمات مع مُومياء ( 1845) . أنابيل لي ( 1849) .

سأعيش سرًّا غامضًا / قصيدة

سأعيش سرًّا غامضًا / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

.................

     سَأعيشُ سِرَّاً غَامِضاً/ والموْتُ يَفُكُّ شِيفرةَ ذِكْرياتي / ذَهَبَت الذِّكرياتُ إلى الاحتضارِ / وفِرَاشُ الموْتِ على الأثاثِ الْمُسْتَعْمَلِ/ وألعابُ الأطفالِ تَحْتَ أنقاضِ البُيوتِ/وجُثماني هُوَ بَيْتُ العَنكبوتِ/
     أنا الحاجِزُ العَسكريُّ بَيْنَ الرُّومانسيةِ والكِفَاحِ الْمُسَلَّحِ/ أنا الرَّصاصةُ الْمَنْسِيَّةُ بَيْنَ شُيوخِ القَبائلِ ومُلوكِ الطوائفِ / أنا النَّشيدُ الوَطنيُّ بَيْنَ الفَراغِ العاطفيِّ والفَراغِ السِّياسيِّ /
     كَسَرَتْ أحزانُ الطفولةِ أجنحةَ الذبابِ / والأمطارُ تَعيشُ في دَمِي النُّحاسيِّ أشجاراً / ونَحْنُ اليتامى / بِعْنا دِمَاءَ آبائِنا في السُّوقِ السَّوداءِ / وانكَسَرَتْ جَدائلُ أُمَّهاتِنا في صَوْتِ الرَّصاصِ / ونَصْعَدُ إلى هَاويةِ اللازَوَرْدِ حَبْلَ غَسيلٍ أوْ حَبْلَ مِشْنقةٍ /
     وُلِدَ قَلبي في الخريفِ / وماتَ في الشِّتاءِ / لَكِنِّي مُحَاصَرٌ بأزهارِ المقبرةِ / ولا أعْرِفُ مِن أيْنَ سَيَأتي الموْتُ / وأوراقُ الخريفِ لا تَعْرِفُ مِن أيْنَ سَيَأتي الشِّتاءُ / انكسرَ جَسَدُ المرأةِ / وضَاعَت الْجُغرافيا / وانكَسَرَت الدَّولةُ / وضاعَ التاريخُ / لا امرأةٌ ولا دَولةٌ / لا جُغرافيا ولا تاريخ /
     أيُّها البَحَّارةُ/ كُونوا رُومانسِيِّينَ كَمَنَادِيلِ الوَداعِ/ إِنَّ السَّفينةَ تَغْرَقُ/ اعْشَقُوا نَوَارِسَ الغروبِ / ارْمُوا جُثةَ الرُّبَّانِ في البَحْرِ / ارْفَعُوا أعلامَ القَبائلِ على جُلودِ فِئرانِ السَّفينةِ / وَدِّعُوا بَعْضَكُم / إنَّهُ فِرَاقٌ لا لِقَاءَ بَعْدَهُ/ أكَلَ الإعصارُ الذِّكرياتِ/ والنِّساءُ وَاقفاتٌ على رَصيفِ المِيناءِ/ يَنْتَظِرْنَ ثِيَابَ الحِدَادِ والجِنازةَ العَسكرِيَّةَ والأغاني الوَطنيةَ / ونَسِيَ العُشَّاقُ عَصيرَ البُرتقالِ عَلى طَاوِلاتِ المطاعمِ/ وذَهَبُوا إلى الموْتِ / والعَناكبُ تَتساقطُ في عَصيرِ البُرتقالِ / أكَلَ البَقُّ خَشَبَ الطاولات / وأكَلَ سَرَطَانُ الثَّدْيِ صُدورَ البَنات / ماتت الذِّكريات / وَكُلُّ شَيْءٍ مات /
     لماذا تَكْرَهُوني يا مُلوكَ الطوائفِ ؟ / النُّعوشُ مُرَتَّبَةٌ تَحْتَ رَاياتِ القَبائلِ الْمُنَكَّسَةِ / وجَدائلُ النِّساءِ مَصْفُوفةٌ كالتَّوابيتِ على سُطوحِ القِطَاراتِ / أخذتُ الجِزْيةَ مِن مُلوكِ أُورُوبَّا / وتَصَدَّقْتُ على البَدْوِ الرُّحَّلِ / الذينَ سَكَبُوا السَّائِلَ الْمَنَوِيَّ في آبارِ النِّفْطِ / والعصافيرُ تَقِفُ على صَفَّاراتِ الإنذارِ في مَملكةِ السُّلِّ / وتَرْمي الفَتَيَاتُ مَناديلَ الوَدَاعِ في صَفيرِ القِطَارات / وَكُلُّ شَيْءٍ مَات /
     أنا دَليلٌ سِيَاحِيٌّ في مَقابرِ الملوكِ / أنا بَائعٌ مُتَجَوِّلٌ في مَوَانِئِ الرَّحيلِ / جُثماني مَعروضٌ للبَيْعِ في السُّوقِ السَّوداءِ/ وأشلائي تُزَيِّنُ حِيطانَ المتاحفِ / وعُكَّازةُ أبي تُباعُ في الْمَزَادِ العَلَنِيِّ / وأنا المنبوذُ/ أبيعُ النَّعناعَ أمامَ المحاكمِ العَسكرِيَّةِ / وتَضْحَكُ الغَجَرِيَّاتُ أمامَ مَحكمةِ أمْنِ الدَّولةِ / ويَرْحَلْنَ إلى نَشيدِ الغروبِ / مَاتت الدَّولةُ / وماتت الأُغْنِيَات / وَكُلُّ شَيْءٍ مات .