سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/12‏/2019

فشل السياسة المحصورة بين الرهائن والغنائم

فشل السياسة المحصورة بين الرهائن والغنائم

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................

     الفكرُ الاجتماعي لا يَنفصل عن منظومة المشاعر الفردية ، ولا ينفصل عن الإطار العملي للرموز المعرفية ، ومراحلِ تاريخ العقل الجمعي . وهذا الترابط المركزي المصيري يُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى وعاء حاضن لأحلام الناس وآمالهم ، مِمَّا يدل على أن الأنساق الاجتماعية تُمثِّل رُموزًا فكرية ذات مرجعيات نفسية عميقة،وضاربة جُذورها في كيان الفرد وبُنية المجتمع. ولا يُمكن اعتبار الأنساق الاجتماعية مُجرَّد تحوُّلات في بُنية التاريخ ، أو تغيُّرات في طبيعة الجُغرافيا ، لأن المجتمع لا يتحرَّك في الإطار المادي فَحَسْب ، بَل أيضًا يتحرَّك في الفضاء المعنوي غَير المَحسوس ، والذي يقوم على إفرازات الظواهر النفسية الداخلية المتجذرة في وَعْي الفرد وإحساسه بذاته ، وشُعوره بالعَالَم المُحيط به. وكُل فرد أثناء رحلته في الحياة يبتكر منهجه الخاص في التعامل مع الظواهر النفسية والحقائق الاجتماعية ، وهذا يَدفع باتِّجاه توليد تصوُّرات خُصوصية عن الأشياء والقِيَم والرموز والعلاقات التي تنتشر في المجتمع الإنساني ، وتتحكَّم باتِّجاه حركته ، وماهية أفكاره، وهُوِيَّة مساره، وشخصيته الاعتبارية . وتعدُّدُ التَّصَوُّرات واختلاف الأحكام ، لا يدل على تشظِّي المجتمع الإنساني وانفصام شخصيته وانكسار أحلامه ، وإنما يدل على تعدُّد زوايا الرؤية ، واختلاف وجهات النظر المُرتكز إلى اختلاف قُدرات الأفراد . لذلك تتعدَّد الأحكامُ حول الحقيقة الواحدة ، لأن كُل فرد يَراها بعَيْنه ، ويَحكم عليها وَفْق تصوُّره الشخصي . وكما أن المِرْآة واحدة ، والصُّوَر فيها مُختلفة تَبَعًا لاختلاف الأفراد الواقفين أمامها ، كذلك المجتمع الإنساني واحد ، ووجهات النظر مُتباينة بسبب تبايُن القُدرات العقلية للأفراد . وإذا لم تكن الصورةُ في المِرْآة جميلةً ، فإن المُشكلة في شخصية الفرد، ولَيست في طبيعة المِرآة .
2
     العلاقةُ الوثيقةُ بين أبعاد الوجود الإنساني ( الشُّعور ، الرَّمْز ، التاريخ ، الجُغرافيا ) هي الضمانة الأكيدة للحفاظ على إحساس الأفراد بالحقائق المعرفية والبُنى الاجتماعية ، ومَنع التعارض بين المُعطيات النفسية والعلاقات الاجتماعية . وكُلَّما اتَّجَهَ الشُّعورُ الإنساني إلى الرَّمْز الاجتماعي ، اتَّضَحَ منهج تفسير مصادر المعرفة في المجتمع الإنساني ، لأن الشُّعور والرَّمْز عابران للتَّجنيس ، ولا يَخضعان لعملية الأدلجة ، لذلك كانت القيم الأخلاقية المُطْلقَة _ التي تقوم على ثنائية الشُّعور والرَّمْز _ واحدةً في كُل المجتمعات ، رغم اختلاف العقائد والثقافات . فمثلًا ، إن الصِّدق والإخلاص والأمانة والاحترام ... إلخ ، قيم ثابتة في كل المجتمعات ، وتتمتَّع بسُلطة أخلاقية اعتبارية نابعة من العقل الجمعي ، ومُعْتَرَف بها في كُل الأوساط دُون الحاجة إلى عمليات أدلجة ، أو ضغط نفْسي ، أو إرهاب فكري . وهذه القيمُ مفروضة في أنساق المجتمعات بحُكم قُوَّتها الذاتية وماهيتها المُطْلَقة ، وليس بقرارات سياسية أو أحكام سُلطوية عُليا . وأكبرُ خطر يُهدِّد المنظومةَ الفكرية المُتكوِّنة مِن الشُّعور والرمز والقيم الأخلاق المُطْلَقة ، هو المصالح الشخصية الضَّيقة والنَّزوات الذاتية والرغبات الأنانية، لأنها تُحوِّل القيمَ المُطْلَقة إلى مُكوِّنات نِسبية ، وتُحوِّل العقائدَ الدينية إلى أيديولوجيات سياسية نفعية لحشد الناس واستغلالهم والسيطرة عليهم . وخطورةُ هذه العملية تتجلَّى في جَعْلِ اختلاف الآراء الفكرية صراعًا اجتماعيًّا دمويًّا ، وتحويلِ تعدُّد وجهات النظر إلى صِدَام دِيني مُرتكز إلى التناحر المذهبي والعصبية القَبَلِيَّة والعُنصرية العشائرية . وبعضُ الزُّعماء يرسم مُستقبله السياسي اعتمادًا على طائفته وقاعدته الانتخابية، دُون اعتبار لمركزية الوطن والشعب بكافة مُكوِّناته وشرائحه. وهذا يستلزم بالضرورة ترسيخ سياسة التَّحشيد والأدلجة ، وأخذ الطوائف رهائن لتوجُّهات بعض السياسيين ومصالحهم الشخصية . لذلك ، يُصبح الوطنُ مُجرَّد فندق للإقامة المُؤقَّتة بدون انتماء حقيقي . مِمَّا يُسبِّب اضطرابات اجتماعية ، وتفكُّكًا في النسيج الوطني، وانهيارًا شاملًا في مؤسسات الدَّولة. وفي ظل هذا السُّقوط المُريع،يَبرز تُجَّار الحروب، وزُعماء الطوائف ، وسماسرة الكوارث . وبعضُ السياسيين مُستعد للتَّضحية بطائفته كاملةً مُقابل الحفاظ على منصبه وامتيازاته ومُكتسباته الذاتية ومصالحه الشخصية ومنافعه المادية . وهكذا ، يختفي معنى الوطن، ويغيب من الأذهان، وتَحُل مكانه الحِزبية والطائفية والمذهبية . والسياسةُ _ أوَّلًا وأخيرًا _ هي وسيلة منطقية وأداة فكرية لتغيير الواقع إلى الأفضل ، وتسهيل حياة الناس ، وتحقيق أحلامهم . وكُل مجتمع يَنظر إلى السياسة مِن هذه الزاوية ، سيتقدَّم إلى الأمام ، ويَصهر المراحل في الطريق نحو الازدهار والرخاء الشامل . ولَيست السياسةُ أخذَ الطوائف رهائن للحصول على الغنائم ، وتحقيق منافع شخصية ، والمُتاجرة بأحلام الناس وآلامهم ومُعاناتهم ، كما يَفعل بعض السياسيين ، الذين يَدفعون بلادَهم إلى الهاوية ، وأبناءَ شعبهم إلى اليأس .  
3
     كُل أيديولوجية سياسية تُوظِّف الدِّينَ لتمزيق المجتمع ، وتقطيع أوصاله ، والتمييز ضِد أبنائه، مصيرها الفشل الحتمي والسُّقوط المُدوِّي . ومهما كان تُجَّارُ السياسة ماهرين في التَّوظيف السياسي للدِّين لتحقيق أهداف شخصية، والتلاعب بمشاعر الناس المذهبية ، ودَغْدغة عواطفهم الإيمانية ، إلا أنهم سيقعون في شر أعمالهم ، وينقلب السِّحْر على الساحر ، ومَن يَلعب بالنار تَحرِق أصابعَه ، كما أن دفن النار تحت الرماد ليس حَلًّا لعلاج الأزمات ، وكثرة الضغط تُولِّد الانفجارَ . وحتى لو بدا البُركانُ خامدًا ، فلا أحد يَعرِف موعد ثَورانه . وإذا ثَارَ سيحرق الأخضر واليابس. لذلك ، ينبغي إطفاء حِقد القُلوب بالعدل والمُساواة ، وإخماد الفِتَن النائمة نهائيًّا بإطلاق قطار التنمية الحقيقية الذي يتَّسع لجميع الناس ، وإشراكهم في مسيرة التَّقَدُّم والازدهار ، كَي يَنشغلوا بالتَّعمير لا التَّدمير ، والبناءِ لا الهدم . ونَفْسُكَ إن لم تَشْغلها بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل .

21‏/12‏/2019

السلوك الاجتماعي والفكر الإنساني

السلوك الاجتماعي والفكر الإنساني

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..................

     فلسفةُ السُّلوك الاجتماعي ليست ظاهرةً مَصلحية مَحصورة في الأُطُر المادية ، والسلوكُ الاجتماعي ليس فِعلًا روتينيًّا يوميًّا عابرًا، لأن أفعال الإنسان تنبع من قناعاته الداخلية والقيمِ الفكرية الرمزية المُسيطرة على مشاعره . وبعبارة أُخرى، إن أفعال الإنسان _ مهما بَدَت سطحية وساذجة وظاهرية وعَرَضِيَّة _ تنطلق من جوهر رمزي مركزي في داخل الإنسان ، وهذا هو المنبع الفكري الذي يُسيطر على روافد السُّلوك الاجتماعي، ويتحكَّم فيها ، كَمًّا ونَوْعًا، رُوحًا ومادةً. وكما أن فَلَتَات اللسان البسيطة تَكشف _ في الغالب الأعَم _ عن مُحتويات القلب ، كذلك الأفعال الإنسانية البسيطة تكشف عن أنساق ثقافة المجتمع، وطبيعةِ النظام الاجتماعي المُسيطر على القيم الفردية والجماعية . والإنسانُ أوَّلًا وأخيرًا هو ابن بيئته ، ونتاج عَصْره .
2
     لا يُمكن إنكار تأثير العقل الجَمْعي في ثقافة الفرد ومبادئه وقناعاته ، ولا يُمكن تجاهُل الإحساس الإنساني بإفرازات الشُّعور العام في المجتمع . وهاتان المُسَلَّمَتَان تُجسِّدان الأساسَ الفلسفي لمنظومة الوَعْي والوَعْي المُضاد. ومهما كان الإنسانُ قويًّا ، لا يَستطيع الإفلات مِن سَطوة المكان ( بمعنى الذِّكريات المُتمركزة في الذهن ، وليس التضاريس الجُغرافية ) ، كما أنه لا يَستطيع الخُروج مِن جِلْده ، والقفز في الفراغ ، تمامًا كالسَّمكة التي لا تَستطيع الخُروج مِن البحر ، والقفز على اليابسة. وهذه البُنية الإنسانية المحصورة في إطار الزمان وحَيِّز المكان،تُنشِئ وَعْيًا خاصًّا بها، يتماهى مع ذاتية الإنسان كبُنية اعتبارية مُستقلة نسبيًّا ، ويندمج مع مصالحه الشخصية ضمن التيار العام في المجتمع . وفي نفْس الوقت ، يَنشأ وَعْي مُضاد ناتج عَن العقبات الاجتماعية في طريق الإبداع الشخصي للإنسان . وهذا الوَعْيَان الجُزئي ( الفردي ) والكُلِّي ( الجماعي ) سَيَصطدمان عندما تتناقض مصلحةُ الفرد معَ مصلحة الجماعة، وتُصبح الحُرِّيةُ الفردية تهديدًا لوُجود المجتمع . وبالتأكيد ، لا تُوجد حُرِّية مُطْلَقة في الأنساق الاجتماعية، ولا يُمكن ترك الحبل على الغارب . والحُرِّيةُ المُطْلَقة هي الفَوضى الشاملة. وهذا الأمر يَدفع باتجاه بناء حُرِّية الإنسان النِّسبية على قاعدة العمل الجماعي لتحرير المجتمع مِن الأمراض الروحية ، والخَوفِ مِن المُستقبل ، وتَطهيرِ الفكر الاجتماعي مِن الاتِّكالية ، والسَّلبية ، وجَلْد الذات ، وانتظار الخَلاص والحُلولِ السِّحرية ، والبحثِ العبثي عن مُجتمع مثالي . وإذا أدركَ الإنسانُ أن حُرِّيته الحقيقية تعني أن يَبدأ فَوْرًا بإصلاح نفْسه، ويَقتلع شَوْكَه بيده، ولا يضع أخطاءه على الآخرين، ولا ينتظر مجيء أحد ليُساعده، فإن المُجتمعُ _ عِندئذ _ سيُصبح مُتَقَدِّمًا ، بدون صِدام بين وَعْي الفرد ووَعْي الجماعة ، وبدون نزاع بين الحُلم الجُزئي والمصلحة الكُلِّية . ولا يُمكن للإنسان أن يَحصل على حُجرة هادئة ومُريحة في سفينة تغرق ، وهذا يعني وُجوب تحويل الحُلم الإنساني إلى مشروع للنهضة الجماعية. ومِن غَير المَعقول حُصول صِدام بين الإنسان ومُجتمعه ، إذا تَكَرَّسَت النَّهضةُ كحُلم جماعي يُوازن بين الرُّوح والمادة ، وإذا صارت فلسفةُ السُّلوك الاجتماعي سفينةَ نجاةٍ تتَّسع للجميع ، لأنه عندئذ لن يخاف الإنسانُ مِن المجتمع ، ولن يَشُكَّ المجتمعُ في الإنسان ، وهذا يعني الوصول إلى حالة السلام الرُّوحي، والسِّلْم الاجتماعي، والمُصالحة الداخلية، ولن يخاف البَحَّارَةُ مِن بعضهم البعض، ولن يُوجِّهوا جُهودهم لتدمير أنفسهم، وإغراق السفينة، لأنهم أمام خطر واحد يُهدِّد حياتهم جميعًا، وهو مَوج البحر . وإذا تَكَرَّسَ الخَطَرُ كتهديد وُجودي شامل وعام ، اتَّحدت الجُهودُ لمُواجهته ، والتَّصَدِّي له .
3
     إن كَينونة السُّلوك الاجتماعي نتاج لتفاعُل الفكر الإنساني مع الجَوْهَر ( حقيقة الوُجود ) . والوُجودُ الإنساني لا يتم تحليله إلا مِن خلال خصائص الثقافة الاجتماعية ورُموزِ الظواهر العقلية . وإذا تَمَكَّنَ المجتمعُ مِن التفريق بين الخصائص والرموز في أنساقه، وصناعة توازُن منطقي بين الفاعلية الذهنية والدافعية الواقعية، ومعرفة الحدود الفاصلة بين العناصر الوجدانية والتراكيب العملية، استطاعَ النُّهوضَ ، والانطلاق إلى الأمام . وعمليةُ النهضة لا معنى لها إذا انفصلت عن قيمة الانطلاق ، لأن النهضة لَيست مقصودة لذاتها ، وأهميتها تتجلَّى في كَوْنها مرحلة أساسية لصناعة الوَعْي بأهمية الانطلاق . وإذا صار الوَعْيُ ثقافةً اجتماعيةً عامَّةً ، انطلقَ المجتمع إلى أحلامه ، وتَجَاوَزَ حاضرَه ، وتَقَدَّمَ إلى المُستقبل ، بدون خَوف ولا تردُّد . وكما أن الخَوف يَشُلُّ قُدرةَ الإنسان على التفكير،كذلك يَشُلُّ قُدرةَ المجتمع على الانطلاق واقتحام المُستقبل .
4
     لا يَستطيع الإنسانُ أن يَلعب دَور البطولة على خشبة مَسرح الحياة ، إلا بعد خُروجه مِن الكواليس وإزاحة السِّتار الفاصل بينه وبين الناس، ومُواجهتهم . وهذه المُوَاجَهَة ضرورية ، لأنها تُمثِّل لحظةَ الحقيقة، وتُجسِّد عمليةَ صناعة الحَدَث . وكُل حَدَثٍ منطقي هو نظام مِن العلاقات الفكرية ، التي تُشكِّل إيقاعًا اجتماعيًّا واعيًا، يَربط بين القواعد التفسيرية للمعنى الإنساني وطبيعةِ الإنسان بكل تناقضاتها. وقُوَّةُ النظام الاجتماعي لا تتجلَّى في مَنْع تَشَظِّي الأنساق الإنسانية ، وإنَّما في السَّيطرة على الشظايا، لأن التَّشَظِّي لا بُد مِنه.وأيضًا، إن المجتمع المُنظَّم ليس الذي يَخلو من عناصر الفوضى، وإنَّما الذي يُسيطر على عناصر الفوضى،ويجد لها مكانًا ضِمن آلِيَّة البناء الاجتماعي رُوحيًّا وماديًّا .

14‏/12‏/2019

تحقيق الحلم الإنساني في المجتمع الاستهلاكي

تحقيق الحلم الإنساني في المجتمع الاستهلاكي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.............

     إن الحُلم الحقيقي في حياة الإنسان ليس الذي يراه في المَنام ، وإنما الذي يراه في الواقع . والحُلم منظومة اجتماعية تُفسِّر القيمَ المعرفية ، وتستمد شرعيتها وجَدْواها مِن تكريس العلاقة بين قُدرة الفرد على الإبداع ، وقُدرةِ المجتمع على احتضان إبداع الفرد . وإذا تكرَّسَ الحُلم في المجتمع كبُنية مركزية، فإن التفاعل بين الأنا والكُل سيغدو ظاهرةً فلسفية عامَّة ، تمنع انقلابَ المعنى الإنساني على التطبيقات الاجتماعية ، وتَحْمي المعنى الإنساني مِن إفرازات النظام الاستهلاكي المادي المُغلَق ، الذي يَقتل رُوحَ الإنسان ، ويُحوِّله إلى كَوْمة شظايا مُتناثرة في صخب الحياة اليومية ، وتائهة في ضجيجِ الأحلام الضائعة والآمال المقتولة .
2
     كُل حُلم إنساني هو بالضرورة سُلطة معرفية ، تَقتل الوهمَ ، وتُحيي الأملَ . وهذا الدَّور المِحْوَري للحُلم الإنساني ينبغي أن يُوظَّف للكشف عن الآمال المقتولة في داخل النَّفْس البشرية، لأن الإنسان _ في أثناء سَيْره في تفاصيل الحياة _ يَخسر كثيرًا مِن أحلامه وذِكرياته ، وتَموت فيه كثيرٌ مِن القِيَم والمبادئ . ومِن أجل إعادة إنسانية الإنسان إلى قيمة المعنى ، والإحساسِ بالوَعْي البَنَّاء ، ينبغي عَقْد مُصالحة بين الإنسان وذاته ، والوصول إلى حالة من السلام الداخلي ، قبل البحث عن السلام مع عناصر الطبيعة ، ومُكوِّنات البُنى الاجتماعية ، والتصالح معها .
3
     أسوأ كابوس يُمكن أن يحصل في المجتمع الإنساني ، هو تحوُّل الإنسان إلى مقبرة مُتَنَقِّلة ، ومدفن للآمال والطموحات والأحلام ، وهذا هو الموت في الحياة ، الذي يجعل الإنسان ظِلًّا باهتًا للذكريات المُتَوَحِّشَة والماضي المُوحِش والحاضر القاسي والمستقبل المجهول. وللإبقاء على شُعلة الحياة في قلب الإنسان بدون انطفاء ، ينبغي تسخير القيم الاجتماعية المعرفية من أجل تأسيس الذات الإنسانية كحالة مِن الوَعْي المنهجي ، الذي يربط بين السلام الروحي الداخلي والتوازن الاجتماعي الخارجي. وهذا يُمثِّل ضمانة أكيدة لمنع انحراف القطار الإنساني عن السِّكة الاجتماعية . ويجب على الإنسان _ أثناء رحلته في هذه الحياة _ أن يَستوعب العناصرَ الفكرية في مُحيطه الداخلي وبيئته الخارجية ، تمامًا كالرُّبَّان الذي يجب عليه   _ لضمان إبحار السفينة بشكل آمِن _ أن يَستوعب حركةَ المياه في البحر ، واحتمالية دُخول المياه إلى داخل السفينة ، لأن هذا يعني الغرق الأكيد والهلاك الحتمي . وإذا عُرِفَ الشَّر مُسْبَقًا ، يُمكن الوقاية مِنه بسهولة .
4
     إذا أُجْبِر الإنسان على السَّير في حقل ألغام ، فينبغي أن يُحافظ على هُدوئه واتِّزانه وتركيزه ، ويبتعد عن نَدْب حَظِّه ، أو لَوْم الظروف ، أو شتم الألغام ، لأن هذه أفعال طائشة لا فائدة مِنها ، وهي تستنزف جُهدَ الإنسان ، وتسرق إمكانياته الذهنية ، وتَسلِب قُدرته على التَّحَرُّك والمُرَاوَغَة . ولا يَقْدِر الإنسانُ على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح ، إلا إذا امتلكَ مشاعره ، وسيطرَ على عواطفه . وإذا انتشرَ الهدوءُ كحالة وجدانية واعية في داخل الإنسان ، استطاعَ السيطرةَ على العناصر الخارجية . وإن السَّباح في عُرض البحر ، ليس أمامه إلا مُواصلة السِّباحة كخيار وحيد ، وإذا خاف أو ارتبكَ غَرِقَ ، والتَّقَدُّمُ إلى الأمام أسهل مِن العَودة إلى الوراء ، لأن الشاطئ الذي انطلقَ مِنه السَّباح صار بعيدًا جِدًّا عنه ، ولا يُمكن العَودة إلى الخَلْف ، وعقاربُ الساعة لا ترجع إلى الوراء. والحَلُّ الوحيد هو مُقَاوَمَة الأمواج حتى الوصول إلى بَر الأمان. والدربُ الموصل إلى الغاية النبيلة شاق ، والطريق إلى قِمَّة الجبل لا بُد أن يكون صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر، ولكنَّ لَذَّة الوُصول تُنسِي الإنسانَ عذابَ الطريق ، والانتصار الحقيقي هو انتصار الإنسان على نفْسه ، والتَّفَوُّق عليها ، وتجاوزها .

07‏/12‏/2019

رحلة البحث عن الخلاص الجماعي

رحلة البحث عن الخلاص الجماعي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..............

     إن الأفكار الاجتماعية مِلكية عامة ، وليست مشروعًا شخصيًّا احتكاريًّا . وهذه الأفكار تُمثِّل حصيلةً معرفية نابعة من العقل الجمعي وتجاربِ الأمم والشعوب على مدار التاريخ . والأفكارُ تيارات ذهنية وإفرازات وجدانية عابرة للأزمنة والأمكنة ، ولا يُمكن تجنيسها والسيطرة على عملية تفجُّرها وانطلاقها ، لأن الأفكار تسبح في داخل الإنسان، وتتناثر في الذهن البشري كالشظايا ، وتنطلق في كل الاتجاهات، لذلك كان من المُستحيل حصر إبداعات العقل البشري في أنساق التاريخ وطبيعة الجُغرافيا . والسؤالُ الذي يَطرح نَفْسَه في هذا السياق : ما فائدةُ الأفكار إذا كُنَّا عاجزين عَن السيطرة عَلَيها ؟ . إن الأفكار تطير في الذهن كما تطير العصافيرُ في الفضاء . والحلُّ الوحيد للسيطرة على العصافير هو الإمساك بها ، وإدخالها إلى القفص. وهذا المبدأ يجب تطبيقه في عَالَم الأفكار القائم على الخيالاتِ الهُلامية ، والتَّصَوُّراتِ الذهنية ، والشظايا العقلية المُتناثرة . ينبغي إدخال الأفكار إلى حُدود الحياة العملية ، وإخراج البُنى العقلية مِن الذهنية غير المحسوسة إلى الواقع المحسوس، مِمَّا يؤدِّي بالضرورة إلى صناعة تطبيقات حقيقية فعَّالة ذات تماس مباشر مع حياة الفرد وطبيعة المجتمع . وصُورةُ الإنسان مهما كانت جميلةً في المِرْآة، تظل مُجرَّد صورة محصورة في إطار ضيِّق ، والعِبرةُ كامنة في الأصل، والتَّعويل إنما يكون على الشكل الحقيقي للإنسان على أرض الواقع ، خارج نفوذ المرايا والإضاءة والمُؤثِّرات البصرية وزوايا الرؤية . والأمرُ ينطبق على عوالم الإنسان الذهنية، والأفكار مهما كانت جميلة ، تظل مُجرَّد إفرازات ذهنية هُلامية سابحة في فضاء العقل، والعِبرة كامنة في تجسيدها على هيئة كيانات واقعية ومشاريع محسوسة.
2
     يُمثِّل مبدأ نقل الأفكار الخيالية إلى أرض الواقع مشروعًا لخلاص الفرد من مأزقه الحياتي ، ونجاةِ المجتمع من أزمته الوجودية . ولكن الأمر ليس بهذه السهولة ، لأن هناك عوائق معنوية ومادية في طريق تحويل الأفكار إلى واقع مُعاش.ومن أبرز هذه العوائق أن يَشعر الفردُ بالغُربة عن نَفْسه ، والاغترابِ عن مُجتمعه ، معَ أنه عائش في قلب مُحيطه وبيئته ، وهذه الثنائية الصادمة ( الغُربة / الاغتراب ) تَجعل الإنسانَ يَنكمش على ذاته ، وينسحب من الحياة العامة ، ويَتَقَوْقَع على أحلامه الشخصية ، بحثًا عن مصلحة شخصية وخَلاص فردي ، مِمَّا يُشكِّل تهديدًا على وَحدة المجتمع وتجانسه وتماسكه ، لأن فلسفة الخلاص الفردي تعني أن الفرد يُريد القفزَ مِن السفينة ، للبحث عن النجاة الشخصية ، وترك السفينة ومَن فِيها لمُواجَهة مصيرهم . وهذه الفلسفةُ خطرة وغير مضمونة النتائج ، لأن الفرد إذا قفز من السفينة في عُرض البحر ، لن يتمكَّن من السباحة إلى شاطئ الأمان ، بسبب بُعد المسافة ، وتلاطم الأمواج ، وطاقته المحدودة على السباحة . والشاطئُ إذا كان بعيدًا ، فليس مِن الذكاء أن يثق الإنسانُ بقدرته على السباحة، ولا يوجد عاقل يُعرِّض نَفْسَه لامتحان صعب ، مهما كان واثقًا مِن قُدرته العقلية وقُوَّته البدنية، لأنه _ ببساطة _ قد يَسقط في الامتحان . وكما يُقال في المثل الشعبي : (( المَيَّة تُكذِّب الغطَّاس )) . وأفضل علاج لأزمة الإنسان الوجودية، هو أن يبقى مع مُجتمعه في السفينة ، ويُحاول الجميعُ إصلاحَها بشتَّى الوسائل ، وتحصين الجبهة الداخلية عن طريق منع وصول الماء إلى داخل السفينة . والسفينةُ لا تَغرِق مِن مياه البحر العظيمة ، ولكنها تَغرِق إذا تَسَلَّلَت المياهُ إلى داخلها . والتعاونُ الجماعي لتحصين السفينة يُحقِّق مَصالح الكُل، ويَضمن النَّجَاةَ للجميع، فيختفي الصراع بين الفائز والخاسر، لأن الجميع سيكونون فائزين. ومهما كانت السفينةُ قديمة ومُهترئة ، فإن قضاء العُمر في إصلاحها أفضل مِن أن يُصبح الإنسانُ طعامًا للأسماك ، ويذهب إلى النسيان في أعماق البحر . وإن الوقت الذي يأخذه الإنسانُ لتبرير أخطائه ، أو نَدْب حَظِّه ، أو التباكي على حياته ، أو جَلْد ذاته ومجتمعه ، أو شَرْعنة تعاسته ، يَكفي لإصلاح أخطائه ، والمُساهمة في علاج أزمات المجتمع ، والتَّقَدُّم إلى الأمام ، وَفْق الإمكانيات المُتَوَفِّرة والظروف المُتاحة . وإذا وَجد الإنسانُ الطريقَ مَسدودًا ، فعليه أن يَبحث عن طريق آخَر ، ولا يُضيِّع وقته في البكاء على الأطلال . والحياةُ رحلة بحث طويلة حتى اكتشاف الطريق الصحيح . والمُحاولة بحد ذاتها إنجاز.
3
     على الإنسان أن يبدأ مسيرةَ الإصلاح والتطوير بما يَملك مِن إمكانيات وقُدرات، حتى لو كانت ضئيلة وبسيطة . وكما أن رَجل الأعمال الناجح يبدأ مشروعه التجاري بما يَملِك مِن مال ، ولا يَنتظر حتى يُصبح مليونيرًا ليتحرَّك ، كذلك المُصلِح الاجتماعي يبدأ مشروعه الاجتماعي بما لَدَيه من أفكار وتصوُّرات ، ولا يَنتظر أن يُصبح فَيلسوفًا ، أو يُصبح المجتمعُ مثاليًا وخاليًا مِن العُيوب . ووظيفةُ الطبيب علاج المرضى لا علاج الأصِحَّاء ، ومُحاربة المرض ، وليس مُحاربة المريض . وهذا المبدأ الإنساني هو أساس العلوم الاجتماعية .