سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/12‏/2020

أناتول فرانس ورفض الأحزاب

 

أناتول فرانس ورفض الأحزاب

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............

    وُلِد الأديب الفرنسي أناتول فرانس ( 1844_ 1924) في باريس ، لعائلة تعمل في الفلاحة. ومعَ هذا فقد كان والده مثقفًا وحريصًا على اقتناء الكتب . واستفادَ فرانس من مكتبة والده ، فأقبل عليها بكل شغف ، وقرأ عشرات الكتب عن الثورة الفرنسية والتراث الإغريقي واللاتيني . وتأثَّرَ بالفلسفة القائمة على الشُّكوك والاحتمالات والأسئلة. وتأثرَ بشكل خاص بالكاتب الشهير فولتير، وأسلوبه الأدبي القائم على السخرية اللاذعة والانسيابية والحيوية .

     كانت طفولته خليطًا من السعادة والأحزان . وأحزانُ طفولته مرجعها إلى وضعه المالي المتدنِّي مقارنةً مع زملائه الأغنياء في المدرسة . لذلك كان يشعر بعُقدة النقص ، ويَعتبر نفْسه أقل شأنًا من باقي التلاميذ بسبب طبقته الاجتماعية. كما أن قصص الحب الفاشلة التي عرفها في مطلع شبابه، تركتْ جُروحًا عميقة في نفْسه ، وأحدثت خللاً في طبيعة شخصيته ، وغيَّرت كثيرًا من أفكاره .

     وعلى الرغم من هذه المعاناة ، إلا أن فرانس كان يُبْرِز أحداث طفولته في كُتبه باعتبارها رمزًا للسعادة ، ومثالاً للحب والحنين والذكريات الجميلة . وكأنه يُعيد اختراع طفولته من جديد ، ويكتب تاريخًا جديدًا لحياته. لقد أرادَ إعادةَ صناعة حياته بعيدًا عن الواقع ، وكتابةَ تاريخه الشخصي كما تَمَنَّاه في ذهنه لا كما عاشه . وبالتالي أسقطَ تصوراته الذهنية على الواقع ، فصارَ الخيالُ هو الواقع الْمُعاش . وهذا المبدأ حقيقة ثابتة في حياته الشخصية ، لا يمكن تجاهلها أو معارضتها ، خصوصاً إذا علمنا أن الاسم الحقيقي لهذا الكاتب هو " أناتول جاك تيبو " . لقد اختارَ لنفْسه اسمًا جديدًا ، وطفولةً جديدة ، وتاريخًا جديدًا . وهذا يشير إلى رفض الواقع والتمرد عليه . رسم فرانس مسارَ حياته مُبَكِّرًا ، وقرَّر أن يُصبح كاتبًا ، فبدأ في مطلع شبابه يُخالط الأوساط الأدبية ، وتعرَّف على الشاعر لوكونت دي ليل الذي ضمَّه إلى حلقة شعراء البارناس . والبَرناسية مذهب أدبي فلسفي لا ديني قام على معارضة الرومانسية التي تقوم على مذهب الذاتية في الشعر ، وعرض عواطف الفرد الخاصة على الناس شِعرًا ، واتخاذه وسيلةً للتعبير عن الذات ، في حين أن البَرناسية تعتبر الفن غاية في ذاته ، لا وسيلة للتعبير عن الذات ، وترفض التقيد سلفًا بأية عقيدة أو فكر أو أخلاق سابقة ، وهي تعتبر شعار" الفن للفن" هو أساس وجودها. واختيارُ فرانس للبَرناسية يشير بوضوح إلى حالة التمرد على السائد والمألوف ، والسباحة ضد التيار .

     نشر فرانس في عام 1868 كتابًا عن الشاعر دي فينيي، ثم اشترك مع مجموعة شعراء البارناس في تأليف بعض الأشعار. وهذا الأمر شجَّعه على مواصلة الكتابة . فصدر له بعد ذلك ديوان" القصائد المذهَّبة " ( 1873 ) ، وقد أهداه إلى أستاذه وأبيه الروحي ( الشاعر دي ليل ) .

     كانت أول رواية ناجحة لفرانس " جريمة سلفستر بونارد " ( 1881 ) ، وقد استقبلها النقاد بالتفاؤل والتقدير ، ومدحوا كاتبها ورَأَوْا فيه موهبة أدبية حقيقية . وهذا المديح لفت الأنظار إليه بشدة ، وجعل اسمه راسخًا في الحياة الأدبية الفرنسية ، فبدأ في عام ( 1886 ) كتابة عمود أدبي لجريدة " لوتيمب " .

     حقَّق فرانس شهرةً واسعة ، وذاع صِيته في كل مكان ، بسبب نزعته الإنسانية ، وأسلوبه الأدبي الرَّشيق ، وسُخريته اللاذعة المغلَّفة بالحزن ( الكوميديا السَّوداء )، ودقة ملاحظاته ، ورفضه للعنصرية والتطرف ، ونظرته الناقدة للمجتمع ، وتصويره البشر على أنهم مُخادِعون منافقون شهوانيون .

     انتُخِبَ عُضْوًا في الأكاديمية الفرنسية عام 1896، وبدأ يبتعد عن الكتابة الروائية ، ليتفرَّغ للسياسة والنقد الاجتماعي. وفي هذه الفترة، صار يميل إلى الاشتراكية والشيوعية دون أن ينتميَ إلى أي حزب ، فقد كان رافضًا للأحزاب وأفكارها الجامدة ، وتقسيماتها الهرمية التقليدية التي ترفض الآراء المخالِفة وتعتبرها انشقاقًا وتمرُّدًا . وكان يُدافع على الدوام عن حرية الفكر ، وضرورة فصل الدِّيني عن الدُّنيوي ، والاهتمام بالعِلْم باعتباره الضمانة الأكيدة لتقدم البشرية .

     حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1921 لمجموع أعماله . وتبرَّع بالقيمة المالية للجائزة لمنكوبي المجاعة في الاتحاد السوفييتي .

     مِن أبرز أعماله الأدبية : جريمة سلفستر بونارد ( 1881) . كتاب صديقي ( 1885) . تاييس ( 1890 ) . الزنبقة الحمراء ( 1894) . جزيرة البطريق ( 1908 ) . سيرة جان دارك   ( 1908 ) . الآلهة عطشى ( 1912) . ثورة الملائكة ( 1914) .

30‏/12‏/2020

آنا أخماتوفا ومناهضة السلطات الشيوعية

 

آنا أخماتوفا ومناهضة السلطات الشيوعية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............


   وُلِدت آنا أخماتوفا ( 1898 _ 1966 ) في أوديسا في روسيا القيصرية لعائلة يهودية ثرية . وتُوُفِّيَت في ضواحي العاصمة موسكو . اسمها الحقيقي آنا أندرييفنا غورنكو .

     تميَّزت مُنذ صغرها بطبعها الحاد، وفي نفس الوقت اتَّسمت بالذكاء والفطنة ، فتعلمت القراءة وهي في سن الخامسة من أعمال الكاتب الروسي الشهير تولستوي ، وأجادت اللغة الفرنسية وهي تسترق السمع لدروس الفرنسية التي كان يتلقاها أشقاؤها.

     التحقت بالمدرسة الأدبية عام 1900، وأمضت فيها خمسة أعوام ، ثم انضمت إلى مدرسة خاصة في كييف ، وتلقَّت دورات في الأدب والتاريخ عام 1908 . تجوَّلت _ على غرار أغلبية أبناء الأثرياء والنبلاء حينذاك _ في أوروبا، فزارت باريس وروما وتعرَّفت على عدد من رموز الثقافة والأدب هناك .

     صدرت أول مجموعة شعرية لها في عام 1912 ، تحت عنوان " أمسية ". ثم أتبعتها بمجموعة ثانية في عام 1914 بعنوان " المسبحة " ، ومجموعة ثالثة في عام 1917 بعنوان "القطيع الأبيض"، ومجموعة رابعة في عام 1921 بعنوان " أعشاب على جانب الطريق " .

     وقد عكست _ في كل هذه المجموعات _ هَمَّها الخاص ، وخلطته بتناول التطورات السياسية الجارية في بلادها ، فكان هذا كافيًا لدخولها دائرة المحظور، إذ أمرت السلطات بعدم نشر أشعارها وأعمالها الأدبية خلال الفترة ( 1923_ 1934) .

     ساهمت فترة المنع هذه في انضمامها إلى اتحاد الكُتَّاب السوفييت عام 1938 ، لكنها عادت فأصدرت مجموعة شعرية حزينة تارة ومتمردة تارة أخرى عام 1939،تحت عنوان " مرثاة"، وخصَّصتها للحديث عن " العسف السياسي" في بلادها، وتجربتها الخاصة مع إعدام زوجها الأول نقولاي غوميليوف في عام 1912 ، واعتقال ولدها الوحيد والزج به في السجن مدة طويلة .

     لَم تُؤدِّ هذه المجموعة إلى أي رد فعل من السُّلطات السياسية التي كانت تُعِد العُدَّة للانخراط في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية ، والتي دهمت الشاعرة في مدينة لينينغراد التي أحكم النازيون حولها حصارًا ضاريًا،وأصَرَّت السُّلطات السوفييتية على مطالبتها الشاعرة أخماتوفا بمغادرة المدينة إلى طشقند في آسيا الوسطى، وبعد انتهاء الحرب كانت من أوائل العائدين إلى مدينتها التي طالما تغنَّت بها .

     لكن السُّلطات السوفييتية لَم تغفر لها مجموعتها الشعرية "مرثاة" فأوعزت للنقاد بشن هجمة ناقدة لإنتاجها الأدبي على صفحات أهم المجلات الأدبية في ذلك الحين، وأتبعت ذلك بقرار يقضي بفصلها من اتحاد الكتاب السوفييت عام 1946 .

     أصدرت مجموعة شعرية عام 1950 تحت عنوان " المجد للسلام " ، في خطوة تصالحية مع السلطات السياسية، وللتوسط لمصلحة ولدها الذي عاد مُجَدَّدًا إلى المعتقل .

     ساهمت هذه المجموعة الشعرية في الإذن بعودتها إلى اتحاد الكُتَّاب السوفييت . وفي عام 1956 أفرجت السُّلطات عن ولدها ، لكنه تنكر لمعاناة والدته ، مِمَّا زاد آلامها ، وعمَّق شعورها بالوَحدة والانكسار ، ولهذا كانت مجموعة "أشعاري" التي صدرت في ذلك العام هي الأكثر سوداوية في عطائها الأدبي .

     مُنحت أخماتوفا جائزة الشِّعر والأدب في إيطاليا عام 1964 . لكن جائزتها الحقيقية جاءت مع بداية عهد البيروسترويكا ( الانفتاح ) في الاتحاد السوفيتي خلال ثمانينيات القرن العشرين، حين سُمح بطباعة إنتاجها الأدبي والفكري ، وأعمالها في مجال نقد الأدب ، وصدرت جميع أعمالها الشعرية، بل وأكثر من ذلك تحوَّلت إلى بطلة في عشرات الأفلام السينمائية والأعمال المسرحية، وأبدع الرسامون في كتابة " بورتريه أخماتوفا " .

     تُعتبَر أخماتوفا من أبرز شاعرات روسيا في عهد الاتحاد السوفييتي، ومن أشهر المؤثرين في الشعر الروسي، وقد تَمَّ ترجمة أعمالها إلى العديد من اللغات، وتم اعتبارها من أشهر شعراء الروس في القرن العشرين .

29‏/12‏/2020

إميلي ديكنسون والانقطاع عن العالم

 

إميلي ديكنسون والانقطاع عن العالم

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........

     وُلدت الشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون ( 1830_ 1886 ) في ولاية ماساتشوستس في الولايات المتحدة ، وتُوُفِّيت متأثرة بمرض في الكِلى . نشأت في عائلة محافظة وغنية . كان والدها رجلاً صارمًا ومحاميًا كبيرًا في البلدة، ومُمثِّل الولاية في الكونغرس .

     حصَّلت تعليمها في مدارس البلدة ، ثم أمضت ما يُقارب العام في معهد للدراسات الدينية للإناث ، في بلدة ماونت هوليوك المجاورة . عاشت حياة بسيطة منعزلة هادئة، وعرفت عِدَّة رجال وأحبَّت بعضهم، إلا أنها لَم تتزوج قَط. وقد يكون غياب نقاط ارتكاز أساسية في حياتها قد أثَّرَ في صحتها الجسدية ولاحقًا النفسية، وتَمَثَّلَ بازدياد نزعتها الانطوائية ، ورهبتها من الآخرين ، وغرابة أطوارها . كان لتربية ديكنسون الدينية دور مركزي في أدبها ، وكذلك كان شكسبير وعدد من الشعراء الإنجليز مصدر إلهام لها. اطَّلعت في وقت مبكر على أعمال رالف والدو إمرسون، وقرأت ديوانه " قصائد " بتلهُّف ، وتأثرت بمفهومه عن التعالي ، مِمَّا جعله بمنزلة المعلِّم والأب الروحي لها. وتزعزعت نتيجة لذلك الأسس والمفاهيم الدينية المتزمتة التي تشرَّبتها منذ نعومة أظفارها، وأصبح الشك رائدها، والطبيعة والحب والقلق والموت موضوعات شِعرها .

     بدأت ديكنسون كتابة الشعر في سن المراهقة، إلا أن إنتاجها ذا القيمة الفعلية لَم يبدأ حتى عام 1850 ، ودام حتى أواسط الستينيات ، فكتبت كَمًّا هائلاً من القصائد ، إلا أنها لَم تضع عناوين إلا لعدد ضئيل منها ، فأُعْطِيَت أرقامًا عند نشرها . وبعد وفاتها نشرت أختها قصائدها، بعنوان    " قصائد لإميلي ديكنسون " ( 1890 ) ، و " قصائد : السلسلة الثانية " ( 1891 ) ، ونُشِرت لها أيضًا"رسائل إميلي ديكنسون "( 1894) في مجلدين، ثم" قصائد: السلسلة الثالثة " ( 1896).

     لَم تلقَ ديكنسون التقدير الأدبي في حياتها ، لكن اعتبارها أُعيد فيما بعد . تُعَدُّ مع والت ويتمان أهم الشعراء الأمريكيين في القرن التاسع عشر ، والأكثر موهبة في الأدب الأمريكي . تأثرت كالشاعر ويتمان بكتابات المؤلف الأمريكي رالف والدو إمرسون . يعكس العديد من قصائدها شعور المثقفين الأمريكيين بالاغتراب بعد الحرب الأهلية ( 1861 _ 1865 ).

     عاشت في عُزلة مع أختها وأمها ، حيث كانت تُفضِّل كتابة العالَم عن بُعْد ، فانسحبت منه لتتأمله. وكانت تجد ذاتها في عُزلتها المطبقة حَوْلها ، وفي العقد الأخير من حياتها لَم تُغادِر بيتها قَط . والكثير عنها غير معروف ، كما أنها لَم تتزوَّج . وبعد بلوغها الثلاثين ، نادرًا ما كانت ترى أحدًا سِوى المقرَّبين من عائلتها . وقد قال أحد الشعراء الأمريكيين إن العُزلة التي اختارتها إميلي لنفْسها في بيت أبيها وفي غُرفتها الخاصة، لَم تكن هروبًا من الحياة ، بل إن الأمر على عكس ذلك ، فقد كان اعتزالها مغامرة إلى قلب الحياة التي اختارت أن تكتشفها وتُروِّض مجهولها، تلك الحياة الشاسعة الخطرة ، كثيرة الآلام، ولكن الأصيلة ، بل التي تفوق كُل حياة أخرى أصالةً .

     شَدَّ انعزال ديكنسون عن المجمتع قُرَّاءها إليها. ويعتقد الباحثون أنها اختارت أن تُفكِّر وتُدوِّن، وهي تكتب عن مجتمعها الخاص بها، وليس عن الوسط الأدبي ذي الآفاق الفكرية المحدودة في الزمن المعاصر لها. كان هذا الوسط الأدبي يتوقع من الكاتبات أن يُكرِّسنَ أنفسهن للأمور المنْزلية والكلام العاطفي . إضافة إلى ذلك، فإن المرأة العزباء المحترفة في أمريكا لَم يكن أمامها سوى عدد قليل من الفُرص في القرن التاسع عشر الميلادي . لذا ، اختارت ديكنسون أن تبقى في منْزلها المريح الذي ينتمي إلى الطبقة فوق المتوسطة. وكان الناس في مدينتها ينظرون إليها على أنها غريبة الأطوار ، وفي النهاية، استاؤوا من عدم حضورها .

     وأثناء احتجابها في الطابق الثاني من منزل أهلها ، كانت تقوم بتحليل مظاهر الطبيعة بشكل عملي في قصائدها ، التي بدأت تجمعها في كتب صغيرة تُدعى " الكراريس " .

     وفي سن الثلاثين ، ابتدأت ديكنسون تتأمل الحياة بعمق بدلاً مِن أن تبحث عن الآمال العادية في الحياة . وعندما اشتدَّت الحرب الأهلية، أنتجت أكثر قصائدها وأفضلها. تابعت الشاعرة الكتابة في عام 1870 ، لكن بطريقة أكثر بُطْئًا . كتبت ديكنسون ما يزيد على 1700 قصيدة، يتَّفق الدارسون على أنها لَم تشأ نشر أيٍّ منها . غَير أن عشرًا من أفضل قصائدها نُشِرت أثناء حياتها دون مُوافقة منها. وفي أفضل قصائدها اهتمام بالتجربة الحية بوصفها لحظات مُنفلتة.كما أنها تنظر إلى الموت بوصفه معبرًا عن الخلود . صنَّفها الناقد الأدبي هارولد بلوم (جامعة ييل) ضمن أهم 26 كاتبًا وكاتبةً غربيين عبر التاريخ . تعود أهمية ديكنسون إلى كَوْنها أولى الشاعرات اللواتي تَمَتَّعْنَ بفكر متفتح متمرد على المجتمع الذكوري، غير آبهة بالتقاليد المتوارثة ، ورافضة للوضع الراهن . وكانت في شِعرها سابقة لعصرها بأسلوبها البسيط ، ولغتها المكثَّفة الْمُقْتَضَبَة ، وصورها المؤثرة ، وخصوصية موضوعاتها . أمَّا مِن حيث الشكل ، فقد لجأت إلى القافية غير المنتظمة ، والسَّجع ، والطِّباق ، والجِناس ، والتَّورية ، وهو تَوَجُّهٌ استمر فيه الشعراء في عشرينيات القرن التالي . وفي كل هذا تكمن عبقريتها وريادتها .

28‏/12‏/2020

إميلي برونتي ومرتفعات ويذرنغ

 

إميلي برونتي ومرتفعات ويذرنغ

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.........


    وُلِدت الأديبة الإنجليزية إميلي برونتي ( 1818 _ 1848 ) في مدينة ثورنتورن ، في مقاطعة يوركشاير من أبوين فقيرين .

     تشتهر برونتي بروايتها الوحيدة " مرتفعات ويذرنغ " ، التي تُعتبر من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي . إميلي هي الأخت الثانية في الأخوات برونتي ، حيث إنها أصغر من شارلوت ، وأكبر مِن آن . وقد نشرت إميلي أعمالها تحت الاسم الذكوري المستعار ( إيلي بيل ) .

     تبقى إميلي برونتي شخصيةً غامضة ، وتحديًّا لِكُتَّاب السيرة ، لأن المعلومات عنها ضئيلة ومتفرقة ، نظرًا لطبيعتها الانفرادية وكَوْنها منعزلة نوعا ما . كما لا يبدو أنها من النوع الذي لديه أصدقاء خارج العائلة . وتبقى أختها شارلوت المصدر الرئيسي للحصول على معلومات عنها .

     وعلى الرغم مِن أنها شقيقتها الكبرى ، إلا أنها قرَّرت الكتابة علنًا عنها بعد وقت قصير من وفاتها ، وهذا يعني أنها ليست شاهدًا مُحَاِيدًا .

     في عام 1850 ، كتبت شارلوت : (( كان تصرُّف أُختي طبيعيًّا . الظروف هي التي عزَّزت ميولها إلى العزلة ، لكنها كانت تذهب إلى الكنيسة أحيانًا ، وأحيانًا تمشي على التلال، ونادرًا ما عبرت عتبة المنزل.وعلى الرغم مِن أنها كانت تحمل الخير للآخرين، إلا أنها لَم تكن تختلط معهم)).

     كانت إميلي تبلغ مِن العُمر ثلاث سنوات ، عندما وافى الأجل والدتها المريضة . بينما أُرْسِلَت الأخوات الأكبر سِنًّا ماريا وإليزابيث وشارلوت إلى مدرسة للبنات ، حيث عَانَيْنَ من سوء معاملة وجوع وحرمان ، ظهر ذلك جليًّا في رواية شارلوت " جين إير " .

     التحقت إميلي بالمدرسة بعد فترة قصيرة من ذلك . وبعد أن اجتاج مرض تيفوس المدرسة، أُصِيبت الأختان ماريا وإليزابيث بالمرض ذاته ، حيث أُرْسِلتا إلى البيت ، وتَبَيَّنَ فِعلاً أنهما مُصابتان

بمرض السُّل . ونتيجة لذلك أُبْعِدَت إميلي عن المدرسة خوفًا من انتشار وتفشِّي العدوى .

     تُوُفِّيَت إليزابيث بعد فترة قصيرة مِن وفاة اختها الكبرى شارلوت . وبقيت إميلي وثلاثة من أخواتها في المنزل ، حيث تَلَقَّيْنَ التعليم على يد عَمَّتهنَّ . في أوقات الفراغ ، كانت الأخوات يستمتعنَ بخلق الروايات، واستيحائها مِن عالَم الدُّمى والألعاب التي كُنَّ يَلعبنَ بها ، والتي ظهرت في القصص التي كَتَبْنَها فِيما بعد ، ضِمن السياق السردي والفكري والاجتماعي .

     نُشِرَت رواية " مرتفعات ويذرنغ " لأول مرة ، عام 1847 ، في مجلدين . واعْتُبِرَت فيما بعد من روائع الأدب الإنجليزي الكلاسيكي . ورغم أن الرواية  تلقَّت آراء مختلفة عند صدورها ، إلا أنها غالبًا ما كانت تُدان لوصفها حالة الشغف والحب اللاأخلاقي والانتقام من الحبيب .

     وفي عام 1850 ، نشرت أختها شارلوت الرواية كاملةً ، وباعتبارها مِن مؤلفات إميلي برونتي. والمفارَقة الغريبة في الأمر أن إميلي اختارت أن يموت أبطال الرواية بسبب مرض السُّل ، ونفْس المرض كان سبب موت جميع أفراد أسرة إميلي برونتي ، وهو الذي قضى عليهم .

     تُوُفِّيَت إميلي بإصابتها بمرض السُّل كباقي أفراد العائلة . ويُرجِّح البعض أن مصدر المرض هو الظروف الصحية السيئة في المنزل ، وكذلك مياه الاستخدام المنْزلي الملوَّثة التي تصبُّ فيها المياه القادمة من الفناء الخلفي لمقبرة الكنيسة .

     لقد مرضتْ إميلي في أثناء مراسم دفن أخيها في سبتمبر 1848 ، حيث أخذت صحتها بالتدهور شيئًا فشيئًا، كما رَفضتْ أخذَ العقاقير والوصفات الطبية قائلة" إنها لاتريد سموم الطبيب"، حتى وافاها الأجل المحتوم في التاسع عشر من سبتمبر 1848 ، في الساعة الثانية بعد الظهر . ودُفِنت في كنيسة القديس رئيس الملائكة ميخائيل، حيث يرقد جُثمانها هناك في مدينة هاورث في الغرب من مقاطعة يوركشاير .

27‏/12‏/2020

إميل سيوران وفلسفة اليأس

 

إميل سيوران وفلسفة اليأس

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.........


    وُلد الفيلسوف الروماني إميل سيوران ( 1911 _ 1995 ) في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية ، والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية . وقد كان والده قِسًّا أرثوذكسيًّا بالقرية، وكانت أُمُّه لا تخفي سُوء ظنها بكل ما يتعلق بالدين واللاهوت .

     كان للتشاؤم واليأس جذور عميقة في طفولة سيوران ، حيث كان يحب المقبرة ، ويُصادق القبور ، ويلعب كرة القدم بالجماجم .

     اضْطُر للرحيل عام 1921 إلى " سيبيو " المدينة المجاورة، حيث المعهد الثانوي، وحيث أصبح والده رئيس الكنيسة . اضْطُر ثانيةً للرحيل إلى بوخارست لدراسة الفلسفة ، وهنالك عرف لأول مرة أول عوارض المرض الذي سيرافقه كثيرًا وهو الأرق . وقد عانى من جرَّاء ذلك كثيرًا حتى فكَّر في الانتحار . ولكنه سُرعان ما حوَّل ليالي الأرق إلى وسيلة للمعرفة.وحين كان في سن الثانية والعشرين ألَّف كتابه الأول" على ذُرى اليأس" الذي نُشِر عام 1934 . وبسببه ، حصل سيوران على جائزة الكُتَّاب الشباب للمؤسسة الملكية ، حيث تشارك الجائزة مع صديقه يوجين يونيسكو.

     بعد سيبيو،انتقل إلى برلين حيث أقام فترة للدراسة ثم تفرَّغَ لتدريس الفلسفة بمعهد براسلوف.

نشر العديد من المقالات ، كما نشر كتابه الثاني " كتاب الخدع " باللغة الرومانية أيضًا، إلا أنه في نهاية عام 1937، وقبل صدور كتابه " دموع وقِدِّيسين"، حصل على منحة من معهد بوخارست، وارتحل على الفَور إلى فرنسا . وفي عام 1947 ، عرض مخطوطة كتابه " رسالة في التحلل " على دار غاليمار للنشر ، فقبلت الدار نشره ، إلا أنه استعاد المخطوطة ، وأعاد الاشتغال على الكتاب، ولَم ينشره إلا بعد سنتين. ولَقِيَ الكتاب حفاوة نقدية إلا أن التوزيع كان محدودًا جِدًّا.وظلَّت تلك حال كتبه طيلة 30 سنة. ربما لأنه كان نقيض سارتر ( سيِّد المشهد وقتها ) . ثُمَّ ما لبث الأمر أن تغيَّرَ عام 1965 ، حيث صدر كتاب" رسالة في التحلل"ضمن سلسة كتب الجيب ذات الانتشار الواسع.ظَلَّ سيوران يمتنع عن الجمهور ويرفض الجوائز،ويبتعد عن وسائل الإعلام مكتفيًا بالكتابة. إلا أن هناك أمرًا أثَّر في كتابات سيوران وفي حياته وفي نظرته للعالَم وعلاقته مع الآخرين، وتَمَّ التكتُّم عليه وإنكاره ، وهو علاقته بالفاشية وبهتلر شخصيًّا . وحين كان في الثانية والعشرين برَّر مواقفه بالطيش وعدم النُّضج ، إلا أن نصوصه التي نُشِرت بعد موته تشير إلى غير ذلك .

     قام بتأليف خمسة عشر كتابًا ، إلى جانب المخطوطات التي عُثر عليها بعد وفاته .

     كانت دراسات سيوران الأولى تدور حول أفكار كانت وشوبنهاور ، وبشكل خاص نيتشه . وكانت أطروحة تخرُّج سيوران عن هنري برغسون . وفيما بعد رَفض سيوران مشروعَه، وأنكره ، مُدَّعِيًا أن برغسون لَم يفهم مأساة الحياة .

     كتب سيوران تأملات غنائية ، وكانت في الغالب تميل في طبيعتها إلى الميتافيزيقية، وتتطرق في مواضيعها المتكررة إلى الموت واليأس والعزلة والتاريخ والموسيقى والقديسين والصوفيين .

     كتب آخر مقالة له بالرومانية عام 1943 ، وهو العام الذي بدأ فيه الكتابة بالفرنسية . وبعد مرور الوقت ، صار خبيرًا ومتمرسًا في الكتابة بالفرنسية .

     شرح سيوران في مؤلفاته مخاوفه وهَوَسه المتأصِّل في شخصيته وانفصاله عن العالَم . واعترضَ على الوجودية وذَمَّها ، وظهرت وانتشرت كتبه التي أعرب فيها عن خيبة أمله الراديكالية ، وتواترت على أكثر من ثلاثة عقود .

     كان سيوران يعيش عُزلةً في غرفة صغيرة في وسط باريس، حيث حافظ على مسافة بينه وبين العالم الخارجي . ولَم يتزوَّج نهائيًّا ، ولكنه أحبَّ سيمون رو، وكانا في علاقة معًا منذ عام 1950، وحتى وفاته .

     عانى سيوران من الحرمان من حقه بالعودة إلى رومانيا خلال سنوات حُكم النظام الشيوعي ، وجذب الانتباه العالمي في وقت متأخر من حياته المهنية ، وتُوُفِّيَ في باريس عام 1995 .

26‏/12‏/2020

علاقة الحاضر بالماضي في فلسفة التاريخ

 

علاقة الحاضر بالماضي في فلسفة التاريخ

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

........

     القدرة على تفسير ظواهر التاريخ وأحداث الماضي ، تُعتبر من أهم خصائص العقل البشري . وهذه القدرة مُستمدة بالأساس مِن فهم الواقع واستيعاب أحداثه ، والعاجزُ عن فهم الحاضر ، هو _ بالضرورة _ عاجز عن فهم الماضي ، لأن الحاضر هو القاعدة الصُّلبة والركيزة الأساسية ونقطة الانطلاق نحو الماضي ، من أجل تفسيره ، والتنقيب عن إيجابياته وكنوزه ، وصَهر هذه الكُنوز في بَوتقة الوَعْي المنطقي ، والانطلاق نحو المُستقبل بخُطى ثابتة ومدروسة ، بعيدًا عن حرق المراحل والقفز في الفراغ، لأنَّ البِنية التركيبية للزمن عبارة عن مراحل تراتبية دقيقة، تُشبه دَرَجات السُّلَّم ، وصُعود السُّلَّم إنما يكون دَرَجة دَرَجة لتحقيق الأمان والفاعلية ، والوصول إلى الهدف المَنشود . والزمنُ مِثل مَوج البَحْر ، لا يُمكن امتلاكه والسَّيطرة عَلَيه ، ولكن يُمكن التعامل معه بذكاء ، والاستفادة مِن قُوَّته ، وتَوظيفه لصالح تحقيق المنافع والمكاسب . وبما أن السباحة ضِد التيار مُتعبة وشديدة الخُطورة ، وقد تُؤدِّي إلى الانهيار والغرق ، فإنَّ الحل الوحيد هو الاستفادة مِن حركة التيار ورُكوب المَوجة للوُصول إلى بَر الأمان . ويجب على الإنسان أن يَبحث عن مصلحته ونَجَاته ، ويُوظِّف جميعَ العناصر لتحقيق أحلامه وطُموحاته وصناعة حاضره ومُستقبله ، بشَرط أن يَكون ذلك بوسائل مشروعة وأدوات نظيفة ضِمن دائرة المشاعر الإنسانية النبيلة ، بعيدًا عن استغلال الآخرين ، والصُّعود على ظُهورهم .

2

     فهم الحاضر لفهم الماضي ، لا يَعني أن نَعيش الماضي في الحاضر ، أو ننقل الحاضر إلى الماضي ، وإنَّما يعني امتلاك قواعد المنهج العِلمي والتسلُّح بأحدث النظريات الفكرية ، والسَّفَر إلى الماضي ، لتفكيك عناصره ، وتحليلها عُنصرًا عُنصرًا ، ومعرفة صِفة العُنصر الذاتية ( النظرة الجُزئية ) ودَوره الوظيفي في المنظومة التاريخية ( النظرة الكُلِّية ) ، ثُمَّ إعادة تركيب العناصر بشكل منطقي مُتسلسل ، لإيجاد العلاقة المصيرية بين الفكر الإنساني والأحداث التاريخية مِن جِهة ، وبين الأحداث التاريخية والمُكوِّنات الوُجودية مِن جِهة أُخرى .

3

     رحلة الانطلاق من الحاضر إلى الماضي ، تستلزم امتلاكَ أهم النظريات في العلوم الإنسانية والاجتماعية ، وآخِر ما توصَّل إليه العقلُ البشري من أدوات الفَحْص ومناهج التحليل والتفكيك والتركيب . وهذه العمليةُ تُشبِه امتلاكَ أحدث وسائل التكنولوجيا للتنقيب عن الذهب في المناجم المدفونة تحت الأرض . ويُمكن القَول إنَّ دراسة الماضي في ضَوء الحاضر ، تعني تحليلَ النَّوَاة الأولية المُشتملة على العناصر الفِطْرية التلقائية ، اعتمادًا على النظريات المُركَّبة المُشتملة على ثنائية التحليل والتعليل، التي تَغُوص في عُمق الحَدَث، ولا تَكتفي بمُلامَسة السطح . وبذلك تنتقل دراسة التاريخ من الأحاسيس البسيطة التي تتَّصف بالسَّذاجة والبدائية ، إلى الأفكار المُعقَّدة التي تتَّصف بالتَّشَعُّب وكثرة التفاصيل، وهذا أمرٌ منطقي، لأن الوقائع التاريخية شديدة التَّعقيد، والأحداث مُتشابكة ومُختلطة ، ولا يُمكن استخدام أداة بسيطة للتعامل مع حَدَث مُعقَّد ، كما لا يُمكن استخدام إبرة لحفر جبل .

4

     علاقة الحاضر بالماضي في فلسفة التاريخ ، في غاية الصُّعوبة والتَّعقيد ، لأنَّها علاقة مُرَاوِغَة ومُتقلِّبة ومُتحركة ، ومِن الصَّعْب السيطرة على نُقطة متحركة في كُل الاتجاهات . ومعَ هذا ، يُمكن فهم هذه العلاقة الشائكة استنادًا إلى مِثَالَيْن يُفسِّران طبيعتها ووظيفتها . المِثال الأوَّل : الصُّورة والمِرآة ، فنحنُ نرى صُورةَ الماضي في مِرآة الحاضر . وعندما نقف أمام المِرآة ، فنحن _ في الحقيقة _ نتعامل مع انعكاس الصُّورة على سَطْح المِرآة ، وهذا الأمرُ يُكرِّس ضرورةَ التَّمييز بين الثنائيات المعرفية : الفَرْع والأصل . التابع والمتبوع . الشكل والمحتوى . الأثر والمُؤثِّر . رَد الفِعل والفِعل . وإذا نجح العقلُ التحليلي في وضع هذه الثنائيات في سياقها الزمني الصحيح ، استطاعَ التمييز بشكل دقيق بين التاريخ ( الحَدَث ) والتأريخ ( مُعَالَجَة الحَدَث ) . والمثال الثاني: الابن والأب، فالابنُ عندما يُحلِّل شخصيةَ أبيه ، والأب عندما يُحلِّل شخصية ابنه ، إنَّما يُؤسِّسان علاقةً تاريخية مُتكاملة، لأنَّ كُل واحد مِنهما يَنطلق مِن زمن مُختلف، ويَمتلك أدوات تحليلية مُستقلة، ولَدَيه قناعات ذاتية مُستقاة مِن واقع تجربته الشخصية،فالابن ينطلق من الحاضر إلى الماضي كَي يلتقي بأبيه ، والأب ينطلق من الماضي إلى الحاضر كَي يلتقي بابنه، ونُقطة الالتقاء بين الطرفَيْن هي التي تُحدِّد ماهيةَ القرار وطبيعةَ الحُكم ، والحُكم على الشَّيء فَرْع عن تصوُّره ، وهذا التَّصَوُّر لَيس عفويًّا ولا وليدَ اللحظة ، وإنَّما هو نتاج خبرات تراكمية على مَر الزمن ، والزمنُ هو الحاضنُ الشرعي لأحداث الماضي ، والتجسيدُ الواقعي لإفرازات الحاضر . وكما أن الابن والأب يَلتقيان في نُقطة واحدة تعكس مصيرهما المُشترك ، كذلك الحاضر والماضي يَلتقيان في بؤرة مركزية تَعكس علاقتهما المصيرية ، وتَكون بَوَّابةَ العُبور إلى المُستقبل .

25‏/12‏/2020

إميل زولا ومنهج الطبيعية

 

إميل زولا ومنهج الطبيعية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.........


    وُلِد الكاتب الفرنسي إميل زولا ( 1840 _ 1902 ) في باريس . والده كان ابن مهندس إيطالي . وفي عام 1847 ، تُوُفِّيَ والده تاركًا والدته تقتات على معاش ضئيل. وفي عام 1858 انتقلت العائلة إلى باريس ، حيث كَوَّنَ زولا صداقة مع الرسام بول سيزان، وبدأ الكتابة مستخدمًا أسلوبًا رومانسيًّا . وكانت الأم الأرملة قد خططت لزولا أن يمتهن القانون ، وأن يعمل في أي وظيفة في هذا المجال ، لكنه رسب في اختبار البكالوريا .

     قبل انطلاقه ككاتب ، عمل زولا كاتبًا في شركة للنقل البحري، ثم في قسم المبيعات للناشر هاتشيت. كما كتب مقالات عن الأدب والفن للصحف. وكصحفي يكتب في السياسة، لَم يُخْفِ زولا كراهيته لنابليون الثالث ، والذي نجح في ترشيح نفسه لمنصب الرئيس بموجب دستور الجمهورية الفرنسية الثانية ، إلا أنه أساء استخدام هذا المنصب وقام بالانقلاب الذي جعله الإمبراطور فيما بعد . وقد كان زولا مُتسلِّط الرأي كما أظهرت كتاباته .

     خلال سنوات حياته الأولى ، كتب زولا العديد من المقالات والقصص القصيرة وأربع مسرحيات وثلاث روايات. وفي عام 1865، نَشر روايةَ السيرة الذاتية الفَجَّة " اعترافات كلود" فجذب انتباه الشرطة ، وسرَّحته دار هاشيت للنشر من العمل . أمَّا روايته " الأحداث الغامضة في مرسيليا " ، فقد ظهرت كقصة متسلسلة في عام 1867 . قام زولا في سن الثامنة والعشرين بالتفكير في تصميم كامل سلسلته القصصية . هذه السلسلة مِن القصص تُلاحق الآثار البيئية التي أثَّرت في فرنسا في عصر الإمبراطورية الثانية ، وتأثيرات انتشار العنف وشرب الكُحوليات والبِغاء التي أصبحت أكثر انتشارًا خلال الموجة الثانية من الثورة الصناعية. هذه السلسلة القصصية تُلاحق فَرْعَيْن من عائلة واحدة : المحترمين ( الشرعيين ) وسَيِّئي السُّمعة ( غيرالشرعيين ) على مدى خمسة أجيال . وَصَفَ زولا سلسلته القصصية بقوله : (( أُريد أن أُصوِّر في بداية عهدالحرية وتلمُّس الحقيقة عائلة لا يمكنها أن تمارس ضبط النفس في اندفاعها الطبيعي لامتلاك كل الأشياء الجيدة التي يتيحها لها التقدم، فتخرج عن مسارها بسبب زخم الحياة حَوْلها، والانقباضات القاتلة التي ترافق ولادة نظام عالمي جديد )). وعلى الرغم مِن أن زولا وسيزان كانا صديقين منذ الطفولة وأثناء الشباب ، إلا أنهما انفصلا في وقت لاحق من الحياة ، عندما صَوَّرَ زولا سيزان والحياةَ البوهيمية التي يَحياها الرسامون في روايته " اللوفر " ( التحفة الأدبية الصادرة في عام 1886 ) .

     ابتداءً مِن عام 1877 ، ومعَ نشر رواية " الرائع " ، أصبح زولا من الأثرياء . وقد كان يَحصل على أجر أفضل مِمَّا كان يُدفَع لفكتور هوغو ! . أصبحَ زولا مُمَثِّلاً للأدباء البرجوازيين ، فكان يُنظِّم ولائم ثقافية يلتقي فيها الكُتَّاب في فيلا فاخرة في ميدان بالقرب من باريس .

     أصدرَ زولا رواية " الجرثومة " ( 1885)، ثُمَّ رواية " لوردات الثلاث مدن " ( 1894 ) ، ثم رواية " روما " ( 1896 ) ، و " باريس " ( 1897 ). وبذلك اشْتُهِر زولا كمؤلف ناجح . وقد نصَّبته أعماله كزعيم لمنهج الطبيعية في فرنسا ، كما استوحت الأوبرا بعض أعماله . وبَرزت في أعماله مفاهيم انتشرت بكثافة مِثل: الوراثة. الشر الاجتماعي. المثالية الاجتماعية والاشتراكية .

     في عام 1898 ، قُدِّمَ زولا للمحاكمة الجنائية بتهمة التشهير ، وتَمَّت إدانته ، وحُكم عليه ، وسُحب وسام الشرف منه ، ولكن بدلاً مِن الذهاب إلى السجن ، فَرَّ زولا إلى إنجلترا . لَم يكن هناك وقت لزولا لحزم حقائبه ، ولا لجلب بعض الملابس . وقد أقامَ في لندن إقامةً قصيرة في الفترة ( أكتوبر 1898 _ يونيو 1899 ) ، وكانت إقامةً تعيسة وبائسة .

     تُوُفِّيَ زولا مختنقًا بأول أكسيد الكربون ، الذي انبعث عندما توقفت إحدى مداخن المنْزل . وقد شَكَّ البعض في اغتياله علي يد أعدائه لمحاولاتهم السابقة لاغتياله ، ولكن لَم يتمكن أحد من إثبات ذلك . وبعد عشرات السنين مِن هذا الحدث المؤلِم ، اعترف ساكن مِن سُكان باريس ، وهو على فراش الموت ، أنه هو الذي أغلق فوهة المدخنة لأسباب سياسية .

     دُفِن زولا في البداية في مدافن مونتمارتر في باريس ، ولكن في 4 يونيو 1908 ، أي بعد ست سنوات مِن وفاته ، نُقِل رُفاته إلى البانثيون ( مقبرة العظماء ) بباريس . حيث دُفِن في سرداب مع فكتور هوغو .

24‏/12‏/2020

إميل دوركايم واستقلالية علم الاجتماع

 

إميل دوركايم واستقلالية علم الاجتماع

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........


     وُلد الفيلسوف وعالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم ( 1858 _ 1917 ) في مدينة إبينال بفرنسا ، حيث نشأ في عائلة من الحاخامات ذات الأصول اليهودية. وكان تلميذًا بارعًا ، وما لبث أن التحق بمدرسة الأساتذة العليا ( وهي مِن أفضل مؤسسات التعليم العالي في فرنسا ) عام 1879 ، غير أن الأجواء بالمدرسة لَم تُعجبه ، فالتجأ إلى الكتب ليتجاوز الفلسفة السطحية _ في نظره _ التي كان يَدين بها رفاقه . وهكذا اكتشف أوغست كونت الذي أثَّرت مؤلفاته عليه تأثيرًا عميقًا، فاستقى منها مشروع تكريس عِلم الاجتماع كعلم مستقل قائم بذاته ، يهدف إلى كشف القواعد التي تخضع لها تطورات المجتمع .

     عاصرَ دوركايم أحداثًا سياسية كبيرة شهدها المجتمع الفرنسي آنذاك ، وكانت شديدة التأثير فيه ، وفي التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها فيما بعد ، فبعد هزيمة فرنسا ( 1870) شهدت باريس ثورة عمالية كبيرة أثَّرت، مع ما أنتجته من تطورات اجتماعية وسياسية وثقافية، في معتقدات الشباب وأفكارهم حول المجتمع والتماسك الاجتماعي، وقد اهتمَّ دوركايم بهذه التغيرات حتى أثرت في شخصيته وتفكيره واتجاهاته النظرية والعلمية، وتجلى ذلك في انضمامه إلى اتحاد الشبيبة العلمانية، غير أن أزمة روحية وأخلاقية قوية ألَمَّت به بعد حرب عام 1914، وموت ابنه، فماتت معه الآمال الكبيرة التي كان يبنيها على عالمية الأخلاق الاجتماعية .

     جاءت تحليلات دوركايم للحالات الوجدانية والعاطفية عند البشر ، على الطرف المقابل لتحليلات عِلم النفس ، فلا تأتي هذه الحالات من طبيعة الإنسان السيكولوجية ، كما يذهب إلى ذلك المشتغلون بِعِلم النفس ، إنما هي نوع من الشعور الذي ينمو من خلال التفاعل الاجتماعي بحسَب حجم الجماعات البشرية ، وبحسَب بُعدهم أو قُربهم من بعضهم ، وبما أن هذه الحالات الوجدانية هي من نتائج الحياة في الجماعة، فطبيعة الجماعة هي وحدها التي تستطيع أن تُفسِّرها .

     حاولَ دوركايم توضيح طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتحليلها على أساس شكل التضامن الاجتماعي أو التماسك ، ويُميِّز في هذا السياق بين التضامن الآلي والتضامن العُضوي . والشكل الأول يصف المجتمعات البدائية، حيث يشترك الفرد كُلِّيًّا بالقيم والمعتقدات الدينية مع الجماعة ، إذ يمتص المجتمع الشخصية الفردانية ويستوعبها إلى أبعد الحدود، وينطبق الضمير الجمعي كُلِّيًّا على الضمير الفردي ، فيأتي تفكير الإنسان البدائي متوافقًا تمامًا مع مصلحة الجماعة، وبحسَب ما تفرضه عليه وتأمره به. أمَّا الشكل الثاني (التضامن العُضوي) فهو ينتج مِن تقسيم العمل بين أفراد الجماعة الواحدة، أو بين الجماعات المختلفة في المجتمع الأكبر الأكثر تعقيدًا، فمع تطوُّر المجتمعات يتوزع الأفراد على مجموعة من الوظائف المتخصصة تجعلهم يعتمدون على بعضهم بعضًا، ويأتي تفاعلهم نتيجة حاجاتهم لبعضهم، وهي الحاجات التي تنمو باستمرار مع نمو المجتمع نفْسه ، ومع تطوره .

     وتأتي دراسة دوركايم لموضوع"الانتحار"، في سياق برهنته على نظريته في التضامن الاجتماعي، ففيها توضيح لأهمية التفسير الاجتماعي للظواهر الفردية ، فالانتحار كما يبدو للوهلة الأولى شأن خاص، وهو من حيث المبدأ سلوك فردي،وعمل يقوم به الفاعل نتيجة مشاعر وأحاسيس وعواطف تُسيطر عليه لحظة إقدامه على الانتحار ، ولكنه من حيث النتيجة فِعل اجتماعي يخضع لمجموعة كبيرة من العوامل الاجتماعية والقوى المؤثرة في شخصية الفاعل. ويؤكد دوركايم في هذا السياق أن الميل للانتحار لا يرجع إلى الحالة النفسية للفرد، أو سمات البيئة المادية المحيطة به، وإنما يرجع في المقام الأول إلى طبيعة علاقة الفرد بالمجتمع، فالانتحار بهذا المعنى يُجسِّد عدم قدرة الفرد على إقامة علاقة متوازنة وصحية اجتماعيًّا مع مَن يُحيطون به ، في الوقت الذي يؤدي انصهاره في المجتمع إلى ضعف ميل الفرد للانتحار حتى معَ قسوة الظروف التي يعيشها . إن بُنية التحليل الاجتماعي عند دوركايم تقوم على مبدأين أساسيين هُما : اجتماعية الإنسان ، والتضامن الاجتماعي. ومن خلالهما تتكون المعايير الأخلاقية والضوابط ونُظُم التفاعل، فالإنسان اجتماعي بطبعه، ويحتاج إلى غيره في مأكله ومشربه ومسكنه، ولا قوام لحياته دون تفاعله مع غيره. وقد سبق للعلامة العربي ابن خلدون أن أشار إلى ذلك بوضوح، وبَنى عليه نظريته في علم العمران ، كما سبق لابن خلدون أيضًا أن بحث في مفهوم العصبية التي تنطوي في مضمونها على درجة عالية من التضامن الاجتماعي أو التماسك الذي تحدَّثَ عنه دوركايم .

     والعصبية عند ابن خلدون تُشكِّل الأساس الذي تُقام عليه الدولة والتنظيم الاجتماعي . وفي تأكيده مفهوم العصبية وأثرها في قيام الدولة وتطوراتها، ما يُشير إلى أن لابن خلدون السبق في الإشارة إلى أهمية الروابط الاجتماعية التي تجمع الأفراد، وتُشكِّل الأساس الذي تُبنَى عليه نشاطاتهم وأفعالهم ، وهي القضية التي تظهر في تحليلات سبنسر ، وماركس ، ودوركايم ، وحتى ماكس فيبر.

     مِن أبرز أعمال دوركايم : حول تقسيم العمل الاجتماعي ( 1893 ) . قواعد المنهج في عِلم الاجتماع ( 1895 ). الانتحار ( 1897 ) . الأشكال الأولية للحياة الدينية ( 1912).