سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/10‏/2020

خطورة تحول الإنسان إلى مقبرة متنقلة

 

خطورة تحول الإنسان إلى مقبرة متنقلة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

............

العواطف الإنسانية التي تتحكَّم بالأنساق الاجتماعية ، تُمثِّل نظامًا وُجوديًّا مِن الرموز والإشارات . وتحليل هذا النظام المُركَّب يتطلَّب عودة الإنسان إلى أعماقه ، والبحث عن الأشياء التي ماتت فيه . والإشكاليةُ المركزية في المُجتمعات هي عدم الانتباه إلى تحوُّلات الإنسان الوجدانية ، لأنَّ النظام الاستهلاكي المُغلَق يَطحن المشاعرَ الإنسانية ، ويُصنِّف العواطفَ كمنظومة عبثية ، وتراكيب ساذجة ، ولحظات ضَعْف ، ويُكرِّس النَّزعةَ المادية المتوحشة في عَالَم مُوحِش . وهذا الضَّغْط الهستيري على وُجود الإنسان ومشاعره ، يُحوِّله إلى كِيان مُفرَغ مِن المَعنى، يَخجل مِن التَّعبير عن مشاعره ، ويَجعله آلةً ميكانيكية عَمياء ، ومقبرة متنقلة لا شيء فيها غَير طَعْم العَدَم ورائحة المَوت ، المَوت في الحياة .

2

تَحَوُّل الإنسان إلى مقبرة مُتنقلة ، يَعني أن الكِيان الإنساني صار وِعَاءً للأحلام المَقتولة، والذكريات المَيتة، والأفكار المَذبوحة ، والأصوات الخرساء . وهذا الانهيارُ الشامل في داخل الإنسان ، يَنقل معنى وُجوده مِن الهُوِيَّة إلى الهاوية، ويصير الإنسانُ الخاضع للضَّغْط الاجتماعي اليومي شَيْئًا عابرًا في الزَّمان والمكان ، وكائنًا حَيًّا وهميًّا مُكوَّنًا مِن عناصر مَيتة ، أي إنَّ الإنسان يصير مجموعة أموات ، وكأنَّ الأموات قد اجتمعوا في جِسم واحد . وإذا فَقَدَ الإنسانُ شرعيةَ وُجوده، وصارَ شيئًا مِن الأشياء ، تَحَوَّلَ إلى سِلعة في سُوق العَرْض والطَّلَب ، وتحوَّلت مشاعرُه المُتساقطة إلى ريشة في مَهَب الرِّيح . وعِندئذ ، ستنهار الفلسفةُ الاجتماعية بأكملها ، لأنَّ مصدرها الإنسان . والفلسفةُ الحقيقيةُ القادرة على تكريس فِعل التغيير نَحْو الأفضل ، إنَّما تُؤخَذ مِن ملامح الإنسان ، ولَيس مِنَ الشِّعارات الرَّنَّانة ، لأنَّ ملامح الإنسان هي المِرْآة التي ينعكس فِيها جَوهره الداخلي . ومَهما كان الإنسانُ قادرًا على ضَبط مشاعره ، والسَّيطرة على مِزاجه ، والتحكُّم بملامحه ، فَلَن يَستطيع إخفاء حقيقته الداخلية وجَوهره العميق وماهيته الكامنة ، وَسَوْفَ يَنعكس ضوءُ القلبِ الداخليُّ في مِرْآة وجه الإنسان الخارجي .

3

لا يُمكن للإنسان أن يتحرَّك باتِّجاه المجتمع لبنائه وإعماره معنويًّا وماديًّا ، إلا إذا نجح في بناء نَفْسه أوَّلًا، وهذا يعني أنَّ الخُطوة الأُولَى في طريق الوَعْي الاجتماعي ، هي ارتداد الإنسان إلى نَفْسه ، ورُجوعه إلى كِيانه، مِن أجل التَّنقيب عَن الشَّظايا المتناثرة في أعماقه ، والأشياء المَيتة في داخله . ورحلةُ الإنسان باتِّجاه ذاته العميقة لتنظيفها وتَطهيرها ، وإعادة الأشياء المَيتة إلى الحياة ، هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع . وكُلَّما عَادَ الإنسانُ إلى ماهية وُجوده الكامنة في أعماقه ، اكتشفَ مَنبع مشاعره ، ومَصدر أحلامه . ويُمكن القَول إنَّ العَودة إلى الأنا أهم وسيلة لمعرفة الآخَر _ بكُل مَعَانيه _ . والوُصول إلى قاع البِئر ضروري لمعرفة طبيعة تَكوينها ومدى قُدرتها على استيعاب الماء .

4

إذا نجح الإنسانُ في ترميم ذاته ، والانبعاث مِن جديد ، وتَكوين جبهة متماسكة في داخله ، فإنَّه سيُدرِك حقيقةَ الجَوهر الإنساني ، وماهيةَ البناء الاجتماعي ، وعِندئذ يُصبح قادرًا على بناء مُجتمعه ، والأخذ بأيدي الناس إلى بَر الأمان ، ولا يُمكن للغريق أن يُنقِذ غريقًا ، ولا يُمكن وضع الورود في مزهرية مكسورة . وهاتان الحقيقتان تُمثِّلان قاعدَتَيْن رَمْزِيَّتَيْن في منظومة الفِعل الإنسان المُتَّجِه نَحْوَ المجتمع ، لإخراجه مِن حَالة العَجْز والشَّلَل ، ومَنْحه القُدرة على الوُقوف على قَدَمَيْه .

5

ينبغي أن يَكون المُنقِذ قويًّا ومُتماسكًا وواقفًا على أرض صُلبة كي يُنقِذ الغريقَ ، ويَنتشله من أعماق الهاوية السَّحيقة ، لأنَّ المُنقِذ هُوَ المُخلِّص ، ولا يُمكن أن تتحقَّق لحظة الخَلاص ( الانعتاق ) إلا بوُجود طرف قوي يَمتلك الإحساسَ الواعي بذاته القادرة على البَذل والعطاء والإنقاذ، أمَّا الضعيف فهو عاجز عن إنقاذ نَفْسه ، فكيفَ يُنقِذ الآخرين ؟ . إنَّ فاقد الشَّيء لا يُعطيه . وإذا كان الإنسانُ يُريد لعب دَور المُخلِّص ، فيجب عَلَيه تَخليص نَفْسه مِن حُطَامها ، وإنقاذ مشاعره مِن رُكامها، كَي يصل إلى حالة السلام الروحي ، والتوازن الداخلي ، ويُصبح قويًّا مُتماسكًا قادرًا على احتضان المعاني الإنسانية الرفيعة ، وتقديمها للآخرين لتخليصهم مِن الفراغ ، وإنقاذهم مِن العَدَم . أمَّا الإنسانُ المُنهار فهو كالمزهرية المكسورة ، عِبارة عن مجموعة شَظَايا مُتناثرة ، لا أحد يَعْبأ بها ، ولا أحد يُريد وضع الورود فيها .

23‏/10‏/2020

الكون والكائن والكيان والكينونة

 

الكون والكائن والكيان والكينونة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...............

     المفاهيمُ الاجتماعية لَيست منظومةً واحدة ضِمن كِيان مركزي، وإنما هي تشكيلات مُتعدِّدة وأنظمة مُتنوِّعة، وهذا يعني أن الفِكر المعرفي الذي يُمثِّل النواةَ الأساسية في المفاهيم الاجتماعية ، لا يُمكن حَصْره في إطار مُعيَّن ، ولا يُمكن مُحاصرته في زاوية ضَيِّقة، لأنَّ طبيعة الفِكر قائمة على التدفُّق والانطلاق في الفضاءات الإنسانية الرَّحبة . وهذه الفضاءاتُ تُجسِّد حُلْمَ الإنسان في التَّحَرُّر مِن ذاته كَي يَجِدَ ذاته . وما دامَ الإنسانُ مَدفونًا في أعماقه الذاتية ، فلن يجد شخصيته الاعتبارية وأحلامه الشخصية . يجب على الإنسان أن يَخرج مِن نَفْسِه كَي يرى نَفْسَه بكامل أبعادها، دُون انتقائية ولا اجتزاء . والنَّظرةُ الشُّمولية التي تَنفُذ إلى أعماق الإنسان ، لا تتحقَّق إلا بالنظر إليه مِن كُل زوايا الرُّؤية ، وهذه هي الضَّمانة الحقيقية لتكوين صُورة صحيحة عن الإنسان المُتحرِّك في المجتمع ضِمن المسارات المعرفية المركزية شديدة الاستقطاب:الكَون والكائن والكِيان والكَينونة.

     المجتمعُ الإنسان كائن حَي، وحياته ذات طبيعة مُتشظِّية ، لأن الانفجارات الشُّعورية في داخل الإنسان لا يُمكن السَّيطرة عليها ، وكُل العناصر التي تنطلق بدون سُلطة معرفية تَحْكُمها وتُنظِّمها ، ستُكرِّس التَّشَظِّي في الذات الإنسانية والذات المجتمعية ، وهذا يعني بالضَّرورة تَشَظِّي المُصطلحات الفكرية في الفلسفة التاريخية للعلاقات الاجتماعية . ولا يُوجد مُجتمع إنساني بدون تاريخ معرفي ، ولا يُوجد تاريخ معرفي يعيش في الفراغ المعنوي أو العَدَم المادي. إنَّ التاريخ المعرفي للمجتمع الإنساني يعيش في الكَوْن_بمَعناه الرمزي الفلسفي _، وهذا الكَوْنُ عبارة عن مجموعةِ الأحلام التي يتكوَّن مِنها العَالَم الداخلي للإنسان ، ومنظومةِ المشاعر الموجودة في أعماقه ، وتجمُّعاتِ العلاقات المُتكاثرة في واقعه المُعاش . وإذا تكرَّسَ هذا الكَوْنُ في الأُطُر الشخصية والتَّكتلات الجماعية ، وَجَدَ الإنسانُ ذاته ، واكتشفَ مسارَه ، وأمسكَ مصيرَه ، وهذا يعني انتقال الإنسان مِن الشِّعار إلى التطبيق ، ومِن المعنى المُجرَّد إلى تَجسيد المعنى حُلْمًا مَحسوسًا . وعندئذ يُصبح الإنسانُ هو الكائن الحَي والحُر ، الموجود في رُوح المجتمع الناهض ، والسَّاكن في قلب التغيُّرات الاجتماعية المُستمرة .

     إذا تجذَّرت العلاقةُ بين الكَوْن والكائن ، فإنَّ الكائن سيُعيد تشكيلَ وُجوده ، ولَن يَنتظر نَيْلَ الشَّرعية الوجودية مِن عناصر بيئته ، لأنَّ الكائن هو صانع الأحداث ، ومانح الشرعية للأحلام في بيئته ومُجتمعه ، والفِعْلُ الحقيقي يَمتلك شرعيةً مُستقلة قائمة بذاتها ، أمَّا رَدَّةُ الفِعل ، فهي مُجرَّد انعكاس بدون شرعية ذاتية ، لأنَّها تستمد شرعيتها مِن مَصدرها الأساسي ، وهو الفِعْل . وبما أن الإنسان الذي يصنع الأحلام الاجتماعية في الظروف الصعبة هو الكائن الواقف أمام العواصف ، فهذا دليل على أنَّ الكائن هو الفِعْل والفاعل في آنٍ معًا . وكما قِيل: الذين وُلدوا في العواصف لا يَخافون هُبوب الرياح .

     وهذا الصُّمُودُ الإنساني في المجتمع القاسي، يَقوم على الثنائية المصيرية ( الكَوْن / الكائن ) التي تَدفع باتِّجاه إنشاء الكِيان الإنساني ، وهو السُّلطة الاعتبارية الموجودة بحد ذاتها فِعْلًا ومُمارسةً وتطبيقًا . والكِيانُ هو التَّجميع لشظايا الأحلام الاجتماعية ، والتَّجسيدُ للسُّلوكيات الإنسانية الزمكانية ( الزمانية _ المكانية ) ، أي إنَّ الكِيان يَملِك شرعيةً اجتماعية تاريخية وجُغرافية معًا ، وله سُلطة مركزية في الزمان والمكان معًا .

وهذه الشرعيةُ الاجتماعية المُتجسِّدة في الكِيان هي الحاضنة للكَينونة ، التي تَشمل القِيَم الموضوعية والذاتية للواقع الذهني والوُجود العملي . والكَينونةُ هي رُوحُ الكِيان الإنساني القادرة على اكتشاف الوجود أفقيًّا وعموديًّا، والتعبيرُ الحقيقيُّ عن تفاصيل الأحلام في مُختلف نواحي الحياة . وبعبارة أُخرى ، إنَّ الكَينونة هي الحياة الحقيقية .

16‏/10‏/2020

رحلة الإنسان المصيرية بين الحُلم والموت

 

رحلة الإنسان المصيرية بين الحلم والموت

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...............

تُمثِّل الأنساقُ الاجتماعية مرجعيةً رمزية للتجارب الشخصية التي يحياها الأفراد في مشاعرهم الداخلية وحياتهم الخارجية . والأفرادُ _ أثناء حركتهم في هذا الوجود _ يكتبون تاريخَ المجتمع الكُلي معرفيًّا ورمزيًّا . وهكذا تتحدَّد المعرفة الاجتماعية كإطار جامع لأشكال الوَعْي الإنساني ، وتتحدَّد الرمزية الثقافية كغِلاف للسُّلوك الإنساني المُتحرِّر مِن ضغط العناصر السُّلطوية . ووظيفةُ الوَعْي الإنساني أن يَنقل المعرفةَ الاجتماعية مِن الإطار إلى قلب العلاقات الفكرية في المجتمع ( الانتقال مِن البرواز إلى المركز)، ووظيفةُ الفِعل الاجتماعي الحَي والحُر أن ينقل الرمزيةَ الثقافية مِن الغِلاف إلى رُوح التفاعل الوجداني مع عناصر الطبيعة ( الانتقال مِن القِشرة إلى اللباب). وهذا الانتقالان يُمثِّلان المعنى الاجتماعي المُزْدَوَج ،الذي يتحرَّك ضِمن مَسَارَيْن ، يتقاطعان في نقطة واحدة ، وهذه النقطة هي قلبُ المجتمعِ النابضُ الذي يضخُّ الدَّمَ في شرايين الحُلم الإنساني لإبقائه على قَيد الحياة .

2

مِن السَّهل على الإنسان أن يُحِب ، ولكن مِن الصعب أن يُدافع عن حُبِّه ويُضحِّي مِن أجله . ومِن السَّهل على الإنسان أن يَحلُم ، ولكن مِن الصعب أن يُدافع عن حُلمه ، ويُحوِّله إلى واقع ملموس . ومُهمةُ الشُّعور الإنساني الجمعي أن يُقَاتل الأوهامَ مِن أجل تكوين حُلم إنساني يمتاز بالوَعْي والواقعية ، بعيدًا عن السَّذاجة والمثالية ، وأن يُعبِّد الطريقَ أمامَ هذه الحُلم كي يصل إلى الهدف المنشود بلا عوائق . وما أكثرَ الأحلام التي تَمَّ وأدها في هذا الوجود،وما أكثرَ الذكريات المدفونة تحت تُراب المقابر.وفي ظِل هذه المُعطيات والتَّحَدِّيات، ينبغي على الإنسان أن يبني حَياته الإبداعية على قاعدة منطقية متماسكة بين الحُلم والمَوت ، وأن يُدرك أنَّه في سِباق مع الزمن من أجل تحقيق حُلمه ، فإمَّا أن يَنجح وإمَّا أن يُخفِق ، ولا تُوجد نتائج مضمونة في الحياة ، لأنَّ الحياة نَفْسها غَير مضمونة .

3

الحياةُ الإنسانية هي الفترة الزمنية المحصورة بين الحُلم والمَوت . والمسارُ الوجودي الذي يختاره الإنسانُ له نُقطة بداية ( وِلادة حُلم الإنسان ) ونُقطة نهاية ( مَوت جسد الإنسان ) . والمسافةُ الفاصلة بين هَاتَيْن النُّقْطَتَيْن هي المعركة الوجودية التي يخوضها الإنسانُ يَوْمِيًّا بكُل تاريخه ومهاراته وحواسِّه ، ولا تُوجد فُرصة أُخرى للتَّعويض ، ولا إمكانية لرفع الراية البَيضاء . والتخطيطُ للمعركة أصعب مِن أحداث المعركة ، وهذه الحقيقة تفرض على الإنسان أن يَكون العقلَ المُدبِّر الذي يُخطِّط بِدِقَّة لمعركته في الحياة ، مِن أجل السَّيطرة على الأحداث ، ومنعها من السيطرة عليه . وهذا لا يتأتَّى إلا بدراسة جميع الاحتمالات بلا استثناء ، والتعامل مع كُل احتمال على حِدَة باعتباره معركةً كاملة قائمة بذاتها ، ومِن شأن هذه العملية تَحييد عُنصر المُفاجأة ، لأنَّ عُنصر المفاجأة قاتل . ومَن امتلكَ الصَّلابةَ الذهنية وسُرعة البديهة ( رَد الفِعل السريع ) ، استطاعَ وأد المُفاجآت في مَهْدها . ومَن كان مَهزوزًا ، ومُنهارًا مِن الداخل ، ويُقَاد بالعَصَا والجَزَرة ، فإن مُفاجآت الحياة ستسحقه ، ولَن يَملِك فُرصة ثانية للوقوف على قَدَمَيْه ، لأنَّ الخطأ الأوَّل هو الخطأ الأخير . ومَن رَمَى بنَفْسه إلى البحر وهو لا يُحسِن السِّباحةَ ، فلا يُعقَل أن يَلُوم الآخَرين لأنَّهُم لَم يُلْقُوا إلَيه طَوْقَ النَّجاة . ومَن ألْقَى بنَفْسه تحت عجلات القِطار ، فلا يَنتظر أيَّة مُساعدة مِن الرُّكاب ، لأنَّ العاجز عن مُساعدة نَفْسه ، لَن يُساعده الآخرون .

09‏/10‏/2020

الفرد والمجتمع في مواجهة التناقضات والصراعات

 

الفرد والمجتمع في مواجهة التناقضات والصراعات

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...............

اكتشاف الأنظمة الاجتماعية المسيطرة على حياة الفرد ، يستلزم معرفة مسار الفرد في المجتمع ، وطبيعةِ التناقضات في منظومة الحقوق والواجبات التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع. والتناقضات تكشف ماهيةَ المسار الفردي ، وحقيقةَ الجوهر المجتمعي ، واتِّجاهَ المشاعر الإنسانية، وهُوِيَّةَ الأنظمة الاجتماعية ذات البِنية السُّلطوية الحاكمة معنويًّا وماديًّا . والفلسفةُ الاجتماعية قائمة على دراسة الاختلافات والتناقضات والصراعات، وبِضِدِّها تتبيَّن الأشياء ، وتُعرَف أهميتها . فمثلًا ، في الصَّيف تُعرَف أهمية الشِّتاء ، وفي الشِّتاء تُعرَف أهمية الصَّيف. وهذا المثال ينسحب على كُل الثنائيات ، سواءٌ كانت في داخل الإنسان أَمْ خارجه . وبما أنَّه لا يُوجد مجتمع إنساني مثالي، ولا يُوجد فرد كامل، فإن تيارات فلسفية جديدة ستنشأ وتتكاثر لدراسة حالات النقص والتعارض والاختلاف والتَّضَاد ، وسوف تَبْرُز أفكار معرفية تقوم على تكوين الأُصُول الاجتماعية ، وربطها بالفُروع والتطبيقات على أرض الواقع . وبما أن المريض وَحْدَه هو الذي يحتاج إلى دواء ، فإنَّ اختبارات كثيرة ستظهر من أجل الوصول إلى الدواء الفَعَّال . وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع ، فكِلاهما كائن حَي ، يَمْرَضَان ، ويَبحثان عن الدَّواء مِن أجل الشِّفاء . والاعترافُ بالمَرَض هو الخُطوة الأُولَى للعلاج .

2

كُلُّ فرد له حركتان في حياته : حركة في داخل ذاته ، وهي انتقال عَبر الأفكار والمشاعر والصراعات النَّفْسِيَّة ، وحركة في داخل مُجتمعه ، وهي انتقال عَبر الضغوطات الحياتية والقيم الاستهلاكية والحاجات البيولوجية . وإذا سَيْطَرَ الفردُ على نَفْسه ، سَيْطَرَ على عناصر البيئة المُحيطة به . وإذا نَجَحَ في صناعة الحُلْم في داخله ، نَجَحَ في صناعة مُستقبله في الحياة . والطموحاتُ الفردية لا يُمكن أن تتحقَّق واقعًا ملموسًا إلا بإزالة كافة الحواجز بين الفرد والمجتمع ، وفَتْحِ الحُلْم الفردي على مِصْرَاعَيْه أمام أمواج المجتمع ، كي تحدُث عملية الاندماج والتمازج بين الأنا والآخَر في المجتمع الواحد ، فالفردُ جُزء مِن المجتمع ( الكُل ) ، والجُزءُ لَيس له وُجود بدون الكُل . وشرعيةُ الغُصن مُرتبطة بوُجوده في الشجرة ، أمَّا إذا رُمِيَ الغُصن على الرَّصيف ، فَسَوْفَ تَسحقه أقدام المَارَّة ، ولَن يُدافع عَنه أحد .

3

لا مَفَر مِن تعامل الفرد مع الصراعات النَّفْسِيَّة والتناقضات الاجتماعية ، كما أنَّه لا مَفَر مِن تعامل الرُّبَّان مع البحر المُتلاطم الأمواج . والسَّفينةُ هي التي يجب أن تتأقلم معَ البَحْر ، وليس العكس ، لأنَّنا نَملِك سُلطة على السَّفينة ، ولا نَملِك سُلطة على البحر . وهذه الفكرةُ ينبغي أن يَستوعبها الفردُ في حياته الاجتماعية ، كَي يُميِّز بين الظروف التي تَحْكُمنا ( الظروف الحاكمة ) ، والظروف التي نَحْكُمها ( الظروف المحكومة ) ، وكَي يُفرِّق بين الأشياء التي نَكون فيها مُسيَّرين ، والأشياء التي نَكون فيها مُخيَّرين . وهذا الأمرُ ضروري لأنَّه يُريح الفردَ ذهنيًّا وجسديًّا ، ويُحرِّره مِن الضغوطات الفكرية والاجتماعية ، ويَدفعه إلى الاستثمار في المُمْكِن ، وعدم إضاعة وَقْته في المُستحيل. ولا يُمكن للفرد أن يُنَاطِح المُجتمعَ، ولا يَقدِر أن يُصلِح العَالَمَ ، لأنَّ العَقْلَ الجَمْعي أقوى مِن العَقْل الفَرْدي . وهذه لَيست دَعوة إلى الكسل واليأس ، ولكنها دَعوة إلى ضرورة معرفة الفرد لإمكانياته ، وعدم تَضييع جُهده في معارك خيالية خاسرة . ومعَ هذا ، يَنبغي على الفرد أن يَترك بصمته الشخصية في سبيل علاج مُشكلات المُجتمع والعَالَم ، دُون أن يُحمِّل نَفْسَه مسؤوليةَ إصلاحهما . والفردُ لَيس وَصِيًّا على الناس، ولا مسؤولًا عن أعمالهم ونتائجها، ولَكِنَّه مُطَالَب بمُساعدة الناس ، وتَسليط الضَّوء على أخطائهم ، وتقديم حُلول ناجعة لإصلاحها، ونشر الوَعْي في المجتمع. ودورُ الفَرد مَحصور في إضاءة الشَّمعة ، وليس إجبار الناس على المَشْي في الطريق . وكما أن تَحويل مَجرَى النهر لا يَكون بالسِّباحة ضِد التَّيار، وإنَّما يَكون ببناء السُّدود ، كذلك عملية نقل المجتمع الإنساني من التخلف إلى التقدم ، لا تكون بتحدِّي المجتمع ومُحاربته والوقوف ضِدَّه ، وإنما تكون ببناء الوَعْي ونشر ثقاقة الإبداع . وكما أن الشاعر يستطيع العثور على مواطن الجَمَال في الأشياء القبيحة ، وكتابة قصيدة جميلة عن شيء قبيح ، كذلك الفرد يستطيع العثور على المعاني الإنسانية داخل المجتمع القاسي ، وإيجاد أنظمة فكرية منطقية داخل الفوضى المجتمعية .

4

النظام الاجتماعي الحقيقي هو ترتيب لعناصر الفوضى وسيطرة عليها ، ولَيس حَذفًا لها، لأنَّها _ ببساطة _ لا يُمكن حذفها ولا إلغاؤها . ومِن المُستحيل تكوين مُجتمع إنساني مُنظَّم بشكل كامل ، والنظامُ الاجتماعي الكامل غاية لا تُدرَك . ومعَ هذا ، إنَّ المُجتمع الذي يَعرف أخطاءه وعُيوبه وأمراضه ، هو مُجتمع حَي وحيوي ، يسير في طريق العلاج . أمَّا المُجتمع الذي يُكَابِر ، ويُعَانِد الحقائقَ ، ويَعتبر نَفْسَه خاليًا مِن المُشكلات والأزمات ، فهو مُجتمع ميت ، لا أمل في عَودته إلى الحياة . والمجتمعُ الميتُ الذي لا يَعرِف أنَّه ماتَ ، لا يُمكن إقناعه بأهمية الحياة ، وضرورةِ العودة إلَيها .

02‏/10‏/2020

إنقاذ الفرد والمجتمع من الفراغ الموحش

 

إنقاذ الفرد والمجتمع من الفراغ الموحش

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..............

     وظيفة الفلسفة في المجتمع هي تحويلُ قُدُرات الفرد المحدودة إلى أفكار إبداعية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان ، وبناءُ طُموحات المجتمع على أساس عقلاني، بعيدًا عن الصُّراخ، وضجيج الشِّعارات، والحماسة الجَوفاء. والصوتُ العالي لا يُكوِّن فَرْدًا مُتصالحًا معَ ذاته وبيئته ، ولا يبني مجتمعًا مُتماسكًا ، وإنَّما يُؤَسِّس كيانات متناحرة تعشق رنين الكلمات المُخادِعة ، ولا تعرف حقيقتها . وهذه الكيانات تَقوم على أرض الواقع بفِعْل الإسناد الخارجي ، ولَيس بفِعل المنطق الذاتي . والأمور غير المنطقية لا تتكرَّس في المجتمع كواقع ملموس إلا بفِعْل سياسة الأمر الواقع المعتمدة على الترهيب والتخويف والتَّلويح بالعصا، وهذا سبب انفصال اللسان عن القلب ، أي إنَّ الفرد يَقول شيئًا ، ويتبنَّاه، ويُدافع عنه ، وهو لا يُؤْمِن به في قَرارة نَفْسه . وسبب قِيامه بهذه العملية هو شُعوره بالرُّعب مِن المجتمع، وخَوفه مِن العُقوبة في حال تعبيره عن أفكاره بحُرِّية . وهذا يعني أن الفرد ضحَّى بالسلام الداخلي والتوازن الروحي والمنظومة الأخلاقية مِن أجل حماية حياته ، والحِفاظ على مُكتسباته المعنوية والمادية.وكُل كلمة لها ثمن، والفرد غَير مُستعد لدفع هذا الثمن، وكُل موقف له ضريبة، والمجتمع غَير مُستعد لتحمُّل هذه الضريبة . وفي كُل المجتمعات الأبوية المُنغلقة ، تكون حُرِّيةُ التعبير جريمةً لا تمرُّ دُون عِقاب .

     عِندما يُظهِر الفَرْدُ خِلاف ما يُبطِن ، فهذا يعني أن هناك شَرْخًا عميقًا بين الفرد والمجتمع ، كما يعني أن المجتمع بكل مؤسساته يَضغط على الفرد لِسَلْب صوته الخاص، ومَنعه مِن التعبير عن أفكاره بحُرِّية ، وهذه الخُطوة الأُولَى لتدجين الفرد ، وإدخاله إلى الحظيرة ، وتحويل المجتمع إلى قطيع يُساق إلى حافة الهاوية . وسياسةُ حافة الهاوية التي تُكرِّسها السُّلطة الأبوية في المجتمع المُحَاصَر ، هي منهجية شديدة الخُطورة ، لأنها تُحوِّل الفَردَ مِن كيان إنساني جوهري قائم بذاته ، إلى شيء هامشي عَرَضي في مَوضِع العَرْض والطَّلَب ، وتُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى سِلَع في أيدي أصحاب السُّلطة القادرين على الدَّفْع ، وَمن امتلكَ القُدرة على الدَّفْع ، امتلكَ القُدرة على الكلام . والجديرُ بالذِّكر أن سياسة حافة الهاوية تُقَدِّم صُورةً خادعة عن المجتمع ، فيظهر مَجتمع القطيع للناظر إلَيه مِن بَعيد مُجتمعًا مُنظَّمًا متماسكًا ذا مَسار واحد ، وهدف مصيري مُشترك . وفي حقيقة الأمر، إنَّهُ مجتمع مُفكَّك مِن الداخل ، وأنساقه الاجتماعية تضمحل تدريجيًّا ، وهذا الانتحارُ الاجتماعي التدريجي ، يُعزِّز ثقافة التَّرَبُّص والانقضاض في المجتمع ، فالفردُ يتربَّص بأخيه في الوطن والمصير ، لاعتقاده أن المكان لا يتَّسع إلا لِفَرْد واحد ، وإذا لَم تَكُن آكِلًا فأنتَ مَأكُول ، والمجتمعُ يصير فراغًا مُوحِشًا ، وصَيَّادًا يَنتظر اللحظة المُناسبة للانقضاض على الفريسة ، والضحيةُ تتقمَّص جلَّادها ، وتَلعب دَوْرَه ، ويَشعر جميع الأفراد بأنَّهُم مَظلومون ، ولا أحد يَعرِف مَن الظالم، وتتحوَّل العلاقات الاجتماعية إلى منظومة نَفعية استغلالية ، حيث يأكل القويُّ الضعيفَ ، ويستغل الغنيُّ الفقيرَ ، ويَضطهد الكبيرُ الصغيرَ ، وتصير الأحلام الإنسانية أزهارًا جميلةً لَكِنَّها سَامَّة ، وتَعيش في بيئة هَدَّامة، وتَؤُول الظواهرُ الإنسانية إلى سِياقات مُوحِشة تَدفع المشاعرَ والأحاسيس إلى التَّوَحُّش، وتدفع الفلسفةَ السياسية إلى الغرق في شريعة الغاب ، ويُصبح القادر على اضطهاد الآخرين هو المُتحدِّث باسمهم ، الذي يتَّخذ القرارات نِيَابَةً عنهم ، ويُقَرِّر مصيرهم ، وهُم آخِر مَن يَعْلَم. وهذا الانهيارُ الشامل لا يَحدُث بين لَيلة وضُحاها ، لأنَّه تراكمات عبر الأزمنة ، وترحيل للملفات والأزمات عبر المراحل ، ودفن للنار تحت الرماد ، لذلك كثيرٌ مِن الناس لا يَشعُرون به ، أو قَد يَستهينون به ، لأنَّ تفكيرهم مَحصور في الهدوء الذي يَسبِق العاصفةَ ، دُون الاستعداد للعاصفة ، وهُم عاجزون عن استيعاب خُطورة وَضْع السُّم في العَسَل ، لأنَّ تفكيرهم مُسلَّط على تَذَوُّق العسل والاستمتاع بمذاقه ، ورُؤيتهم مُركَّزة على القَشَّة التي قَصَمَتْ ظَهْرَ البعير ، أو القَطْرة التي أفاضت الكأسَ ، وهذا يَمنعهم مِن التفكير بالتراكمات الزمنية ، ومُسلسل الأخطاء التاريخية . وعَجْزُهم عن تفسير ظواهر التاريخ ، جَعلهم يُكرِّرون نَفْسَ الأخطاء ، لذلك صارَ الفَرْد يُلدَغ مِن نَفْس الجُحْر مَرَّات كثيرة ، وهذا يدلُّ على انطماس بصيرة الفرد بسبب ضغط المجتمع الأبوي عَلَيه ، ومُحاصرته ، وَمَنعه من التفكير . لذلك لَيس غريبًا أن تُصبح إنسانيةُ الفرد آلةً ميكانيكية تتلقَّى الأوامرَ لتُنفِّذها دُون التفكير في ماهيتها وأبعادها، وليس غريبًا أن يَقفز المجتمع الإنساني في الفراغ ، ويُؤَسِّس للعَدَم . إنَّ المُجتمع المُحَاصَر بالمشكلات والأزمات ، والمُحَاصِر للأفراد والجماعات ، والذي يَدفن النارَ تحت الرماد ، ولا يُفكِّر بإطفائها ، جَعَلَ الفرد مُقتنعًا بعبثية الإجراءات الوقائية ، وعدم جَدوى التخطيط للمُستقبل . وهكذا ، صار الناسُ يَنتظرون المرضَ ، ثُمَّ يَبحثون عن العِلاج ، ويَعتبرون الإجراءات الوقائية المانعة من حُدوث المرض مَضيعة للوقت والجُهد .