سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

01‏/11‏/2018

متى تنتهي غربة الروح ؟

متى تنتهي غربة الروح ؟

للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 1/11/2018

.................

( 1 )
     نبحث عن البصيرة في المدن العمياء. قد نجدها، وقد لا نجدها. الحياة غير مضمونة النتائج ، وغير معروفة العواقب . نقضي وقتنا في السباحة على أمل الوصول إلى بَر الأمان . نسبح في المنطقة العميقة، وبَر الأمان بعيد. لكنَّ الأملَ هو قَمَرُنا في ممرات الذكريات الموحشة ، وهو سلاحنا في متاهات القلوب الموحشة .
(2)
     نغرق في الاحتمالات ، لأن الخيارات في بلاد الموت قليلة . وضِفَّتَا نهر الدموع مزروعتان بالأشواك . تُولَد أحزاننا بين الشك واليقين . ونعيش في بلاد تُنكِر وجوهنا ، وتُحطِّم أحلامَنا ، ولا تعرفنا أحياءً ، ولكنها تمدحنا عندما نموت . بلادٌ لا تتذكر الإنسانَ إلا إذا كان ميتًا ، وكأن الموت هو شهادة حُسن السيرة والسلوك اللازمة للحصول على الوظيفة .
(3)
     ننظرُ في المرايا، لكننا نخاف من رؤية وجوهنا. نبحث في لمعان المرايا عن أحلام الطفولة البعيدة. والمرايا هي صورة آبائنا الراحلين بين السراب والصحراء . سيبكي السرابُ على صدر الصحراء في زمن الرصاص . ونحن الأيتام المنسيون . نبحث عن جُغرافيا قلوبنا في تاريخ الحب الضائع .
(4)
     نَحِنُّ إلى الأشياء الغامضة ، ونأمل أنها تحمل لنا الخلاص . ولكنْ لا خلاص لنا إلا بالتحرر مِن الوحوش الساكنة في ذواتنا . نبحث عن السعادة في البيئة المحيطة بنا ، ولكن السعادة تنبعث من دواخلنا . نسعى إلى السلام مَعَ الناس المحيطين بنا ، ولكننا نخوض حربًا طاحنة بيننا وبين أنفسنا .
(5)
     الأبوابُ كثيرة . ولا نزال نبحث عن المفاتيح . كم نحتاج من الوقت لتجربة المفاتيح كي نحصل على المفتاح المناسب ؟ . هل ندرس تاريخ الطريق أَم تضاريس خطواتنا ؟ . لا وقت لآباء الجنود المهزومين كي يدفنوا أبناءهم . ولا مكان للأوسمة الصدئة في أزقة الكوليرا .
(6)
     الصقر الوحيد لَم يجد مَن يَدفنه إلا الوهم. لن يتخلى البشر عن الوهم ، ولن تتخلى الصحراء عن السراب . الوهم طَعْمُه حُلْو ، ولكن تأثيره قاتل . إنه السُّم اللذيذ ، لكنه مُميت .
(7)
     نضحك في طريق الانتحار التدريجي . أُمُّةٌ تُدمِّر نفسها بنفسها . والأعلام مُنكَّسة في حروب القبائل . هُدنةٌ بين القاتل والضحية . لا قانون في ممالك السراب إلا الرمل ، ولا دُستور في مُدن الهزيمة إلا البكاء .
(8)
     أينَ أنتِ أيتها الحضارة ؟ . أشلاؤنا هي جذور الأشجار . والأغصانُ تمتدُّ في عُرُوقنا . نبكي ، ونُخفي دُموعنا . ونضحك كي نضحك على أنفسنا ، وهذا الضَّحِك هو الجزء الظاهر من جبل الجليد ، وما خَفِيَ أعظم .

25‏/10‏/2018

حقيقة السياسة في المجتمعات المتخلفة


حقيقة السياسة في المجتمعات المتخلفة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................

     إن الهدف الأساسي من السياسة هو تحقيق مصالح الناس ، وبناء منظومة إنسانية اجتماعية توازن بين الحقوق والواجبات. ووفق هذا المعنى، تكون السياسة وسيلة لا غاية .
     والمشكلة الجذرية في المجتمعات المتخلفة أن السياسة فيها غاية بحد ذاتها،لذلك يتكرَّس معنى العنف والصدام والصراع على الكرسي ، ومحاولة المحافظة عليه بأي ثمن .
     وفي هذا المناخ الموبوء يظهر الطاغية ( الحاكم ) ، ويتكرَّس وجوده باعتباره المركز الذي تدور حوله كل تفاصيل المجتمع ، وتختفي الدولة شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى مرحلة " شِبه دولة " ، وتنهار الطبيعة الإنسانية ، فيتحوَّل المواطنون إلى أشباح مُدجَّنة لاهثة وراء رغيف الخبز ، ورُبَّما لا تحصل عليه . ففي أشباه الدول لا شيء مضمونًا ، بسبب غياب الحرية ، وانهيار القيم الأخلاقية ، وتحوُّل السياسة إلى لعبة للأغنياء المتحالفين مع رموز السُّلطة القمعية .
     والطاغية _ في كل زمان ومكان _ في عداوة متبادلة مع الشعب . وسبب هذه العداوة أن الطاغية يعتبر الشعب متخلفًا وبدائيًّا وهمجيًّا وسفيهًا وجاهلاً ، وبالتالي يجب الحجر عليه ، لأن الشعب لا يستحق الحرية ، ولا يفهم الديمقراطية . أي إن الشعب عاجز عن قيادة نفسه بنفسه ، ولا يستطيع اختيار مَن يَحكمه، وهنا يبرز مفهوم الوصاية . فالطاغيةُ " العبقري " هو الوصيُّ على الشعب " الجاهل " والمسؤول عنه ، كما أن الأب "العاقل " هو الوصي والمسؤول عن أطفاله الصغار " غير العاقلين " .
     والشعبُ يعتبر الطاغية مجرمًا وسفَّاحًا ولصًّا ، نهب ثروات البلاد ، ودمَّر حياة الشعب ، وفتح السجون للشرفاء والأحرار ، وترك الفاسدين يعيثون في الأرض فسادًا ، دون حساب ولا عقاب .
     وهذه العلاقة الجدلية بين الطاغية والشعب شديدة الخطورة ، لأنها تُحطِّم منظومة الولاء والانتماء ، فيصبح الفرد باحثًا عن حاجاته اليومية ضمن دائرة الاستهلاك الخانقة، دون النظر إلى ماهية الوطن وأهمية الدفاع عنه ، لأن الغريق يتعلق بحبال الهواء ، ويبحث عن قشة لإنقاذه ، وهذا يَمنعه من مُشاهدة بَر الأمان ، أو التخطيط للحاضر والمستقبل . إذ إن البقاء على الحياة يصبح هو الهم الوحيد، والهدف الأسمى بحد ذاته . وانحصار التفكير في البقاء حيًّا هو حاجز يمنع من التفكير في صناعة الإنجازات في الحياة. وهكذا، يتم تدمير الفرد معنويًّا وماديًّا ،
فيتحوَّل إلى عنصر منبوذ بلا قيمة في المجتمع ، وإذا شعر الفرد أن وجوده كعدمه ، سيفقد إحساسه بالعناصر من حوله ، ويخسر يقينه بالمستقبل المشرق . وعندئذٍ ، يتكرَّس مبدأ " اللهم نفْسي " أو " أنا وليكن الطوفان مِن بَعْدي " .
     ومعَ اضمحلال الولاء في نفوس الأفراد، يتلاشى معنى الانتماء، وتحتفي حقيقته . وتظهر معاني النفاق والمديح الزائف . فالفردُ يُدرِك أنه لَن يحصل على أي شيء في وطنه إلا بمديح الحاكم ، والتسبيح بحمده ، والإشادة بإنجازات النظام السياسي الوهمية . ولا يخفى أن العنصر الفاعل في المجتمعات البدائية المتخلفة هو الولاء للحاكم ، وليس الكفاءة . فلا يَهُم إذا كان الفرد عَالِمًا أو جاهلاً ، المهم أن" يبصم بالعشرة " للحاكم وحاشيته ، ويكيل لهم المديح ليلاً ونهارًا ، على أمل الحصول على جزء يسير من الغنائم التي يجمعها الحاكم وعصابته .
     إن الطاغية يعتبر السُّلطة مغنمًا ، وينظر إلى " الدولة " باعتبارها شركة تجارية استثمارية ، ومِلْكًا له ولعائلته وأتباعه. وهذه النظرة المنحرفة، تجعل الحاكم بالضرورة تاجرًا وسمسارًا ، وعليه أن يجمع أكبر قَدْر من الأرباح ، ويحصد أكبر كمية من الغنائم .
     وهذا التفكير القاصر والقاتل ، يُشكِّل خطرًا على الحاكم نفْسه ، لأنه يلعب بالنار ، ويُكثِّر عدد أعدائه والمتربِّصين بِه ، ويُقلِّل عدد أصدقائه المخلصين. فالكثيرون يلتفون حوله لمنافع مادية ، ومصالح شخصية، وليس حُبًّا له ، أو عِشْقًا لسياسته الحكيمة وإنجازاته العظيمة . وهؤلاء هُم فئران السفينة ، ومُستعدون للهرب منها في أيَّة لحظة ، لأنهم يعتبرون السفينة مصدرًا لجني الأرباح والمكاسب ، وليس وطنًا لهم . فهُم لا يشعرون بالولاء والانتماء إلى المكان الذي يعيشون فيه . تمامًا كالشخص الذي يستأجر شقة مفروشة ، أو يحجز غرفة في فندق . إنه يعلم في قرارة نفْسه أن وجوده مُؤقَّت ، لأنه لا ينتمي إلى المكان ، ولا يشعر بالولاء له ، بسبب غياب الروابط النفسية والأخلاقية والفكرية بينه وبين مكان وجوده .
     والسياسة القمعية للسُّلطة الحاكمة هي بداية نهاية " الدولة " ، إذ إن المواطنين الذين يُعانون من الفقر والجهل والحرمان والظلم ، سيتحوَّلون إلى أعداء مُستترين للنظام الحاكم ، ينتظرون لحظة الانقضاض ، ويفكرون في كيفية الانتقام والثأر من هذا النظام الذي حرمهم من الحياة الكريمة . وهذا يعني أن النار مختفية تحت الرماد ، ولا أحد يعرف متى تحين لحظة الانفجار ، وكثرة الضغط تُولِّد الانفجار . وقد قِيل : لا تَدخل في مواجهة مع شخص ليس لديه ما يَخسره .
     إن الخطيئة العُظمى التي سقط فيها الطاغية هي عدم تفريقه بين السيطرة والقيادة . فهو يعتقد _ بكل جهل وغرور واستكبار _ أن القبضة الحديدية وفتح السجون وتكميم الأفواه والاحتكام إلى الحديد والنار هو الحل الأمثل للسيطرة . وهذه نظرة قاصرة ، لأن الاستبداد قد يضمن السيطرة لبعض الوقت،ولكنْ لا يَستطيع توفير الحماية على المدى الطويل بسبب كثرة الأعداء،وزيادة الأعباء الحياتية،وتفاقم المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، كما أن الاستبداد عائق أمام التقدم وصناعة الإنجازات . وأيُّ مليونير يستطيع أن يشتريَ طائرة بأمواله ، ويحميَها بنفوذه وسُلطته ، ولكنْ ليس أي شخص يقدر على قيادتها والطيران بها .

17‏/10‏/2018

أسرار زير نساء محترم


أسرار زير نساء محترم

للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/10/2018

.................

     بدايةً ، ينبغي القول إن عبارة " زِير نساء " تُطلَق على الشخص الذي يُحادِث النساء ويُزاورهن . قال ابن منظور في لسان العرب : (( قِيل : الزِّير المخالِط لهنَّ في الباطل . ويُقال : فُلان زِيرُ نساء إذا كان يحب زيارتهن ومحادثتهن ومجالستهن . سُمِّيَ بذلك لكثرة زيارته لهن )) .
     وتفكير الرجال في قضايا العشق والغرام يختلف عن عن تفكير النساء. وهناك عبارة شهيرة في هذا السياق: (( الرجال يعشقون النساء من المظهر ، والنساء يعشقن الرجال من الكلام ، لهذا السبب ، النساء يضعن المكياج ، والرجال دائمًا يكذبون ! )) .
     وهذا يُشير بوضوح إلى انجذاب المرأة إلى كلام الرجل وعباراته اللطيفة وتلميحاته الشاعرية. ولا يوجد أفضل من الشعراء للعب هذا الدور الحسَّاس ، فهم القادرون على زخرفة الكلام ، والتلاعب بالألفاظ ، وصناعة المعاني والصور الفنية المؤثرة . لذلك ، ليس غريبًا أن يكون أغلب أبطال قصص الحب في التراث العربي هُم مِن الشعراء . إنهم يصنعون الكلام ، ويُخلِّدون اللحظة .
     ومِن الشعراء البارزين في مجال العشق والغرام ، مسلم بن الوليد (140هـ _ 208 هـ ). وهو فارسي الأصل ، عربي الولاء . ويُعتبَر رأس مدرسة البديع ( عِلم تُعرَف به وجوه تحسين الكلام، من حيث الألفاظ ووضوح الدلالة ، على نحو يُكسِب التعبير الشعري طرافةً وجِدَّة ) .
     انقطعَ الشاعر إلى يزيد بن مزيد الشيباني أحد كبار قادة هارون الرشيد. وعندما صارت مقاليد الأمور في يد الفضل بن سهل وزير المأمون في أول خلافته، قرَّبه وأنعم عليه بالمناصب والأموال والضِّياع. وقد أنفقَ أمواله الكثيرة على الخمر والنساء ، وكان شغله الشاغل هو تلبية شهواته ولذاته . ولَمَّا قُتِل الفضل ، لزم مسلم بن الوليد منزله ، وتركَ اللهو ، وأقبلَ على العبادة ، حتى وفاته .
     عُرف مسلم بن الوليد بلقبه " صريع الغواني " ، وقد لقَّبه هارون الرشيد بِه ، لِقَوله في قصيدته التي مدحه فيها : ( هل العَيشُ إلا أن تروحَ معَ الصِّبا ... وتغدو صَريعَ الكأسِ والأعينِ النُّجْلِ ) .
     والغواني جَمْع غَانِيَة. والغانيةُ هي التي استغنت بجمالها عن مدح الناس ، أو التي غَنِيَتْ بزوجها عن غَيْره .
     كان مسلم بن الوليد مفتنونًا بجمال النساء ودلالهن، وحريصًا أشد الحرص على إقامة العلاقات معهن . وعبَّر عن ذلك بأشعار كثيرة ، وصُوَر فنية شديدة التأثير ، وكان مُقبلاً على اللهو مع النساء ، ونَيل لذة المغامرات الغرامية . لكنه لَم يغرق في المجون ، ولَم يُجاهر بارتكاب المعاصي والآثام مِثل الشاعر أبي نُوَاس ، الذي احترفَ المجون جِهارًا نهارًا .
     لقد أقامَ مسلم بن الوليد علاقاته الغرامية بعيدًا عن الأنظار ، وصنع عالمه السحري مع الخمر والنساء في الظل ، وراء الأبواب المغلقة. وكانَ يظهر أمام الناس كَرَجل وقور ، وزَوج صالح مُخلِص لزوجته ، ويتحرَّك في المجتمع بكل أدب واتزان وهدوء . وكان حريصًا على اسمه وسُمعته وكرامته ونظرة الناس إليه .
     لكن السؤال الذي يطرح نفسه : ما سبب هذا التناقض الصارخ في حياة مسلم بن الوليد ؟ . إنه يعيش حياتين مُنفصلتين، حياة في السر، وحياة في العلن . ولكل حياة أسلوبها الخاص ومشاعرها المحدَّدة . ما الذي يُجبره أن يكون إنسانًا مُزْدَوَجًا _ إن جاز التعبير _ ؟ .
     لقد وقع هذا الشاعر في صراع بين رغباته الذاتية والقيود الاجتماعية. أرادَ الانطلاق والتحرر من قوانين العقل الجمعي التي تفرض على الفرد أن يضبط شهواته وغرائزه ، ولا يُطلِق لها العنان. ومن خالفَ هذا الأمر، فإنه سيتعرَّض للاحتقار واللوم والفضيحة والتشهير، وتُصبح سُمعته سيئة للغاية ، ويتم نَبْذه ، وتسليط الأضواء عليه كعنصر فاسد في المجتمع .
     وهذه العقوبة لا يَقْدِر الشاعر على تحمُّلها، ولا يستطيع أن يدفع ضريبة الانشقاق عن الاتجاه العام في المجتمع. لذلك اختار الحياة السِّرية البعيدة عن الأضواء. ومَهما كان السَبَّاح قويًّا وعنيدًا ، فهو لا يستطيع أن يسبح ضِد تَيَّار النهر ، لأن العقل الجمعي أقوى من العقل الفردي . والكثرةُ غَلبت الشجاعة .
     لقد بنى مسلم بن الوليد حياته بشكل مُزدوَج، كَي يُحقِّق رغباته وشهواته، ويُلَبِّيَ طموحاته الشخصية ، وفي نفس الوقت ، يُحافظ على نظرة المجتمع إليه باعتباره رَجلاً فاضلاً ذا سُمعة طيبة ، ويتمتع بِحُسن السيرة والسلوك . وهكذا ، يَضرب عصفورين بحجر واحد .
     إن هذا الانفصام في الشخصية له تبعات شديدة الخطورة على النفس ، لأن يُحوِّل الإنسان إلى كائن اصطناعي هُلامي يَلعب على الحبلَيْن ، ويخلط الأوراق تبعًا لثنائية ( الوجه / القناع ) . وبالتالي ، يدخل الإنسان في حرب مع نفْسه ، ويخسر الانسجام والطمأنينة وراحة البال ، ويفتقد إلى قيمة التصالح مع الذات . وعندئذٍ ، يغيب السلام الداخلي والأمن الروحي ، ويفقد الإنسان قدرته على صناعة الفِعل، لأن حياته تصبح ردة فِعل خاضعة لأحكام الآخرين ، أي إنه يَخسر روح المبادرة، ويصبح شبحًا هاربًا من الضوء إلى حياة الظل، ومرآةً تعكس حياةَ الآخرين ، ولا تشعر بحياتها الخاصة .

12‏/10‏/2018

الهوس الجنوني بالشهرة


الهوس الجنوني بالشهرة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 12/10/2018

.....................

   إن الطبيعة البشرية قائمة على حُب الأضواء، ونَيل الإطراء والثناء ، والحصول على الشهرة . والإنسان يطمح أن يُشار إليه بالبنان، ويُصبح أشهر مِن نار على عَلَم ( جبل ). والإنسان اجتماعي بطبعه وغريزته ، وابن بيئته . ولا يَقْدِر على التحرر من أثر بيئته وتأثير الناس حَوْله ، سواءٌ أرادَ ذلك أَم لَم يُرده . وهو يعتبر اهتمام الناس بِه تقديرًا لحياته ، واحترامًا لفكره ، وإشادةً بإنجازاته .
     لكن المشكلة حين تتحوَّل الحقيقة إلى وهم، وتُصبح الشهرة غايةً قائمة بذاتها، يُبذَل في سبيلها الغالي والنفيس، ويتم اعتبارها هي الكمال المطْلق للإنسان، وبدونها لا معنى لوجود الإنسان. وهذا الهوس الجنوني بالشهرة هو مرض مُكتمل الأركان ، ووهم قاتل ، ورغبة مُتماهية مع الخرافة .
     ومِن الأمثلة على الهوس الجنوني بالشهرة ، وبلوغه مرحلة الكارثة والانهيار الإنساني الشامل ، حادثة رواها الإمام ابن الجوزي ( 510 هـ _ 597 هـ ) وقعت أثناء الحج في زمانه ، إذ بينما الحجَّاج يطوفون بالكعبة ، ويغرفون الماء من بئر زَمْزَم ، قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلَّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبَّحك الله ، لِمَ فعلتَ هذا ؟ . قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس ، يقولون : هذا فُلان الذي بال في بئر زمزم ! .
     وهذه القصة قد تبدو سخيفة أو تافهة ، ولكن دلالتها الرمزية في غاية الخطورة ، فقد أرادَ هذا الأعرابي الشهرة وجلب الأضواء إليه بأية وسيلة . فما كان مِنه إلا أن قام بفعلته الشنيعة ، كي يَشتهر أمره بين الناس، وتصبح قصته على كل لسان. وكما قِيل:" خَالِف تُعْرَف ". وهذا الأعرابي ذو المعرفة الضئيلة والثفافة السطحية البدائية ، لا يملك إنجازات عِلمية أو إسهامات أدبية تُفيد مجتمعه ، وتخدم أبناء بيئته . وهذا العجز الذي يَغرق فيه ، جعله يُوقِن _ في قرارة نفسه _ بأن أسهل وسيلة للشهرة هي القيام بعمل غريب وشاذ . وبالتالي ، لفت الأنظار إليه ، وخُلود ذِكره ، دُون بذل أي مجهود .
     وهذا الهوس الجنوني بالشهرة يقودنا إلى عبارة شديدة الخطورة والرمزية للكاتب الفرنسي ألبير كامو( 1913_ 1960 ) : أقصر طريق للشهرة أن تقتل صاحبة العمارة التي تسكن فيها ! .
     وهذه ليست دعوة للقتل وارتكاب الجرائم . وإنما هي عبارة ساخرة قائمة على الكوميديا السوداء . وبعض المهووسين بالشهرة يرتكب الجرائم البشعة كي يُعرَف ، ويُصبح ذائع الصيت . خصوصًا أن الناس يُتابعون باهتمام بالغ قضايا القتل وأحداث الجرائم التي تهز المجتمع .
     وفي هذا السياق ، تأتي حادثة اغتيال أسطورة فرقة البيتلز جون لينون ( 1940_ 1980) . ففي 8 كانون الأول / ديسمبر 1980 . وعندما كان لينون عائدًا إلى منزله في نيويورك ، اغتاله مارك ديفيد شابمان بإطلاق النار عليه من مسدس في ظَهْره . وكان القاتل قد صرَّح بأنه قام بقتل جون لينون، لشدة إعجابه به وبفرقة البيتلز !. وأشار شابمان إلى أن قتل لينون كان "قرارًا رهيبًا "، وأنه كان يظن أن قَتْل شخص مشهور ، سوف يَجعله ذا شأن ، لكنه بدلاً من ذلك جعله قاتلاً . وحُكم على شابمان بالسجن مدى الحياة . والعجيبُ أن شابمان لَم يهرب من موقع الجريمة، بل انتظر وصول الشرطة للقبض عليه . لقد خطَّط لهذه الجريمة بعناية وتركيز، واختارَ اغتيال شخصية مشهورة، كَي يصبح مشهورًا على مستوى العالَم ، ولا هدف له إلا الشهرة .
     ومِن الشخصيات العالمية المشهورة التي يُلاحقها المهووسون ، وتُعرَف بكثرة المعجبين بها ، الممثلة الأمريكية جودي فوستر. ففي عام 2008 اعْتُقِل رَجل من ولاية ماساتشوستس الأمريكية، بعد توجيهه رسالة خطية ، هدَّد فيها بتفجير مطار لوس أنجلوس ، وذلك من أجل لفت أنظار الممثلة جودي فوستر ، التي كان يقتفي أثرها مُنذ عام 2004 .
     وهذه القضية أعادت الأضواء إلى ما حصل قبل عَقْدَيْن من الزمان، عندما لاحقَ جون هينكلي الممثلة جودي فوستر . وهو شخص مهووس بالشهرة والمجد الوهمي ، وكان عاشقًا مُتَيَّمًا بجودي فوستر ، ومهووسًا بها إلى حد الجنون ، وحاولَ الوصول إليها بكل الوسائل والسُّبل ، ولكنه لَم يستطع الوصول إليها ولا الاتصال بها. فما كان منه إلا أن وضع سيناريوهات عديدة مثل اختطاف طائرة أو الانتحار أمامها حتى يَلفت نظرها ، ويَحصل على اهتمامها . ثم ظن أنه سيفوز بقلبها إن قام باغتيال الرئيس، باعتباره رمزًا مهمًّا ، وبقتله سيصبح ندًّا له ، وبطلاً قوميًّا ! .
     وفي آذار 1981 ، قام هينكلي بإطلاق النار خارج فندق في واشنطن على الرئيس رونالد ريغان ( 1911_ 2004 ) ، مِمَّا أسفرَ عند إصابة الرئيس بطلق ناري في الرئة . وقد كان هدف هينكلي من محاولته لقتل الرئيس ريغان هو لفت نظر جودي فوستر ، والفَوز  بقلبها ، والحصول على اهتمامها ، ونَيل الشهرة على المستوى العالمي . وهذا الأمر يدل بوضوح على أن الهوس الجنوني بالشهرة والمجد الزائف ، يُعمي البصر والبصيرة معًا ، فيفقد الإنسان تركيزه واتِّزانه ، ويُصبح آلة ميكانيكية عمياء ، وقد يقوم بأيَّة جريمة دون التفكير في عواقبها .

05‏/10‏/2018

رمزية الغراب الشعرية

رمزية الغراب الشعرية

للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 5/10/2018

.............

     إن الشِّعر كيان محمول على الرموز . والرموز هي قاعدة البناء الشعري ، والطاقة اللغوية القادرة على زراعة الصور الفنية المدهِشة في ذهن المتلقِّي . وكُل شاعر له رموزه الخاصة به، التي تنبع من طبيعة شخصيته وماهية رؤيته للأشياء . وفي الفضاء الشِّعري يُصبح الرمز كالبصمة ، ولا يَقْدِر الشاعر أن يُحلِّق في فضائه إلا بوجود بصمة مميزة له، تكون بمثابة بطاقة تعريف لإبداعه . والبصمةُ الشعرية تعمل عمل الجناحين للطائر . وكما أن الطائر لا يَقْدِر على الطيران إلا بوجود جناحين ، كذلك الشاعر لا يَقْدِر على الطيران في عوالمه الشعرية إلا بوجود بصمة شخصية ( رمز شِعري ) .
     ومِن الرموز المنتشرة بكثافة في أشعار الأمم وثقافات الشعوب : الغراب . ومع أن هذا الرمز يتكرَّر بصورة واضحة في الكتابات ، إلا أن معناه يختلف باختلاف الطبيعة الفكرية للكاتب . وهذا يدل على أن الرمز ليس مقصودًا لذاته ، ولا يُعتبَر غايةً قائمة بذاتها ، وإنما هو وسيلة وأداة توصيل للمعنى .
     وقد ارتبطَ الغراب بالتشاؤم والسَّوداوية ، بسبب صَوته المميَّز المهيب ، ولونه الأسود القاتم . وكان العرب في الجاهلية يتشاءمون بِه، فكانوا إذا نَعَبَ مرتين قالوا : آذنَ بِشَر . وإذا نعب ثلاثًا ، قالوا: آذنَ بخير. كما ارتبطَ الغراب بالفِراق ( البَيْن ) . وقِيل : سُمِّيَ غراب البَيْن ، لأنه بانَ عن نُوح عليه الصلاة والسلام لَمَّا أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فَلَقِيَ جِيفة ، فوقعَ عليها ، ولَم يَرجع إلى نُوح .
     وفي عالَم الشِّعر ، هناك شاعران حصلا على المجد الشعري والشهرة الأدبية ، عبر توظيف الغراب كرمز شِعري مُحمَّل بالدلالات اللغوية والمعاني الفلسفية . الأول هو الشاعر الأمريكي إدغار ألان بو(1809 _1849).والثاني هو الشاعر الإنجليزي تيد هيوز(1930_ 1998) .
     لقد أصبحَ"بو" مشهورًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين نشر قصيدة" الغراب" ( 1845). وتحكي القصيدة عن زيارة غُراب مُتكلِّم وغامض إلى عاشق مُضطرب . وهذا المناخ الشِّعري يُقدِّم الغراب ككائن غامض ظَهر فجأةً ، لِيُعيد ترتيب حياة هذا العاشق المحطَّم نفسيًّا ، والمجروح عاطفيًّا.
     صارَ الغراب هو المنقِذ والمخلِّص والناصح الأمين . وكأن هذا العاشق فقد ثقته بالناس ، ولَم يعد يثق إلا بهذا الغراب . وهذه المفارَقة تُشير إلى انهيار العالَم الكامن في ذات الشاعر ، واختلال الموازين ، وفقدان البصيرة ، وغياب الرؤية . وكما يُقال : إن الغريق يتعلق بحبال الهواء . وحياةُ هذا العاشق المنهار في القصيدة ، إنما هي انعكاس لحياة الشاعر" بو" المنهارة بسبب إدمانه الشديد على الخمر ، وكثرة أزماته الروحية ، ومشكلاته المادية. وقد صارت سُمعته سيئة للغاية في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ . وهاجمه النُّقاد بشدة بسبب مُعاقَرته للخمر ، واتَّهموه بأنه مدمن على المخدِّرات. وقال البعضُ إنه يجب أن لا يُترَك الجمهور معَ رَجل مِثله ، غير مستقر نفسيًّا وعقليًّا، يجلس في غرفة مُعتمة، مع غُراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوب مليء بالأفيون .
     إن " غُراب بو " هو الذي أبرزَ نقاط توتر الشاعر ، وانهيار عالمه الشخصي ، ووضَّح قلقه وكآبته وأحلامه الضائعة وآلامه المتفاقمة وأوضاعه المالية السَّيئة. لذلك ، ليس غريبًا أن تتمحور موضوعات " بو " حول الموت وعلاماته الجسدية وآثار التحلل ، والمخاوف من الدفن ، والحِداد.
     إن قصيدة "الغراب" هي حجر الزاوية في مشروع " بو " الشعري ، الذي يمكن تسميته بالرومانسية السوداء ، وهي ردة فِعل أدبية للفلسفة المتعالية التي كرهها " بو " بشدة .
     أمَّا الشاعر تيد هيوز فقد نشر ديوانه " الغراب " عام 1970 بعد مُعاناة كبيرة ، وانقطاع عن الكتابة لسنوات بسبب انتحار زوجته الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث في عام 1963 ، وقد تَمَّ تحميله مسؤولية انتحارها ، بسبب خيانته لها .
     يُعتبَر ديوان الغراب أشهر أعمال هيوز على الإطلاق . وهذا الطير يتكرَّر مِرارًا في شِعره رَمْزًا للظلام والقسوة والسخرية السوداء والعنف الذي يتفجَّر في الطبيعة . لقد درس هيوز في جامعة كامبردج عِلم الآثار والحفريات ، وهذا جعله على وَعْي تام بعناصر الطبيعة ، فاستخدمَ الحيوانات والطيور ( وعلى رأسها الغراب ) كنماذج في شِعره الذي يمتاز بالغموض والتَّنبؤية .
     إن " غُراب هيوز" جَعل عالمه الشِّعري مليئًا بالعنف البدائي والقسوة المندمجة مَعَ انهيار الإنسان في عالم استهلاكي دموي تَحكمه الشهوات والغرائز. و"الغراب " في شِعر هيوز ليس مفردةً عابرة، أو صورة بلاغية مُجرَّدة ، بل هو رَمز مركزي شديد الاستقطاب ، تَحُوم حَوْله القيم الإنسانية المنهارة ، وملامح القسوة في الوجود . وكأن هيوز _ من خلال توظيفه لرمزية الغراب _ يُريد إعادة الإنسان المتوحش إلى إنسانيته النقية ، وأنسنة العالَم القاسي الذي نعيش فيه. وفي هذا السياق تندمج رمزية الغراب المركزية مع قيمة التمرد على الأنماط الاستهلاكية التي قَتلت رُوح الإنسان ، وحوَّلته إلى وحش ضِد أخيه الإنسان . والتمردُ الشِّعري هو تحوُّل الطاقة الجسدية إلى بُنية لغوية . وهذه البُنية اللغوية لا بُد لها مِن رمز يَحملها . وهذا الرمز هو الغراب ، الذي يُشكِّل بلونه الأسود القاتم الحقيقة الواضحة الصادمة ، بلا ألوان ولا زخارف . وعلى الإنسان أن يُواجه مصيره بنفْسه ، ويَقتلع شَوكه بيديه ، ولا أحد سيأتي لمساعدة أحد . وهذه هي اللحظة المصيرية الفاصلة بين الوجود ( البقاء ) والعدم ( الفناء ) .

16‏/09‏/2018

مقدمة لفهم شعر المعلقات

مقدمة لفهم شعر المعلقات

للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد

................

     إن الشِّعر هو دِيوان العرب _ شَاءَ مَن شاء وأبى مَن أبى _. وهو لم يصل إلى هذه المكانة السامية بالصُّدفة ، بل وصل إليها بسبب كَوْنه _ أي الشِّعر _ هو المتحدث الرسمي باسم تاريخ العرب وبطولاتهم وأمجادهم ، وهو السِّجلُ الشريف الذي يَحْوي تفاصيلَ حياتهم الروحية والمادية . لذلك نظرَ العربُ إلى الشِّعر باعتباره نظامًا للتخليص والخلاص، تخليصهم من ضغط العناصر الحياتية، وخلاصهم الإنساني الذي يَمنحهم المجدَ أثناء الحياة، والخلودَ بعد الموت . ووفق هذه الرؤية ، ليس غريبًا أن يَضع العربُ كلَّ بَيْضهم في سَلة الشِّعر .
     ولا يَخفى أن العرب قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية ، كانوا أُمَّةً وثنية ليس لها كتابٌ سماوي مُقدَّس ، وهذا جعلها في مرتبة أدنى من أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) الذين كان في أيديهم التوراة والإنجيل. ومن الطبيعي أن يَشعر العربُ بُعقدة النقص لأنهم منقطعون عن السماء . فكان الحلُّ _ من وجهة نظرهم _ هو اتخاذ الشِّعر كتابًا مقدَّسًا، وذلك لكي يُعوِّضهم عن عدم وجود كتاب سماوي في أيديهم ، ولكي يَجبر كَسْرَهم ، ويُحطِّم عُقدةَ الشعور بالنقص ، فيتعاملوا مع الأمم الأخرى _ خصوصًا اليهود والنصارى _ بكل ثقة ، غير شاعرين بالنقص أو الانكسار أو تدنِّي المرتبة .
     ومن هذا المنطلق لم يكن الشِّعرُ نظامًا لغويًّا اجتماعيًّا فَحَسْب، بل كان_ أيضًا_ منظومةً دِينية، وَوَحْيًا خاصًّا. وهذا منحَ الشِّعرَ منزلته الرفيعة، وجعله أيديولوجية قائمة بذاتها تشتمل على أبعادٍ أسطورية ، وتقاطعاتٍ اجتماعية ، وأحلامٍ إنسانية ، وثقافاتٍ محلية وإقليمية .
     ويمكن اعتبار المعلَّقات هي دُرة تاج الشِّعر الجاهلي ، فقد اشتملت على صور صادقة للحياة الاجتماعية ، والعواطفِ الإنسانية ، والفلسفةِ العربية المصهورة في الواقع والخيال معًا . كما أنها امتازت بلغة قوية آسرة تستمد مفرداتها من البيئة المحيطة، فالشاعرُ _ أولاً وأخيرًا _ هو ابنُ بيئته ، وحاملُ تاريخها .
     والجديرُ بالذِّكر أن المعلَّقات سُمِّيت بهذا الاسم لأنها عُلِّقت على الكعبة المشرَّفة تنويهًا بقيمتها الشعرية ، وعَظَمة شأنها ، ومكانة أصحابها .
     وقد قال ابن خلدون في تاريخه ( 1/ 803) : (( اعلم أن الشِّعر كان ديوانًا للعرب ، فيه علومهم ، وأخبارهم ، وحِكَمهم . وكان رؤساء العرب منافسين فيه ، وكانوا يقفون بسوق عُكاظ لإنشاده ، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن ، حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام ، مَوْضع حَجِّهم ، وبيت أبيهم إبراهيم )) .
     وما كان لهذه الأشعار أن تُعلَّق على الكعبة لولا اعتبارها نصوصًا شِعرية مُقدَّسة تُجسِّد التاريخَ العربي ، والأحاسيسَ الإنسانية في بيئة الجزيرة العربية ، والصورَ الحياتية المنتشرة في عوالم الإنسان العربي . كما أن تعليقها على الكعبة جرى بكل سلاسة دون اعتراض من أَحد ، وهذا مؤشر واضح على اتفاق الناس على قيمة المعلَّقات المعنوية والمادية ، وأهميةِ الشِّعر في صناعة الحضارة العربية ، وإخراج أُمَّة العرب المحصورة في الجزيرة العربية إلى آفاق جديدة ، وعوالم أكثر رحابة . إذن ، فالعقلُ الجمعي العربي كان يُقدِّس الشِّعرَ ، ويَجعله في قمة الهرم الحضاري، ويَنظر إلى الشاعر على أنه نبيٌّ يُدافع عن القبيلة ، ويَرفع اسمَها ، ويَحفظ التراث الإنساني الحضاري . وبالتالي ، ليس غريباً أن تَحتفل القبيلةُ إذا نبغ فيها شاعر ، فهي تَعلم  _ عِلْمَ اليقين _ أنه لسانُها الناطق ، وسيفُها القاطع .
     إن الشِّعرَ يَكشف نَفْسَه بنفْسه ، فهو نسقٌ قائم بذاته ، تَنبع مرجعياته ونظرياته من داخله ، لذلك لا ينبغي استيراد النظريات الأدبية من هنا وهناك، فالمعلَّقات ذات نسق فريد ليس على مستوى الشِّعرية العربية فَحَسْب، بل أيضًا على مستوى الشِّعرية العالمية . وفي هذا السياق ، تتَّضح ضرورة الإصغاء لما يقوله شعراءُ المعلَّقات، وتفسير رموزهم ، وتحليل تطبيقاتها ، وجعلَ الشِّعر يُفَسِّر الشِّعرَ دون حَقْنه بعناصر دخيلة ، أو آراء شاذة عن مسار الحضارة الشِّعرية العربية التي صَنعتها المعلَّقات .
     ينبغي الاستماع إلى آراء شعراء المعلَّقات التي أدلوا بها في شتى المواضيع . إذ إن آراءهم مستمدة من خبراتهم الحياتية، ومكنوناتهم النَّفسية، وتأثيرات البيئة الفكرية والاجتماعية في تكوينهم الشخصي . إنهم قد عاشوا الحياةَ بكل تفاصيلها ، لمعرفتهم أن الحياة تشكِّل قيمةً أساسية في الفكر الإنساني ، فهي الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الإنسان لتحقيق الغاية من وجوده ، وتحويل أشواقه الروحية إلى واقع ملموس ، وإشباع حاجاته المادية والمعنوية .
     إن ولادة الكلمات الثورية في شِعر المعلَّقات ، إنما تتم بواسطة زرع ثورة اللفظة والمعنى في أرجاء النَّص عن طريق بناء تكوينات فلسفية مُبْتَكَرَة ومُدهِشة وصادمة للمألوف ، وهذا يتحقق في نفسية الشاعر الثوري أولاً ثم يهبط على النتاج الأدبي الشِّعري . وهذه الولادة المتفجرة لها تشكيلان :
     الأول _ تشكيلٌ بصري فاقع لامتلاكه عناصر الرؤية الفنية التي تُختصَر في صدمة الصورة المتخيَّلة التي تهز الواقع هزًّا ، وتُفرغه من محتواه السلبي لصالح الصورة الفنية الساطعة التي تملأ نفسية الصانع ( الشاعر)والمتلقي ( الجمهور ) على السواء .
     والثاني _ تكوين سمعي يهز أركانَ المتلقي من أجل حشده بالقيم المطْلقة . فالعنصر السمعي موسيقى داخلية تنبع بالأساس من الصورة المتفردة، ولا ضَيْرَ أن تنبع من الأوزان الشِّعرية، لكن الأولوية للصورة المتدفقة التي تأخذ مسارها الماحي الهادر دون حواجز لغوية ، أو أوزان قد تعيق التصويرَ الصادم ذا المعاني المبتكَرة والمدهِشة.
فالموسيقى تهز الإنسان حتى لو لم يفهمها . وعلى سبيل المثال ، إن زقزقة العصافير تُثير الخيال، وتهز الأحلام، وتحرِّك ثوريةَ العاطفة، دون أن يفهمها المتلقي ، وقد يصل الشِّعرُ إلى هذا الطَوْر _ أحيانًا _ .
     إن الشِّعر لا يُعطيك بعضَه إلا إذا أعطيته كُلَّك . وهنا ، تبرز أهمية التنقيب عن القيم المركزية في المعلَّقات ، واكتشافِ المستويات الشعرية بكل تطبيقاتها الدينية والإنسانية والاجتماعية والفلسفية . والمعلَّقاتُ مَنجم كبير بحاجة إلى عمليات تنقيب كثيرة ومكثَّفة . والفلسفةُ الشِّعرية الكامنة في المعلَّقات هي بحرٌ متلاطم الأمواج . ولا مفر مِن الغَوص في أعماق هذا البحر لوضع اليد على الجواهر والدُّرر .

06‏/09‏/2018

سوسيولوجيا الجنس ( البنية الاجتماعية للطاقة الجنسية )

سوسيولوجيا الجنس ( البنية الاجتماعية للطاقة الجنسية )

للمفكر / إبراهيم أبو عواد

.......................

     الزَّواجُ هو العُنصر الأكثر تأثيراً في الحراك الاجتماعيِّ . وفي الزواجِ ، يَتحوَّل الجِنسُ مِنَ الشَّبَقِ الغريزيِّ إلى الوظيفةِ الرُّوتينية. والمرأةُ كائنٌ غامضٌ ، مشاعرُها مُعقَّدة ، وعواطفُها متناقضة. لكنَّ المرأةَ إذا تَكَرَّسَتْ تَعَدَّدَتْ . يعني إذا صارَ وُجودُها راسخاً في حياة الرَّجل ، فإِنَّها تُصبِح كُلَّ شَيء في حَياته، وكأنَّها تَقمَّصتْ كُلَّ نساءِ العالَم. إذا تَكَرَّسَتْ في حياةِ الرَّجل، تَعَدَّدَتْ شَخصياتها ووجوهها وأقنعتها ، وسَيطرتْ على مفاصل حياته ، وتَحَكَّمَتْ بِوُجوده مِنَ الألف إلى الياء . وإذا تشابهت النساءُ في عَيْنَيْكَ ، فهذا دليلٌ على أنَّ رَأْسَكَ هُوَ شَاهِدُ قَبْرٍ .
     وكَثيراً ما كُنتُ أسأل نَفْسي : لماذا تَخونُ المرأةُ زَوْجَها ؟ . ما الذي تُريده بالضبط ؟ . وبالطَّبْع ، كانت الإجابة الجاهزة : ضَعْف الوازع الدِّينيِّ والأخلاقِيِّ. وهذا صَحيح . ولكنَّ القضية تحتاج إلى مُعالَجة تَفصيلية ، ولا يَتِمُّ حَلُّها بِكلمة أو كلمتين . إنَّ الزَّوجة الخائنة تَحتاج إلى رَجُلٍ يُعيد اكتشافَها ، لأنَّ الزواجَ نظامٌ رُوتينِيٌّ ميكانيكيٌّ مُغلَق. وعُنفوانُ الزَّواج يَتجلى في لَيْلة الدُّخلة، حيث يَبدأ العَدُّ التنازلِيُّ لا التَّصاعديُّ . وقوةُ لَيْلة الدُّخلة تَبْرُز في استحالة تِكْرارها ، فَهِيَ كَعُود الثِّقاب ، اشتعال لِمَرَّةٍ واحدة فقط ، ثُمَّ انطفاء أبدي . وهذه الشَّرارةُ انطفأتْ ، والوَردةُ ذابلة ، وبعد لَيْلة الدُّخلة يَدخل الزَّوجان في الْمَلَلِ الجِنسي ، والرُّوتين الوظيفي . تَنتحِر العواطفُ تَدريجياً ، وقد تَبدأ رِحلةُ البَحث عَن شَرارة جَديدة ، وقَد يَكتفي الزَّوجان بالانطفاء ، ويَقتنعان بِه . ولَيلةُ الدُّخلةِ هِيَ انقلاب عسكريٌّ ، الدُّخولُ فِيه مَضمون ، لكنَّ الخروج مِنهُ غَير مَضمون . وأيُّ شَخص يستطيع إشعال شرارة الحرب . ولكنْ ، لَيْسَ أيُّ شخص يَستطيع إطفاءَها. ومَهْما يَكُنْ مِن أمرٍ ، فلا بُدَّ مِنَ المغامَرة لا المقامَرة ، وأفضل طريقة للتخلص من الخوف اقتحامُه .
     كُلُّ امرأةٍ مُتزوِّجة إذا أقْدَمَتْ على خِيانة زَوجها ، فعلى الأرجح ، سَوْفَ تُخْبِر صديقاتها الْمُقَرَّبات كَي تَستعرض " عضلاتها الرومانسية والغرامية " أمامَهنَّ ، وتُقدِّم نَفْسَها كبُؤرةٍ للإغراء، ومَصْدَرٍ للمُغامَرات العاطفية. وهي بذلك تُعلِن التَّمرد على الحياةِ الزَّوجية وتقاليدِ المجتمع، وتَكْسِر رُوتين الحياة الزوجية ، وتُحطِّم الْمَلَلَ الجِنسيَّ _ وَفْقَ مَنظورها الشخصيِّ _ . وكُلُّ امرأةٍ مُتزوِّجة إذا تَوَفَّرَت الظروف المناسبة زماناً ومكاناً للخيانة الزَّوجية، فَسَوْفَ تَخون زَوْجَها . ليس بالضرورة أن تصل إلى مرحلة الزِّنا ، لأنَّ مفهوم الخيانة الزَّوجية أكبر مِنَ الزِّنا .
     إنَّ الزَّوجة الخائنة تُخْبِر صديقاتها المقرَّبات بمغامرتها العاطفية ( المقامَرة ) ، وتُقدِّم نَفْسَها كامرأة قادرة على الإغراء وجذب الرجال ، ولا يَستطيع الرجالُ مقاومةَ سِحْرها وإغرائها ، لذلك يَلهثون وراءها . إنَّها تَميل إلى الاستعراض والتفاخر والتَّباهي . وهذا الوهمُ يُشْعِرُها بأنوثتها وحيويتها ونقاط قُوَّتها . والمرأةُ لا تَنظر إلى غَير زَوجها إلا إذا كان زوجها لا يُشْبِعها عاطفياً أو جسدياً ، ولا تَبحث عَن غَيره إلا إذا كان عاجزاً عن تحقيق طموحاتها وأحلامها . وهذا المبدأ يُمْكِن استخدامه في السياسة ، حيث المواطنُ لا يَبحث عَن رئيس آخَر إلا إذا كان الرئيس عاجزاً عن تحقيق طموحات الشعب .
     الفَراغُ هو القاتلُ ، يَقود الإنسانَ إلى الأفكار السَّيئة . ونَفْسُكَ إِن لَم تَشْغَلْها بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل . نظراتُ العُيونِ المتبادَلةُ هِيَ بِداية الخيانة . واللهُ يَعْلَمُ خائنةَ الأعْيُن . والخِيانةُ الزَّوجية يَختلف شَكْلُها باختلاف الطبقة الاجتماعية . المرأةُ الفقيرةُ خِيانتها بِدائيةٌ وساذَجة . أمَّا نِساءُ عِلْية القَوم ، فخيانتهنَّ مَمزوجة بالذِّكرياتِ والمشاعر والأيديولوجيات . وَلَوْ أنَّ امرأةً فقيرةً خانتْ زَوْجَها ، فإنَّ الجميعَ سَيُلْقُون عَلَيها تعاليمَ الشَّرفِ ، ويُنظِّرون عَلَيها ، ويَعتبرونها مُجْرِمةً تَنتمي إلى بِيئة مُتخلِّفة ، وتَفتقِر إلى الوَازع الدِّينيِّ ، ولَيْسَ عِندَها أخلاق . أمَّا إذا كانت الزَّوجة الخائنة مِن الطبقة المخملية ، فَسَوْفَ يتمُّ اعتبارُها ضَحِيَّةً للذكريات والأحلام الضائعة ، وتُصبِح شَهيدةً في سَبيلِ الحبِّ والعواطف الإنسانية النبيلة . الأقوياءُ ذُنوبُهم مَغفورةٌ دَائماً ، ولَدَيهم الحاشية ووسائل الإعلام القادرة على اختراع التَّبريرات ، وقلبِ الحقائق ، وتَسميةِ الأشياء بِغَير أسمائها .
     الخيانةُ الزَّوجيةُ في الطبقة المخملية تُشير إلى أنَّ القضية لَيْسَتْ قضية بنات شوارع أو نساء جاهلات . الخيانةُ الزَّوجية هي أيديولوجية متكاملة ، تَرمي إلى اكتشاف المجهول ، وصناعةِ المغامَرات العاطفية ، وإنهاءِ حالة الروتين . والزَّوجةُ الخائنةُ تُريد كَسْرَ الْمَلَلِ ، وتَطمح إلى إعادة اكتشافها ، وتُريد التَّحررَ مِن سُلطة النظام الروتيني المغلَق ، وتُريد أن تَشعر بِرِعشة الحب ، ومُتعةِ الاكتشاف الأول . والزَّوجةُ الخائنة تلجأ إلى تَفعيل سلاح الإغراء بَعيداً عن زَوجها الغارق في النظام الاستهلاكيِّ ، والذي يَلهث ليلاً ونهاراً من أجل توفير مُتطلبات الأسرة . وإغراءُ الزَّوجةِ قَد ضَعُفَ في مؤسسة الزواج الوظيفية الرُّوتينية ، لذلك تَسعى الزَّوجةُ الخائنةُ إلى إعادة اكتشاف سلاحها الفتَّاك ( الإغراء ) خارج إطار الزَّواج الخانق . وحتَّى لَوْ كانَ الزَّوْجُ يُشْبِعُ زوجته جِنسياً، فهذا لا يَمنحها حصانةً ضِدَّ الخيانة ، لأنَّ الإشباع الجنسيَّ _ على فَرض وجوده _ لا يُغني عَن الإشباع العاطفيِّ ولا يُعَوِّضه . والجديرُ بالذِّكر أنَّ الزَّوجات الخائنات لا يَتَصَرَّفْنَ بشكلٍ تلقائيٍّ وارتجالِيٍّ . إنهنَّ يُخَطِّطْنَ لكل خُطوة . وكُلُّ خطواتهنَّ مَحسوبة ومَدروسة بعناية فائقة .
     إنَّ المرأةَ التي تَخون زَوْجَها ، تُريد أن تُثْبِتَ لِنَفْسِها أنها ما زالت جذابةً ومُغْرِيَةً للرجال ، وأنها لَيست كالسيارة المستعمَلة . لقد تَعَوَّدَ زَوْجُها على رُؤيتها فلم يَعُدْ يَراها . لَم تَعُدْ مُغْرِيَةً بالنِّسبة إلَيه ، لأنَّ الاعتيادية قَتَلَتْ بريقَ الأنوثة ، وبالتالي أصبحت المرأةُ قِطعةَ أثاثٍ وتحصيل حاصل ، وهذا جعلها تبحث عَن رِعشةِ الحب ورَجفةِ القلب في ظِلِّ نظام استهلاكي مُغلَق وقاتل ، وتُريد الخروج من النظام الماديِّ الروتيني المتوحِّش .
     وهناك إشكاليتان تتعلقان بالزواج في المجتمعات المتخلِّفة : الأُولَى _ الزواج مَقبرة الحب ، والثانية _ المرأة خادمة مَنْسِيَّة في المطبخ .
     الخيانةُ الزَّوجية هي محاولة الخروج من رائحة البصل في المطبخ المحدود المحاصَر بالقيم الحياتية الاستهلاكية إلى فضاءات الرومانسية والمغامَرات والذكريات . كما أنَّه يتمُّ تصوير الخيانة الزَّوجية كمحاولة لإعادة اكتشاف الأُنوثة ، حيث البحث عن شَرارةِ الحب ، ولَسعةِ العِشق ، وعُنفوانِ المشاعر، ورِعشةِ الغرام. هذه الرِّعشةُ التي قُتلت في ضجيج الحياة الاستهلاكية ، والْمَلَلِ الجِنسيِّ ، ورُوتينِ الحياة الزوجية المحصورة والمحاصَرة .
     لقد تَحوَّلت العلاقاتُ العاطفية إلى نظام ميكانيكي شَيئي . وبدأ العَدُّ التنازلِيُّ ، وتَكرَّس الانتحارُ التدريجيُّ نظاماً حياتياً . بَدأ الزَّواجُ مِنَ الذِّروة ( لَيْلة الدُّخلة ) ثُمَّ يَحدث الهبوط، وكأنَّ الأمرَ صُعود إلى الهاوية . عِندَما تَرْمي حَجَراً في الهواء ، سيصل إلى لحظة يتوقف فيها . وهذه اللحظة تكون عِندَها السرعةُ صِفْراً ، والتسارع صِفْراً ، فيبدأ الحجر في التسارع العَكسيِّ ، ويَنْزِل إلى الأرضِ . لقد أصبحت لَيلةُ الدُّخلة مِصْيدةً ، وصارَ الصَّيادُ فَريسةً .
     الخيانةُ الزَّوجيةُ صارتْ مَظهراً اجتماعياً ( برستيج ) في ظِل تَفَكُّك المجتمع ، وانهيارِ الأُسرة ، واضمحلال العلاقات الإنسانية ، وتقليد المسلسلات التُّركية والمكسيكية . والمرأةُ العربيةُ مَقبرةُ الرُّومانسيةِ ، وجُزءٌ مِنَ الأثاث ، وهي ذاهبة إلى النسيان في إحدى زوايا المطبخ . إنَّها أَمَةٌ في ثَوب حُرَّةٍ ، والمجتمعُ يَضغط عَلَيها . وكثيرٌ مِنَ العائلات تَرْتدي قِناعَ التماسكِ والاتحادِ خَوفاً مِن كلام الناس ، وحِفاظاً على المكانة الاجتماعية ، وهذه العائلاتُ المتماسكةُ على الورق ، المفكَّكة على أرض الواقع ، تُشكِّل بِذرةَ العُنف الاجتماعي .
     وهُناك مبدأ ثابت في حياة الكثيرين ، وهو أنَّ الزَّوجة للإنجاب ، والعشيقة للحُبِّ . الزَّوجةُ للمطبخ والأولاد ، والعَشيقةُ للحُبِّ والرُّومانسية والذِّكريات . الزَّوجةُ لإعداد الطعام لِزَوجها وأولادها ، والعشيقة للعَشَاء على ضَوء الشُّموع . ما أصعبَ أن يَتجزَّأ الرَّجل ! ، جسده مَعَ زَوجته ، وقَلْبُه معَ امرأةٍ أُخرى .
     والإنسانُ حِينَ يَغرَق في نظام نمطيٍّ انعزالِيٍّ مُغلَق ، يَحتاج إلى مَن يُعيد اكتشافَه ، ويُشعِره بأهميته في هذا الوجود . إنَّها رِحلة البَحث عن السُّلطة الاعتبارية والتقدير . الفراغُ العاطفيُّ يُحوِّل جَسَدَ المرأة إلى أيديولوجية ، والمجتمعُ يُؤَدْلِجُ المرأةَ كَي تَقمع جَسَدَها بجسدها ، وتَضطهد نَفْسَها بِنَفْسها . وهكذا ، تَعتبر المرأةُ نَفْسَها كُتلةً مِنَ اللحم الْمُغرِي ، وتَبدأ رِحلةُ الإغراء . والمرأةُ تَشعر بالاكتئاب حِينَ تَفقِد القُدرةَ على الإغراء . إنَّهُ سِلاحُها الفَتَّاك الذي يَمنحها الثِّقة بالنَّفْسِ ، ويُشعِرها بأنوثتها .
     والإغراءُ للمرأةِ مِثْل الإبرة للنَّحلة . الإغراءُ مُسدَّس بِطَلقة واحدة فقط ، والذئابُ يتكاثرون في الغابة . المرأةُ تُؤمِن بأنَّ جسدها شَيطان يجب قَتْلُه. وهذه النَّظرة تُولِّد الكَبْتَ الجِنسيَّ. لقد تَحَوَّلت لَيلةُ الدُّخلة إلى مِصْيَدة ، وتَحَوَّلَ الجِنسُ إلى فخ .
     وفلسفةُ الإغراء شديدة التعقيد . فالمرأةُ هي الفاعل والفِعْل في موضوع الإغراء ، والرَّجل هو رَدَّة الفِعْل . وفي بعض الأحيان يقوم الرَّجل بإغراء المرأة بطريقة غير مباشرة ، حيث إِنه يُحرِّك جَذوةَ الإغراء في جسد المرأة ، فينبعث الرماد من تحت النار . وقد كانت المرأةُ تعتقد أنَّ النار انطفأت إلى الأبد . وهذا الانبعاثُ يُصيب المرأةَ بالغرور ، ويُشعرها بأنوثتها الصارخة . وسواءٌ كان الانبعاث حقيقياً أَم وهمياً ، فالمرأة تُحِبُّ الرَّجلَ الذي يَضحك عَلَيها ، ويُشعرها بأنها ملكة لا يُقاوَم إغراؤها . 
     وفلسفة الطاقة الجنسية قائمة على الشُّعور بِلَذَّة العُنفوانِ والخلودِ . والخلودُ هو الامتداد في جسد المرأة الذي يُشكِّل بُؤرةً اختزاليةً للمعنَى الوجوديِّ القائم على بقاء النَّوع وخُلود الاسم .
     والمرأةُ مِثْل الإبريق الزُّجاجيِّ ، إذا كُسر لا يُمكِن إصلاحه وإعادته كما كان . وإذا خُدِش ، سيظل الخدشُ علامةً مُميِّزة . لذلك ، المرأة لها غِشاء بَكارة . أمَّا الرَّجل فَلَيْسَ له غِشاء بَكارة .
     والرِّجالُ يَخْلِطُون بين الرومانسية والجِنس ، بين الحبِّ الخالص وحُبِّ مُمارَسة الجِنس . المرأةُ هي البُؤرةُ المركزية ، جسدها شديد التَّكثيف . والشخصُ الذي يَختزِل وُجودَه في جسد المرأة ثم يَرميها ، هُوَ شخص فاقدٌ لقيمة الرُّجولة ، لأنَّه حَوَّلَ المعنَى الكُلِّي إلى مَعنَى جُزئيٍّ .
     والجِنسُ بَصمةٌ ، لكنَّ تأثيرها يَزول في متاهة التناقضات وكَومة الأضداد . الوجهُ أو القِناع . البَشَرةُ أو المِكياج. شخصٌ يَعشقُ امرأةً، لكنَّه عاجزٌ جِنسياً. يَعشقها لكنَّه غَير قادر على إسعادها ، بسبب عَجزه عن إشباعها جنسياً . الإرادةُ مَوجودةٌ ، لكنَّ جِسْمَه خانه . خَذَلَتْهُ قُواه المادية رغم وُجود القوة الرُّوحية . المشاعرُ افترقتْ عَن الجسد ، والخيال انفصلَ عن الواقع ، والأحاسيسُ افترقتْ عَن منظومة الحقوق والواجبات . وقد تُحِبُّ المرأةُ زَوْجَها رغم أنَّه عاجز جِنسياً ، لكنَّها  _ في قرارة نَفْسِها _ تَحتقر ضَعْفَه ، وتَندب حَظَّها .
     لَوْ كانَ هُناك رَجُلان في حياة امرأةٍ ، مَن ستختار ؟ . ما هي المعايير ؟ . الصوت ، والصَّدى ، والنِّداء الداخلي ، والغريزة ، والذكريات ، والمشاعر ، والقوة الروحية ، والقوة المادية، وإفرازات النظام الاستهلاكي . المرأةُ تَغتصِب نَفْسَها لِتَجد رُوحَها . إنَّها المتاهة ، ولا ضَوء في نِهاية النَّفَق . الإنسانُ يُدمِّر نَفْسَه بَحثاً عَن الْمُتعة ، لكنَّه يَخسر مَرَّتَيْن . ولا يُمْكِن جَنْيُ العنبِ مِنَ الشَّوك . والإنسانُ يَبحث عن السعادة في الخارج ، مَعَ أنَّها كامنة في ذاته .
     مَنبع الحب الحقيقيِّ في الزواج هو التوافق الجسدي أثناء مُمارَسة الجِنس . الجِنسُ هو مَنبع النهر ، والعواطفُ هي الرَّوافد . لا أحدَ يُفرِّق بين الإعجاب والحب . فرضيةُ الحبِّ التي لَم تَصِلْ إلى مُستوى النظرية . الزَّواجُ هو سُقوطُ الأقنعةِ ، ونِهايةُ أُسطورة المكياج . كُلُّ زَوْجٍ يَرى شَريكَه على حقيقته. تنتقل المرأةُ مِن رائحة العِطْر في فترة الخطوبة إلى رائحة البصل في المطبخ بعد الزواج. كَيْفَ يَكون شكلُ المرأة حِينَ تستيقظ مِنَ النَّوم ؟ . كَيْفَ يَكون شكلُ الرَّجل حين يستيقظ من النوم ؟ . الزواجُ يَكشف حقيقةَ الأشياءِ الصادمةَ .
     الناسُ يُمارِسون الجِنسَ ، لكنهم لا يَعرِفون مِيكانيكا الجِنس ، ولا يُدْرِكون الأبعادَ العاطفية والرمزية في الطاقة الجنسية . والبشريةُ حائرة بين إمكانية الجِنس بلا حُب ، وبين استحالة الحبِّ بلا جِنس. والحالتان محصورتان في الزواج . إنَّه الضياع الإنساني بين المتعة والمسؤولية المترتِّبة على هذه المتعة . لَوْ كانَ الزواجُ يَخلو مِنَ الجِنس ، هَل سَيُقْدِمُ الرَّجلُ والمرأةُ على الزواج ؟ . هَل يَتَحَمَّلان المسؤوليةَ المجرَّدة بِدُون وُجود لَذَّة جنسية؟.هَل سَيَطْمَحَان إلى تَكوين أُسْرَةٍ في ظِلِّ غياب الجِنس ؟. لَوْلا الشَّهوة الجنسية التي رُكِّبَت في الرَّجل والمرأة ، لَبَصَقَ كُلُّ طَرَفٍ على الآخَر . إنَّ الجِنسَ هُوَ الذي جَعل التَّضحيةَ خياراً إستراتيجياً في العلاقة بين الرَّجل والمرأة .
     المرأةُ صَارتْ جُزءاً مِنَ الأثاث . تَتزيَّن للسائرين في الشوارع ، وفي بيتها تَكون في أسوأ حالاتها . لقد أسقطَ الزواجُ الأقنعةَ ، فظهرَ الرَّجلُ والمرأةُ على حقيقتهما ، لأن الحياة الزَّوجية بدون مكياج . والرَّجلُ هو مركزية الغرور ، تَكون زَوجته جميلة ، لكنه لا يراها بِحُكم التَّعَوُّد على رُؤيتها ، فَيَبحث عن المرأة خارج البَيت . إنَّه لا يرى الجوهرة التي يَملكها. ينظر إلى ما في أيدي الناس ، لأنَّ الإنسان لا يرى الشَّيْءَ الذي في يده .
     والدُّنيا كُلُّها مظاهر كاذبة وأقنعة ، والكُلُّ يَكذب على الكُلِّ . نِسبةُ المتعةِ في الزَّواج قليلة ، لأنَّ العلاقة الجنسية مَخلوطة بالشوائب والمسؤولية . لا يُوجَد في الدُّنيا نقاء كامل . وكَوكبُنا مكان شديد الخطورة للعَيش فيه. والمجتمعاتُ الإنسانية مُوحِشة ومُتوحِّشة . والمرأةُ الجميلة هي التي تَكون جميلةً حِينَ تَستيقظ مِنَ النَّوم . وبالتالي ، فلا تُوجَد امرأة جميلة ! . إنَّه جَمَالُ المِكياجِ وبريقُه.
     في أيِّ مُجتمعٍ مُتخلِّفٍ قاتلٍ للرُّومانسية ، يُصبِح الزواجُ مَقبرةً للحُبِّ . والزواجُ إجراء ميكانيكي بَحْت مَعَ توابل رُومانسية، لأنَّه _ أي الزَّواج _ هو العمود الفِقري للمجتمعات البدائية المتخلِّفة شُعورياً ، والعاجزة عن تَوليد الذكريات. والمرأةُ سِلعةٌ لأنَّها عانسٌ في مَوْضِع البَيع والشِّراء، يَحكمها قانون السُّوق في مجتمع يَحتقِرها،ويَعتبرها وسيلةً للتكاثر وآلةً للتَّفريخ والتَّفريغ.
     الرَّجلُ هو الفاعلُ، والمرأةُ هي المفعول بِه. والمنطقُ الاجتماعيُّ لا يَقْبَل أن يَتقدَّم المفعول بِه على الفاعل . حتى في قواعد اللغة ، لا يَتقدَّم المفعول به على الفاعل إلا ضِمن أساليب لُغوية مُقيَّدة . والنظرةُ الدُّونيةُ للمرأة مُنتشرة عَلى كَوكب الأرضِ بلا استثناء . وسببُ النظرة الدُّونية للمرأة يَعود إلى الطبيعة البيولوجية . فالمرأةُ هِي مَحل الشهوات ، ورَدَّةُ فِعْلٍ لا فِعْلٌ . جَسَدُها هو الوعاء لإفرازات الفِعْل الجنسيِّ . وَهِيَ تَقوم بعملها بصمت وخُضوع ، وتهتمُّ بِتَحقيق شَهوة الرَّجل أكثر مِن اهتمامها بِشَهوتها الشخصية .
     والمرأةُ لَيْسَتْ مَعْنِيَّةً بالْمُطالَبة بحقوقها أو الدفاع عن بنات جِنسِها ، بَل هِيَ مَعْنِيَّة باصطياد رَجل يَتزوَّجها ، وتكوين أُسرة ، وانتهى الموضوع . المرأةُ لا تُتعِب نَفْسَها في القضايا الفكرية ، والمصيرِ الإنسانِيِّ ، وحركةِ الزمان والمكان .
     إنَّ حياةَ المرأة مَحصورةٌ بين المطبخ وغُرفة النَّوم . والحياةُ مستمرة سواءٌ كان الإنسانُ ضَحِيَّةً أَم مُجْرِماً . ولا أحدَ يَشعر مَعَ أحَد . كُلُّ إنسان يَبحث عن مصلحته الشخصية ، وهكذا يَتكرَّس الخلاصُ الفرديُّ فَلسفةً عامَّةً للمجتمع .
     والإنسانُ إِنْ سَيْطَرَتْ عَلَيهِ الشَّهوةُ الجنسية سَيَتَحَوَّل إلى وَحْشٍ مَجنون . وعقلُ المرأةِ في شَهوتها الجِنسية . والمرأةُ كائنٌ دَمويٌّ لارتباط حياتها بالدَّم في كُلِّ مراحل وُجودها ، وهي تَفقِد جُزءاً كبيراً مِن قُدراتها العقلية في فترة الحيض . دَمُ الحيضِ ودَمُ الافتضاض ودَم الولادة ... إلخ .
     المجتمعُ غارقٌ في المفاهيم التي يَخترعها ثُمَّ يَفقِد السَّيطرةَ عَلَيها ، كالإنسانُ الذي يَخترع الرَّجلَ الآلِيَّ ثُمَّ يَفقِد السَّيطرةَ عَلَيه . ولَيْتَ الأمرَ يَقِف عند هذا الحد . إنَّ الرَّجلَ الآلِيَّ هُوَ الذي سَيْطَرَ على الإنسان . وهذه الكارثة مُنتهى السُّخرية ، لأنَّ المصنوع سَيْطَرَ على الصانع .
     وهُناك مَفهومان يَظهران في المجتمع الإنسانِيِّ : الآنسة والسَّيدة . والفرقُ بينهما هو الفرق بين الجسد والتَّجسيد . ويَظهر مَفهوم " ابنةِ العَمِّ " ، حيث الرَّجل يُنْزِل ابنةَ عَمِّه عَن ظَهْر الفَرَس ، في إشارة إلى أنَّه الأحق بالزَّواج مِنها ، فَهُوَ العَريس ، وَهِيَ العَرُوس . وهذه العُقدة الاجتماعية تُشير إلى عقلية الاحتكار، حيث يتمُّ حَجْزُ الأُنثى مِثْل البِضاعة حتى يَأتِيَ الزَّبون للدَّفع والاستلام . وهذا أمرٌ مُتوقَّع في مجتمع يَحتقر المرأةَ .
     الرَّجلُ والمرأة يَعيشان معاً، ولا يَعْرِفان فلسفةَ الجِنس، ولا مَعنَى الحبِّ،ولا إستراتيجية الزواج. يعيشان كالأغنام في الحظيرة . لا يَعْرِفان شَرارةَ الحبِّ ، ولا لَسعة الذِّكريات. الحبُّ الأولُ إن كان عنيفاً سَيُدَمِّر الزواجَ . والرُّومانسيةُ العنيفةُ هِيَ مَنظومة خيالية سَتَكْسِرُ قالبَ الزواج الحاضن لمشروع الحب . وعُنفُ الحبِّ يَأخذ مَنْحَىً خيالياً قد يُحطِّم إطارَ الزواجِ الضَّيقَ . وأبناءُ عصر الانحطاط لا يَعْرِفُون مَعنَى الأُنوثة ، لأنهم يَختزلونها في الجسد . إنَّ الأُنوثة هِيَ ثَورة المعنَى الرَّامية إلى التقاء الإنسان بإنسانيته .
     البشريةُ تُمارِس الجِنسَ ، ولا تَفهم معنى الجِنس . وَلَوْ كانت تَفهم مَعنى الجِنس لَمَا صارت المرأةُ ضَحيةً . الجِنسُ هُوَ التطبيق الفلسفيُّ العقلانِيُّ للرُّومانسية . والجِنسُ يُؤسِّس فلسفةَ ما بَعْد المرأة، لأنَّ المرأةَ ماتت. وبِمَوْتِ المرأةِ انتهى التاريخُ. ولا معنى لِوُجود الرَّجل. الرَّجلُ هو الأكذوبةُ المنتفِخة في النظام الاستهلاكيِّ المتوحِّش .
     أكثرُ شَيء يُحطِّم الرَّجل هو إصابته بالعَجْز الجِنسيِّ ، فهذا المرضُ قاتلٌ لِرُجولته ، ومُدمِّر لمشاعره. وعَجْزُ الرَّجلِ الجِنسيُّ والمشاعريُّ، تَدفع ثَمَنَه النِّساءُ أضعافاً مُضَاعَفَةً. وأكثرُ شَيء يُحطِّم المرأة هو الاغتصاب ، لأنَّه يُحوِّلها إلى حشرة مَنْزوعة الأنوثة .
     ومشكلةُ البشرية هِيَ أنَّها لا تَنظُر إلى ما وراء لَيلة الدُّخلة . إنَّ الإنسانَ يتخندق في اللذة دُون النَّظر إلى المسؤولية المترتِّبة على هذه اللذة . لا بُدَّ مِن دَفع ضريبة الاستمتاع. ذَهبت اللذاتُ ، وَبَقِيَت التَّبِعَات . والفلسفةُ الاجتماعيةُ لا تَبْرُز إلا مِن خلال النظر إلى ما وراء المرأة ( ما وراء الجنس ) . وهكذا تَتكرَّس فلسفة " ما وراء المرأة " أو " ما بعد المرأة " . يجب تجاوز المرأة ، لأنَّ الشَّيطان تجسَّدَ في جسد المرأة ( أُنوثة الأنقاض ) .
     تَفقِد المرأةُ ثقتها بِنَفْسِها حِينَ تَشعر أنَّها كائن غَير مَرغوب فِيه ، وتنهار أُنوثتها في داخلها ، وتَدخل في مدارات الاكتئاب. والمرأةُ تَتحرَّك تَحت سَيف العادات والتقاليد . تَتحرَّك تحت الضغط الاجتماعي بسبب الخوف مِن شَبح العُنوسة .
     الرَّجلُ يُريد مُمارَسة الجِنس ، والمرأةُ كذلك ، فَيَبحثان عن إطار شَرعيٍّ ، فَيَتَزَوَّجان وهُما عاجزان عَن تَحَمُّل المسؤولية، ولا يَعْرِفان الغايةَ مِن وُجود الزواج . إنَّهم يَتحرَّكان في مجتمع مقموع سياسياً ، ومَكبوت جِنسياً . يَبحثان عن الجنس فقط ، ثُمَّ يَقولان : الزَّواج نِصْف الدِّين . وذلك من أجل تَكوين إطار دِينيٍّ للشَّهوة الجنسية . والزَّواجُ المبنيٌّ على قاعدة سليمة هو نِصْف الدِّين ، أمَّا الزَّواج المنطلق من الغريزة فقط فهو هَدْمٌ للدِّين .
     والإنسانُ سَوْفَ يَتعذَّب حِينَ يُفرِّق بين الرُّومانسية والزواج ، بين الحب والجِنس . سَيُصْبِح فَيْلسوفَ العذابِ والذِّكرياتِ . وَلَو استطاعَ الإنسانُ أن يَجعل كُلَّ لَيلةٍ في حياته هِيَ لَيلة الدُّخلة، فَسَوْفَ يُحطِّم الرُّوتينَ الجِنسيَّ، ويُكرِّس دَيمومةَ الاكتشافِ الجسديِّ المتواصِل . كأنَّ الجسدَ مَنْجَم، يُراد التَّنقيب فِيه كُلَّ مَرَّةٍ بأُسلوب جديد ، وأدوات جديدة .
     والعِبرةُ لَيْسَتْ في دُخول لَيلة الدُّخلة . إنَّما العِبرة في الخروج مِنها . فالزَّواجُ انقلابٌ عسكريٌّ يَتحوَّل مَعَ مُرور الوقت إلى معركة . وكُلُّ شخص يَستطيع أن يَدخل في المعركةِ ، ولكنْ لَيْسَ كُلُّ شَخص يَستطيع أن يَخرج مِنها .
     مُمارَسةُ الجِنس هِيَ مَنظومة التَّوافق بين رائحة جسد الرَّجل ورائحة جسد المرأة . والزواجُ هُوَ تَحَوُّل الجِنس مِنَ الشَّبَق الْهَوَسِيِّ إلى الإجراء الوظيفيِّ . والجِنسُ نافذةٌ على عالَم آخَر ، يتجاوز الحدودَ الزمانية والمكانية . والمشكلةُ الجذريةُ أنَّ الكثيرين يُمارِسُون الجِنسَ لِيَكْسِرُوا الْمَلَلَ ، لكنَّ الجِنسَ يَتحوَّل إلى مَلَل ، ويُصبِح عِبئاً واختناقاً بِحُكْم العادةِ والاعتيادية . وتُصبِح مُمارَسةُ الجِنس مِثْل الوظيفة الحكومية ، لذلك قَد تَنشأ الخِياناتُ الزَّوجيةُ ، ليس بالضَّرورة أن تصل إلى الزنا . فقد يكون معنى الخيانة أن يَبحث كُلُّ طَرَفٍ عَمَّن يُشْبِعُه عاطفياً ، ويُخرِجه إلى فضاءات رومانسية ومغامرات عاطفية بعيداً عَن روتين الحياة الزَّوجية .
     ونحن في مجتمع مفتوح. الوازعُ الدينيُّ ضَعيف. والمنظومةُ الأخلاقيةُ مُتهاوية . الفسادُ الأخلاقِيُّ في كُلِّ مكان ، وهذا يَجعل الإنسان مُهيَّجاً جِنسياً ، كالذَّرَّة خارج مَدارها . القَنواتُ الفضائية هِيَ أسواق نِخاسة أعادتْ عَصْرَ الجواري . والمذيعاتُ هُنَّ الجواري اللواتي يتمُّ اختيارُهُنَّ حَسَبَ أحجام صُدورهنَّ ، وقُدرتهنَّ على الإغراء ، وهذا يَزيد مِن أسعارِهِنَّ .
     انتشرت الخيانةُ الزَّوجية بكافَّةِ أشكالها في كُلِّ طبقات المجتمع . كما أنَّ غياب الرَّجل عن البَيت لساعات طويلة ورُجوعه مُرهَقاً، يَجعل المرأةَ تعيش في فراغ قاتل ، وهذا الفراغُ هو القوة الدافعة للخيانة. فالرَّجلُ لا يُشْبِع زوجته عاطفياً ولا جِنسياً. وأحياناً ، يُوجَد إشباع جنسي ، ولكنْ لا يُوجَد إشباع عاطفي. وبالتالي، يَبحث الزَّوجان عن تجديد حياتهما بعيداً عن مؤسسة الزواج، ويَسْعَيَان إلى اكتشاف الشَّهوة والأشواقِ الروحية خارج البيت.
     والأشياءُ لا تَتحرَّك بحريةٍ في الأنساق الاجتماعية. فالأشياءُ مَحكومةٌ بالذكريات، وقُوةُ الأشياءِ لَيْسَت استقلاليةً ، لأنَّ الأشياء تستمد قُوَّتها من الذكريات . وقُوةُ الذكرياتِ تتحوَّل إلى تيار فلسفيٍّ يُهاجِم النَّواةَ الإنسانية ، وهذا هُوَ سِلاحُ الذِّكريات . والإنسان قَد يَخترع وَهْماً لِيُقْنِعَ نَفْسَه أنَّه مَرغوب ومَحبوب ، مِثْل المرأة التي تَخدع نَفْسَها لِتَجد نَفْسَها . تُرْسِل رَسائلَ الحبِّ إلى نَفْسِها . تَخترع الوَهْمَ لِتَهْرُبَ مِنَ الواقع ، وتُشْعِر نَفْسَها أنَّها مَحَط اهتمام الآخرين وأنظارهم ، ويُشار إلَيها بالبَنان .
     والمرأةُ المتزوِّجةُ قد تُقْنِع نَفْسَها أنَّها مُسْتَهْلَكَة ، فَتبحث عَن التَّجديد والخروج من دائرة الروتين عن طريق اصطياد مَن يَكتشفها ، ويُعيد اللهفةَ والشَّبَق والشَّوق والعناصرَ الرُّوحية التي تآكَلَتْ بِفِعْل ضُغوطات الحياة الزوجية .
     الحبُّ صَارَ عمليةَ اصطيادِ الفريسة . امرأةٌ تُلْقِي طُعْماً للرَّجل ( السمكة ) مِن أجل اصطياده . وهكذا صارت المرأةُ سِلعةً ، وصار تَسليعُ المرأةِ نظاماً اجتماعياً ضِمن جدلية العَرْض والطَّلَب . وفي أحيان كثيرة ، يُصبِح الجِنسُ بين الزَّوجين مِثْلَ الطُّعْمِ الذي يُلْقَى للسَّمكة ، أو قِطْعة الْجُبْن التي تُوضَع للفأر مِن أجل إيقاعه في المِصْيَدة .
     إنَّ مُمارَسة الجِنس كالبَصمة ، لا تَتكرَّر . لا تُوجَد علاقتان مُتشابهتان . لا يُمكِن للرَّجل أن يُمارِس الجِنسَ مَعَ زَوجته مَرَّتَيْن ، ولا يُمكِن للحصان أن يَشرب مِنَ النَّهْرِ مَرَّتَيْن . كُلُّ مَرَّةٍ هِيَ عالَمٌ جديدٌ ، يَذهب ولا يَعود . إنَّه التَّجددُ الدائمُ والانبعاثُ المتواصلُ . والجِنسُ عَالَمٌ جَديدٌ يُوازي الواقعَ ، ولا يُمَاثِلُه .
     والمجتمعُ الإنسانِيُّ عاجزٌ عن معرفة ماهية الجِنس ، وغَير قادر على معرفة معنى الرومانسية ، لأنَّ المرأة تتمُّ تَربيتها باعتبارها خادمةً ذليلةً لِزَوجها ضِمْن ثقافة المجتمع الذكوري القاسي ، وهذا الخضوع تُوَرِّثه المرأةُ لبناتها ضِمْن سِلْسلة القَهْر . وقد تَمَّ تَتويج الرَّجل حاكماً مُستبداً على المرأة ، فالرَّجل يُعامِل زوجته كالجارية ، دُون أن يخاف مِن أيَّة إجراءات مُترتِّبة على ذلك . وَمَن أَمِنَ العقوبةَ أساءَ الأدبَ . حتَّى إِنَّ الزَّوجة تَحْمِلُ اسْمَ زَوْجِها ، وتتخلى عَن اسم عائلتها ، وهذا يدل على أنَّ المرأةَ سِلعة ، اشتراها زَوْجُها بماله ، وصارتْ مُلْكاً له .
     وهكذا صارت المرأةُ قِطعةَ أثاث في البيت للزِّينة والديكور. والمجتمعُ يَقتل المرأةَ ، لأنها قَتَلَتْ نَفْسَها بِنَفْسِها . وَمَن عَوَّدْتَهُ على أكْلِكَ ، كُلما نظر إلَيكَ جاعَ. إنَّ المرأةَ صارت سِلعةً لأنها سَلَّعَتْ نَفْسَها بِنَفْسِها . تَعشقُ المرأةُ الرَّجُلَ الذي يَحتقِرُها . تَعشقُ جَلادَها ومُغْتَصِبَها وتعتبره مَثَلاً أعلى وقُدوةً عُليا . وهذا هو التَّدجين الذاتي. والمرأةُ مَسحوقةٌ لأنها سَحقتْ نَفْسَها ، إنَّها المرأةُ الْمُغْتَصَبَة معنوياً ، التي تُدافِع عَن مُغْتَصِبِهَا وجَلادها وقاتلها . إنَّه دفاع الضحية عن المجرم ، ثُمَّ تَقَمُّص الضحية للمُجْرِم . والمغلوبُ مُولَع بِتَقليد الغالب . والمرأةُ التي تَعشق مُغْتَصِبَهَا هِيَ نتيجة طبيعية للانهيار الاجتماعي، الذي يُكرِّس سِيادةَ الرَّجل على المرأة بالمفهوم الاستبدادي الاستغلالي . 
     ومعَ مُرور الزمن ، تَذوب في الزواجِ الرغبةُ الجنسيةُ . إِذ إِنَّ أفضل طريقة لقتل الجِنس هِيَ مُمارَسة الجِنس . كما أن مُمارَسة الجِنس _ في أحيان كثيرة _ تَقتل الحبَّ والرُّومانسيةَ ، لأنَّ هذه الممارَسة تُطْفِئ جَمرةَ الحبِّ ، وتَقضي على الشَّوق والرغبةِ. وبعبارة أخرى ، إِنَّ الكثيرين يَعتقدون في قرارة أنفسهم أنَّ مُمارَسة الجِنس تُفْسِد الرومانسيةَ كما يُفسِد الْخَلُّ العسلَ ، لأنَّ الجِنسَ يُحوِّل المشاعرَ والذكريات إلى غَريزة وأداء شهواني ميكانيكي . كما أنَّ هُناكَ عُشَّاقاً يَبتعدون عَن الزِّنا بِعَشيقاتهم ، لَيْسَ بسبب الإيمان والتَّقوى ، ولكنْ للإبقاء على جَذوة الحب مُسْتَعِرَةً ، لأنهم يَرَوْنَ أنَّ الجِنسَ يُحطِّم الرومانسيةَ والأحاسيسَ .
     المشاعرُ تَكون مُتأجِّجة في فترة الخطوبة، ثُمَّ تَنطفِئ في فترة الزواج . وفي هذا السِّياق، تَبْرُز فلسفة" لا تَتزوَّج المرأةَ التي تُحِبُّها ، وأحِبَّ المرأةَ التي تَتزوَّجها " . كثرةُ المِسَاس تَقتل الإحساس . تَتحوَّل المتعة الجنسية إلى عِبْء ، وتختفي اللذةُ ، وتبقى المسؤوليةُ ، فَتَحدث المشكلات بسبب غياب الاستعداد للحالات الطارئة . يَحْمِلُ الجميعُ فكرةً رومانسيةً حالمةً عن الزواج ، وهذه الفكرةُ الخيالية هِيَ سبب المشكلات . لذلك صار الزواجُ فَخَّاً قاتلاً . يُمارِس الزَّوجان الجِنسَ ، فتنكسر الشَّهوةُ، ويَنطفئ هَيَجَانُ الغريزة . انتهت اللعبةُ ( المتعة ) ، ولا مَفَرَّ مِن تَحَمُّل المسؤولية . إنَّها ضريبة مُمارَسة الجنس .
     ومُمارَسةُ الجِنس قد لا تَكون بدافع الهوَسِ الجِنسيِّ أو الشَّهوة الغريزية ، وإنما قد تَكون بدافع الْمَلَل والقَرَف والوَحدة والفَراغ وكَسْر الروتين . ومعَ مُرور الوقت ، يَتحوَّل الجِنس إلى مَلَل . والإنسانُ إذا لَم يَجِدْ شَيئاً يَفعله ، فإِنَّ الجِنسَ يُصبِح كُلَّ شَيء يَفعله . والجديرُ بالذِّكر أنَّ الكَبْتَ الاجتماعي والسياسي في المجتمعات المتخلِّفة يتحول إلى كَبْت جنسي يَحتاج إلى تَفريغ. وهذا يُفسِّر أن الطبقات المتدنِّية في المجتمع ( الفقراء والمنبوذين ) هُم الأكثر إنجاباً، بعكس الطبقة الراقية في المجتمع، فهي الأقل إنجاباً . ويَنبغي القَول إِنَّ مُمارَسة الجِنس في المجتمعات المسحوقة تَصير تَفريغاً للاحتقانِ السياسيِّ المزروع في كيان الفرد المقموع العاطل عن الوطن .
     إِنَّ الكَبْتَ السياسيَّ في المجتمعات القامعة المقموعة ، يَتحوَّل إلى كَبْتٍ جِنسي يُوصِل الأفرادَ إلى العجز السياسي الكامل ، ويَدفعهم إلى التركيز المهووس في مُمارَسة الجنس كَحَل وَحيد ، وتَعويض عن خَيبات أملهم وعَجْزهم في الحياة العامة . وإنَّ الذين يَعيشون على هامش المجتمع ، يَهربون إلى ممارسة الجنس كتعويض عن هزائمهم في الواقع . إنَّه يَبحثون عن نَصْرٍ مِن أيِّ نَوع . وهكذا يصير الجِنس هو النجاح الوحيد في حياة المنبوذين والفقراء والضُّعفاء .
     الرومانسيةُ شَيء، والزواجُ شَيء آخَر . والخطورةُ تتجلى في كَوْن الزواج والرومانسية ضِدَّيْن لا يَجتمعان . فالزواجُ أداء وظيفي ميكانيكي لا علاقة له بالرومانسية. هذه هي القاعدة ، ولا عِبرة بالحالات النادرة ، لأنَّ النادرَ لا حُكْمَ له . ولا مَعنى للرُّومانسية ، لأنَّ المرأة واقعة تحت ضغط العُنوسة . سَيْفُ العُنوسةِ على رقبتها ، فلا تَستطيع أن تُفكِّر بحرية ، وتتَّخذ القرارات بلا ضغط أو إملاءات.والرُّومانسيةُ إنَّما تَكون بين نِدَّيْن مُتَحَرِّرَيْن مِنَ الضغط الخارجي، وثقلِ العناصر المجتمعية.
     وفي هذا السِّياق يَنبغي القَول إِنَّ المالَ قادرٌ على صناعة المظاهر الرُّومانسية، لكنَّه لا يَقْدِر على صِناعة فلسفة الرومانسية. يُمْكِن شراء المظهَر بالمال، ولكنْ لا يُمْكِن شراء الجوهر بالمال. يُمْكِن امتلاك جسد المرأة بالمال ، ولكنْ لا يُمْكِن امتلاك قلبها بالمال . والمرأةُ مِثْل الطائرة الورقية ، دَعْهَا تُحَلِّق في السماء ، ولكنْ لا تُفْلِت الخيطَ .
     إنَّ هُناك رجالاً لا يُحِبُّون مُمارَسةَ الجِنس في إطار الزواج معَ النساء اللواتي أحَبُّوهُنَّ واحترموهُنَّ ، لأنهم يَعتبرون الجِنسَ نَوعاً مِنَ التَّفوق وإرغام الخصم وقَهْره وإلحاق الهزيمة بِه ، كما يَعتبرون الجِنسَ قاتلاً للرومانسية ، وهكذا يُصبِح الجِنسُ _ في أذهانهم _ مُعَادِلاً للاغتصاب ( اغتصاب الجسد ) رغم وجوده في إطار الزواج . وعلى الجهة الأخرى ، هُناك رِجال يَعتبرون مُمارَسة الجِنس فِعلاً انتقامياً وثأراً مِنَ المرأة ، فالمرأةُ عِندَهم مُجَرَّد وِعاء لتفريغ الشَّهوة المتأجِّجة.
     وللأسف، إنَّ الموت أو الانتحار يُكوِّنان صورةً دراميةً لقصة الحب،ويَصنعان بُعداً أُسطورياً لها، فيظهر العاشقان في صورة الشُّهداء، ويُحاطان بهالة العِشْق والتَّضحية والخلود. وهذا الوهمُ المتفشِّي في المجتمع يَعود إلى حالة الكبت المسيطرة على النَّفْس البشرية . والزواجُ قالبٌ لا يَتَّسع للحُبِّ بِصُورته الخيالية الأُسطورية. والعذابُ يُعْطِي بُعداً أسطورياً للأحداث . وكأنَّ الموتَ يُكْمِلُ الدائرةَ، ويَقوم بالأشياء التي عَجِزَت الحياةُ عَن القيام بها . أو إِنَّ الإنسانَ يُحقِّق أحلامَه في عالَم الموت ، وهذه الأحلام عَجِزَ عَن تحقيقها في عالَم الحياةِ . وهذا هو الوَهْمُ الْمُرَصَّعُ بالذِّكرياتِ القاتلة .
     لقد فَقدت الأُسرةُ مَعناها في النظام الاستهلاكي المتوحِّش ، وانهارت القِيَمُ العائلية ، وتَفَكَّكَت الروابط الإنسانية. وصارت المفاهيمُ مُشوَّشةً . الزواجُ بِدُون رُومانسية ، والرُّومانسيةُ بِدُون زواج، ومُمارَسة الجِنس بِدُون احترام . يجب على الرَّجل أن يَتعلَّم احترامَ المرأة قبل التفكير بالزواج منها ومُمارَسة الجِنس مَعَها . ولا بُدَّ مِنَ التمييز بين الزِّيجات والصفقات .
     صارَ الزواجُ صَفقةً تِجاريةً . بَيعٌ وشِراء حَسَبَ القانون ، قانونِ العَرْضِ والطَّلَب . ولا أُحِبُّ أن أكون جُزءاً مِن هذه المهزلة . انهارَ الحبُّ، وتَكَرَّسَت الغريزة الشهوانيةُ ، ويَتستَّر الجميعُ وراء شِعار " تكوين الأُسرة " .
     هل يُمكِن تَكوين أُسرةٍ صالحة في مجتمع غَير صالح ؟. وَجَدْنا المِكياجَ وَلَم نَجِد المرأةَ. عِشْنا مَعَ المرأة لَكِنَّنا لَم نَعْرِفْها. تَقَمَّصْنا الحبَّ لَكِنَّنا لَم نَعْرِف الحبَّ . نَحْنُ نَتشدَّق بِقصص الحب والغرام للاستعراض والافتخار، وتقديمِ أنفسنا كَعُشَّاق رُومانسيين، كالشخص الذي يَركب سَيَّارةً فارهةً ، لَكِنَّه لا يَعْرِف مُكَوِّناتها ولا طريقة عملها . نحن مَشغولون بالقُشور ، ولَسْنا مَعْنِيِّين باللباب . نَضْرِبُ على السَّطح ، ولا نغوص في الأعماق .
     إنَّ أعظمَ نظرية في تاريخ العلاقات الإنسانية هي " العَروس للعَريس والجري للمتاعيس " . وهذا الْمَثَل الشعبي الذي قَد يَبدو للوهلة الأُولَى ضِدَّ الثقافة الراقية، يُجسِّد الحالةَ الإنسانية بِدِقَّة . وينبغي النظر إلى الأبعاد الرمزية لهذا الْمَثَل ، وتطبيقاتها في كل المجالات الحياتية . إنَّ كُلَّ عملية تتكوَّن مِن طَرَفَيْن أساسِيَّيْن، والآخرون على دَكَّة الاحتياط ، وظيفتهم التشجيع والتصفيق والسهر على راحة الطرفَيْن الأساسِيَّيْن .
     وعُموماً ، إنَّ الحياةَ هي فلسفة ليلة الدُّخلة . اثنان يذهبان إلى الفعل الحقيقيِّ، ويَعود الآخرون إلى منازلهم بعد أن يُصفِّقوا ويَرقصوا مِن أجْلِ غَيْرِهم . تماماً كالأُمَّة العربية التي تَتفرَّج على مُنْجَزَات الحضارة العالمية ، ولا تُشارِك بِصُنعها . إنَّها تُصَفِّق وتَرقص من أجل الآخرين فقط .
     ودائماً، إنَّ الانتصارَ في المعركة يُسَجَّل باسم القائد العسكريِّ ، أمَّا الجنود الذي يُقْتَلُون في المعركة فَيَذهبون إلى النِّسيان، ويُصْبِحُون نُصْباً تِذكارياً اسمه "الجندي المجهول". أمَّا القائد العسكري المنتصر فَيَأخذ المجدَ والذاكرةَ والتاريخَ والجغرافيا والأوسمةَ وأقواسَ النَّصْر وأكاليلَ الغارِ.
     المرأةُ هِيَ القِناعُ ، وجَسَدُها كُتلةُ لَحْمٍ مَنْسِيَّةٌ ومُنْطَفِئةٌ . جَسَدُ المرأةِ ليس مُغرِياً ، وَلَوْ كانَ مُغرِياً لَمَا تَمَّ اختراع قُمصان النَّوم . وهذا دليلٌ واضحٌ على أنَّ جسد المرأة لا يَتمتَّع بالاكتفاء الذاتي ، وإنَّما يَبحث عن إسناد خارجي . وقوةُ الجسدِ لا تَكْمُن في ذاته ، بَل في الأشياء المحيطة به. كما أن إغراء ما يُغطِّي الجسدَ أشدُّ مِن إغراء الجسد . وقوةُ الشَّيءِ كامنةٌ في العناصر المحيطة بِه .
     تَعيش المرأةُ حياتها كما يُريد الآخرون لا كما تُريد . تَحْرِص على رأي الآخرين في جسدها ، ولا تَحْرِص على رأيها الشخصيِّ . تقوم بعمليات التَّجميل، وتضع المِكياج ، وتُمارِس الإغراءَ. كُلُّ هذه الأمور لِنَيل إعجاب الآخرين وإشباعِ غرورها الداخليِّ وصناعة ثقة وهمية بالنَّفْس . الإغراءُ عُنصر أصيل في المرأة ، وستشعر بالاكتئابِ إذا فَقَدَت القُدرةَ على الإغراء . وإن حَاوَلْنا نَزْعَ الإِغراء مِنَ المرأةِ حَوَّلْنَاها إلى حائط ، وإِن أطلقناه بِلا قُيود حَوَّلْنَاها إلى جَسد . ينبغي حَصْرُ الإغراء في العلاقة الزوجية . وَمَعَ هذا ، أن تُشْعِرِي زَوْجَكِ بِأنَّه رَجَلٌ أهَمُّ مِن إشعاره بأنَّكِ أُنثى . ومَن يَعتقد أنَّه اشترى زوجته بالمال ، سَيُحَوِّل بَيْتَه إلى سُوق نِخاسة . وعِندَما يَتزوَّجُ الإنسانُ يجد على الأقل طبيباً نفسياً يُعالِجه مَجَّاناً . هذا هو المفروض .
     والمرأةُ زِينةٌ في ذاتها، تَتزيَّن مِن أجل لَفْتِ أنظار الآخرين ، وإذا لَم يَنظر إلَيها أحَدٌ فَسَوْفَ تَحترِق ، وتنهار معنوياتها ، وتنكسر أحلامها . وقد نجحتْ وسائلُ الإعلام في تَحويل المرأة إلى أسطورة وأيقونة ، وهذا هو الوهم القاتل . أُحيطت المرأة بهالة من العُنفوان والْجَمَال والبريق ، وهذا قناعٌ وهميٌّ ضِد الواقع .
     فالمرأةُ على شاشات التلفاز هي صورة خيالية ، ويَظهر قُبْحُها على أرض الواقع ، عِندَما يَزول المكياج ، وتَختفي المؤثِّرات الخارجية كالإضاءة وغَيرها . إنَّ وَسائل الإعلام هي أسواق نِخاسة لِتَجميل الجواري ورفعِ أسعارهنَّ قبل عملية البَيع . إنَّها عملية تَسمين الشَّاةِ وتَزيينها قبل ذَبْحها . وقد ضَحِكَت الأفلامُ والأغاني على الناس ، وجعلتهم يَعيشون في عالَم خيالي وسِحري بَعيداً عن الواقع الْمُر . الأفلامُ والأغنياتُ والبرامجُ التلفزيونية كُلُّها قوالب وهمية ساهمت في تَسليع المرأة ، وتحويلها إلى دُمية مُلَوَّنة ومَحصورة بين البَيع والشِّراء . صارت المرأةُ دُميةً في مسرح للعرائس .
     الحياةُ لُعبةٌ وأُكذوبةٌ . الرَّجل والمرأةُ ، كلاهما قاتلٌ وضَحِيَّةٌ . وهُما يَتبادلان الأدوارَ في دائرة القلقِ والعذابِ . لا تُوجَد مُتعة مُجرَّدة في الدنيا . والجِنسُ في الزواج لَيْسَ صَافِياً . فِيه شَوائب . إنَّ المتعةَ المجرَّدة تُوجَد في الجنة فقط . أمَّا الدُّنيا ، فهي خليط من العَدْل والظلم ، والْجَمَال والقُبح، والمتعة والعذاب . ولحظاتُ السعادة في الدنيا قليلة . فالدُّنيا مركزيةُ العذابِ والقلقِ والمشكلاتِ .
     إِنَّ المجتمعَ العالمي قد بنى وحشيته وحِقْدَه على جماجم النساءِ المحصورات بين السَّبْي والوَأدِ ، بالمعنى الحقيقي أو المجازي. وصارَ المجتمعُ مَسرحاً للعَرائس الدُّمى . تدهن كُلُّ امرأةٍ وجهَها بالمكياج ومُستحضرات التجميل كي تَظهر مَقبولةً أمامَ النَّخاسين والسماسرة والذئاب البشرية . لقد خضعت المرأةُ لقانون السُّوقِ وأيديولوجيةِ المجتمع المنهار التي لا تُؤمِن بوجود المرأة خارج نطاق جسدها الذي صارَ قطعةً لحمٍ شَهِيَّةً لا أكثر ولا أقل . اقتنعت المرأةُ بِدَورها في الحياة الذي رَسَمَه المجتمعُ القاسي ، فيجب عليها أن تَكون سِلعةً ضمن قانون البيع والشراء ، ودُميةً مُلَوَّنةً بالمساحيق والأصباغ لتنال القبول في مجتمع مقموع سياسياً ومكبوت جنسياً .
     صار جسدُ المرأة أُحادياً وتجريدياً بسبب انهيار إرادتها أمام مجتمع ميكانيكي وشَيئي ، يَغرَق في الأنماط الاستهلاكية القاتلة . لا مكان للعواطف والذكريات في أنساق المجتمع المسمومة . المرأةُ يتمُّ امتصاص رحيقها في سُوق نِخاسة عالمية مِن قِبَل الزَّبائن القادرين على الدَّفع ، وتَنتقل المرأةُ من زَبُون إلى زبون . وهذا الانتقال يتمُّ تَحديده حَسَبَ القوة الشرائية للزبون .
     والإشكالية الكبرى أن المرأة اقتنعت بأن هذا الانهيار هو دورها في المجتمع . فصارَ كيانُ المرأةِ عُنصراً مأكولاً ، ومَفعولاً به ، ورَدَّةَ فِعْل . وصار جسدُها تكريساً لأنماط الشهوة والاستهلاك العنيف . وهذا التفكير البؤري المهووس أدى إلى نشوء أوضاع غريبة ومجنونة رمزياً : تَحَوُّل العالَم إلى سُوق  نِخاسة ، وتَحَوُّل المرأة إلى سِلعة ، وتَحَوُّل الزواج إلى صِفقة تجارية تكون المرأةُ فيها هي الخاسر الوحيد والأكيد، وتَحَوُّل العُرْس إلى مَأتم،وتَحَوُّل لَيلةُ الدُّخلة إلى سِفْر الخروج مِنَ التاريخ. والمرأةُ تَتحمَّل الجزء الأكبر من المسؤولية ، لأنها رَضخت لابتزاز المجتمع الغريزيِّ القاتل ، واسْتَمْرَأَت انهيارَ القِيَم السُّلوكية ، وقَبِلَتْ أن يَكون جَسَدُها هو بُؤرة انهيار القيم المعرفية .
     وفي ظِلِّ هذا الزَّخْم الانسحابي على امتداد المنظور الاجتماعي المنقوص ، صار المجتمعُ سُوقَ نِخاسة كبيراً ، حيث البشر للبيع والشراء . وللأسف ، إنَّ الخاسر الأكبر هو المرأة لأنها الكائن القادر على تأنيث عناصر الشعور الوجداني في الإرهاصات المجتمعية .
     صار بَيْعُ النساء لِمَن يَدفع أكثر ، وبالتالي دَفَعْنا النظامَ الأُنثوي إلى الخيانة جسدياً أو روحياً أو فلسفياً، فالمرأة التي تُحِبُّ ( س) نُزَوِّجها لـِ ( ص ) لأن المرأة في منظورنا الأُحادي مُجرَّد سِلعة ، لا رأي لها ، وهي فلسفة المفعول به مُطْلقاً ، ولا يمكن أن تمتلك إمكانية الفاعل، وهذا الاستقطاب المكسور يتحرك من رأس الهرَم المجتمعي حتى القاعدة ، ضِمن خطة منهجية تقوم على ثنائية القامع والمقموع. وسلسلةُ القمعِ الاجتماعيِّ تُدمِّر المشاعرَ الإنسانية، وتُفكِّك أبجدياتِ العاطفة الكلماتية.
     والمرأةُ هِيَ الكَينونُ الفلسفيُّ ، والْمُعَادِلُ الوجداني لأنسنة العناصر الطبيعية . وهذه نُقطة قوة المرأة وضَعفها في آنٍ معاً ، لذلك تَمَّ استهداف المرأة قبل كُلِّ عناصر المجتمع ، مِمَّا جعل العمودَ الفِقري للمجتمع يتآكل تدريجياً . وهذا هو الانتحار التدريجي .
     المجتمعُ الكابوسي الذي يضمحلُّ صارَ فيه الثائرُ رَجُلَ أعمالٍ لِصَّاً يسرقَ البلادَ والعبادَ . إنَّه المجتمع الذي يُصدِّر قيمَ الحقد والكراهية والشَّطَط الطبقي ، ويُتاجر بالعلاقات الإنسانية ، ويُكرِّس أنظمة الاستبداد بكلِّ أشكاله . إنَّه المجتمع الذي يفتخر بالشاب الذي يُقيم علاقةً مع فتاة ، ويَعتبر ذلك رُجولةً وفُحولةً ، ويحتقر الفتاةَ التي تُقيم علاقةً مَعَ شاب، ويَعتبرها امرأةً وضيعةً . هذا المجتمعُ المتخلِّف الانتكاسي يَنفي أبجديةَ الدلالاتِ الإنسانية ، تَمهيداً لقتل الإنسان .
     لَوْ أقامت امرأةٌ فقيرةٌ ومَغمورة علاقةً مَعَ رَجُل ، فإن المجتمع كُلَّه سوف يصبح شريفاً ، ويصبُّ عليها الاتهامات ، ويُمَثِّل دَوْرَ التَّقي النَّقي الوَرِع . وَلَوْ أقامت امرأةٌ غنيةٌ ومشهورةٌ علاقةً مَعَ رَجُل ، فإن أحداً لا يستطيع الكلام ، بل على العكس ، سَوْفَ يأتي المديحُ لها مِن كُلِّ الجهات، باعتبارها رومانسيةً ومُرْهَفَة المشاعر . وهذا النفاق الاجتماعي ينعكس على الأنساق الفكرية التي تَرْمي إلى نهضة المجتمع عَقلاً ورُوحاً ومادةً .
     وإذا قام الحاكمُ بسرقة الشعب ، ونَهْبِ ثروات البلاد، فإن الناسَ سَوْفَ يَمدحون أمانته وإخلاصه، أمَّا لَوْ قام شخصٌ فقير بالسَّرقة، فإنَّه سيظل منبوذاً طول حياته، ويتم إقصاؤه من الحياة، ويتعرَّض لأقصى العقوبات والتجريح . وهذا النفاقُ الاجتماعي يَتفشَّى في الدول المتخلِّفة التي تَمَّ تَحويلها إلى مزارع خاصة للحاكم وأُسرته وحاشيته ، وشركاتٍ استثماريةٍ لِعِلْيَةِ القَوم .
     إنَّ الإشكالية المركزية في العلاقات الاجتماعية هي اعتبار مُمارَسة الجِنس في الزواج تَحصيل حاصل ، وهذا الرُّوتين الاعتيادي يَقتل عناصرَ الشَّوق واللهفة والشَّبَق في الحياة الزوجية . وبسبب التَّعَوُّد على الجِنس داخل الزواج، لَم يَعُد الجِنس سِوى إجراء ميكانيكي بَحْت بعيداً عن المشاعر، إِذ إِن التَّعَوُّد على الأشياءِ يَقتل الرُّوحَ في الأشياءِ، فَيَعجز الإنسانُ عن رُؤية الأشياء بشكل حقيقي، لأنه يَراها ببصره لا بَصيرته .
     وكُلُّ العناصرِ المحيطة بالإنسان تَقتل رُوحَ الإنسان ، وتَجعله ضَعيفاً جِنسياً . الأمراضُ المادية والمعنوية ، والمشكلات الاجتماعية، والنَّمط الاستهلاكي المتوحِّش، والتغذية الضعيفة . إنَّ الإنسانَ يَعيش في مستنقع عميق ، ثُمَّ يُطْلَب مِنهُ أن يَكون رُومانسياً وفَحْلاً . إنَّكَ لَن تَجنيَ مِنَ الشَّوْكِ العِنَبَ ، وفاقدُ الشَّيء لا يُعطيه .
     المرأةُ مِثْل بِرميل النفط الخام ، تحتاج إلى تَكرير . إنَّ الذهب مَخلوط بالتُّرابِ . وهذه هِيَ نُقطة القُوة والضَّعف في آنٍ معاً . العناصرُ تَنطفِئ في زَحمة الحياة اليومية . الدَّهشةُ ، والشَّبَق ، والشَّغَف،والشَّهوة، والانبهار.كُلُّ هذه العناصرِ تغيب تدريجياً في الحياة الزوجية ثُمَّ تختفي إلى الأبد.
     نعيشُ في مجتمع السبايا ، ونحتقرُ السبايا مَعَ أنَّنا سَبَايا . لا فَرْقَ بَيْنَ سَبِيَّةٍ وسَبِيَّةٍ ، لأنَّ الحضارةَ سُوق نِخاسة ، والتاريخ نَخَّاس . نحن ضَحايا سلسلة القَهْرِ التي تمتدُّ مِن رأس الهرَم السياسيِّ حتى القاعدة . أسَدٌ عَلَيَّ ، وفي الحروبِ نَعَامَةٌ ، نرتدي أقنعةَ الرجال ، ونحن رجال على بعضنا البعض. ونحن خارج التاريخ ، ولا وزن لنا حضارياً . نَحْنُ نَتَسَوَّل رغيف الخبز ، والسياسة لُعبة الأغنياء .
     اقتحامُ الأشياءِ يُلغي الدَّهشةَ والشَّوق . إنَّ الناظرَ إلى الجِنسَ مِنَ الخارج مَحكومٌ بالرَّغبة واللهفة ، وحِينَ يَدخل إلى هذا العالَم ويُجرِّبه يَفقد حَرارةَ التَّجربة ، لأنَّ الأمر صار عادياً ضِمْن الإجراءات الروتينية مثل الوظيفة الحكومية البيروقراطية . إنَّها عمليةُ قتلٍ مُنظَّمة للمشاعر والذكريات . ومَعَ مُرور الوقت ، تُصبِح العلاقةُ بين الزَّوجين كالعلاقة بين الأخ وأُخته .
     كُلُّ شَيء سَيَذوب ويَختفي مَعَ الأيامِ . الأيامُ هِيَ البَوتقة التي تَصهر كُلَّ العناصرِ ، والنّسيانُ هُوَ حَجَرُ الرَّحى الذي يَطْحُنُ كُلَّ الذكريات . خَجَلُ النِّساءِ في لَيلة الدُّخلة يَزول تَدريجياً مَعَ مُرور الوقت ، ويَختفي احمرارُ الخدود ، وتُسيطِر الشَّهوةُ الواضحةُ والمكشوفةُ على سَير الأحداث . أيْنَ ذَهَبَ الخجلُ ؟ . لقد ذَابَ في الأداء الجِنسي الوظيفي الممزوج بالْمَلَل والاعتيادية والروتين . والتَّدرجُ المرحليُّ قائمٌ على الحاجاتِ المشترَكة ، والتنازلاتِ المتبادَلة بين الزَّوْجَيْن ، مِن أجل استمرار حياة المجتمعات البشرية .
     الإنسانُ سَيَنْدَم سَوَاءٌ تَزوَّج أَم لَم يَتزوَّجْ ، وعَلَيه أن يَرتكب أخفَّ الضَّرَرَيْن . الضغطُ الاجتماعيُّ على كاهل الرَّجل مستمر ، والمرأةُ تَدفع ثَمَنَ المشكلات الاجتماعية نَفْسياً ومادياً أكثرَ مِنَ الرَّجل ، باعتبارها الحلقة الأضعف في المجتمع . والحضارةُ الإنسانيةُ تَنتقل مِنَ الهوَسِ الجِنسيِّ إلى القَرَفِ الجِنسيِّ .
     إنَّ النساء يَدْفَعْنَ ثَمَنَ هزائم الرِّجال ( الذكور ) . والمرأةُ يتمُّ اضطهادها مِن قِبَل الذكور المهزومين . المرأةُ ضحيةُ وقاتلةٌ في آنٍ معاً. والمجتمعُ الفاشلُ حَصَرَها في زاوية الجِنس والإغراء . والإغراءُ سِلاحُ المرأةِ الفَتَّاك . والإغراءُ عُنصر غريزي أصيل في كيان المرأة وليس دَخيلاً .
     تَبدأ الأُنثى رِحلةَ الاكتشاف . إنَّها تُريدُ اكتشافَ رَجلٍ غَيْرِ والدها . إنَّها عملية الاستبدال والإحلال . النِّساءُ حبائل الشَّيطان . وأيضاً ، إنَّ النِّساء هُنَّ شَياطين الإنس . والانحرافُ الأخلاقي
عند المرأةِ هُوَ سبب انهيار الحضارة الإنسانية .
     والمرأةُ التي تمتلك حضوراً اجتماعياً وفكرياً تَكون مُحمَّلةً بالعُقَدِ النفسية والحقدِ على الرجال، لأنها تَرسم حياتها في إطار التنافس معَ الرجال . فَمَثَلاً ، إِنَّ أنصاف الكاتبات لَم يَجِدْنَ رِجالاً يُشْبِعون حاجاتِهنَّ الجنسية في الزواج ، وَلَم يَجِدْنَ مَن يَتفوَّق على غُرورهنَّ وكِبريائهنَّ الجِنسيِّ . فَتَحَوَّلَ الكَبْتُ والحِرْمانُ إلى ثَورة ضِد الدِّين والمجتمع والرَّجلِ .
     لقد حَوَّلْنَ كَبْتَهُنَّ الجِنسيَّ إلى كِتابات الجسد ، وَهِيَ كتابات ضعيفة وساذجة ، تَتعلق بالجسد والشهوات والجِنس الفَج . وَهُنَّ بذلك يَمشين في طريق الانحرافِ الذي يتمُّ تَصويره كَحُرِّيةٍ وتَحَرُّرٍ وتَمُرُّدٍ على قوانين المجتمع الذكوري، وَفْقَ قاعدة " خَالِفْ تُعرَفْ " .
     وانتشارُ الكتاباتِ الجِنسية ( كتابات الجسد ) في المجتمع هو دَليلٌ واضح على انتشار الكَبْتِ الجِنسي ، والنظرةِ الدُّونية للمرأة ، وتَصنيفِ المرأة كَسِلْعَةٍ . ولا شَكَّ أنَّ المرأةَ هِيَ المسؤولة عن النظرة الدُّونية لها ، وَهِيَ التي تَتحمَّل مسؤولية تَصنيفها كَسِلْعَةٍ.
     وكُلُّ كاتبةٍ سَواءٌ كانت عانساً أَمْ عَجوزاً شَمطاء أَمْ غَير ذلك ، سَيَقودها الحِرمانُ العاطفيُّ والجسديُّ إلى رفض القيم الاجتماعية ، وَهِيَ تَعتبر أنَّ رَفْضَها دليلٌ على تَحقيق الذات في المجتمع المتطرِّف في ذُكوريته .
     والكاتبةُ التي تعتقد أنَّها صارتْ كاتبةً عالميةً بِمُجَرَّد كتابة قصيدة حُب عن ابن الجيران ، هي كاتبة تافهة ، وغارقة في تقاليد المجتمع المتخلِّف الذي يُرَبِّي المرأةَ على أن تَكون جاريةً لِزَوجها . يجب تربيةُ النساء على أدبيات الثَّورة لا الفَوضى .
     وعُموماً ، إنَّ هؤلاء النساء المريضات نفسياً ، خاضعات للاحتراق الداخلي ، ومُتمرِّدات بسبب النار التي تتأجَّج في دواخلهنَّ نتيجة الكَبْت الجِنسيِّ . إنهنَّ حَفنة مِنَ العوانس والْمُسْتَرْجِلات ، وغَير مَرغوب فِيهنَّ مِن قِبَل الرجال ، لأنهنَّ سائرات باتِّجاه مُضاد لأنوثتهنَّ ، وَيَعْتَمِدْنَ على المكياج  لِيُخْفِينَ وُجوهَهنَّ ، ويَرتدينَ الثقافةَ لِيُخفِينَ قُبْحَ قُلوبهنَّ ، ويَعْتَمِدْنَ على الملابس الفاضحة مِن أجل نَيْلِ إعجاب الآخرين ، والاستحواذ على نظراتِ الذئاب الجائعة .
     إنهنَّ مُسْتَرْجِلات وبعيدات كُلَّ البُعد عن الطبيعة الأُنثوية الراقية . وغُرورُهنَّ يَزداد بسبب الدَّعْم المجاني الذي يُقدِّمه أنصافُ الرجال ، حَيْث يُجامِلونهنَّ ويُشبعون غُرورَهنَّ بالكلامِ المعسول والإطراء الكاذب والمديح المجاني . ومِمَّا لا شَكَّ فِيه أن معرفتهنَّ بأنهنَّ نِساء بائسات ويائسات ، تَدفعهنَّ إلى رَفض القيم الاجتماعية ، كما تُؤدِّي إلى قيامهنَّ بِتَمثيل أدوار الْمُدَافِعَات عَن حقوق المرأة في المجتمع الذكوري والنظامِ الأبوي المتسلِّط . وهذه متاهة اجتماعية لانهائية ، وحلقة مُفرَغة، ونفق طويل بِلا ضَوء في آخِرِه .
     المرأةُ تحتقر نَفْسَها ولا تثق بنفْسها ، كما أنها تحتقر بناتِ جِنسها ، ولا تثق بهنَّ . والمرأةُ تَعتبر نَفْسَها جاريةً للرَّجل ودُميةً في يده ، ومَوْضِع شَهوته ومُتعته . إنها تَتمنَّع وهي راغبة ، كَي تَحفظ ماءَ وجهها ، وتحافظ على قناع أنوثتها.النساءُ مَحصوراتٌ في إطار السبايا. إِمَاء في أزياء الحرائر. وعُقولُ النساء في فُروجهنَّ . وَلَو اختفى التَّحرشُ الجِنسيُّ لَطَالَبَت النِّساء بِعَودته .
     الزواجُ قائمٌ على الاستعداد النَّفسي والبدني لِمُمارَسة الجِنس . والاستعدادُ لممارَسة الجنس أكثرُ أهميةً مِن مُمارَسة الجِنس . وهذه الممارَسةُ تَكْسِرُ الحصارَ المفروضَ على المجتمع ، وتُنهي العُزلةَ المفروضةَ على الإنسان ، فينطلق إلى فضاء أكثر رَحابةً . إنَّ مُمارَسةَ الجِنس هي اكتشافُ العوالم السِّحرية خارج حُدود المعنى الضَّيق ، والهروبُ من الواقع المحصور إلى الأفق غير المحدود .
     ومَعَ هذا ، فإِنَّ كُلَّ مُتعة جنسية لها ثمن وضريبة لا بُدَّ مِن دَفْعها . السَّهَرُ والتعب والمسؤولية والالتزام والأعباء الحياتية . وعُموماً ، إنَّ مَعركةَ البشريةِ عَبْرَ تاريخها الطويل تَدور حَوْلَ الرغيف والمرأةِ لبقاءِ الحياةِ وبقاء النَّوع .
     والرَّجُلُ عندما يُحِبُّ يَحترِقُ وَحيداً ، أمَّا الذَّكَرُ حِينَ يُحِبُّ فيزداد ضَحِكَاً مَعَ رِفاقه ، لأنَّه يَميل إلى استعراضِ عضلاته الغرامية ، وإبرازِ عناصر فُحولته ، وارتداءِ قناع الرومانسية والأحلام. وهكذا، تُصبِح المرأةُ عُنصراً مِن عناصر الاستعراض والتَّرويج الإعلاني والإعلامي. وهُناك أشخاص لا علاقة لهم بالنساء ، لكنَّ الواحد مِنهُم يُقدِّم نَفْسَه كَزِير نساء ، من أجل الاستعراض أمام الناس، وإحاطة نفْسه بهالة العشق والرومانسية والذكريات . إنهم يَبحثون عن الشُّهرة عن طريق استغلال سذاجة النساء ، واستخدام المرأة كأداة تسويقية . إنهم يَستخدمون المرأةَ ولا يَخدمونها .
     في أحيان كثيرة ، تُفسِد مُمارَسةُ الجِنسِ الرومانسيةَ . والشخصُ الذي يَحترم نَفْسَه ويَحترم المرأةَ ، يُريح أعصابَه ، لأنَّه حِينئذٍ يَتحرَّر مِن ضَغط الغريزة الجنسية ، ويُحرِّر نَفْسَه مِن عناصر البُنية التحتية بسبب تَركيزه في البُنية الفَوقية .
     العوانسُ خاضعاتٌ لقانون العَرْضِ والطَّلَب. وَكُلَّما ازدادَ المعروضُ خَفَّ الطَّلَبُ وَهَبَطَ السِّعْرُ. إنَّه قانون الوَفْرة والنُّدرة . الشَّيءُ الكثيرُ دائماً رخيص ، والشَّيء النادرُ دائماً ثَمين . والمرأةُ لا تَمْلِك حقَّ الاختيار ، لأنَّ الغريقَ لا يَمْلِك أن يُحدِّد نَوعَ طَوقِ النجاة . " أشَحَّاذ وتُشارِط ؟! " . وفي واقع الأمر ، إنَّ كثرةَ العوانسِ قَتَلَت المعنى الفلسفيَّ للرُّومانسية .
     والفتاةُ في بداية حياتها يَقولون لها : جاءكِ عريس ، فتقول : كَيْفَ هُوَ ؟ . وعندما تَتقدَّم في العُمر يقولون لها : جاءكِ عريس ، فتقول : مِن أيْنَ هُوَ ؟ . وعندما تُصبِح عانساً يقولون لها : جاءكِ عريس، فتقول : أيْنَ هُوَ ؟ . وهذه هي القضية الْمُضحكة الْمُبكية . إنَّها تَفْقِد حقَّ الاختيار معَ مُرور الزمن، وتُصبِح بِضاعةً كاسدةً، ويتمُّ القبول بأيِّ سِعْر لِبَيع البضاعة . والمرأةُ عندما يَمضي قِطارُ عُمرها بلا زواج ، تُصاب بالهلوسة، وتُصبِح مُستعدةً لتقديم التنازلات الروحية والمادية من أجل العريس الافتراضي .
     وبشكلٍ عام، إنَّ الجنس يُولِّد الحبَّ، لَكِنَّ الحبَّ لا يُولِّد الجِنسَ. لَوْ ذَهبت امرأةٌ إلى القاضي ، وقالت له إِنَّني أكْرَه زَوجي، فسيقول لها القاضي : يا ابنتي، اصْبِري ، إنَّ الحبَّ سَيَأتي مَعَ العِشْرة ، فلا تُخْرِبي بَيْتَكِ بِيَدَيْكِ . وَلَوْ قالت له هذه المرأة إنَّ زَوجي عاجز جنسياً ، ولا يُشْبِعُني في الفِرَاش. فإنَّ القاضي سَيُفَرِّق بينهما لوجود الضَّرَر .
     هَل الجِنسُ تحصيل حاصل في الزَّواج مِثْل الذهاب إلى الدَّوام في الوظيفة الحكومية ؟ ، أَم أنَّه يَتضمَّن معاني العِشْق والشَّبَق والتجديد والاكتشاف والمغامَرة ؟ .
     إنَّ المجتمعات المتخلِّفة القائمة على الواقعية القذرة ، تَحشر المرأةَ في الزاوية ، وتَقتل رُوحَها وقَلْبَها . والمرأةُ أمامَ خِيَارَيْن قاتِلَيْن : إمَّا أن تُصبِح عانساً أو خادمةً لِزَوجها . وفي الحالتَيْن سَتَذهب إلى النسيان بين صحون المطبخ والثلاجة .
     الحبُّ والجِنسُ وَرقتان مَحروقتان . صارا نَمطاً استهلاكياً بعيداً عن المنهجِ الفكريِّ والهدفِ والرؤيةِ ، لأنَّنا نعيش في زمن انتحار المعنى . " النساء على قفا من يشيل " ، والصراعُ على الذكور مُحْتَدِم . صارت مُمارَسةُ الجِنس هُروباً مِنَ الواقع القاسي، وفِرَاراً إلى ما وراء الحياة الواقعية ، بَحثاً عن حياة جديدة تشتمل على المغامَرة والأحلامِ الوردية والذكريات المضيئة.
     والزواجُ هو سِباق المسافات الطويلة . والشخصُ المتخصِّصُ في المسافات القصيرة سَوْفَ يَفشل لا مَحالة ، لأنَّه لا يَستطيع تَوزيع طاقته ووقته ، بِحَيث يصل إلى خط النهاية . والزواجُ الناجحُ يَقوم على التوافق الرُّوحيِّ والالتقاءِ الجسديِّ . وأيُّ خَلَلٍ في هذه المعادَلة سَيُؤدِّي حَتماً إلى انهيار الزواج ، حقيقةً أو مَجازاً ، أو كِلاهُما مَعَاً .
     والزواجُ الذي يَفتقد إلى المغامَرة العاطفية المتجدِّدة ، يُصبِح مُقامَرةً بِلا جَدوى ، وجُثةً هامدةً تَعيش على التنفس الاصطناعيِّ . والزواجُ الفاشلُ عِبارة عن رَجل تَزَوَّجَ عُلبةَ مِكياج ، أو امرأة تَزَوَّجَتْ بَنكاً. وعلى الرَّجل قبل الزَّواج أن يَسأل نَفْسَه: هل أُريد امرأةً أتزوَّجها أَم بقرة أَحْلِبُها ؟.
     وفي ضَوء الإجابة ، يَتحدَّد المسارُ والمصيرُ . والرَّجلُ والمرأةُ ضِدَّان يجب أن يَلتقيا في مُنتصَف الطريق كَي يُصبِحا مُتَكَامِلَيْن. تَقضي المرأةُ عُمرَها تُفكِّر في الرَّجل وكيفيةِ اصطياده، وهذا يَمنعها مِنَ الإبداع في العلوم والآداب . وهذا يُفسِّر قِلَّةَ أعداد النساء الفائزات بجوائز نوبل . أمَّا الرَّجل فَيُفكِّر في إعمارِ الأرضِ ، وصناعةِ الحضارة الإنسانية . الرَّجلُ خُلِقَ مِنَ التُّرابِ ، لذلك تَفكيره في إعمارِ الأرض ، والمرأةُ خُلِقَت مِنَ الرَّجل ، لذلك تفكيرها في إغراء الرَّجل واصطياده .
     إنَّ انحرافَ المرأةِ هو السبب الأساسي لانحلالِ المجتمع ، وانهيارِ الحضارة ، وانكسارِ التاريخ . الإغراءاتُ مفتوحة على كُلِّ الاحتمالات ، لأنَّ القِطَّة التي كانت مُغْمَضَة العَيْنَيْن فَتَحَتْ عَيْنَيْها .
     قد يستمرُّ الزواجُ بِدُون حُب ، ولكنَّه لا يستمر بِدُون جِنس . ومفهومُ الأُسرةِ لدى الكثيرين مُشَوَّشٌ، لذلك تَقبلُ الفتاةُ بأيِّ شخص يَتقدَّمُ لها من أجل إخراجها من العذاب التي تَعيشه في بيت أبيها . يُصبِح الزواجُ طَوْقَ نَجاةٍ بِلا تَخطيط ولا مشاعر . ويَتحمَّل الآباء الجشِعُون جُزءاً كبيراً من المسؤولية في تَحويل بناتهم إلى زوجات خائنات ، لأنهم يَعتبرون الأُنثى بضاعةً بلا مشاعر ، يجب بَيْعُها لِمَن يَدفع أكثرَ .
     والنقصُ الموجودُ قبل الزواج سَيَزدادُ خَطَرُه بعد الزواج . وعلى الإنسانِ أن يُعالِج مُشكلاتِه قبل الزواج ، لأنَّ الزواجَ معركة حقيقية يَنبغي الاستعداد لها مُسْبقاً ، ولا تُوجِد فُرصة لعلاج المشكلات أثناء المعركة . إنَّما يَكون العلاج قبل المعركة . أي أثناء الاستعداد للمعركة ، وليس أثناء المعركة . وفي هذا السياق ، ينبغي القَولُ إنَّ الأُبُوَّة لا تَسُدُّ ثغراتِ الرُّجولةِ ، والأُمومة لا تُكْمِل النَّقْصَ في الأُنوثةِ . القويُّ قَوِيٌّ بذاته ، وليس بالعناصر المحيطة بِه .
     " الشَّرفُ يَأتي ويَذهب. المهمُّ الصِّحة ". هذه المقولةُ الساخرة هِيَ الوَصف الحقيقي لِمَا يَحدث على أرض الواقع . نَحْنُ نَعيش في أُمَّةٍ عَديمة الشَّرف ، لأنَّها باعت شَرَفَها مِن أجل رَغيف الخبز . وهذا الانهيارُ له صفتان : التراكمية والانسحابية . أي إِنَّ تراكم المشكلات يُؤدِّي إلى الانهيار ، كما أنَّ الانهيار يَنتشر في كُلِّ المجالات ، ويَنسحب على كُلِّ العلاقات المعنوية والمادية . فعلى سبيل المثال، لا تُصْبِحُ الْمُغَنِّيَةُ مَشهورةً إلا إذا تَنازلتْ عَن شَرَفِها ، ولا يَركضُ المخرِجون وراء الممثِّلات إلا إذا عَلِمُوا أنهنَّ مُسْتَعِدَّاتٌ لإظهار ما يَلْزَم إظهارُه مِن لَحْمٍ. وهذا المبدأ الانتكاسي يُمكِن تَعميمه على كُلِّ المجالات الحياتية ، مَعَ اختلاف الزمان والمكان والأدوات .
     في المجتمعات التي باعت شَرَفَها ، يتمُّ حَصْرُ الشرف في غِشاء البَكارة . والدُّوَلُ التي بَاعَتْ سِيَادَتَها لأعدائها ، لا تَمْلِكُ إلا جَسَدَ المرأةِ لِتُمَارِس عَلَيهِ السِّيادةَ الوهميةَ . إنَّها عملية تَعويض عن الخسائر وخَيبة الأمل . ودائماً ، هَزائمُ الرِّجالِ يَدفع ثَمَنَها النِّساءُ ، وانكساراتُ المجتمع يتمُّ اعتبار المرأة المسؤولة عنها، لأنَّها الحلقةُ الأضعف، والطائرُ ذُو الجناحَيْن المكسورَيْن .
     والرَّجلُ الشريفُ لا يَبني رُجولته على لُهاث النساء وراءه . يجب أن تَكون الرُّجولةُ صِفةً شخصية وقائمة بذاتها . وصِفةُ الرُّجولةِ ذاتيةٌ ولا تأتي من العناصر الخارجة عن كيان الرَّجل . إنَّها صِفة تَنبع من الداخل ، ولا تأتي من الخارج . والشخصُ الذي يَحتاج النساءَ كَي يُثْبِت رُجولته ، لَن يَصِلَ إلى مرتبة الرُّجولة . والجديرُ بالذِّكر أنَّ الرُّجولةَ لا علاقة لها بالقُدرة الجنسية . فالرَّجُلُ رَجُلٌ سَواءٌ كان فَحْلاً أَم عاجزاً جِنسياً .
     إنَّ تساقط القيم السلوكية للأفراد في المجتمع نابعٌ مِن اعتبار الزواج صَفقة تجارية . والنساء اللواتي يَفْرَحْنَ إذا صِرْنَ دُمَىً في مَسرح العرائسِ يَلعب بِهِنَّ الرجال ، هُنَّ نتيجة منطقية للمجتمع الاستهلاكي القاتل المقتول . والمرأةُ التي لا تَثِقُ بِنَفْسِها ، تَكشف لَحْمَها ظَنَّاً مِنها أنَّ إظهار مفاتنها سَوْفَ يَكون قِناعاً يُغطِّي جَسَدَها ، كما يُغطِّي المِكياجُ وَجْهَهَا .
     لا يُمكِن للرَّجل أن يَتفوَّق على المرأة في الفِرَاش . الجِنسُ تاريخٌ مُكَثَّفٌ لجغرافيا وَحدة الجسدَيْن في لَيْلِ الذكريات . والعلاقةُ الجِنسية بين الرَّجل والمرأة هي علاقة بين رائحة الجسَدَيْن المتوحِّدة والرافضة للانفصال. والمرأةُ تحتاج إلى الجِنس أكثر مِن حاجة الرَّجل إلَيه ، لأنَّ المرأةَ تعتبر الرَّجلَ كُلَّ شَيء في حياتها(الكُل في الكُل)،أمَّا الرَّجل فَيَعتبر المرأةَ جُزءاً مِن حياته(الجزء مِن الكُل).
     وحِينَ تُصبِح مُمارَسةُ الجِنس عِبئاً ثقيلاً على كاهل الزَّوْجَيْن فإِنَّ المجتمع سينهار . والمجتمعُ لَن يَتقدَّم على صَعيد المشاعر الإنسانية إلا إذا نَجَحَ الزَّوجان بِتَعميم فَلسفة لَيلة الدُّخلة على كُلِّ ليالي حياتهما . صحيحٌ أنَّ لَيلة الدُّخلة ماركة مُسجَّلة ونُسخة أصلية ، ولكنْ يُمْكِن تَقليدها . وسَوْفَ يظل الأصلُ هو الأصل ، والتَّقليد هو التَّقليد .
     المشاعرُ الحقيقية بين الزَّوجين هي المشاعر المعزولة عن مُمارَسة الجِنس ، لأنَّ الجِنسَ غريزةٌ ثائرة بعيدة عن منطق المشاعر وعقلانيةِ المعنى . فالجِنسُ مَعنى غَير مُسَيْطَر عَلَيه. والحضارةُ الإنسانيةُ سَقَطَتْ حِينَ فَشِلَتْ في سَبْرِ أغوار المرأة . عدمُ القُدرة على التعامل مع المرأة يَعني انكسارَ التاريخ، وسُقوطَ الحضارة في الفراغ. إنَّ المرأةَ كائنٌ غامضٌ ومَجهولٌ، ومعرفتها تعني قَتْلَها .
     إنَّ احتقارَ المرأةِ صِفة مُميِّزة للحضارة الإنسانية في كُلِّ أطوار وُجودها . واحتقارها يَدفع باتِّجاه التَّخلص مِنها بِشَتَّى الوسائل . والجرائم ذات الطابع الجنسيِّ تَنبع مِنَ العُقَد النَّفسية تجاه النساء مُنذ الطفولة .
     والمشكلةُ المركزية في الأنساق الاجتماعية تَكْمُن في انعدام حالة التوازن بين الرومانسية والجِنس. إنَّ الرومانسية هي البُنية الفَوقية التي لا تَتأسَّس إلا على الجِنس ( البُنية التَّحتية ). كما أنَّ الرُّومانسية عاطفة هُلامية لا تَظْهَر إلا بعد إشباع الغريزة. والشَّهوةُ لا يُمْكِن بِناؤُها على الجوع. الشَّبَعُ هُوَ الخطوةُ الأُولَى مِن أجل تحويل الشَّهوة إلى مُمارَسة واقعية .
     والجديرُ بالذِّكر أنَّ ذِرْوَة الالتحام الجنسيِّ الشَّهوانِيِّ بين الزَّوجين ، تُلْغي الذكورةَ والأُنوثةَ في تلك اللحظة التي يَتَّحد فيها الجسَدان في كتلة لحمية واحدة منفصلة عن نطاق الجاذبية الأرضية ، لَيَأْتِيَ إلى هذه الأرض الخرابِ مَخلوقٌ مَحكوم بالإعدام ، ويجب عَلَيْهِ إنقاذ ما يمكن إنقاذه .
     ويُمْكِن تَعميم النَّظرة الفلسفية في هذا السياق على الثقافة المجتمعية باعتبارها العملية الْمُوَلِّدة للجنين الثَّوري الذي يُعبِّر عَن مَعنى الْحُلْم الثقافِيِّ الذي يَتَّحد فِيه الواقعُ والْمَجازُ ضِمْنَ جسدٍ واحدٍ ، هو نتاج حرارة التعبير الصاعق .
     وتَتَّحد الذكورةُ والأُنوثةُ في عُنفوان التَّشظي الشَّهوانِيِّ . وفي حالة الاصطدام لا يمكن تمييز الأضداد. وفي حالة الالتحام بين الجيشين لا يُعْرَف الصديق من العدو ، كما يتمُّ تَحييد الغطاء الجويِّ ، وهنا تتجلى عناصرُ النواة الفلسفية للمجتمعِ والثقافة مَعَاً.
     إنَّ الزواج يَفقد مَعناه تَدريجياً في المجتمع الماديِّ المتوحِّش ، والأُسرة تَخسر قيمتها الاعتبارية شَيئاً فَشَيئاً . وفي كثيرٍ من الأحيان ، يُصبِح الزواجُ خَديعةً كُبرى . فالزَّواجُ في المجتمعات المتخلِّفة القائمة على الواقعية القذرة ، يُصبِح غِطاءً اجتماعياً مِثْل الشجرة التي تُخفي خَلْفَها الغابةَ . فَكَثيرٌ مِنَ الرجال يَلجأ إلى الزَّواج كواجهة اجتماعية مُحْتَرَمَة للتَّغطية على علاقاته الغرامية . حَيْثُ تَختفي العشيقاتُ غَير الشَّرعيات وراء الزَّوجة الشَّرعية . والرِّجالُ مِن هذا الصِّنف يَتزوَّجون من أجل صناعة مكانة اجتماعية ، وتقديم أنفسهم كآباء صالحين ، يُكَوِّنون العائلاتِ الصالحة في المجتمع الصالح . وكُلُّ هذه الأمور شعارات رنَّانة خيالية وغير واقعية .
     عِندَما تشتعلُ الذكرياتُ ، تَختفي المعاني ، وتَغيب الألفاظُ. تندمج الذكورةُ والأنوثةُ إلى درجة التَّوَحُّد مَعَ كَينونة المعنى ، فتختفي الذكورةُ والأنوثةُ تماماً . إنَّ حرارة الحبِّ تُذيب الفروقاتِ البيولوجية بين الذَّكَر والأنثى ، كما تُذيب حرارةُ التَّعبيرِ الفُروقاتِ بين الشِّعر والنثر .
     إِنَّ الرَّجل والمرأة حِينَ يَعشقان بعضهما البعض لدرجة الذَّوَبَان والانصهار الكُلِّي ، فإنَّكَ لن تستطيع التفرقة بين الرَّجل والمرأة ، لأنَّ الكَينونة الإنسانية أحالها العشقُ الملتهب إلى كَينونة أنساق ذِهنية مُتخيَّلة ، حيث لا يُوجَد ذَكَرٌ ولا أُنثى . وهذه المرحلةُ تَمتلك سُلطةً ذاتية ، ولا يُوجَد قانون يَحكمها . وهذه هي الخطوة الأُولَى على طريق الجنون . وهكذا نستطيع تفسير وجود مجانين مَحَا العشقُ عُقولَهم ، فَهَاموا على وجوههم دُون أيِّ اعتبار للسُّلطة الاجتماعية .
     إنَّ حرارة التعبير الاجتماعي تتجلى في الاتصال الجنسي بين الرَّجل والمرأة . حيث إِنَّ الكلام يَغيب أثناء العملية الجنسية، ويُصبِح الفِعْلُ هو الفاعلَ، ويُصْبِح الأداءُ الميكانيكي هو اللغةَ الجديدة. والفِعْلُ هو الكلام، لأنَّ الجِنسَ فِعْلٌ اجتماعي تكويني يَتحوَّل إلى لُغة مشتركة تُحَدِّد طبيعةَ النظام الشُّعوري لِوَحدة الجسَدَيْن ، كما أنَّ الجِنسَ يُحَوِّل المكانَ إلى زمان ، والزمان إلى مكان .
     إِنَّ سبب الانهيار الذاتي للكَينونة البشرية يَعود إلى قتل الأنثى داخل المرأة . فالانهيارُ بدأ من انهيار المرأة ، والنظرةِ إليها نظرة دونية شهوانية مجرَّدة من عواطف الاحتضان النبيلة بين الرَّجل والمرأة . ونحن نَدرس طبيعةَ الانهياراتِ الاجتماعية مِن أجل تجاوز الأخطاءِ والخطايا في المجتمع الإنساني الذي تتلاحم فيه العناصر الْمُذَكَّرَة والمؤنَّثة .
     والنظرةُ الدُّونية للمرأةِ تَنبع مِنَ الفرضية التي يَعتنقها الكثيرون كَمُسَلَّمَةٍ ، ويَعتبرونها نظريةً ، وهي أنَّ الرَّجل هو الفاعل الأعلى ، والمرأة هي المفعول به الأدنى . وهذه النظرة الاحتقارية هي التي دمَّرت المجتمعَ الإنساني ، وَحَوَّلَت الإنسانَ إلى حيوان جنسي شهواني فارغ . وما زِلْتُ أتذكر قول أحدهم لي : (( المرأة مِثْل الحذاء ، تظل تستبدلها حَتَّى تَجِدَ امرأةً مُناسِبة لِقَدَمَيْكَ )) . وهذه النظرة الكارثية السَّادية منتشرة على نطاق واسع بشكل أو بآخَر . إنها منتشرة بلسان الحال أو بلسان الْمَقَال .
     والمرأةُ الجسدُ هي إفراز طبيعي ومُتوقَّع للمجتمع المادي المقموع سياسياً والمكبوت جنسياً . والمرأةُ تَتحمَّل الجزءَ الأكبر مِنَ النَّظرة الدُّونية لها ، لأنها صارت سِلْعةً رخيصةً على شاشات التلفاز والسينما وفي الأسواق والمؤسسات . ففي الفيديو كليب مَثَلاً يَتِمُّ تركيز الكاميرات على مناطق حسَّاسة من جسد المرأة التي تتثنى لِتُظْهِرَ فِتنتها بشكل مُثير للاشمئزاز . وظهورُ المرأة بملابس مثيرة في التلفاز والسينما ، والإنفاق الهستيري على مستحضرات التجميل ، والذي تَتجلى مظاهرُه في الأسواق وأماكن العمل ، وانتشار العُنوسة بسبب مشاكل الشباب الاقتصادية، والفساد الأخلاقي في المجتمعات المنهارة المغطاة بِقَشَّة . كُلُّ هذه الأمور مُجْتَمِعَةً وغَيرها ، ساهمتْ في تحويل المرأة إلى دُمية في مسرح للعرائس ، يَلعب بها الذَّكَر ( الذئب ) ثُمَّ يَرميها لذئبٍ جديد . ولا يَخْفَى أنَّ المجتمعات المتخلِّفة تَضغط على الأنثى باعتبارها الحلقة الأضعف، وتَخترع الأعذار للذَّكَر باعتباره رَجل البيت ، والحاكم المستبد فوق المرأة ، وسَيِّد المجتمع المطْلَق .