سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/01‏/2022

هيباتيا والنهاية المأساوية

 

هيباتيا والنهاية المأساوية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................


     وُلدت المفكرة وعالمة الرياضيات السكندرية هيباتيا ( 370 م _ 415 م) في الإسكندرية . والدها هو الفيلسوف وعالِم الرياضيات ثيون .

     اهتمَّ والدا هيباتيا بتعليمها ودراستها. وبلغت مرحلة التدريب النحوي في بداية مراهقتها ، وهو يرتكز على تمارين تساعدها على تعلم كيفية تصحيح القواعد النحوية،وتطوير مهارات التعبير البلاغي، وإجادة المحتوى الرئيسي لبعض الأعمال الأدبية الشهيرة التي تنتمي للعصور الوسطى.

     كان هذا التدريب ذا إهمية مضاعفة نظرًا لاختلاف اللغة اليونانية التي يستخدمها صفوة المصريين في الكتابة، عن اللغة اليونانية المستخدمة التي يتحدث بها معظم الناس .

     لا يوجد أي أثر يُوضِّح المنهج الدراسي الذي اتَّبعته  هيباتيا ، لكن منهج دراسة الطب والفلسفة في القرن السادس يُعطي فكرة عن ذلك ، فقد كان طلاب الفلسفة يدرسون كتاب" الأورغانون (الآلة)" من تأليف أرِسْطُو، يليه مجموعة من حوارات أفلاطون التي يقرؤونها بترتيب مُحدَّد ، وتهدف إلى تنمية الفضائل الفلسفية لدى الطلاب .

     سافرت هيباتيا إلى أثينا وإيطاليا للدراسة قبل أن تكون عميدة للمدرسة الأفلاطونية نحو عام 400 م . وقد عُرفت هيباتيا بدفاعها عن الفلسفة والتساؤل ، ومُعارضتها للإيمان المجرَّد .

     كانت هيباتيا، بحسَب الموسوعة البيزنطية المسمَّاة (سودا) والتي صدرت في القرن العاشر الميلادي، أستاذة فلسفة وعلَّمت فلسفتَي أرِسْطُو وأفلاطون على السَّواء. وكان بين طلابها عدد من المسيحيين والأجانب، ورغم أنها كانت لا تؤمن بأي إله ( لا يوجد مصدر يؤكد دينها ) إلا أنها كانت محل تقدير وإعجاب تلامذتها المسيحيين ، واعتبرها بعض المؤلفين المسيحيين في العصور اللاحقة رمزًا للفضيلة . وأُشِيع أنها كانت زوجة الفيلسوف إيزودور السكندري ، غَير أنها بقيت طوال حياتها عذراء. ويُحكَى أنها رفضت أحد خُطابها عن طريق إعطائه خرقة بها بقع من دمها مُوضِّحة له أنه لا يوجد شيء جميل في الرغبات الجسدية .

     يتحدث المؤرخ الكنسي سقراط عن هيباتيا في كتابه "تاريخ الكنيسة"، قائلاً : (( كانت هناك امرأة في الإسكندرية تدعى هيباتيا، وهي ابنة الفيلسوف ثيون. كانت بارعة في تحصيل كل العلوم المعاصرة ، مِمَّا جعلها تتفوق على كل الفلاسفة المعاصرين لها ، حيث كانت تُقدِّم تفسيراتها وشروحاتها الفلسفية ، خاصة فلسفة أفلاطون لمريديها الذين قَدِموا من كل المناطق ، وبسبب تواضعها الشديد لَم تكن تهوى الظهور أمام العامة. رغم ذلك كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد مسلكها المتواضع المهيب الذي كان يُميِّزها عن سواها، والذي أكسبها احترامهم وتقدير الجميع لها )) .

     كان المسيحيون أقوى المنافسين الفلسفيين لهيباتيا، وقد رفضوا رسميًّا أقوالها الأفلاطونية حول طبيعة الإله والحياة الأخرى بالإضافة إلى عدم التزامها بمبادئ الدين المسيحي الصارمة. وقد كانت هيباتيا تعتبر نفسها أفلاطونية مُحْدَثة ، ووثنية ، ومن أتباع أفكار فيثاغورس .

    وكان التفاف جمهور المثقفين حول المفكرة هيباتيا يُسبِّب حرجًا بالغًا للكنيسة المسيحية وراعيها الأسقف كيرلس الأول الذي كان يُدرك خطورة هيباتيا على جماعة المسيحيين في المدينة، خاصة وأن أعداد جمهورها كان يزداد بصورة لافتة للأنظار .

     تَمَّ اتهام هيباتيا بممارسة السِّحر والإلحاد والتسبُّب في اضطرابات دينية ، وهذا أدى إلى قتلها بشكل مأساوي على يد جموع من المسيحيين التي تتَّبعتها عَقِب رجوعها لبيتها، بعد إحدى ندواتها، حيث قاموا بجرِّها من شَعْرها، ثم قاموا بنزع ملابسها وجَرِّها عارية تمامًا بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى انسلخ جِلدها، ثم استمروا في تعذيبها ، وقاموا بسلخ الباقي من جِلدها بالأصداف إلى أن صارت جثة هامدة، ثم ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا بها النيران . كان موت هيباتيا إيذانًا بنهاية عصر التَّنَوُّر الفكري، والتقدم المعرفي الذي شهدته مدينة الإسكندرية لمدة 750 عامًا . و‏بعد مقتلها، قام العديد من العلماء بترك المدينة ، والانتقال إلى أثينا أو إلى مراكز أخرى . والجدير بالذِّكر أن هيباتيا هي أول عالمة رياضيات في تاريخ البشرية نمتلك عنها معلومات مُؤكَّدة ومُفصَّلة إلى حد ما .

     لقد تخصَّصت هيباتيا في الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة،ولمع اسمها في تدريس الفلسفة والرياضيات وعِلم الفلك . وكانت تتبع النهج الرياضي لأكاديمية أفلاطون في أثينا . وتأثرت بفكر الفيلسوف أفلوطين ، الذي كان يُفضِّل الدراسة المنطقية والرياضية بدلاً من المعرفة التجريبية ، ويرى أن للقانون أفضلية على الطبيعة .

30‏/01‏/2022

هوميروس وفن الملحمة الشعرية

 

هوميروس وفن الملحمة الشعرية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

......................

     وُلِد الشاعر الإغريقي هوميروس في القرن 9 ق.م ، في إيونيا الواقعة في آسيا الصغرى، وتُوُفِّيَ في القرن 8 ق.م في كيكلادس. كَتَبَ الملحمتين الشعريتين: الإلياذة والأوديسا.وقامَ بتخليد حرب طُروادة شِعْرًا بدقة متناهية، والتي يُعتقَد حدوثها عام 1250 ق.م. ويُعَدُّ مع هسيودوس ينبوع الشِّعر الإغريقي وذِروته. امتازت الإلياذة بسلاسة واضحة ، وبلاغة لغوية راقية ، وكانت دقة رسم الملامح من أهم خصائصها، إلى جانب حُسن استخدام تقنية التصوير والتشبيه، التي أُحْصِيَت _ بحسَب المترجمين _ إلى أكثر من مئة وثمانين تشبيهًا ، تعكس الفِعل الملحمي بدقة مُفصَّلة .  كانت أشعار هوميروس وملاحمه القُدوة والمثَل الأعلى الذي احتذته أجيال لا تُحصَى مِن الشعراء في الآداب الكلاسيكية الإغريقية والرومانية،وفي سائر الآداب الأوروبية والعالمية.

     لا يُعرَف عن حياة هذا الشاعر من الحقائق الموثوقة إلا النَّزر اليسير، لأن معظم الروايات القديمة منحولة ، وتُثير كثيرًا مِن الشُّكوك والتساؤلات . فقد اختلف القدماء حول زمن الشاعر اختلافًا كبيرًا، يُراوح بين زمن الحرب الطروادية نحو القرن الثاني عشر والقرن السابع قبل الميلاد، لكن معظم الأبحاث الحديثة تؤرخ حياته في القرن الثامن قبل الميلاد . أمَّا هوميروس فهو لقب اشْتُهِر به الشاعر، ويعني باللغة الإغريقية الرهينة أو الأعمى . وهناك سبع تراجم عنه، لكنها سِيَر مُتأخرة النشأة تعود إلى العصر الإمبراطوري الروماني، وضعها مؤلفوها بناء على قصص محلية لها نواة تاريخية، وأصدروها على أنها روايات قديمة . كُتبت أُولَى هذه السِّيَر وأهمها باللهجة الإيونية ، ونُسِبت إلى المؤرخ هيرودوت، وهي تُؤرِّخ حياة هوميروس في السنوات القليلة التي تلت الهجرة الدورية(أي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد). غَير أن هيرودوت يذكر في تاريخه أن هوميروس عاش قبله بنحو أربعمئة سنة، أي في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد . ولعل هوميروس كان رئيس المنشدين في بلاط الأمراء والمهرجانات والأعياد، ويُروى أنه قام بجولات بعيدة قادته إلى مصر وإيطاليا واليونان قبل أن يستقر في خيوس ، ويُؤسِّس مدرسة للشِّعر. وحين هَرِمَ سَقط في العَوَز والحاجة، وربما فقد بصره، فبدأ يتنقل من مدينة إلى أخرى، ومات في جزيرة إيوس. وثَمَّة بيت شِعر قديم يتضمَّن أسماء سبع مدن كانت تدَّعي لنفْسها شرف انتسابه إليها، ومنها سميرنا وخيوس وأثينا. وتُؤيِّد معظم الروايات القديمة ادِّعاء سميرنا أنها كانت مسقط رأس هوميروس، ويدعمها كثير من الشواهد اللغوية لكَوْنها المكان المفضَّل لالتقاء اللهجتين الإيولية والإيونية، وهما نواة لغة " الإلياذة". تَذكر الروايات أن حاكم أثينا ( بَيسيستراتوس ) كان أول مَن اهتمَّ بجمع أشعار هوميروس، وكَلَّفَ لجنة من العلماء بإخراج نص رسمي للملاحم الهوميرية من أجل إلقائها في الأعياد الأثينية الكبرى ، فكان ذلك أول تدوين لها . وقد ضمَّت هذه المجموعة جميع الملاحم الطروادية وغير الطروادية إضافة إلى الأناشيد ومقطوعات أخرى.لكن سُرعان ما نشأت الاعتراضات والانتقادات. وفي واقع الأمر ، إن النقد العلمي لَم يبدأ إلا مُنذ العصر الهلنستي في أكاديمية الإسكندرية . فقد ظهر تيار أدبي بزعامة هِلانيكوس، ذهبَ به الشك إلى حد القَول بوجود مؤلفين مختلفين للإلياذة والأوديسة . لكن أريستارخوس أمين مكتبة الإسكندرية تصدَّى لتلك الانتقادات، ونادى بِوَحدة الملحمتين الشعرية،وبَيَّنَ أن التوافق بينهما أكبر بكثير من الاختلافات والتناقضات الهامشية. أمَّا في العصر الحديث ، فقد كان الباحث الألماني فولف أول مَن طرح مسألة نشأة الملاحم الهوميرية بصورة عِلمية في كتابه " مدخل إلى هوميروس " ( ت 1795 ) . وتتلخص نظريته بأن ملاحم هوميروس لَم تُدَوَّن في عصر نشأتها ، الذي لَم يَعرف الكتابة ، كما أنها لا يمكن لطولها أن تُحفَظ عن ظَهْر قلب ، ولهذا فإن هوميروس يقف في بداية التراث الملحمي الذي نما ، وتطوَّرَ على ألسنة المنشدين حتى اكتملت الملحمتان في النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد في عهد بَيسيستراتوس، وكان هذا مُنطلقًا لجدل علمي لَم يهدأ حتى اليوم . كان هوميروس شاعرًا فَذًّا يعود إليه الفضل في نَظْم " الإلياذة " و"الأوديسة " وتقديمهما عملاً فَنِّيًّا متكاملاً صار نموذجًا لكثير من الملاحم اللاحقة ، فأرسى بذلك أُسُس الشعر الملحمي . يقول عنه أرِسْطُو في كتابه " السياسة " : (( إن هوميروس الذي فاق جميع الشعراء الآخرين في كل شيء قد امتاز على الأخص _ سواء كان ذلك ناشئًا من معرفته بالفن أم كان فِطريًّا فيه _ بإدراك ما يُؤلِّف وَحدة القصيدة )) .

     تُمثِّل رواية هوميروس لأسباب الحرب الطروادية الرؤية الشعرية الملحمية لهذه الحرب، وقد استمدَّها من واقعه ومن الموروث الشعري المألوف المتداول شفهيًّا ، فَمَزَجَ في "الإلياذة"_ وبوساطة الخيال الشعري _ عالَمَيْن في عالَم واحد:العصر البطولي للإغريق وعالَم الشاعر وفكره . وقد اعتمد على الخيال، وحرص على جمال الأسلوب والبلاغة وتناسق النَّظْم ودقة المعنى ورِقَّته .

     وتتمثَّل عبقرية هوميروس في مقدرته الفائقة على إبداع الشخصيات البطولية، وتصوير طِباعها ومشاعرها ونزواتها المختلفة، مع تأكيد السِّمات الإنسانية المؤثِّرة . ويتمتع البطل الهوميري إلى جانب القدرة الحربية بالكرم ، والإخلاص ، وحُسن المعشر ، وحب الحياة والتمتع بها .

29‏/01‏/2022

التحولات الاجتماعية والنظم الثقافية في ضوء التاريخ

 

التحولات الاجتماعية والنظم الثقافية في ضوء التاريخ

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

1

     نظامُ التحولات الاجتماعية يعكس طبيعةَ المعايير الإنسانية التي تتماهى معَ مفهوم الشخصية الفردية والسُّلطةِ الجماعية . والشخصيةُ والسُّلطةُ لا تُوجَدان في أنساق المجتمع بشكل منفصل عن مصادر المعرفة ، ومُكوِّناتِ التاريخ، ورُموزِ اللغة،ومجالاتِ الوَعْي، وتطوُّراتِ الأفكار.وهذا يعني أن العوامل الاجتماعية بصيغتها الجُزئية والكُلِّية سَوْفَ تتأثَّر بالنُّظُم الثقافية الأوَّلية والمُركَّبة ، وتُؤَثِّر فيها . وهذه التبادليةُ تَكشف كيفيةَ التفاعل الاجتماعي الثقافي ، ودَوره في صناعة أدوات فلسفية تُساهم في مساعدة الفرد والجماعة على التَّكَيُّف معَ الأحداث المُتسارعة، وتوقُّع الأمور قبل حُدوثها، وعدم اللهاث وراءها . وبالتالي ، تَحييد عُنصر المفاجأة ، وتَحويل المسار الحياتي إلى علاقة بين الهُوية الشخصية والهُوية الاجتماعية . وهذا الترابطُ مِن شأنه بناء تصوُّر فِكري للشخصية الفردية كَمَاهِيَّة مركزية للنظام الثقافي ، وتكوين وَعْي وُجودي للسُّلطة الجماعية كأساس منطقي للسُّلوك الإنساني . وإذا كان النظامُ الثقافي منبعًا للأفكار والمشاعر ، فإنَّ السلوك الإنساني تجسيد لِتَكَيُّف الثقافة مع الواقع ، لتحليل أبعاده ، وكشف مفاهيمه ، مِن أجل مُحاولة تغييره ، وصناعة واقع جديد .

2

     التفاعلُ بين الذات والشَّيء مِن جهة ، والشكل والمضمون مِن جهة أُخرى ، يُعْتَبَر نتيجةً لانتقال الأفكار المتواصل من بُنية المجتمع النَّفْسِيَّة إلى منظور الثقافة الديناميكي . وهذا الانتقال يُمثِّل منهجًا فكريًّا مُتكاملًا لاشتماله على عناصر العمل الإبداعي ( الفِعل الاجتماعي المُتَفَرِّد ): التَّوليد، والتَّنسيق، والتَّحريك ، والتَّحرير . تَوليد المعاني العميقة النابعة من الأسئلة الحاسمة والأجوبة المُقنِعة، وتَنسيق التجارب الواقعية المُنعكسة عن المشاعر الذاتية، وتحريك عناصر الفكر الواعي من الحتمية إلى الاحتمالية،وتحرير الدوافع الإنسانية الكامنة من النظرة الأُحادية لاستيعاب زوايا الرؤية المُتعدِّدة . والفِعل الاجتماعي يظل محتفظًا بفضاءاته الإبداعية وسِياقاته المعرفية ، ما دامَ مفتوحًا على كافة الاحتمالات ، ومُنفتحًا على جميع الاجتهادات . وهذا يدلُّ على أن الفِعل الاجتماعي قائم على القِيَم النِّسبية لا المُطْلَقَة ، أمَّا إذا تَمَّ حَقْنه باليقين والمُسلَّمات ، فعندئذ سَتَحدث عملية تَصنيم للذوات ، لأنَّ الفِعل الاجتماعي إذا أُحِيطَ بهالة القداسة والعِصمة، وتَمَّ اعتباره وصيًّا على المجتمع، ومالكًا لليقين التام والحقيقة الكاملة والقيمة المُطْلَقَة ، فهذا يستلزم بالضَّرورة تَصنيم الفاعل ، واتِّخاذه وثنًا أيديولوجيًّا . وفي مجتمع الأصنام البشرية ، يصير الفِعلُ هو الفاعل ، والفاعل فوق مستوى النقد . وهذا يتعارض مع الأساس الفلسفي للتحولات الاجتماعية والنُّظُمِ الثقافية .

3

     لا يُمكن للمجتمع أن يصل إلى جَوهر المعنى إلا إذا اعتبرَ الثقافةَ تاريخًا للأحلام الفردية والجماعية ، يقوم بذاته ، ويَكتمل بِنَفْسِه ، ويتجسَّد في حركة التأويل المُستمرة ، ويتمثَّل في المنظومة الإنسانية المُتفاعلة مع الزمان والمكان والسُّكَّان ، ويتجذَّر في فاعلية وِجدانية مُتماسكة ، استنادًا إلى أنَّ الوعي الاجتماعي بالثقافة جُزء لا يتجزَّأ مِن الجذور العميقة للتاريخ . وبذلك تكون الثقافةُ تاريخًا مُستقلًّا ، وتاريخًا للتاريخ ( تاريخًا حَالِمًا مُوازيًا للتاريخ الواقعي ) . وتاريخُ الثقافة وثقافة التاريخ وجهان لعُملة واحدة ، لا يُمكن فصلهما لأنَّهما وَحدة واحدة ، ولا يُمكن تفكيكهما لأنَّهما كُلٌّ شامل. كما أنَّهما يُنتجان آلِيَّات تواصلية لفحص الخطاب السائد في المجتمع، وتجنُّب السُّقوط في فَخ مظاهر الخِطاب وتطبيقاته ، لأنَّ الإطار النظري هو أساس الفِعل الواقعي ، وتحليل بُنية الفِعل الاجتماعي دُون معرفة البُنية النَّفْسِيَّة للفاعل، سَيُؤَدِّي إلى نتائج مُشَوَّشَة ، وأحكام مُتناقضة ، وخِبرات وهمية ، وأنماط عاجزة عن إحداث توازن بين التفاعل الإنساني في المجتمع ، والتفاعلِ المعرفي في رمزية اللغة الحاملة لتاريخ المجتمع . وبما أن اللغة حارسة هُوية المجتمع ، والمجتمع امتداد طبيعي لأحداث التاريخ، والتاريخ ذاكرة كُلِّية للنشاط الإنساني ، فلا بُد مِن إيجاد علاقة لُغوية رمزية تعمل على تحليل التحولات الاجتماعية وتفسير النُّظُم الثقافية في ضوء التاريخ، بشكل منهجي يَجمع بين العقلانية والسلوك والشعور.

28‏/01‏/2022

هوراس وحب العاهرات

 

هوراس وحب العاهرات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

     وُلِد الشاعر الروماني هوراس " كوينتس هوراتيوس فلاكس " ( 65 ق.م _ 27 ق. م ) في روما ، وتُوُفِّيَ فيها . كان ابنًا لعبد مُحَرَّر، ولكنه وُلِد حُرًّا .

     أنفقَ والده الكثير من ماله حتى يتلقى هوراس تعليمه في روما ، ثم بعثه إلى أثينا ، ليدرس الإغريقية والفلسفة . قاتلَ هوراس إلى جانب جيش بروتوس الثائر بسبب اغتيال يوليوس قيصر .

     تضمَّنت أعماله الأولى مقطوعات هجائية ، ولكن قصائده الغنائية جعلته يشتهر بشكل كبير. وقد جَلَبَ له بَحْثُه " أرس بويتيكا " _ الذي احتوى على قواعد لتركيب الشِّعر _ الشُّهرة والمجد والصِّيت الأدبي . وكُتبه تتحدث غالبًا عن الحب والصداقة والفلسفة، وأثَّرت أعماله على الغرب مُنذ عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر .

     كان شاعرًا غنائيًّا ، وناقداً أدبيًّا لاتينيًّا مِن رومانيا القديمة في زمن أغسطس قيصر ، وكان له تأثير على الشِّعر الإنجليزي . أصرَّ هوراس على أن الشِّعر يجب أن يُقدِّم السعادة والإرشاد . وعُرِف الشاعر بالقصائد الغنائية والمقطوعات الهجائية .

     " إني أنفر مِن الرَّجل غير المثقف في الشارع وأُبقيه بعيدًا عَنِّي " . تلك هي الترجمة لفاتحة إحدى أشهر قصائده.والعجيب أنه نَسِيَ على ما يبدو أصله المتواضع جِدًّا،فقد كان ابن عبد أُعْتِق.

     نجح هوراس نجاحًا باهرًا في حياته . ففي حوالي الثالثة والعشرين كان قائدًا لكتيبة في جيش بروتوس وكاسيوس اللذين انتصر عليهما أنطونيوس في فيليبي سنة 42 قبل الميلاد ، وعلى الرغم من ذلك ، اسْتُقْبِل لدى عودته إلى روما استقبالاً حسنًا . وكان الإمبراطور يستمتع بأشعاره ، وكان مُعظمها ساخرًا وهِجاءً ، يبعث على السرور والمرح .

     كان هوراس قصيرًا بدينًا، ومَزْهُوًّا خجولاً ، لا يحب السُّوقة والعوام . وكان يخشى عواقب الزواج ، فاكتفى بالعشيقات .

     وقد كتب عن العاهرات كتاباتٍ جَمعت بين حذر العلماء وتعقيد الشعراء ، وظنَّ أنه جدير بأعظم الثناء لأنه لَم يُغوِ النساء المتزوجات .

     عَمَدَ إلى قراءة الكتب وكتابة الأغاني باللغتين اليونانية واللاتينية ، وبأصعب أوزان الشِّعر اليوناني وأكثرها اختلاطًا . وفي عام 34 ق. م ، أهداه أحد أصدقائه بيتًا وضَيعةً تُدِرُّ عليه بعض المال ، على بُعد 45 مِيلاً مِن روما . وبذلك أصبح في استطاعة هوراس أن يعيش في المدينة أو في الريف كما يشاء، وأن يكتب كما يأمل المؤلفون أن يكتبوا ، في الوقت الذي تحلو لهم فيه الكتابة، وبالعناية والجهد اللذين يحلو لهم أن يبذلوهما في كتاباتهم .

     أقام هوراس بعض الوقت في روما، يُمتِّع نفسه بحياة مَن يتسلى بمشاهدة العالَم المسرِع المندفع. وكان يختلط بجميع طبقات الناس، ويدرس جميع الأصناف التي تتكون منها روما، ويُفكِّر في حماقات العاصمة ورذائلها ، وهو مسرور سرور الطبيب إذا كشف عِلة المريض . وقد وصف بعض تلك الأصناف في كتاباته الهجائية ، ثُمَّ خَفَّفَ فيما بعد مِن حِدَّته ، وأصبح أكثر رحمةً وتسامحًا .

     وكان يُطلِق على هذه القصائد اسم " المواعظ " ، وإن لَم تكن مواعظ في أيَّة صورة، بل كانت أحاديث خالية مِن التكلف والصناعة ، وكانت أحيانًا محاورات ودية خاصة في أشعار سُداسية الوزن ، تكاد لغتها أن تكون هي اللغة العامية . وقد اعترف هو نفسه بأنها نثر في كل شيء عدا الوزن .

     صَوَّرَ هوراس في شِعره مَسَرَّات الصداقة ، والطعام والشراب، والمغازلة . وإن المرء ليصعب عليهِ أن يستدل مِن هذه الترانيم على أن كاتبها رَجل زاهد لا يأكل إلا قليلاً، ولا يشرب إلا أقل.

     وقد ذَكَرَ في شِعره أسماء طائفة مِن العاهرات اللواتي أحبهنَّ . ولا حاجة بنا أن نُصدِّق كُل ما يَدَّعيه مِن ذُنوب يقول إنه ارتكبها، فقد كانت هذه الأقوال وقتئذ دعاوى أدبية يكاد يفرضها شعراء تلك الأيام على أنفسهم فرضًا، مِن أجل الشهرة وتعظيم الذات وإحاطتها بروح المغامرات.

     أغفلت الجماهير التي هجاها هوراس أغانيه ، وشَهَّرَ بها النُّقاد ووصفوها بأنها مُملة متكلفة، وندَّد المتزمِّتون بأغاني الحب والعشق والهيام . أمَّا أغسطس فوصف القصائد بأنها قصائد خالدة .

     إن تأريخ أعمال هوراس غير معروف على وجه التحديد . وكثيرًا ما يتجادل الباحثون حول الترتيب الدقيق لنشر أعماله . وهناك نقاشات جَيِّدة حول الترتيب الزمني :

     هجاء 1 ( 35_ 34 ق. م ) . هجاء 2 ( 30 ق. م ). قصائد غنائية 1_ 3 ( 23ق. م ) . الرسائل 1 ( 21 ق. م ) . الرسائل 2 ( 11 ق. م ) . قصائد غنائية 4 ( 11 ق. م ) .

     ومِن الواضح أن هناك أعمالاً نُشرت بعد وفاته ، إذ إنه قد تُوُفِّيَ في 27 ق . م .

27‏/01‏/2022

هنريك سينكيفيتش وملحمة الماضي

 

هنريك سينكيفيتش وملحمة الماضي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     وُلد الروائي البولندي هنريك سينكيفيتش ( 1846 _ 1916 ) في فولا أوكجييسكا ، وتُوُفِّيَ في فيفي .

     اشْتُهِر عالميًّا بروايته التاريخية " كوو فاديس " ( 1896)، وهي أكثر كُتبه رواجًا على المستوى العالمي . وهي رواية تاريخية مكتوبة بالبولندية ، وعنوان الرواية معناه باللاتينية " إلى أين أنت ذاهب أيها الرب ؟ " . ويُلَمِّح إلى سِفر أعمال بُطرُس الْمُلَفَّق ، حيث يهرب بطرس من روما ، ولكنه يلتقي يسوع في طريقه ، ويسأله لماذا هو ذاهب إلى روما ؟. يقول يسوع : " أنا عائد لأُصْلَب من جديد " ، الأمر الذي جعل بطرس يعود إلى روما ويتقبل الشهادة .

     تتكلم الرواية عن قصة حب تتطور بين فتاة مسيحية تُدعَى ليجيا ، وأرستقراطي روماني يُدعَى ماركوس فينيسيوس.وتدور أحداثها في مدينة روما تحت حُكم الإمبراطور نيرون حوالي عام 64م.

     درس سينكيفيتش الإمبراطورية الرومانية بشكل مُكثَّف قبل كتابة الرواية ، وذلك بهدف الحصول على تفاصيل تاريخية صحيحة . وعلى هذا النحو ، ظهرت عدة شخصيات تاريخية في الرواية . والرواية كَكُل تحمل رسالة مُوالية للمسيحية . نُشرت الرواية مُسَلْسَلة في ثلاث صُحف يومية بولندية عام 1895، وخرجت في شكل كتاب عام 1896 .

     ومنذ ذلك الحين تَمَّت ترجمتها إلى أكثر من 50 لغة. وساهمت هذه الرواية بِفَوز سينكيفيتش بجائزة نوبل للآداب عام 1905 . وقد تَمَّ إنتاج العديد من الأفلام عن الرواية ، وبينها فيلمان إيطاليان صامتان أعوام 1912 و 1924، وإنتاج هوليوودي عام 1951 ، واقتباس عام 2001 من قبل جيرزي كافاليروفيتش .

     بدأ سينكيفيتش مشواره في عالَم الكتابة بنشر القِطَع الصحفية والأدبية . وفي عام 1870 سافر إلى الولايات المتحدة ، وكتب مقالاتٍ متعلقة بالسَّفَر والترحال ، وقد حقَّقت له شعبية كبيرة في أوساط القُرَّاء البولنديين. وشيئًا فشيئًا ، أصبحَ واحدًا من الكُتَّاب البولنديين الأكثر شعبيةً في القَرْنَيْن التاسع عشر والعشرين . تُرجمت أعمالُه إلى لغات عديدة ، مِمَّا أكسبه سُمعةً دوليةً ، أوصلته إلى جائزة نوبل للآداب ( 1905) ، لِـ " إنجازاته البارزة ككاتب ملحمي " .

     في عام 1858 بدأ تعليمه في وارسو، حيث استقرت العائلة بعد أن اشترت مبنى من أجل الإقامة الدائمة. وعندما وصل سينكيفيتش إلى سن التاسعة عشرة ، عمل كمُعلِّم من أجل إعالة أُسرته . ويُحتمَل أنه بدأ في هذه الفترة كتابة الروايات والقصص . وفي عام 1866 حصل على الشهادة الثانوية. حاولَ في البداية أن يَدرس الطب ثم القانون في جامعة وارسو . لكنه حسم أمرَه، وقرَّر دراسة فقه اللغة والتاريخ ، وهذا أكسبه معرفةً عميقة بالأدب واللغة البولندية القديمة .

     ولا تُعْرَف تفاصيل حياته في هذه الفترة ، إلا أنه انتقل من بيت أبويه ، وعاشَ حياةً فقيرةً ، لكنَّ حالته تحسَّنت في عام 1868 ، عندما أصبح مُعَلِّمًا في إحدى العائلات الأميرية .

     أكملَ دراساته الجامعية في عام 1871 ، لكنه أخفقَ في الحصول على شهادة الدبلوم بسبب رسوبه في امتحان اللغة اليونانية .

     سافرَ إلى الولايات المتحدة ، وأقام فيها . وواصلَ كتابة القصص . وفي عام 1877 نشر " تخطيطات فحم " في الجريدة الرسمية البولندية ، وكتب مسرحيةً مُوجَّهةً للجمهور الأمريكي .

     وفي عام 1878 غادر الولايات المتحدة نحو أوروبا ، فأقامَ في لندن ثم باريس . وكان يُؤخِّر عودته إلى وطنه بولندا بسبب إشاعات التجنيد الْمُحتمَل في الجيش الروسي الإمبراطوري ، حيث كانت هناك توقعات باندلاع حرب جديدة مع تركيا .

     وفي بدايات القرن العشرين ، لَقِيَتْ مؤلفاته رواجًا كبيرًا ، وهذا عادَ عليه بثروة هائلة . وقد استغل أمواله لدعم الكُتَّاب الْمُكافِحين ، وإغاثة ضحايا المجاعات ، وبناء مصحَّة لعلاج المصابين بالسُّل . وقد قَلَّلت نشاطاته الاجتماعية والسياسية من إنتاجه الأدبي بشكل واضح .

     وفي عام 1916 ، تُوُفِّيَ في أحد فنادق سويسرا بسبب مرض القلب . ودُفن في سويسرا .

     وفي عام 1924 ، بعد أن استعادت بولندا استقلالها ، أُعيدتْ بقاياه إلى وطنه بولندا ، ووُضعت في قَبو كاتدرائية " القِدِّيس جون " . وقد حَظِيَ بتقدير لافت في بلاده، حيث أُقيمت ثلاثة متاحف تخليدًا لاسمه .

     مِن أبرز أعماله الأدبية : " بالنار والسَّيف " ( 1884) . " الطوفان " ( 1886) . " بدون عقيدة " ( 1891) . دَوَّامة ( 1910) .

26‏/01‏/2022

هنريك بونتوبيدان ومقاومة الطبقية

 

هنريك بونتوبيدان ومقاومة الطبقية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

....................

     وُلد الأديب الدنماركي هنريك بونتوبيدان ( 1857_ 1943) في مدينة فردريكية في وسط الدنمارك. كان والده كاهنًا، وراعيًا لكنيسة المدينة، وينحدر من أسرة كبيرة من الكهنة والكُتَّاب .

     بدأ حياته التعليمية في دراسة الهندسة في كوبنهاجن ، لكنه تركها لأنه لَم يجد نفْسه في عالَم الأرقام والحسابات . عمل مُعَلِّمًا في مدرسة ابتدائية ، ثم ترك سِلْك التعليم ، والتحقَ بالصحافة . وعندما بلغ العشرين من عُمره ، قرَّر التفرغ التام للكتابة ، ورسمَ حياته ككاتب مُحترِف . وقد شكَّل زواجه الفاشل أول صدمة في حياته ، فقد اقترنَ بفتاة في عام 1881 تختلف عنه روحيًّا وماديًّا . وكان الفشلُ هو النتيجة المتوقَّعة لهذا الزواج غير الْمُتكافِئ .

     امتاز بونتوبيدان بأسلوبه الساخر ، ولغته المليئة بالرموز والحِكَم . وكان ناقدًا للأوضاع السائدة في الدنمارك في تلك المرحلة ، فقد كانت دولةً مُتخلِّفة تعتمد على الزراعة البدائية ، ومحكومة مِن قِبَل الإقطاعيين ورجال الدين .

     صوَّر الشكَّ والتشاؤمَ في أعماله الأدبية ، وتعرَّض للموضوعات الوجودية بحثًا عن حقيقة الإنسان ، وهويةِ المجتمع والتقدم الاجتماعي . وهذا جعله واحدًا من أبرز كُتَّاب عصره .

     عاشَ مع الفقراء والفلاحين والمنبوذين بروحه وقلمه، وصوَّر عالَمهم البائس، وحياتهم الصعبة، وفضح الاستبداد والاستغلال باسم الدِّين والطبقة الاجتماعية . ثم انتقل لاستعراض مشكلات الطبيعة دون التخلي عن ارتباطه الاجتماعي وقناعاته الأيديولوجية. كان الأدب بالنسبة إليه شرعية حياته ، ومركز وجوده في هذا العالَم .

     وفي أعماله الأدبية ، استطاع تصوير ذهنية المجتمع وانتقال الحرية إلى المجتمع واللغة ، كما أنه قدَّم في كتاباته " الصراع بين طبيعة الذكر الانطوائية وحيوية المرأة " . ومعَ أن لغته تبدو للوهلة الأولى سهلة وبسيطة، إلا أنها مُحمَّلة بالرموز العميقة ، والتلميحات المستترة، والسُّخرية اللاذعة ، والأفكار الكامنة بين السطور .

     امتازَ أسلوبه بالدقة الفائقة في تصوير الشخصيات، والتعاطف مع الفقراء والمنبوذين في المجتمع، وتشريح المجتمع الدنماركي الذي كان مجتمعًا زراعيًّا يسيطر عليها الإقطاع ورجال الدين . وكانت نقطة التحول في حياته وأسلوب كتابته ، عندما تزوَّج للمرة الثانية في عام 1892من ابنة موظف كبير في العاصمة، فقد انتقل في موضوعاته الأدبية من الريف إلى المدينة .

     كتبَ بونتوبيدان خلال الفترة ( 1898 _ 1904 ) أشهرَ أعماله على الإطلاق " بِير المحظوظُ "، وصار هذا التعبير مُصطلحًا شائعًا في اللغات الإسكندنافية. وقد وَصَفَ في هذا العمل الصراع بين المثالية والواقعية ، وكَشَفَ أسرار الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية في العاصمة .

     وخلال الفترة ( 1912 _ 1916 ) ، كتب روايته الخماسية " مملكة الموتى " . وتقترب لغته في هذه الرواية من الأسلوب الشِّعري العاطفي ، كما أنه وَصَفَ الحياة في الدنمارك في بدايات القرن العشرين ، ناقدًا السُّلطة وسُوء استخدامها .

     وفي آخر أيامه اعتزلَ الناس، وكرَّس وقته بالكامل لكتابة مذكراته ، التي جُمعت في أربعة مجلدات ، بعنوان " الطريق إلى ذاتي " ، ونُشرت في سنة وفاته ( 1943) .

     وعلى الرغم من موهبته الأدبية الفذة ، وتصنيفه كواحد من أكثر الكُتَّاب الدنماركيين حَداثةً وإبداعًا ، إلا أنه كان رَجلاً متناقضًا في مواقفه ، ورُبَّما يعود هذا إلى شخصيته القَلِقة.فقد كان مُتحرِّرًا ووطنيًّا صارمًا في آنٍ معًا ، وتعاونَ معَ الاشتراكيين لكنه لَم ينضم إليهم ، وبقي مُستقلاًّ .

     كما أن كتاباته في كثير من الأحيان عبارة عن خليط من التَّحيُّز والموضوعية . وهذا حيَّر القُرَّاء والنُّقاد على حَدٍّ سَواء .

     يُعتبَر هنريك بونتوبيدان ثاني دنماركي يَفوز بجائزة نوبل للآداب، حيث حصل عليها في عام 1917 مُناصفةً مع مواطنه كارل غيلوروب .

     من أبرز أعماله: أجنحة (1881) . بطاقات بريدية من القرية (1883 ) . ابنة المرابي ( 1886) . غيوم ( 1890 ). الحارس ( 1893). من الأكواخ ( 1901) . ضَيف الملِك ( 1908 ) .

25‏/01‏/2022

هنريك إبسن وزعامة المسرح الحديث

 

هنريك إبسن وزعامة المسرح الحديث

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........................

     وُلد الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن ( 1828 _ 1906) في مدينة شين بالنرويج. وفي عام 1844 أصبح صيدليًّا مُساعدًا في مدينة غريمستاد .

     تمتاز نظرة إبسن للحياة بالعُمق والشمول، ويمتاز مسرحه بدقة المعمار والاقتصاد مع تعبير شاعري دقيق . وقد كتب أولى مسرحياته " كاتالينا" عام 1850 . وجاءت ميلودراما مليئة بالإمكانيات التي لَم يرها معاصروه . لكن شهرته بدأت مع ثاني مسرحية له " عربة المحارب " ( 1850). وفي عام 1851 ، عمل كمساعد في مسرح بيرجين ، ثم سافر إلى الدنمارك وألمانيا لدراسة التكنيك المسرحي. وفي عام 1854 كتب مسرحية " السيدة إنجر من ستوارت"، وهي مسرحية تجري أحداثها في العصور الوسطى في النرويج . وفي عام 1855 ، كتب مسرحية تتناول موضوعًا من العصور الوسطى بطريقة رومانسية شاعرية مليئة بالحديث عن أمجاد النرويج السابقة .

     في عام 1862 ، أفلسَ مسرح بيرجين ، وأصبح إبسن مديرًا فنيًّا للمسرح النرويجي في مدينة أوسلو ، وفي نفس العام قدَّم له المسرح مسرحية شعرية ساخرة تُظهِر الجانب الآخر مِن فَنِّه. قُوبلت المسرحية ببعض العداء، ولكنها نجحت في لفت الأنظار إلى إبسن .

     وفي عام 1863، قُدِّمت له مسرحية تاريخية تمتاز بالتحليل النفسي والشاعرية. وفي نفس العام حصل إبسن على منحة مكَّنته من زيارة إيطاليا وألمانيا.وبعد ظهور مسرحيته براند (1860) تلقَّى معاشًا ثابتًا من الدولة أمَّن له مستقبله .

     وصف النُّقاد كُل مسرحية من مسرحيات إبسن بالقنبلة الموقوتة، فكل منها تُفجِّر قضية ما وتُثير ردود فعل عنيفة، فقد اختار إبسن " تمزيق الأقنعة " كلها ، وكشف الزيف الاجتماعي داعيًا إلى الاعتدال والوسطية بعيدًا عن التطرف .

     وفي عام 1879 ، عُرضت مسرحية " بيت الدُّمية " والتي أثارت غضب المشاهدين ، فرموا الممثلين بالطماطم مُعتبرين المسرحية إهانة تمس مكانة المرأة، وتُهدِّد الطمأنينة العائلية، إذ ترفض "نورا" الزوجة القليلة الخبرة أن تحيا حياة زائفة مع زوجها المثقف، وتكتشف أنه لا يُكِن لها احترامًا حقيقيًّا ، ولا يُؤمن بحقها في أن تفكر أو تتخذ أي قرار . لقد مزَّق إبسن القناع عن حياة زوجية عاشت فيها الزوجة كاللعبة في البيت أكثر منها شريكة لزوجها الذي لَم تدَّخر أي جهد لتسعده في حين يتعامل معها هو كالدُّمية التي لا تفهم شيئًا ، لتكتشف "نورا" خديعتها في زوجها ، وتجد أن ما كانت تعتبره سعادة كان وَهْمًا.ونظرًا للجدل الذي أثارته هذه المسرحية فقد استغلتها الحركات النسائية المتطرفة في العصر الحديث أسوأ استغلال ، حيث فسَّرت المسرحية بعيدًا عن مقاصد إبسن الحقيقية. ولَمَّا قُوبِلت هذه المسرحية، لا سِيَّما في ألمانيا، بعاصفة من الاحتجاج، اضطر"إبسن" إلى أن يضع لها خاتمة إرضاء للجمهور، ولا تزال المسرحية حتى اليوم تثير جدلاً بين النقاد المحدَثين . لُقِّب إبسن بـِ " أب المسرح الحديث". وانتهج المنعطف الواقعي في أعماله، فقد تطرَّقَ إلى قضايا واقعية وخطيرة يُعاني منها المجتمع الأوروبي ، كما تناول قضايا إنسانية خالدة تُشغِل الإنسان عبر العصور ، مِثل : قضية ماهية الحقيقة ، والفارق بين الحقيقة والواقع ، أو الصراع بين الواقع والمثال، وقضية النفاق الاجتماعي، وغَيرها من القضايا التي تُثيرها أعمال إبسن المسرحية ، والتي ليس بالضرورة أن تضع لها حلولاً .

     إن دعوة إبسن الاجتماعية في معظم أعماله دعوة إلى الاعتدال والوسطية ، ورفض للتطرُّف في كل شيء ، كما أنها دعوة للكشف عن أقنعة الزَّيف الاجتماعي ، ونبذ النفاق على حساب المبادئ الأساسية الذي يضرُّ بالفرد والمجتمع . وقد اتَّبَعَ إبسن في مسرحه أسلوبًا دراميًّا مُمَيَّزًا عُرِف بالمنهج الانقلابي ، بمعنى أن تبدأ المسرحية بموقف في الحاضر ، ثم تتوالى أحداث مِن الماضي في العودة ، لتنسج النهاية المأساوية لأبطال المسرحية .

     تمتاز مسرحيات إبسن بِمُمَيِّزات واضحة ، هي :

     1_ المسرحيات التاريخية منها تبدأ بداية عاصفة ، أمَّا المسرحيات الاجتماعية فتبدأ هادئة مُشوِّقة مُعتمدة على الحوار الدقيق .

     2_ الالتزام بوَحدة الزمان والمكان ، كما وضعها اليونانيون .

     3_ بناؤها المسرحي مُحكَم إحكامًا دقيقًا لا يُجاريه فيه مؤلف آخر .

     4_ الحبكة فيها تبدأ بالقُرب من نقطة الزمان، مِمَّا يُساعد على إخضاع عناصر المسرحية الثلاثة : الزمان والمكان والكلام .

     5_ شخصياتها من النماذج الإنسانية العالمية الطبيعية .

     قال برنارد شو : (( إن أستاذي النرويجي _ إبسن _ هو أول مَن رفع مشكلات المجتمع إلى خشبة المسرح )) . تُوُفِّيَ إبسن بعد صراع طويل مع المرض ، وبعد أن وضع اسمه في مصاف أعظم الكُتَّاب المسرحيين في التاريخ . وكما عاش ناقدًا للظلم الاجتماعي مات مُعارضًا ، فقد كانت آخر كلمة لفظها هي :  (( بالعكس )) .

24‏/01‏/2022

هنري جيمس وزعامة الرواية الأمريكية

 

هنري جيمس وزعامة الرواية الأمريكية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................


     وُلد الروائي البريطاني من أصل أمريكي هنري جيمس ( 1843 _ 1916 ) في مدينة نيويورك لعائلة غنية. والده هنري جيمس سير، كان أحد صفوة العلماء في القرن التاسع عشر بأمريكا ، فقد كان دارسًا لعلوم الإلهيات، وكان من أتباع الكنيسة السفيدنبورية ( كنيسة تؤمن ببعثة المسيح مرة أخرى ).وقد حرص على تنشئة أبنائه دون قيود ، فلم ينتمِ  هنري أو أخواه إلى أيَّة كنيسة مسيحية تقليدية ، ولَم يلتحقوا بأيَّة مدرسة لمدة طويلة جدًّا. أصبح أخوه وليام جيمس فيما بعد أستاذًا في جامعة هارفارد ، واكتسب شهرة عالمية كفيلسوف ديني، واشتهر أخوه أليس جيمس في كتابة اليوميات ، وكان لذلك تأثير كبير في حياة هنري الذي أراد الفوز بالأولية في إطار العائلة، فسعى لتحقيق الريادة الروائية . تنقَّلَ في ريعان شبابه بين أمريكا وأوروبا ذهابًا وإيابًا ، ودرس في مختلف العواصم الأوروبية ، وعند عودته إلى أمريكا عام 1859 ، أقامَ في مدينة نيوبورت بولاية رود آيلاند، وبرغم قصر تلك الزيارة ، إلا أنها كانت ذات أثر بالغ في حياته، ففيها التقى بقريبته " ميني تمبل" وتعلق بها إلى حد كبير، إلا أنه غادر لاستكمال سفره ودراسته، وجاءه نبأ وفاتها عام 1870 ، فكان لذلك نصيب كبير من نفْسه.صارت " ميني " فيما بعد تُمثِّل في رواياته الفتاة الأمريكية الجميلة والمحبة للحياة، والتي خلَّدها في عدد من بطلاته ومنهن " ميلي ثيل " في رواية " جناحا اليمامة ".التحقَ عام 1862 بجامعة هارفارد لدراسة القانون ، إلا أنه فضَّل ميوله الأدبية ، فنشر عِدَّة قصص ومقالات، وأقام عدة صداقات أدبية ، كانت أقواها صداقته مع الناقد والروائي الأمريكي وليام دين هاولز ، والذي كان مُحَرِّرًا في مجلة أتلانتيك الشهرية ، ففتحَ صفحات المجلة لمساهمات الناقد والمؤلف الشاب هنري جيمس، وهكذا كانت البداية . آمنَ جيمس بأن الفن الروائي يعتمد على الانطباعات الغنية التي تُغذِّي خيال الكاتب من البيئة المحيطة، ولذلك استمر في التنقل بين أرجاء أوروبا،قبل أن يُمضيَ الأربعين عامًا الأخيرة من حياته في إنجلترا ويكتب فيها أهم أعماله. كتبَ أكثر من 24 رواية طويلة، وعددًا كبيرًا من القصص القصيرة والمسرحيات وعِدة آلاف من الرسائل والمحاضرات الأدبية، ومنحته جامعتا هارفارد وأكسفورد درجات فخرية عام 1910. وفي عام 1915 تخلى عن جنسيته الأمريكية واكتسب الجنسية البريطانية احتجاجًا على تردُّد الولايات المتحدة في الانضمام إلى بريطانيا وفرنسا والدول الحليفة لهما في الحرب العالمية الأولى.

     يُعتبَر جيمس مؤسس وقائد مدرسة الواقعية في الأدب الخيالي . وهو سيِّد الرواية الأمريكية بلا مُنازع. أعماله البديعة قادت العديد من الأكاديميين إلى اعتباره أعظم أساتذة النمط القصصي .

     اشْتُهِر تحديدًا بسلسلة من الروايات يُصوِّر فيها التلاقي بين أمريكا وأوروبا ، كما ركَّزت رواياته على العلاقات الشخصية ، والاختبار المناسب للقوة في مثل هذه العلاقات ، وإثارة التساؤلات الأخلاقية . وطريقته في الكتابة منحته الفرصة لاستكشاف ظاهرة الوعي والمفهوم . مِمَّا جعل أسلوبه في الكتابة يُقارَن بمدرسة الانطباعية في الرسم .

    استخدامه البديع لنقل مشاعره في كتاباته ، والصراع النفسي الداخلي للشخصيات(المونولوج) بالإضافة إلى عناصر أخرى كالراوي ذي المصداقية ( وهو راوي داخل الرواية يثق القارئ في سَرْده)، كل هذه أشياء أضافت إلى رواياته عُمقًا وتشويقًا ، وخصوصًا دراما الخيال العلمي . وألقت بظلالها على الأعمال الأدبية الحديثة في القرن العشرين .