سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/06‏/2011

الإنسان وثقافة الشِّعر

الإنسان وثقافة الشِّعر
إبراهيم أبو عواد
جريدة العرب اللندنية 28/6/2011

إن قوة القصيدة تتجلى في قدرتها على رسم خارطة التحولات الإنسانية بشكل بالغ التكثيف والرمزية ، وصناعة منظومة خيالية تؤول إلى حياة جديدة لا تخضع لقوانين الأمر الواقع . الأمر الذي ينقل العلاقات الاجتماعية من التشظي إلى التجمع ، ويُحوِّل الجماعة البشرية من التشتت إلى التلاحم . وهذا الأداء التوحيدي الذي تضطلع به القصيدة يؤدي إلى إنتاج مضامين تفسيرية جديدة لتاريخ النص الشعري ، وتكوين نسيج اجتماعي متماسك لمنظومة الخلاص الشعرية .

وكلما ازداد الوعي الإنساني بالأبعاد السُّلطوية للفعل الشعري ، تكرَّس الجنين الإبداعي كأداة خلاص . وهذا يبعث الحياة في النظم الاجتماعية والثقافية على السواء . فلا يمكن للمجتمع أن يتحرك بدون القيمة الإنسانية والقيمة الثقافية ، تماماً كالطائر الذي لا يقدر على الطيران بدون جناحين .

ومن أجل توليد أنساق ثقافية بوسعها التعبير عن المضمون الجوهري للحياة الاجتماعية لا بد من تنمية العنصر الحياتي الخارج عن دائرة التشيؤ ( تحوُّل الكينونةِ البشرية إلى شيء ، والعلاقات الإنسانية إلى تيارات ميكانيكية خالية من المشاعر والقيم المطْلقة ) .

وإذا حافظنا على سُمُوِّ الحس الوجداني للإنسان في ظل البيئة الاستهلاكية الخانقة ، فإننا سنحصل على مجتمعات حية تكون فيها النظمُ الثقافية مغامَرةً مستمرة واكتشافاتٍ متعددة مناوئة للسياقات الحياتية الغارقة في الملل والروتين الوظيفي . فالحياة العادية القاتلة معلومة البداية والنهاية سلفاً لأنها محصورة في نطاق ضيق ، أما الحياة الثقافية الإبداعية فهي تجدُّد دائم في أُفق مفتوح على كل الاحتمالات والمغامرات . وهذا الأفق خالدٌ لا يَشيخ بسبب امتلاكه لسر الشباب الدائم الذي تمنحه القصيدة للنسغ الاجتماعي والطبيعة البشرية .

ومن الجدير بالذكر أن خلود النص الشعري ينبع من إشراقات الرُّوح التي تمضي في طريقها كمبادئ اجتماعية ذاتية تحفر في الرؤية العاطفية طوفانَ الكلمات. وهكذا يمكن تجاوز كافة المآزق الناتجة عن زواج القمع السياسي بالانهيار الفكري ، لأن الشِّعر سُلطة قادرة على تفكيك العُقد النفسية للأفراد والجماعات، وكسر الحواجز التي تحول دون التقاء البشر بآدميتهم .

وهذه العمليةُ التثويرية هي إعادة إنتاج للمجتمع . فالولادةُ الشعرية هي ولادة للمجتمع الإنساني ، والجنينُ الشعري هو المعنى الاجتماعي المعاش.وهذا الترابط الاجتماعي الثقافي يعكس وحدة المسار والمصير بين الإنسان وثقافة الشِّعر.

29‏/06‏/2011

عصفورة تبكي اسمها الأرض ( 4 _ 9 )

عصفورة تبكي اسمها الأرض ( 4 _ 9 )
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد .

صُعِقْتُ حين استلمتُ رسالةَ غرامٍ من بغلةٍ متعثرةٍ في طريق بنكرياسي . وحزنتُ حين أرسلَ إليَّ الزلزالُ قصيدةَ رثاءٍ لسيارةِ جارتي . فيا صَدِيقي المطر ، لا تقتحمْ حياةَ امرأةٍ مُتزوِّجةٍ ، لأنَّ طيفَها انتحارُكَ قُرب عبثية أخشاب المذبح . ابْتَكَرْنا خريطةً للفرحِ المسلوبِ . نَحَتْنا من الأعشابِ شاهدَ قبرٍ لزوبعةٍ . مَرَضِي مَهْرُ السنابلِ في المناطقِ المهمَلة . إنَّ الغربَ صرصارٌ على سُرَّةِ راقصةٍ . وفي مُسدَّسي غزالةٌ تغتسلُ بعد الولادةِ . غدا لهيبُ الرعشةِ النهائيةِ حبةَ فلافل في وجبةِ دماء . هل بقي شيءٌ من الحب العُذْرِيِّ في ممالك العاهرات المحترِفات ؟ . والتَّبغُ المهرَّبُ أدمنَ ألواني الزيتيةَ لعلها تنقذه من أزمته المالية .

كالمجاعاتِ الرومانسيةِ ، كالعاشقين الفاشلين نرجع أنا وأنت يا حُزني . دولةً للريح مَرَّت خلفَ أسوارنا. للأمسِ وجهٌ أو وجهُ الموتى المنثور في وجهي . للذاكرةِ ذاكرةٌ مُخترَقةٌ بالوجوه . مررتُ كيسَ طحينٍ على أَسْرِ صاحبِ المخبز . أيها الصِّحابُ الحزانى ، مَن أنتم ؟! . هل التقيتُم بِذَبْحي قبل هذا الليلِ ؟ . لكنَّنا رَسَّامو جدارياتٍ تُؤْلمنا لأننا اسْتَمْتَعْنا بآلامِ اليختِ الياقوتيِّ . لنا الألم خجولاً مكشوفاً في مذاقِ الظهيرةِ .

وَضَّحَت فطيرةُ القتلِ برنامجاً لزيارةِ انتكاساتي . في العصفِ مَالَت ترانيمُ غَنَّيْتُها للقادمين من تأبينِ الغزلان متأخرين عن ميعاد جنازتي ، وغَنَّاها الصُّداعُ النِّصْفِيُّ بَلَداً يَطْعنُ بناتِهِ ثم يُغطيهنَّ بدروعِ الفرسانِ نادماً . صليبيةٌ تستحمُّ في بحيرةِ طبريا لكنَّ لحمَها تابوتُ صَقْرٍ أعمى . نَعْشي ما هو بميِّت ، وإنما مُغمىً عليه . أَصدمُ نَفْسي بكهرباء الكلامِ كي أستيقظَ . شمسٌ واحدةٌ تُنَقِّينا . قوسُ قزحَ على جريدة . اخترق أضرحتَنا وطنٌ يستلمُ ضريبةَ النارِ من الهواءِ . أَيُّ دروبٍ في شُعيرات أَنْفي سوف تَضْحكُ عَلَيْنا ؟ .

اعْتَرِفْ ، لستُ حزيناً بما فيه الكفاية لكي أفرحَ ! . وحينما بكيتُ على الضفة الجنوبيةِ لقلبي ، لمسَ دَمْعي كوكباً ساقطاً في حُضْن الموج . لا أصابعَ لي لتَحْضُنني . في رئتي أزمةٌ سياسيةٌ بسبب تغيير السُّلطانةِ لنوعِ نبيذها دون إذن السلطان المشغول بتلميع أوسمته .

لماذا يكرهني دمي ؟! . ماذا فعلتُ له ؟ . نافذتي التي على القمم المتساقطة في سُباتي هي ملكةُ جَمال السلاحف. ومِقصلتي ملكةُ جمالِ المقاصل . والقبائلُ المتحارِبةُ اتَّفقتْ على اقتسامي لأن هذا الألم له صوتُ الفجر . وتتكلمُ الأميراتُ مرتدياتٍ ثيابَ الرقصِ . إن بنتاً تقود سيارتها إلى قبرها في الصنوبر .

الرَّجفةُ الفوضويةُ تأكل اسْمَها الوحشي. تُرى هل سيقتلني نزيفُ الوديان الموحلة أم الأغنية الحجرية ؟. منديلٌ قذرٌ تضعه أنثى الزَّبد على شفتيها لمسح أحمر الشِّفاهِ . تواريخُ التحرش الجنسي في الكاتدرائيات . أشكرك أيها الوطنُ لأنك صَلَبْتَني ، وأشكر روادَ الملاهي الليلية لأنهم أَسَّسوا في توابيت إخوتي أراجيحَ للأطفالِ اليتامى . بدويةٌ ترعى ضريحها في سِهَامِ الحروب القبلية. أحسبُ عُمُرَ الريح لأتخيلَ عُمُرَ الشَّمس. كأن الضَّوءَ شَاهَدَ راعيةً ميتةً في الفحيحِ . إذن فَلْنُصَلِّ عليها وندفنها .

أزورُ قبرَ أستاذي في قاع المحيط الهادي . سأُعطي الحِبْرَ مهمةَ دَفْني. سيقول التاريخُ إن هناك شاعراً نحيلَ الجسم تحدَّى الأباطرةَ . أيتها البوسنياتُ لا تَنْزَعِجْنَ إذا أَعدموني . اقْرَأْنَ الفاتحةَ ثم اذهبنَ إلى المطبخ لتحضير إفطار رمضان .

يا أيها الوباءُ المرشَّحُ للتفشي في الطوبِ اللحمي ، ارحلْ من المشمشِ اليابسِ، انطفئْ لأشتعلَ في اليابسةِ المتبخرةِ في فُنجانٍ قهوةٍ باردٍ. ما طَعْمُ الفراشاتِ المقلية بماءِ عيوني ؟. بلدٌ ضائعٌ ضَيَّعَنَا ليشجعَ السياحة في مقابرنا. المؤذِّنُ أكثرُ أصدقاء الشَّفق إخلاصاً .

كوخٌ عند منبعِ النهرِ. تلعبُ المجاعةُ دورَ قلمِ رصاصٍ. لكنَّ سَمَكاً يعاني من الرَّبْوِ على الغصون الحالمة . وفي يومِ ميلادي من كل عامٍ أشعر بالوفاةِ لأعيشَ . أعصابي وشراسةُ التألقِ في الصقيعِ حكايةٌ للأطفال قبل النومِ . سأخطفُ البحيرةَ وأُطالبُ الطوفانَ بفديةٍ ، عشرين كيساً من حزن الراهبات . اغْرِسْ أهدابي في الضبابِ تجدْ طفولتي عندها . غَيْبوبةُ الطباشيرِ الحمراءُ في المدرسة المدمَّرة. هذي عاصمتي المفقودةُ تُرَكِّبُ جهازَ إنذارٍ في سُرَّتِي. تقتلني رائحةُ دم الولادة في تثاؤب الياسمينة ، والسجادِ في الوزارات ، ومعجونِ الأسنان الخاص بماركس . الجنرالُ واقفٌ في الطابور أمام المخبز. لن أُغَنِّيَ لعنكبوتٍ تُقَبِّلُ زوجَها ثم تقتله. يا ريشاً للنعامات يصير عُلبةَ سردين تتقلصُ وطناً للمشنوقين ، سأصاحبُ الزُّقاقَ الذي لم تختره حُنجرتي . سأختارُ شَفقاً لم تنتخبه أُغنيتي. خُذْ توقيعي قبل مَوْتي ولا تَبْكيني . واحاتٌ شريدة . أَحَبَّ الجبلُ النازفُ البنتَ الميتة فهي لا تستطيع أن تخونَ الأعشابَ .

ورمٌ غيرُ خبيثٍ في ثدي الشَّمعة . لا فرقَ بين المرأة العارية والحائط بالنسبة للوطواط لأنه أعمى . آخرُ أيامِ الشعراءِ الفاشلين شهواتُ المطر المكبوتة . لماذا لا تتوحد حكوماتُ الدنيا إلا على ذَبْحي ؟ . قصديرٌ يشرب طيفَه عند المدفأة . الحائكُ يصف مشاعر العُراةِ فقراً. الليلكُ الشبعانُ يكتب عن الجائعين . نداءٌ إلى خشب الصندل ، إن عثرتَ على دمي في الدحنون فأرجو أن تعيده إليَّ. تجرعت النَّعامةُ أطيافي حتى الثمالةِ. لماذا يفهمني الجدارُ ولا يفهمني السَّجانون ؟. إنني أموتُ . سؤالٌ للأرزةِ الذكيةِ : ما الفرق بين دمي والبطاطا ؟. الجواب : دمي يشربني، أما البطاطا فتأكلني.

في معجم انتكاساتي تهتُ لكنني تزوَّجتُ ضوءاً ماحياً وانْبَعَثْنا . وما اللافتةُ في آخر الطريقِ الملوكي إلا أخدود أَشْوي فيه بداياتِ الصدى . ولم يكد المغيبُ يتصدق على المواويل العطشى حتى عدوتُ في أجزائي . والموالُ النقي فارسُ أحلامِ سمكة قرشٍ لقيطةٍ .

لا أحتاجُ إلى حُبِّ العاجِ ، أحتاج كراهيةَ الوجوه الملوَّنة . السِّجنُ لا يلزمه أُنثى تحبُّه . يلزمه أنثى تدمِّره إن عاش وتدفنه إن مات . أكرهُ النهرَ الذي لا يفعل شيئاً سوى قبض الراتب وإنجاب الضائعين . وفي طلقة الزبد اغتصابُ عُشبةٍ وبنتٌ مُغتصَبةٌ .

كالبرقوقِ المشقَّقِ طلبت الذبابةُ الخلاصَ من شكلِ السيانيد. تَبغٌ يلدُ خيمةً للقطارِ البخاري. ألفُ عامٍ من الحِدادِ على الكواكب الميتةِ. ها قد جاء موعد التفتيشِ العسكري في أقمارِ الجيشِ المتهاوي . ليس لدى الأفعى وقتٌ كي تقابل مرآةَ البصل ، فهل وجهي مكانٌ عابرٌ للسنونو ؟ .

وتلك الأنجمُ تتعلمُ رياضةَ الغطسِ في دمي . أَنْقَذَتْني أشلائي من فجوةِ العشب. أَرُشُّ ألسنةَ الخرائبِ على لازوردِ الملحِ . غاب الذين يقولون لا . تابوتي متأرجحٌ على سطر مطاطي ترقصُ عليه عاهراتُ بلادي والخائنون . قوةُ الشين في " الشمس " تتحدى وُعورةَ تضاريس كبدي . لم تسمح لي والدتي أن أُدفَنَ في مِعصمها . لم يسمح لي أبي أن أُدفَنَ في قلبه . تَفَضَّلْ أيها الرعدُ إلى وليمة الدخان ، دَعْكَ مِن غرور الحجَرِ لأن في يأس الرمالِ صخرةً تعاني الصُّداعَ .

تجتمعُ في قاعةِ الهباءِ نسوةٌ يستخرجنَ القهوةَ من الإسفنج ، ويتحدثنَ عن قماشِ كفني . صورةَ أبي، ما أنتِ إلا رؤيةٌ معاصرةٌ للجَزْرِ . جَهِّزي يا أمطارُ نَعْشي . أوردتي هي القناديلُ الوحيدةُ المنثورةُ في أكثر الغيمات ثورةً. يا جداراً يُحَلِّلُ أعمالي الشِّعْرية. أُعْدِمَ أهلُ الدار، وبقينا أنا وأنتَ في الضباب القرمزيِّ . وسيفتحون في محيَّايَ شوارعَ مُعَبَّدةً بأحلامي وأُعْدَمُ . إذن ستظل وحيداً عاصفاً عارماً الشاهدَ على قضية الفراغِ . والفقراء يتجمعون حول العرقسوس المتداول مثل الإبادة الجماعية للأمواج . ولما نظرت شاشةُ الريح في أنف راهبةٍ رأت قبعةً تُعِدُّ مجزرةً للسنديان .

يا مذبحةَ البطاطا المقلية، وموطنَ الأعياد التي لا أعيادَ فيها. تمهَّلْ أيها الجنون ، قِفْ نيزكَ آلامٍ. هذه سِحنتي إشارة مرورٍ حمراءُ، كيف تَعْبرها وشرطي المرور يراقب حركةَ أمعائكَ ؟. حُبُّنا طاهرٌ كالأسلحة الأتوماتيكية ، ومشاعرُ الغزاةِ كالأعضاء الميكانيكية للرجال الآليين ، وأنا من أهل القبور . والجاردينيا تشمُّ أيتامَها وتموتُ معهم في أحضاني . نزيفٌ باعه أبناؤه فباعهم . بَلَغَنِي أن جِرْذَاً نبذ الشاطئَ واعتنق زُرقةَ المحار . لكن ماعزاً يعمل حارساً شخصياً لأشهر الضفادعِ في العصور الحجرية .

القاتلُ الأبيضُ يمتلكُ عقليةَ السارقِ وطموح المقامر ووقاحة المومس . أعرف أن الضائعات في كوكبي سيواصلنَ الضياعَ ، وأن حكومة المرتزقة سَتُصَدِّرُ حليبهن إلى الخارج، مثلما هَرَّبت الآثار إلى متاحف الغرب. إنها تاجرتْ بكل شيء . عانى المحيطُ الأطلسيُّ من ضربة شمسٍ. قناةُ السويس موضوعةٌ على نقالةٍ آليةٍ. حشدتُ أقفاصي لمواجهة النورسِ الأعمى. شعوبٌ تُباعُ. وطنٌ يُباعُ. تُباعُ رُكبتاي . سأوقفُ المؤامرة .

إنَّ صحراءَ العرقسوس جبيرةٌ تُكسَر. عَرَقي في عَرَقي أشجارٌ، ورُمْحي في نظَّارتي أشجانٌ . كنتُ الطريقَ حين اختفتْ ملامحي في الإطار المعدني للبلحِ . هكذا البراكين المتوحشة في ثلاجتي. زميلتي الطبيعة ، هل سيبقى جِلدي محتفظاً بلون خيوله تلك التي تحقنني بطعم الأرضِ المتروكة ؟ .

إنما سطوحُ الماضي معالم حزنٍ على وشك الوصول إلى عالَمي . هذا الآتي من مرساةِ الحمَّى بَحَّارٌ منبوذٌ . فُقِدَ في الحربِ على توهُّجِ الكاوتشوك ، ففسخت محبوبتُه السفينةُ خطبتَها منه ، ومضتْ إلى أعماقِ القولون في داخلي .

زَهْرٌ والبلدُ يُشَرَّحُ. ظلامٌ والكهرباءُ للأغنياءِ . كأنني أقرأ آيةَ الكرسي على قبري . وفي أقبيةِ حرماني بازيلاءُ ليس بوسعها شراءُ صحيفة . أيها الشُّبَّاكُ المثقَّفُ ، يا مَن تدلُّ المخبِرين عليَّ وتبكي عليَّ . سَأَدَعُ لك الحجرةَ ، فَعِشْ فيها ذكورةَ وطواطٍ وأنوثةَ بئر .

نهدُ الدنيا الفولاذيُّ . أُلْصِقُ بنظراتِ الفراغِ كلامَ النارِ ثم أنطفئ كي أُقَلِّلَ فاتورةَ الكهرباء. أكتبُ وَصِيَّتي قبل اغتيالي . وحينما يتقدمُ كريستالُ المنازَلة إلى حَتْفي أنسحب من خَدِّي لأُقاتِل الحطبَ بمسدَّس ماءٍ . مطرٌ في وقتِ الحصاد . عُرسٌ في ميعاد الجنازة . بكاءٌ في أيام الضحك. وسُعالي يستمر . هل سأموت مِن الجوع أم من التُّخمة ؟ .

انتابت النهرَ وعكةٌ صحية ، فَنَقَلْتُه على ظَهْري إلى المستشفى . وكان السَّوطُ يقوم بتأجيرِ جثتي للطوفان. يا شركسيةً تُقاتِلُ مع غيماتِ الشيشان ، أَعطي مدفني حفرةً بين الأشجارِ وزُورِيه ، فأنت المقاتِلةُ الوحيدة التي تعلم أني مِتُّ . وَجْهُكِ نخلةٌ تتسلَّقها عصافيرُ تعيش رقصتها الأخيرةَ . والشيطانُ يحتسي نبيذاً مخلوطاً بحليب أُمِّه ، ويحتكر تجارةَ التَّبغ في خوذته النحاسية ، ويُسَمِّي أفخاذَ عشيقاته ديمقراطيةً .

احتضارُ كوكب يرتفعُ في نواحي قريةٍ هجرتها جباهُ البَطِّ . بحيراتٌ تجفُّ خلفَ ذاكرةِ المكان . وأتت أمسياتُ الخريفِ كي تقول للنسيمِ أسرارَها ، مثلما تعترفُ المحيطاتُ بحزنها المجفَّفِ على السُّفنِ الغارقةِ بين الشعابِ المرجانية .

أيها الشمبانزي ! حاول أن تفهم النظريةَ النسبية . " اشنقوه أولاً ثم دعوه يستنكرْ هذيان الحكومة المهرولة في تموُّجات الباركنسون " . إن إبهامي احتضاراتُ الفَرَاشِ النهائية في صورة الهيدروجين. هو الرَّصاصُ الذي ضَمَّنا : مساحاتٌ من الياسمين المقطوفِ مُبكِّراً. بشرٌ يخطبون المرفأَ في الطرقاتِ العامة على مرأى من لافتاتٍ كتب عليها المأجورون قصائدَ المديحِ للقصر الرمليِّ .

أَتركُ للفجرِ تحليلَ شخصيتي . أشلائي قطنٌ مبلولٌ في جرة ماءٍ على كتفِ فلاحة. احتلَّ أجفانَ مومسٍ شيطانٌ . سحابةُ دمٍ وتمضي، والمغسلةُ تغارُ عليَّ . لأمراءَ يتكاثرون كالجواربِ في توهجات الشتاء، لقحطٍ يطلبُ من البراكين أن تشاركه في كتابة وَصِيَّته ، لجريدةٍ تزرعُ صفحة الوَفَيات في الملحق الرياضيِّ ، لفأسٍ تغمضُ عينيها لكيلا ترى اغتيالاتي ، لنجمةٍ سينمائيةٍ ترجع إلى عارها في الثالثة فجراً ، أُرسِلُ قذائفَ الرفضِ .

وجدت الضفدعةُ بئرَ نفطٍ في زندي، فأحضرتْ شركاتٍ أجنبيةً للتنقيب عن رمشي،ولكنني طردتُها. وأنا الذي لا أتكرر، كأن خَدِّي سُلَّمٌ على أدراج غرناطة يتفجرُ . نبش الغدُ أشعاري المضيئة ، لأن اسمي مُعَمَّمٌ على الحدود .

تتعانقُ أسماءُ النخيلِ في أطوار تكونها في المدافنِ . يشعرُ المتزوجون بالطمأنينةِ في ليلةِ الدُّخلة ، وأشعر بالطمأنينة على ألواح المسلخ في تمارين تشريحي . يريدون تكوين أُسرةٍ للرجوع إليها في نهاية يومٍ شاق وأخاف من إنشاء أُسرةٍ لكيلا أعودَ إليها مقتولاً محمولاً على رؤوس رماح بني أُميَّة. وفي الأمسيات الصيفية يعودُ الناسُ إلى عائلاتهم حاملين بطيخاً ، أما أنا فأعودُ إلى مغارتي القتيلةِ حاملاً جُمجمتي في يدي . يُقَبِّلُ الرجالُ زوجاتهم ، أما أنا فأُقَبِّلُ أشجارَ مجزرتي . ويستحمُّ الزَّوْجان معاً ، وأستحمُّ مع ضجيج محرقتي . ويتغزلُ الأسودُ باللبؤات ، وأنا أتغزلُ بصفائحِ الحديدِ . وينتظرُ المتزوِّجون الجددُ المولودَ الأول ، وأنتظر ميقاتَ شَنْقي . ويُسَمِّي الرجالُ أبناءهم ، وأُسَمِّي صغارَ السمكِ . ويترك الناسُ وراءهم أموالاً ، وأنا أتركُ صدأَ مقصلتي . يقضي الأثرياءُ إجازةَ نهاية الأسبوع في جبال الأنديز ، وتقضي الصحاري إجازتها في نهايات دمعاتي المقيَّدة بملفات الأشغال الشاقة المؤبدة والنشيجِ . تحتفلُ المومساتُ في طوكيو بأعياد ميلادهن ، وأحتفل بصدور حُكْم صَلْبي على أخشابِ زورقِ جَدِّي المنبوذ .

وضعت القلنسوةَ نبتةٌ ، وراحت تحارِبُ أبراجَ العمى . والنَّحلُ يُتاجِرُ بالقلنسواتِ المستعمَلةِ على شبكة الإنترنت . خوذةٌ للنصرِ ، خوذاتٌ ، دروعٌ، تروسٌ . والنخلاتُ تعطسُ على الشرفاتِ الخافتة . الدنيا عجوزٌ شمطاءُ . هل هذه الحشائشُ دولةٌ أم سَلَطَةُ فواكه ؟. دموعُ الشمسِ تراثُ الغزلان . تلقيتُ برقياتِ تهنئة بمناسبة اغتيالي . حُبٌّ ضائعٌ في نفوس شعب ضائعٍ في بلدٍ ضائعٍ .

وكان الإفرنجُ قادةً عسكريين عباقرةَ في أحضان نسائهم . صحيحٌ أن البرقَ أبي والنخلةَ أُمِّي لكني يتيم . غدٌ والألم يُبَدِّل جِلْدَه . لمسَ العدمُ يدَ امرأةٍ بالخطأ في مطار هيثرو ، فأُغميَ عليه . يتساءل كيف سينجبُ أولاداً ، وهو مَلِكُ الفاشلين في الحياةِ الزوجية المتخيَّلة . في تلك الناحية تركتُ عَظْمي يحرسُ عَظْمي، وصَهَلَتْ أبوابي،والبواخرُ تحملُ المهاجرين والحقائبَ الجلدية المصفوفةَ ذكرياتٍ . أكون مُعَطَّراً بالقبور عند تحطم مروحيَّتي ، فلا تُخبري أُمِّي بذلك . رأيتُ شبحَ دولة . انفصامٌ بلوريٌّ في شخصية الدُّلْفِين . يبني طيرُ اللقلقِ عُشَّه على شكلِ وردةٍ ماحية .

سأرحلُ من نزيفي. ماذا سأفعلُ في حقلي الجريحِ ؟. فيه شُنِقَ إمامُ المسجد، ومات أبواي وهما يغرسان الضحكاتِ في جذور التين، وذُبحت امرأةُ الوردِ بسرطان الثدي، وقطتي العمياءُ تسمَّمتْ ، وجرف تُرابي نجمٌ، وقُصِفَت أغصاني بالغاز المسيلِ للدموعِ ، وصُودرت كتاباتي . إني أُهاجِرُ من جُرحي الحاشد . أبوسُ حُزْنِي لئلا يظنَّ أنني حزينٌ . متى طيفكِ الرَّمليُّ يُعْدِمُ صحراءَ اليأسِ المتبرجة ؟ . اجمعي أقسامَ حُزني هذا الغروبَ. أضحت تمزقاتي شامةً لحفرياتٍ في وجهِ البركان . أَوْصَى الوشقُ بإقامةِ مستشفى ولادةٍ للذئابِ المدجَّنة في ضجري . وعلى الغصنِ طَفَتْ باذنجانةٌ تُقلَى بسخونة اللقاء مع المغيبِ .

ما زلتُ أذكرُ التركياتِ وَهُنَّ يُصَلِّين عليَّ صلاةَ الجنازةِ. جلابيبهن بيضاءُ، ووجوههن بيضاءُ ، وأكفاني بيضاء . وحينما كنتُ صغيراً حلمتُ بزوجةٍ أشتري لها حذاءً جديداً من المتاجر الأجنبيةِ ، وحين كبرتُ رأيتُ المتاجر الأجنبية عطشاً قاتِلاً . والبندقيةُ شمسي وزُقاقي . كيف سأتزوَّجُ الآنَ وملايين الحرَّاس الشَّخصيِّين ينامون في رَأْسي ؟! .

غاب السَّجانُ في هستيريا القضبان ، ثم عاد وفي رفقته صديق قديم . اختلاطاتٌ هادرةٌ على ملمسِ مزهرية . أنشودةٌ متفاعلةٌ مع السُّكوتِ . وفي الأعين المقبورةِ قلعةُ الذئب المكتئِب . أُحْضِرَ نحاسُ الذاكرةِ ملفوفاً بالصيحاتِ . للزمانِ زفراتٌ حارقةٌ تَقْلِبُ أوكارَ السنونو . مقصلتي ذاهبةٌ إلى غبار فضيٍّ. صحيحٌ أن وجهي الامتدادُ الجغرافي لموتي ، لكنَّ أحزانَ المراعي تُلقي علبَ البيرة الفارغةَ في فضلات النَّعامات . إن نهايتي سَبَقَتْ بدايتي . أَتَتْني مشنقةٌ وأنا جالسٌ في مكاني .

وَجَدْنا الْحُبَّ ، ولكن أين القلبُ ؟. وَجَدْنا جُثَّتي ، ولكن أين أنا ؟ . عَثَرْنا على الذكريات ، وأَضَعْنا الذاكرةَ . قَمَعْنا الأحلامَ ، وأَطْلَقْنا سَراحَ المخيِّلة . وَجَدْنا الخطوةَ ، وضَيَّعْنا الطريقَ .

يروحُ المتزوِّجون إلى مراكز التسوقِ فيشترون عصيراً لأبنائهم يحملُ صُوَري . هناك صارت مذبحتي ماركةً مُسَجَّلَةً . تشريحي مُلْصَقٌ على ألعابِ الأطفالِ ، وصَلْبِي مقطعٌ قصيرٌ من فيلم سينمائي عن التعاون بين الشعوبِ . إنني أراقبُ صعودَ الأَرْزِ في براميل المرفأ .

أبي ، كنتَ تُريدني أن أُنجبَ أطفالاً أعتني بهم ، لكنهم لم يعطوني الفرصةَ ، باغتوني وانْقَضَّت عليَّ أسلاكُ اليبابِ . ما زلتُ أتحسسُ منزلَنا عند سور المجزرة . والنَّقالاتُ تتوالد في شِراعي كيساً تُعَبَّأُ فيه الجماجمُ المجهولة لأصدقاء لم أتعرَّف على هويتهم . وداعاً أيتها الكاميراتُ الحديثة التي صَوَّرَتْني وأنا أُسْلَخُ . دولةُ الجراح توغَّلتْ في احتضارها . وجعٌ مفتوحٌ على مِصْرَاعَيْه لا تَحْتمله الزَّنابقُ . شعرتُ بِقُرْبِ إعلان وفاة الدَّولة . جَهَّزْتُ لدولةِ الهوس قبراً ، وأخذتُ إجازةً من أخاديد دمي وارتحلتُ .

شهداءُ ، لا تتصلوا بي لأن هاتفي مُراقَبٌ . هذا موعدُ تجمعِ الوزارات في عيون الراقصاتِ لتكوين قوانين الطوارئ . إنها بلاد ما وراء انتحار مارلين مونرو ، هل بِعْناها أم بَاعَتْنا ؟. مراقصُ مفتوحةٌ للمراهِقاتِ . مشانق خمس نجومٍ . محاكم عسكرية للبطيخ الآتي قبل أوانه . حقول الاختناق . إغفاءات للصدى الذي تآمر على الصوتِ . لا يهمهم إن ولدتَ أو مِتَّ . لا يعنيهم إن كنت مُخلصاً أم خائناً . لا يَهمُّهم إن عاشَ الشعب أو انتحرَ . المهم أن تدفع الضرائب ! . والملكةُ فكتوريا تخدمُ في البيوتِ كي تحصل على مصروفها اليومي .

أَحْضَروا للفراشة السجينة طبيباً ، فَشَخَّصَ حالتَها وأوصى بإعدامها ثلاث مراتٍ يومياً، مرة بعد الإفطار ومرة بعد النسيان ومرة بعد التذكر ، وهكذا تطورت المستشفياتُ في ممالكِ اللوزِ الهادئة . وأجبر الخليفةُ ابنَ سينا على تسلم وزارة الصحة . وربحتُ محكمةَ تفتيشٍ في قطعةِ شوكولاتة . العَجاجُ وتسديدُ فواتير الدماء في آخر كل رعشةٍ . منحوني الفوزَ رغماً عني في " مَن سيربحُ المقصلة ؟ " . للبيع مذيعةُ أخبارٍ تنفقُ راتبها على عمليات التجميل . نسوةٌ للتجاعيدِ والزهايمر . تَبَرَّأَ الوطنُ مني ولن أتبرأ منه .

28‏/06‏/2011

عصفورة تبكي اسمها الأرض ( 3 _ 9 )

عصفورة تبكي اسمها الأرض ( 3 _ 9 )
للكاتب / إبراهيم أبو عواد .

كَيْف أبدأ ؟. مِن عَرَقِها أم مِن عَرَقي ؟. كيف أسيرُ ؟ . على حبل مِشنقتي أم على ضريحها ؟. كانت تنشرُ الغسيلَ على كوكب عُطارد . وَقَّعْتُ الأوراقَ اللازمة لإعدام خشبة الإعدام .

خَرَجْتُ من دمائي ، والدُّوار يَصْعقني . تقيَّأتُ على ثياب الرياح . أرى عصيرَ ليمون تَسْبح فيه مذابحُنا. سأرتدي ثيابَ العُرس في طريقي إلى المقصلة . انفجرتُ باكياً .

تزايد معدلُ هطولِ الدمع . وأدخلتُ رأسي تحت المخدة ، غرستُ أظافري فيَّ. أتألم رماداً. نُثِرَتْ أقسامي. اقْتُلِيني قبل أن أقتلكِ . اشربيني مع الماءِ قبل أن يشربكِ مع النبيذ . زوجةُ الفيضان هي القربانُ ، وعروقُ الليل هي المذبحُ . كلماتٌ لا تسمعها تلك المقتولة .

وأتى الصباحُ . عمليةُ إنقاذٍ أخيرةٌ بائت بالفشل . وسيرتي الذاتية_ إن كان لي سيرةٌ _ لن ترحمني. ركبنا السيارةَ . لقاءٌ هو أم فِراقٌ ؟ . فقدتُ القدرةَ على الكلامِ. وتمكَّن الصَّمتُ مِنَّا ، تَجَذَّرَ وأصبحَ راسخاً كمهاجرٍ فقيرٍ استوطنَ في أجنحةِ غُرْبته . دقائقُ مَرَّت أم قرونٌ من الحرقة واللهيب . لم أدمع ساعتئذ ، سافرت الدموعُ . إنه الانكسارُ اللامتوقَّع . عَلَّمَني السَّرابُ كيف أقطع الشارعَ ولكنه لم يُعَلِّمْني كيف أُصادِق شراييني . صوتُ البابِ مسمارٌ . جثوتُ على رُكبتيَّ ، وارتكزتُ على الأرضِ بباطنِ كَفِّي. لونُ الخشبِ المطعَّمِ بالصدفِ ألغى ألواني . نظرتُ إلى البجعة وبَيْننا أُلوفُ السدود . خِفْتُ الذهابَ إليها . خفتُ أن ترى عيوني . مُتكوِّمةٌ على نَفْسها . لا تجدْ حَوْلها إلا ثياباً مُقطَّعةً . تَسترُ جَسَدَها بجسدها. ليت الأرضَ ابتلعتْ دموعي . ليت أمي لم تَلِدْ رمالَ البحر . لا طيورٌ تشاركني انتحاري ولا صدى يتداولُ صرختي في السوقِ السوداء . غسيلُ أموالٍ أم غسيلُ أعضاء هؤلاء الأحلام ؟ . رائعٌ توقيعكَ على شهادة وفاتي .

قامت وقد ظننتُ أنها ستأتي تعاتبني ، تلكَ القطةُ المصلوبة على زجاج السيارات . كانت منتصبةً . أجالتْ بصرَها في المكان. وتوجَّهتْ صَوْبَ النافذة العريضة بخطواتٍ قاسية . فكرتُ حينئذٍ أنها ستتنفس الهواءَ ، ولكنها ألقتْ بنفسها من النافذة . جحظت عينايَ ، واحتلني الوجوم . ثم ضحكتُ . لا بد أنني ضحكتُ على نحو هستيري . ونهضتُ أرقص . أحضرتُ ما تبقى من ملابسها ، وغطيتُ بها وجهي . وبدأتُ أرقص أرقص أرقص إلى أن سقطتُ على السجاد . قَتلتُ نَفْسي التي نَالتْ أوسمةَ الهراء .

قاتلٌ وجهي الدُّخاني . إنه الخراب في المحاصيلِ الهالكة . وانقطع عن نبضي كهرباءُ الشتاءِ . سأعملُ لا لأنسى بل لأتذكرَ ما ردَّدته الذُّباباتُ في حجراتِ الماضي . زعم الحبُّ أنني جاسوسٌ للعاصفةِ أنقل أخبارَ الرمد إلى الشلالات . وبينما كانوا يستعملون " بينما " أحسستُ بلغتي تنساني في مأتم .

مِن الظلام والأمطارِ العاريةِ يَفِرُّ فَراري . يومَ عَصفتْ في حواجبي الجهاتُ ، وسال جبيني باروداً . وُلدتُ قبلَ شنقِ جارِنا البريء . هكذا هي شجراتي العاصفاتُ ، أغنيةً لأطفال تقمَّصت الألغامُ أطرافَهم .

على المسرحِ يمارسُ الضبابُ هوايته في التمثيل. شمسٌ تُفسِحُ لي في حُضْنِها بُقعةً لنهايةِ سِحنتي. أَرْبِطُ جذعَ الأقحوانةِ بأراجيحِ السراب . وإنْ ساقَ الطاعونُ بَعْضي إلى الهاويةِ لَغَّمَتْنِي القممُ العابرةُ . فلتكونوا نوافذَ للغد ، ارْحَموا الأطفالَ الذين يَزْرعون في قَزَحِيَّاتهم الأسمدةَ الكيماوية .

إذا شاءَ المنفى أن يصبحَ عالِماً في العناصرِ المشعة ، فعليه أن يتوقع الإصابة بالسرطان . انظري أوتادَ مأساتي إلى صفحاتِ أقلامي بالخط العريضِ " المنفى يُصابُ بالسرطان " . خبرُ الموسمِ . نحن نتشرد وغيرنا يحقق سبقاً صحفياً . أين سنأوي في عالَمٍ يَسْلخنا ويبيع جِلْدَنا للسَّائحات ؟ .

وشاحُ غيمةٍ على كَتِف البارود . وتحرَّكت الخلجانُ في طوابيرِ التلاميذ عندما سمعتْ قرعَ الجرسِ . الحِصَّةُ الأولى بَدأتْ . ماذا سَيُعلِّمون البعوضَ في حلبات مصارعة الدِّيكة ؟ . يَعْزِفني كُلُّ مَن يراني . في تلك البلدةِ ، وأباريقُ الفخارِ على عيونِ الثيرانِ . ما الفرقُ بين البقرةِ والجاموسةِ ؟. سؤالٌ هامشي مثل أجساد الفقراء .

لِنُغيِّرْ صيغةَ الحقول . ما الفرقُ بين المنفى الذي وُلِدَتْ فيه العُقبانُ والمنفى الذي مَاتتْ فيه ؟ . تَنْبتُ أجوبةُ الصَّدى على آثارِ السِّياطِ على بَطْني . مُناقشاتٌ في برلمان النعاس حول رفاهية المواطن الذي لا يعرفُ أنه مواطن ! .

واستسلمَ صوتُه للفضاء . إن انتحارَها عُودُ مِشنقةٍ يتزوَّج عُودَ ثِقابٍ. القُربانُ في جسد الشَّفق . قارةٌ من النزيف المتواصل . ماتت لِتُولَدَ الثائراتُ ، لكي نُشَيِّدَ مصنعاً من جماجمنا يقوم بإنتاج حبال المشانق الملتفة على أعناقِ القاتلين . وجدتُ جُثَّتها تنمو عليها الفِطْرياتُ . غَطَّيْتُ ذاكرةَ الصحراء بالنُّعوش .

تناثر الجنودُ باعةً مُتَجوِّلين في وقت إغلاقِ سوقِ النخاسة . نملةٌ تُدَرِّسُ ابنتها لغةَ الضباب . قَرَّرْتُ حَفْرَ القبر بأظافري . حفرتُ قبراً عميقاً وأدخلتُها فيه ، وحثوتُ عليها الترابَ الممزوج بالفراشات الميتة نتيجةَ الجوع . باسمِ الشعب أُعلن موتَ الشعب ! . أيها الثوار من أجل تحرير السَّردين من مجرات الرعشة ، أَنعي إليكم وطناً تناثر في ضباب النوافذ المكسورة . باسمِ الشعب الميت في صحاري المحيط الهادي .

خَوْفُ الكُمَّثرى أحدُ القضاةِ يُصدِرُ قوانينَ صَهْري بالمياه الجرداءِ المنحصرة في بيوت الرُّفاتِ ، ثم يذهبُ وينام مع زوجته . إنني عندما أرى ناساً لا يستحقون أن أُسمعَهم أشعاري فإنني أُسمعها لسلاسل الجبال. كان السَّيافُ يحاولُ إنهاءَ وجبة حَقْني بالدخان المجنون بسرعة ، لأن زوجته تنتظره على الغداء . قد عَلَّمَني حبلُ مِشنقتي شُربَ الشاي بالسَّبانخ .

الموناليزا هذيانُ انفعالاتٍ جنسيةٍ مُهَيِّجة على حديد الصدأ في برج إيفل . أعلامُ القراصنة ممسحةٌ على بابِ كهفي ، تدوسها أقدامُ ابنةِ عَمِّي وهي تدخلُ مع أهلها ليُلقوا النظرةَ الأخيرة على جثماني . لعبُ كرةِ القدمِ مع أطفالِ سراييفو أحب إلي من التزلج في جبال الألبِ . ومساعدةُ الطفلاتِ الشركسياتِ في قطفِ الزهورِ أحب إلي من التنزه في هاواي مع العاريات . والصهيلُ في المعاركِ أحب إلي من رنين خلخالِ امرأة .

وهكذا أَسْكَنوني السجنَ ، لأني ما كتبتُ الشِّعْر تحت شُرفاتِ العاهراتِ ، لأني ما قَدَّمتُ قصائدي لبغايا بني إسرائيل ، لأني لم أُصاحِب فتياتِ اليهودِ الثرياتِ في مكاتب الشركات في نيويورك ، لأني رفضتُ دعوةَ الوزيرة إلى سريرها في شقتها في مانهاتن . لأني ما كتبتُ رسائلَ الغرامِ للملكةِ فكتوريا . لأني لم أسجد لصنمٍ حجري أو بشري ، لأني لم أخن وطني وشعبي، لأني لم أُنَسِّق صفقاتِ الرقيق الأبيضِ في البيت الأبيض ، لأني لم أُهَرِّبْ أفخاذَ المراهقات في حقيبة الأزرار النووية ، لأن عَيْني خَطَّت بيانَ الثورة ، لأني ما صَوَّرْتُ المرقصَ على طوابع البريدِ ، لأني فضحتُ الكهنةَ وهم يتحرشون جنسياً بالراهباتِ ، لأني لم أبع سائلي المنويَّ في زُجاجاتِ الكُنْياك .

للجسدِ بصمةٌ مثل الإبهام تشقُّ الغَمامَ والطريقَ الصاعد . العودةُ إلى جسدِ السجين . عدتُ من نفس الطريقِ التي سرتُ فيه . لم يتغير شيءٌ سوى أن الشمسَ تحرَّكت . خُروجي مأساةٌ تُلهِمُ الروائيين . خارجَ القضبانِ نكأت الحنطةُ جراحاتي .

هناكَ سجنٌ أكبرُ في الخارجِ . قضبانٌ أكثر، وفرحٌ أقل. شَرَدْتُ من الأَسرِ إلى الأَسرِ . صَعدتُ من القيدِ كارهاً ، وعُدتُ مُشتاقاً لعُزْلةٍ تستثمرُ أعضائي . ليت حُبِّي للبحرِ يرجمني بالقطن كي يُطَهِّرَ غضاريفي من الدودِ والاكتئابِ .

سَيْفي مرهونٌ عند المجرَّة . لن يُباعَ في المزاد العلني . بِيعوا جِلدي وفُكُّوا الرَّهنَ. فأبي عاملُ منجمٍ في مجرةِ درب التبانة، وجَدِّي سائقُ شاحناتٍ على خط الأرضِ القمر . أرى قوةَ الأحلام في إبادة الوهم . حطامٌ للبناءِ ، سأصهرُ مِشْطَ الريحِ في حوضِ أسماكٍ . يا قيوداً تُفَرِّخُ نباتاتٍ مُقَاوِمَةً في حُلُوقِ الصاعقةِ . ها أنا أتقدمُ في المساء الخالي من حُلْمي شريداً معه مخيَّماتٌ . أنا لا المسرحيةُ لا المسرحُ لا الممثِّلُ لا المخرِجُ لا القاعة لا السِّجادةُ الحمراء في المطار . يا مجرَّةً مقتولةً على مِعصمِ الكَوْن . بَيْننا أنشودةٌ قصيرةٌ عن بناتٍ ذَهَبْنَ إلى الموتِ . وعَرباتُ نقلِ المحكومين بالإعدام تغرقُ في الحبوب المنوِّمة .

إنَّنا رَكَضْنا في القبوِ أجساماً مثقوبةً ، وسيجذبُ غموضُ الفضةِ فراشاتي ، وأظل وحيداً كما بدأتُ دراستي في مغاراتِ المستقبلِ . إن طريقي لا يتسعُ إلا لأهدابي . ستنادي عليَّ مُعَلِّمتي : (( عُدْ أيها الولدُ اليتيمُ فنحن نُحِبُّكَ )) . ينحرفَ قطاري عن السِّكة يوماً ، وربما أَصِلُ إلى عَبَراتٍ في خريرِ الملحِ أو شجرة سجينةٍ في قلعة . وسأبقى تحتَ المطر .

تحشدُ الصفحاتُ البيضاءُ سطورَها في دَرْبي . لن أستلمَ بطاقةَ دعوةٍ إلى عُرْسِ جارنا. والآباءُ قلقون في ردهات المستشفى . يلتصقون بأبوابِ غرف الولادةِ . طفلٌ جديدٌ يسيرُ نحو المجزرة الجديدة . وأنا أُفتِّش عن ذكرياتي : (( كَم مرةً قُتِلْتُ في حياتي ؟ )) . لكنَّ الغَمامَ لا يَهُمُّه هذا السؤالُ . لو أُمِّي حَيَّةٌ لاهْتَمَّتْ بالإجابة . سأتركُ الإجابة للقاضي المعيَّن من قبل أعدائي . كأن ارتعاشاتي هرولةُ صخراتٍ في ريشِ المكانِ، وها هي الكواكبُ تشقُّني بمنشارِ الجنونِ. أَحزمُ حقائبَ نباتات الزِّينة . لكن رصيدي في بنك الجثثِ لا يكفي لشراء حقيبة. إذن سأحزمُ كومةَ ورودٍ، أضعُ فيها طواحين الهواءِ لأتنفسَ إن قُطعت الكهرباءُ عن أَوردتي . سأمنحُ ضريحي حَقَّ كتابةِ سيرتي الذاتيةِ أثناءَ تَحَوُّلي إلى جثةٍ مشهورةٍ .

ما رائحةُ حطب فراق الحافر لضجر الحصان ؟ . إن عَرَقي المصيدةُ والطُّعْمُ لحيتانٍ لم تُولَد . يشقُّ الغَسقُ طريقَه في تفَّاحاتي مَنْفياً مطارَداً . هناك ، حيث وُلدتُ وأضحكني بكاؤهم، وهناك حيث مِتُّ وأبكاني فرحُ السهولِ . مُذْ جئتُ إلى الأرضِ وأنا أبكي وأبكي ثم أبكي وأحكي ما جرى للحُلْم فوقَ الشهقاتِ. آهاتي كُسِرَتْ حين سمعتُ الصباحَ يقول للدمعةِ : (( أنت طالِقٌ ! )). للنعوشِ دَقَّاتٌ . وأولئكَ المشنوقون أبناءُ الغدِ . مهما يَكُن مِن نَعْشٍ ، فالعشبةُ العاشقةُ تُعانِقُ بُؤْسي على ستائرَ معدنيةٍ . الشرارةُ الأولى نحو حائط المقبرةِ في الشارعِ العامِ .

كان هناك بنتٌ متأخرةٌ عن المدرسةِ. هي أندلسيةٌ من مدينةٍ لم يصمد فيها سوى المساجد. عروسٌ شهيدةٌ ظَلَّ وجهها في فضاءِ غروزني رايةً. حَضَنَتْني ذكرياتٌ. اشتبكتُ مع أوردتي. صدري يعج بالشهداءِ ، بدمائهم التي غسلت بواباتِ التاريخِ، بنظراتهم وهي تناقشُ مسألة اقتحامِ وجهي لبابِ الحِصْن .

عنفُ الألوانِ في منديلِ مزرعةٍ قتيلةٍ . أقيسُ منسوبَ دمي في سُدودِ بلادي بحنجرةِ بجعةٍ تموتُ بين غَدِها ولُغتها . لا زوجةٌ تُغَسِّلُنِي إنْ مِتُّ ، ولا إمامُ مسجدٍ يُصَلِّي عليَّ ، فالأئمةُ معتقَلون في قلاعِ النبلاء .

تقرعُ بناتُ آوى أبوابَ انبعاثي . تَوَّجَ الرمادُ الكونتيسةَ الثريةَ تاجَ العذاب في احتفال مُقْتَبَسٍ من انتهاء ثمود . الوطنُ ليس عُلبةَ مكياجٍ لعشيقةِ الكاردينالِ ، وإنما قلبٌ يتفجرُ زيتوناً وتِيناً . وَوَصِيَّتي تكتبني بماءِ النَّخيل ، وستنشرها دارُ نشرٍ في كوكبِ المريخ ، لعل النيازكَ تَطَّلع عليها إذا سَارتْ في طريقِ جُرحي ، لعلَّ غُصوني تُلغي حَظْرَ التجولِ في وريدي . اختلفتْ أشكالُ رَبَطات العُنُقِ لكنَّ المجرِمَ واحدٌ . مضيتُ إلى زنزانتي ، ووصلتُ إليها . المكانُ هادئٌ . ما زال القفصُ المفتوح على وريدي يُعذِّبني بأشكالِ العصافيرِ المهروسةِ . مملكةُ الضَّحايا . أَصبحتُ واثقاً زفيري . صار للضحايا فمٌ ومجرى تنفسٍ يحرقون فيه ضبابَ الجريمة . رائحةُ الخشبِ الزمرديةُ ، والموكيتُ الجديد . كلُّها ترافقني عندما يَنْسِفني طيرُ المأساةِ .

يا مَلِكَ الأغبرةِ ! . الدنيا سجنٌ أكثرُ قذارةً . اختاروا لي أحكاماً مؤبدةً تستحقني . إِنكم إن تُفرِجوا عَنِّي تَصْلبوني . البقاءُ في سجنٍ صغيرٍ أفضلُ من البقاءِ في سجنٍ كبيرٍ. لا أحترم الدودَ ولا أنتمي إلى قمصان أحكام الطوارئ. لستُ أُؤْمن بالقضاة الذين يُعيِّنهم ضُبَّاطُ المخابرات في خط الاستواء . هُمْ غربالٌ متكررٌ غير مثقوب يَسْلخُ أباريقَ الوباء .

وُلِدْتُ بَيْنكم لكني أَسْمعُ الأنينَ الأنثوي في شوارع القمر . قُرصُ الشمسِ طردَ الخلفاءَ من شبابيك قصورهم لأنهم صاروا زَبَداً . والدلافينُ تقود المظاهَراتِ في قيعان المحيطات. وطُيوري تُنَظِّم العصيانَ المدني على أسلاكِ الكهرباء . وصديقي الأعمى مُتَّهم بخطفِ الطائرات . والأطفالُ الرُّضَّعُ يُخطِّطون لقلب نظام الحكم . فيا ضوءَ الشموعِ ، مَشْهداً مَنْسِيَّاً أُسَمِّيكَ ، وقاتلاً مأجوراً تُسَمِّينِي.

طُرِدَ البركانُ من مَنْصبه ، وتقاعدت الأدغالُ . حزينٌ أنا لأن الزلازل ماتتْ في سُعالي . استقالت الشوارعُ . سافرَ النهرُ إلى الخارج لإكمالِ دراسته . نوارسُ الجرحِ تعاني البطالةَ .

إِسطبلاتٌ في قاموسِ الينابيع، ومصانعُ لإعادةِ تكريرِ الدَّمع الفائضِ عن دَمْعه. سأتركُ أعصابَ الشَّفق تستريحُ في بطيخةِ الذاكرة . أَغلقَ النهارُ ذاكرته بمفاتيح الشجيراتِ . يَعْصِرني النعاسُ المتشظي . صَرَعَتْني لذةُ الأقمارِ فانسحبتُ من شحمي إلى الحرية . والحجَرُ طبيبٌ نفسانِيٌّ لمن يملكون أجرةَ العلاج . أما نحن _ وأتحدثُ في هذا الفضاءِ باسمِ الينابيعِ والجبال والنَّعنع _ فلا نملك أجرة الطبيبِ والدواءِ. لم يَستفد اليَنبوعُ من خريطة الجينات الوراثيةِ التي اكتشفها الأغنياءُ .

دَعِي عَنْكِ القلقَ يا سنابكَ خيلِ أجدادي ، فنحنُ نعتني بأجسامنا في إسطبلاتِ الخليفةِ حيث فرضَ الجليدُ علينا الإقامةَ الجبريةَ . يخجلُ الظلامُ من الأزهار، والحديقةُ في طريقها إلى الدمار. وَحْدَنا، كُنَّا نحكي قصصَ مشانقنا للهدهدِ قبل نَوْمه . أخافُ أن يأتيَ يومٌ تصيرُ فيه مشانقُنا ورقاً أبيضَ تُلَفُّ به الفطائرُ ، أو رسوماً متحركةً على عُلَبِ حليبٍ تشتريها الأمهاتُ غيرُ المرضِعاتِ من المتاجرِ الأجنبيةِ .

وطنٌ تحت رمل المحيطات بحجمِ عودِ الكبريتِ لا يَحْضنُ إلا قاتلينا . أعيشُ في ملعقةِ الصهيلِ نقاءَ العاصفةِ في لحظةِ ميلادها . جهازُ الكمبيوترِ مأتَمٌ ، والشظايا بيتُ عزاء . غاصت المياهُ الجوفية في شالِ الحِدَادِ. ما زالت ثيابُ زوجتي الميتةِ تُحْرَقُ بالمطرِ. متى تخرج الأوحالُ الباكيةُ من أجندةِ الصَّاعقةِ ؟ .

شعبٌ للبيعِ في وحدة العناية المركَّزة في البلاد التي ترفع انتحارها إكليلَ غارٍ . قَرَأْنا ظِلَّنا بلغةٍ تطيرُ بنا فوق الحدودِ تَصْرعنا وتَقْبرنا . غباءُ الطوبِ يُرَاوِغُ نخلةً عزباء في وجه السماء . لماذا يُمَجِّدون القرصانَ في تلك البلداتِ المدمَّرة ؟ . الاعترافُ الأخيرُ والشرايينُ المغلَقة ، ومرضى السُّكري يقومون بمحاولةٍ أخيرةٍ لحقنِ القرميدِ بالضحك المرير . الكرةُ الأرضيةُ تُدافع عن حقوقِ الشموس المبحرة فِيَّ ، والرصيفُ روائيٌّ فاشل .

كأنني رَضِعْتُ من نهودِ المنافي . عائداً من كارثةٍ يوميةٍ في شَفَتيَّ صادقتُ القبطانَ قبيلَ غرقه في جُزُرِ الإنفلونزا . للمرساةِ المتقاعدةِ تنظيمٌ سِري يَنبعُ من انفجاري ، ويصب في حبَّاتِ الغِناء . أصارعُ سطوةَ الرمال في انتحاراتِ الفؤوسِ . سوف تَهُزُّ البوصلةُ الأثريةُ ضوضاءَ الخِرَافِ في مراعي الخيبةِ ، وكلُّ البوصلات تشيرُ إلى صَلْبِي .

اصْبِرْ نشيداً حُرَّاً كالأحجارِ الكريمةِ لأنهم لن يستطيعوا رسمَ قلبي على الرخام . فوجهي زالَ والرياحُ والطوفانُ. أمعاءُ الهزيمة سلةُ قُمامةٍ، ينتعلُ الغرورُ اشتعالَ إشارات المرور. إخوتي لصوصٌ . إن تم اغتيالي فلا تندهشي يا مساءاتِ الينبوعِ ، فحياتي نظرياتُ كيمياء في لُعابِ سمك القِرْش .

يا أيها النملُ الداعمُ لجهودِ السلامِ في عَظْمي . مَن أنتَ في الليالي الأسيرات ؟ . دَرِّسْنِي علمَ الاقتصادِ وكيف أمتص ماءً بلون نزيفي في الجرةِ المهشَّمة. قبري وطني المؤقَّت راحلٌ إليه ، وكتاباتي ستعيد ذكراي ترفرفُ على ثوب الصقورِ الجاف . لَمْلِمي نقوشَ الحِنَّاءِ في قاموس الصَّحاري . فلتكسِرْ أرقامَ السُّهوب ومَرْكباتِ أميرةِ النِّفاياتِ . روائحُ القُمامةِ تتسلقُ شُرفاتِ العار .

في مقهىً لجباةِ الضرائبِ ، تجلسُ النسوةُ على صورِ الزعيمِ يَنْطَفِئْنَ في دُخانِ السيجارِ ، والتبغِ المصنوعِ من مخيماتِ النازحين إلى مَقْتلي. كُنَّ يَتَوَحَّشْنَ بروجاً من القسوةِ والعقيقِ المزوَّرِ. والديوكُ المشرَّدةُ تَوارَتْ في سُرَّتي. نحن نقطنُ في بكائي المحتل . يكاد جفافُ صرخاتِ الوِحْدَةِ يقتلعني من نخاع عَظْمي لأن المجاعاتِ فَرَّت إلى خياناتِ الرصيفِ .

أنهارُ ثم أنهضُ من احتراقاتِ النبات الصحراوي. كُلُّ غارٍ منفاي، وكل دمعةٍ زُوَّادةٌ للأمواج المقبلة مِن الضَّحية . وأنا ضَحِيَّةُ نَفْسي . هل سيغدو شَعْرُ إبطيَّ عُشباً لملاعب كرة القدم ؟ .

يداكَ أيها الشتاتُ تعطفان عليَّ ، تَسْقطان ضَمَّادةً على جبهتي المفتوحة . مندهشةٌ فَرَسي ، ولا فرسٌ لي . السَّفر يعني نهايةَ اغتراب الزبرجد على توهُّجات نجمةٍ . ليت رسوماتي عُشٌّ للمذنَّباتِ المحتاجة إلى شُقَّةِ الزوجية . أُقَبِّلُ روعةَ المئذنة . في تقاطعات خيوط كفي أمطارٌ تُكْسَرُ ، وعلى ظَهْري دبابيسُ الطرقات. أكتبُ أحترقُ أشتعلُ أذبلُ أفنى أموتُ. تتلاشى أجملُ العواصفِ دون أن تخطبني أيٌّ منها . وأولادُ الحارةِ ينسجون من شراييني كرةَ سلة .

أَينَ تَمُتْ أَكْتُبْ . صديقان قَبَّلا الحمَامَ الزَّاجلَ وماتا كما يموتُ الموظفون العاديون في طوابيرِ انتظارِ الرواتب. سُقوطي مخطوطةٌ تُحقِّقها ملحمةُ الصواعقِ بدون إِذْني . تَذْكرين كَفَني ؟. بدا وكأنه لا يعرفني . تذكرين كفنكِ ؟ . بدا وكأنه كفني . نحن مَيِّتان ، فشكراً لحكومتنا ! . بَلَدي كُرَّاسةٌ تخطُّ فيها الأعاصيرُ مَرْثيةً لروحي . كَم بَدَتْ قَرْنِيَّتي وقوداً للزوابع ! . يا هذا العالَم اسْمَعْ تدحرجَ أشلائي على شاشةِ مروحيةٍ . صياحُ حيطاني يُعجِبُ الآخرين . كُرْسِيُّ الهضبةِ المتحركُ يستهزئ بعُروقي . تكتئبُ عصفورةٌ مخنوقةٌ بين درجات سُلَّمِ الاحتضار .

أُمِّي ، إنهم يُقَدِّمون كَبِدي في ليلةِ الدُّخْلَةِ للشجرِ المتزوِّجِ ، في صحونٍ مع التوابلِ الشهية . حزنتُ عندما أُصيبَ الزورقُ بالعجزِ الجنسي . النساءُ المطلَّقاتُ ، والمتزوِّجاتُ من الصَّدى ، والمولودُ الأول ، والضائعاتُ . وبائعةُ التُّرمسِ في بداية الليلِ والبَرْدِ ، إلى جانبها نارٌ صغيرةٌ تَحرق ذكرياتِ الغيوم .

لا يَهُمُّ إحضارُ هدايا في ذكرى وفاتي ، فميناءُ رعشتي الخرابِ رثاءٌ للحُلْمِ الضائعِ . دائماً يتصرفُ بلوطُ الغرباء بصورةٍ مخلةٍ بالآدابِ العامة في خِزانتي . لكنَّ الجبلَ المنزوي تَغَيَّرَ مُذْ سَكَنَتْه صدمةٌ عصبيةٌ لأن رملَه المائي خَانَه . والمفاجأةُ السارةُ أن العطرَ راح يُنَظِّمُ فتراتِ الحملِ لامرأته !.

27‏/06‏/2011

عصفورة تبكي اسمها الأرض ( 2 _ 9 )

عصفورة تبكي اسمها الأرض ( 2_ 9)
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد .

لستُ أعلم هل تجري السُّلطاتُ القاتمة فحصاً حول القدرات العقلية لموظفيها قبل استخدامهم كمرتزقة . من أين أتوا بهؤلاءِ ؟ . عَبَّدُوا حقولَ الجنون ، وماتت خطواتهم على نحاسياتِ الهلوسةِ وفسيفساءِ الأتربة . عانَقوا شقاءهم وعاشوا في موتهم باردين كرفاتِ نخلةٍ قديمة . لم يظهر ورثةٌ ، فقالوا : لتكن التَّرِكة في جَيْب السُّلطانِ ! .

هنا . وفي انهيارات الجليد الحار ، وفي دنيا الحديد المطلي بالقضبان ، وادٍ بحجم قبضتي، ورجلٌ بحجم قارة ، وأطلال حجرةٍ أصغر من حبل الغسيل . ومعك عصافيرُ للفضاءِ . قَرَّرتُ أن أفتح القفصَ رأفة بالعصافير التي لا تقبل قبيلتُها الرَّاحلةُ أن تظل في سِجْنَيْن . مددتُ يدي إلى فتحة القفص ، واستولى وجومٌ مَشوبٌ بالأسوار على أكتاف العصافير، وكأنها تنتظر لحظة انطلاقها من الأَسْر إلى نصف الحرية . فُتحَ القفص، وليس بوسعي أن أتذكر مَن فتح القفصَ ، أنا أم العبير المتواطئ مع الحائط . اندفعتُ كرضيعٍ أنهى حصة الفيزياء النووية للتو . ولكن يا مسكينة ، أين تذهبين في هذا المكان اللامكان ؟ . نامي على نَوْمكِ حتى نتناقش ماذا سنفعلُ بشأن الانقلابِ على هذيانِ الأقفاصِ .

نَعست العصافيرُ وَوَقَعَتْ في نومٍ سريعٍ يشبه النومَ غير السَّريع . فقلتُ في نفسي الآن آخذ غفوةً لأستعيد نشاطي كمحارِبٍ في زمن اتفاقياتِ السلام بين السِّكين واللحم . استلقى جسمي ثم تبعتُه بعد مدة قصيرةٍ قَدَّرْتُهَا بأربعِ سنواتٍ ضوئيةٍ .

رأيتُ عصفوراً صغيراً يلبس نظاراتٍ طبية جالساً أمامي . ولكنَّ الدنيا حُلم سرعان ما يتبخرُ وينقضي . مستقبلُنا المقبرة ، ونمشي إلى قبورِنا كما مشى آباؤنا إلى قبورهم . قُتِلَ البحرُ رمياً بحقول الرصاص .

كيف تُطوِّر السجونَ لتصبحَ أكثر ضيقاً ليرتاح السجناء من عمليات التنظيف الشاقة !. انتخاباتُ الإجاص مسرحيةٌ . جاء الحزنُ العُشبيُّ قبل قدومِ الرَّبيعِ، وقبلَ أن تضع سلحفاةُ الحديقةِ بيوضها في جوفِ الشطآنِ المخملية . دُميةٌ مدفونةٌ في قيعانِ الجريمة . وبينما كان الطاووسُ يُصارعُ الأرقَ الليلي الموسمي كان البحرُ يستحم في برتقالةٍ مسرعةٍ لإطفاءِ حرائقِ الغاباتِ القلقةِ. هضبةُ الأحزانِ في سراويلِ غُبارٍ على بَشَرَتي .

قال الزبدُ : (( خدعتُ الآخرين لكي يُخلِصوا لي. أن أشتريَ ولاءهم. كانت ولادةُ المزهريات قبل مَوْتي ، ولكنني أشعر كما لو كنتُ ميتاً . ارتكبتُ الفرحَ وأنا أَسْخر من أنين المرضى الذين غَسَلوا بواباتِ قصري بِعَرَقهم . وجوههم تلاحقني في كل شظيةٍ زرعتُها في صدرِ طفلٍ أو في ضحكةِ زورقٍ على غلاف كتابِ النِّسيان . لم أر ضوءَ القمر ، بل أحسستُ به فشعرتُ بأهميةِ الضياء كي يوقف نمو القضبانِ في رُكَبِ السُّجناء . أيتها الأغوارُ النائمةُ في سهر مرضى الرُّعاشِ، ارجعي إلى رمالكِ عند منبعِ غضبِ الفيافي. أيتها الإشراقاتُ الرمليةُ في حَرِّ العنب الصحراوي ابكي على كتفِ الريحِ ، واتركيني مُسافراً في ذكرياتي ، صاعداً إلى تعرجاتِ عيونِ الماءِ في القرى المنكوبةِ. أريدُ أن أبكيَ فغادِري قفازاتي يا أشياءَ الرُّكام ، ولا تبعثي لي الرسائل المزخرفة كالوجوه الخرساء )) .

مذكراتُ الصَّفيحِ تذرفُ الندى على هدير السُّيول . أحسستُ بدموعي تستقبلني فاتحةً ذراعيها لأيتامِ الريح وزهورِ بلدتي . شعرتُ بالوحدةِ في تجمعاتِ الألمِ المحتشدة على جحورِ الحسراتِ. وتذكرتُ القائدَ الفاتحَ الذي فَرَّ من المعركة إلى أحضان زوجته ، ومات في ثيابها ، ومع هذا قالوا إنه شهيدٌ دافع عن الوطن ! .

وأتت الأعشابُ المبحوحة لكي تمشيَ أجنحةُ البُحورِ على نظرات الرُّبَّانِ. فأراضي الهديلُ ندى يُحْتَضَر فامشي يا وحشةَ السفن المريضةِ بالزُّكامِ واعبري ليلاً جاء أو رَحَل . كن يا خُنصري ثائراً كَوِسَادَةٍ من جلودِ خيل الرُّومِ . من ريشِ النسورِ التي قامرتْ بأعشاشها تدفقت آلامُ بِذْرةٍ .

في الصُّبح ، والصبح ينتشرُ رصاصاً وموانئ عسكريةً ، تُمَزِّقُ الأرصفةُ سُباتها فتبدأ رحلةُ الجرجيرِ إلى موائد من خشبِ السفنِ المنكوبةِ . أين البطيخُ الساهرُ على قشوره ؟ . أين الكهرمانُ المستخرَجُ من سكينٍ تنهشني ؟ .

لم يعد في البحيرةِ سوى البحيرةِ ، والبحرُ يموت. وأنا الميتُ الذي سيموتُ . سأدفنُ النعاماتِ القتيلة ثم أُدمِّر أكواخَها الخاليةَ لآخذ أخشابها حطباً لمدفأةٍ حَوْلها عصافيرُ الثورة . نُعُوشٌ تطوفُ في المدينة . وأهدابي جمجمةٌ تطوفُ على الشبابيك التي ترفضني . اشتريتُ قماشَ كفني فلتبتعد الفراشةُ عن جنازتي . ولتبتعد النِّعاجُ عن سور المقبرةِ . مئذنةُ مسجدٍ في حَيْفا تُنيرُ طريقي إلى الإسكندرية .

لكي أنالَ ثقةَ البقدونسِ لا بد أن أُطَهِّرَ أرضَ الشموس من وقاحةِ الأباطرةِ . لكي تحترمَني الأدغالُ لا بد أن أفتحها للثوارِ . لكي يُعطيَني النهرُ مصروفي اليوميَّ لا بد أن أُخزِّن شهيقي في براميل البارود .

قصيدةٌ هي تاريخُ زوجاتِ المطر . كتابةُ القصيدةِ موتٌ متتابعٌ لكي تُولَد الشَّمسُ . أرغفةُ الخبزِ الأسمرِ أَضُمُّها إلى صدري لأشعر بالدفء بعد موتِ صدرِ الزَّهرةِ . أكفانٌ لا تحمل أي لقبٍ. أنتَ النبعُ يا مَن تمسكُ مُسدَّساً وتُصَوِّبه إلى الغَازِي . يا والدَ السمكةِ لا تُطَلِّقْ أُمها . تحاورا ، ولتكن بينكما محادثاتٌ في بئرٍ نائيةٍ . تَذَكَّرا أيامكما الحميمةَ في أناشيد أسماك القِرْش . كُونا يداً واحدةً كالأرصفةِ غير القذرةِ .

عندما حَزِنَ الصيفُ على مقتلِ ابنه اندفعت قوافلُ اليمامِ في البلادِ التي تَرْأسها الديدانُ. اندفعتْ تُحرِّض النمورَ القاطنة في انطفاءاتِ الأحلامِ على الثورةِ . فصارت الضحيةُ مُطَارَدَةً والقاتلُ أباً روحياً للمخبِرين . يا رمالَ المحيطاتِ المصبوغة بإنفلونزا الطيور. حاولتُ أن أنقذكِ ولكني مُمَدَّدٌ على المقصلةِ ومُوَزَّعٌ على الهضابِ. فكيف أُساعدكِ وجسمي تنهشه آلافُ السكاكين والأحزانُ المصنوعة محلياً .

أعلمُ أيها الوطن أنك لن تنقذني ، لكني سأحاولُ إنقاذكَ . وطني يا أجملَ المقاصل وأحلى ذكريات الإعدام . ترجع البناتُ من المدارس فوق فوهة المجازر ، ويعود الموظفون من مساءاتِ الانتحار، وأعودُ من دموع جَدَّتي في المخيَّم المشرحة . تتزَيَّن لي أحطابُ المرفأ المتروك للبلح الميت ، ولا امرأةٌ تتزَيَّن لزوجها القتيلِ . مَصْلوبٌ أنا على إشارات المرور ، والدمارُ يَغْسل مِشْطيَ المهجورَ في كوليرا الرَّصاصة .

شرعتُ أحفر أرضَ الزنزانة والعصافيرُ تساعدني. أن تحفر لهباً مكدَّساً في حُلْم . ذلك الألم ليس مقهىً للبجع . انكساراتُ البُنِّ أثناءَ زراعته . وَصَلْنا إلى حبال المشنقة قبل وصول القهوة إلى أحزان النساء . يحلم الحزنُ أن يكون له أطفالٌ يحملون اسمَه فوق النِّصال. حَفَرْنا وحفرنا وتذكرتُ قناةَ السويس مُعبَّدةً بالموتى . رأيتُ في خيالاتي عبيداً لم يسمعوا بشيء اسمه الحرية. وتكونت حفرةٌ كبيرةٌ تختالُ بقيودها وخُلخالها المستعار تتسع وتغوصُ في سذاجةِ فأسي. نزلتُ فيها وقد لمعت العواصفُ في المراكبِ. أين فمي ؟! . هل ضاع ؟! . لا لم يضع ولكنه ذهب ليشربَ أزرارَ المصاعدِ الكهربائية ، وسيعودُ عندما تخجلُ الضِّباعُ من ماضيها . وجدتُ أحافير أسماك مُعتقَلة . تفحصتُها فأنا أعملُ راعي غنمٍ في الصباحِ وبعدَ الظُّهرِ عالِمَ آثارٍ .

قد نقل الوُلاةُ الأسماكَ من البحر إلى مخيماتِ اللاجئين . يريدون تحويل البحر إلى لوحةٍ هادئةٍ لكي ترسمها الأميرةُ الصغيرة . والأسماكُ تلك الكائناتُ المشاغِبة تُحدِث ضجيجاً في الماء، وتؤثِّر على صفاءِ ذهن ابنة القسِّيس . هل ستأسرني هلوساتُ القياصرةِ ؟ . قد يُفكِّرون في بناء مطعمٍ للعائلات على قبور عائلتي التي نَبَشَتْها الغربانُ . لا جيشٌ يُعَلِّمُ البارونةَ الأدبَ ، ولا جُندٌ يرفضون الانحناءَ لتمثال الزعيم . ذلك عالَمي الأطرشُ .

بدأتُ أغوصُ في تاريخ المحيطات الجافة وفي حُفرتي ، وانتهى بي المطافُ إلى جدارٍ شفَّافٍ مَزَّقْتُه فاندفعتُ خارجاً تحت ضوء الشمس . لأول مرة منذ قرونٍ أرى ضوءَ الشمسِ . بدا صاعقاً حيث ضَمَّني بشراسةٍ ثم فَجَّرَني . أغلقتُ كبدي سريعاً لئلا يصاب بالعمى. وبشكل تدريجي انبعثتُ في الحياةِ تلك الزهرة المخدوشة .

رقصتُ وقفزتُ منتشياً بحريتي المؤقتة . لا أُصدِّق أغاني رموشي . وكالطوفان المعبَّأ بالذكريات نظرتُ حَوْلي فإذا جثث العصافيرِ تُغطِّي صحراءَ حُنجرتي. صُعِقْتُ. ودَبَّت في أنسجتي رجفةٌ مالحةٌ. ضَحَّت بحياتها من أجلي . نعمْ من أجلي !. إنها في المغيب تبرقُ . خَيْمتي على خيمتي في السَّيْلِ . رائحةٌ تجيء من قوافلِ البخور المهاجرة في جُثماني . هؤلاء العصافيرُ ذكورها وإناثها جمعتُها ودفنتُها في قبرٍ جماعيٍّ في خيامِ عمودي الفقري . دفنتُها وَدَفَنَتْني وبكيتُ خَوْخَاً دامعاً . لغةٌ تُولَدُ . ورِياحي بَكَتْنا وتحطَّمتْ على وقع السنين وأيامِ القحط . لَيْتني ما فارقتُ فِراقي ، لأن سيارات السِّباقِ تتخلصُ من دُخانها في أهدابي . والسُّفنُ الأجنبيةُ تقذفُ النفاياتِ النوويةِ في بُلعومي . كان رجالُ القريةِ أَسْرى ، وكُنَّا نلعبُ على قرميد سطح المخفر . احتفظت الشُّموعُ بمشهدٍ عابرٍ في المناطيد : (( لقاءٌ خاطفٌ بين دَمْعَتَيْن أو لُغَتَيْن على الدَّرجِ المهدوم )) .

زحفتُ على أقدامِ المنسيين مسيرةَ شهرٍ من الأحزان. تتباعد عني الطُّرقُ والغرباءُ كلما عَضَّتني معاطفُ الحمائم . انقطعت عني أشعةُ الشمس . لم أعد أراها. للظلماتِ أكياسٌ مليئةٌ بالأكتافِ المتطايرة . سَحَبَ حطامُ دولةٍ غابرةٍ من وريدي أسمنتَ الوحشة . ما أشهى نقالةَ التين وهي تحتضنُ رأسي .

لا تأخذوا أنهاري إلى غرفة العناية المركَّزة. وأصرخُ في أوصال القشةِ الغريبة ، فتتفرقُ الصرخاتُ في مدرجاتِ الذين يَرْقبون مَقْتلي على سنابكِ البراكين . هُمْ سكوتٌ . مِن أين أتى مَقتلي ؟! . وسُجِّلت القضيةُ في الأدراجِ ضد مجهول . رفعتُ انهياري وحَدَّقَتْ فِيَّ الحمى .

وانكشفت الدروبُ المراوِغة تستدرجني إلى عيونٍ مُغمَضةٍ أو مقلوعةٍ . ما هذا الجسدُ الذي تخرَّج منه الشَّظياتُ كالمداخن المتصدِّعة ؟! . أيُّ بُركانٍ حزينٍ على فراق الحِمَم ؟ . مَهْلاً أيتها الأهازيجُ الخائفةُ .. مهلاً . أنا مِن هذه الأرض ، وأجدادي قد عُلِّقُوا على الشُّهب لأنهم شُرفاء ، وما دَلَّني عليهم إلا رائحةُ ابتساماتهم .

رأيتُ صليباً أكبرَ من اكتئاب الراهبات أكبرَ من هواجس جان دارك . هل هو فارغٌ أو مملوء؟. إنْ كان فارغاً فالمكانُ يشهقُ في الزمان . وإن كان مملوءاً فالقتلُ سَرَّحَ المدينةَ من أبنائها. استدرتُ حَوْله لأرى وجهَ القطار الذي يَنْقلُ التوابيتَ الفخمةَ . زاويةُ الرُّؤية ثمانون جمجمة . ارتعشتْ حُنجرتي وقَفزتْ في جَيْبي ، وفقدتُ السيطرةَ على فزَّاعات الأحلام .

الزلازلُ تلثمُ يدَ البراكين . اللهُ أرحمُ بي من أُمِّي. أهذا موسمُ قتل الإنسانِ للإنسانِ ؟. حَوَّلوا رئتي إلى مذبحة . هل تعلمون أيتها الشعوبُ الخرساءُ من رأيتُ ؟ . إنه سَجَّاني الأول الذي خرج من نظراته ولم يعد . ولكنه عاد إلى مَصْرعه . كان مُجرَّداً حتى من السَّراويل . في أطرافه إطاراتُ سياراتٍ مهترئة . وفي جبهته مسامير . قد صَلَبوه منذ مدةٍ طويلةٍ فأصبح دمُه مزاراً للسُّياح . يقفون تحته في مجموعاتٍ مسعورةٍ ويلتقطون صوراً تذكارية يحملونها معهم إلى صقيع منازلهم . كأن بلادَهم مواعيدُ عِناقِ أسماك القِرش تحت شمسٍ . وسمعتُ طفلاً يقول لأبيه : (( التقطْ لي صورةً أمام هذا المصلوب لأُرِيَها لمعلِّمتي )) ! .

ارْحَلوا أيها اللصوصُ الأنيقون من ذكريات انهيار الصدى . هذا صديقي تستمتعون بموته ؟ . هذا صديقي . انْصَرِفُوا عنه . كَبُرْنا سويةً مع الفيضان الذي دَمَّرَنا في الرمل الوحشيِّ . ومهما يُدَمِّرْنا نبقَ نُراوغُه لأنه يحمل بذورَ شجيراتٍ قادماتٍ بتألقِ المنفيين في الأفق . صُوَرُكم حصارٌ تَسقطون فيه ، وكاميرا ذلك الطفل ثمنها يُطعِمُ عائلتي التي أُعْدِمت سنةً كاملةً . صديقي صُلِبَ فلا مكانٌ لرموشه سِوَى حجارةِ النَّيازك ، ولا زمانٌ لأحزانه سِوى حُبوبِ منع الحمل للبحيرة .

وبدأتُ أُفَرِّقُ السُّياحَ . وعمَّ الشَّتاتُ في أصواتِ العُقبان . ربما ظَنُّوا أنني مجنونٌ . لكن صديقي كان مُعَلَّقاً أو ساخراً من قاتليه . إنهم خَدَعونا ، وضحكاتهم ستبزغُ في أنين مواكبهم ديناصوراتٍ مجنونةً . وستذبحهم سقوفُ السُّل. وجحورهم دوائرُ تُطَوِّقهم . حاولتُ أن أبتكرَ مزارعَ رثاءٍ، لكنني لم أقدر . فالرثاءُ تبادلُ مشاعر في أعماق المحيطات الملتهبة . وأطرافي الجليدُ يأكلني .

غداً ستأتي الغريباتُ ليتعرَّفْنَ على بصماتِ المشنوقين في انكسارات الشفق . جَهِّزوا البكاءَ والدمعاتِ الاصطناعية كي يتدفق المشهدُ أكثرَ حرارةً من رَحِمِ الكارثة أكبرَ انهياراً من ضحكة الخراب . وراقِبوا الباعةَ وهم يتجمعون لبيع البوظةِ إلى أيتامِ السَّحَر .

سامحيني كواكبَ حضاراتِ الصَّليل . في زفراتِ حجارةِ القهوةِ سجادٌ أحمر لأباطرة يتجرَّعون مأساتي . كُلُّ شهقةٍ سَيْفٌ ، وكلُّ نجمٍ ثائرٌ . وليندلعْ الزَّحفُ العارمُ على انطلاقاتِ الندى ساعةَ اللقاء الذي لا يحدثُ .

إلى الخريفِ الهادئ يتطلعُ الفاتحون . هناك في السُّهوبِ زوجةٌ تُحْضِر لكَ كوباً من الشاي الساخن . ومَقعدُكَ يقابلُ حوضاً من السمك المستحم ، ووراء النافذةِ الطوفانُ . أنتَ تمسك قلماً لتوهمَ الموقدةَ أنك مثقفٌ ، وتُقنعُ زوجتكَ أنها أجادت الاختيار . أمسى الشاي لعبةً سياسيةً، والقممُ فراغاً قابلاً للعشقِ. وفي بَيْتي ألفُ مدينةٍ فيها ألفُ أميرِ مؤمنين ، كلهم يتناولون أغلالي والشايَ على مائدتي السليبة .

اسْتَلَّت جبهتي بركةَ ماءٍ من ثعلبٍ مقتولٍ وغَطَّيْتُ صديقي بها . وانصرفتُ . مخلوعاً من مكانه عَبَرَ قلبي في الضبابِ الصخري والشذى المسمومِ . لا طلاءُ أظافرِ الناقةِ قلعةٌ للمشرَّدين، ولا ضوضاءُ الرئةِ الأسيرةِ وَتَرُ رَبابةٍ . ألقى السَّيافُ في مهرجانِ حِبالِ المشنقةِ مُحاضرةً عن حق الشمبانزي في المشاركة في انتخاباتِ المياه الجوفية. متى تقومون بتزوير أجنحةِ المكان ؟. وامتنع الصَّبارُ عن الإجابة عن سؤالي. أضحيتُ خارجَ وقت الضحى، والشمسُ إلى الزوال ، والأرضُ تغيب فِيَّ . أُريدُ أن أتكلمَ زلازلَ لأتذكر أنني حي أُقاتِلُ . ما زال هناك صوتٌ يَكْبرُ . حُنجرتي تطحنها البيادرُ . أُريد أن أقول . لساني عاطلٌ عن العمل .

يا شَعْباً باعوكَ مع البهارات والدقيق واشْتَرَوْكَ عبداً بائساً من سيدات المجتمع المخملي في رأس الرجاء الصالح . إنْ دخلتُ فيكَ دَفَنْتَني حَيَّاً . وإن دَخلتَ فِيَّ قَصَمْتَني . أَشُمُّ طَعمَ العُصفر في طريق الشمسِ الذاهبة نحو الركام . أنا الطائرُ أتفجرُ لأُضيء المدى لأُحرِّر رئتي من أكسجين العاصفة . أَشُقُّ أمواجَ الغربانِ في آفاقٍ تنتظرني ، تريدني ، تهزُّني .

يا شَعْبُ ، تعالَ إليَّ في البُخارِ نموراً لا تحملُ لوحاتِ أرقام . تعالَ إليَّ حَيَّاً أو مطراً مَيْتاً ، لا تُوَظِّفْ البطَّ في الجمارك . اقْرَأ اسمي على شاهدِ القبر .

أنا مَن بَكى وانتظرَ الأنهارَ النائمة. لا تَلُمْني ، إن الأرضَ تَحْرقني . لا تَذْكُرْني ، إن يدي تهجرني. أُريد من إرادة الأُُسودِ أن تريدني كي أشاهدَ مصرعَ الثلج الذي لا يريدني . كلما حَدَّقْتُ في المرآةِ رأيتُ حُفْرتي على مسطرةِ طالبةٍ يتيمةٍ . كتاباتُ القمر تَضيع والنهرُ يَجْتَثُّها من سُعالي .

أعرفُ أن الشعبَ مُغمىً عَلَيْه ، ولو شَاهَدَ حُكمَ إعدامي فلن يرميَ شرايينَ اللوز على المرمر ، وسوف يدخل في سُباته. فأنا أصرخُ في الفراغِ العَدَمِيِّ، وأنتظرُ أن يمدَّ لي جيشُ الهباءِ يدَ المساعدة . الأمهاتُ يُوَاصِلْنَ الحملَ والولادةَ كالعادة ، والآباءُ يَذْهبون إلى أعمالهم كالعادةِ . وسَيُهَرِّبُ اللصوصُ المقدَّسون أموالَ الدولةِ إلى أرصدتهم الشخصية في الخارجِ كالعادة. وسأذهبُ إلى الزنزانة الانفرادية كالعادة ، وتذهبُ الفتاةُ التي أَحْبَبْتُها إلى الزواج من غَيْري كالعادة .

قد يطالعُ الشعبُ الأُمِّيُّ أسمائي في صفحة الوَفَيَات ، وقد لا يطالعه. لن يكترث بي أحدٌ . سواءٌ عشتُ أم مِتُّ . معي لغةٌ ناريةٌ ، وأبوابُ ملامحي تنتظرني وأنا أعودُ في الساعة الثانية ليلاً من غرفة التحقيق .

لبلادٍ تضيقُ عليك بيوتاً من الحرائقِ . لنساءٍ في سوقِ النخاسة يَتَحَوَّلْنَ إلى جواري قصرِ السلطان ، أُعطي سيفاً وهديلاً . ظَلَّت وزارةُ اليباب تحرثُ الزيَّ الرسمي للضفادع . هل إخوتي لصوصٌ ؟!. عَواصِمُ تَسْتخدم أثداءَ بناتها شعاراً لتشجيع السياحة . أَرْضي التي تطردني من عُروقي . امْنَحِيني شهادةَ ميلادي ، وصَكَّ وَفاتي ، أريد أن أضعهما في بروازٍ بسيطٍ لكي أَذْكر أنه كان لي وطنٌ ومدرسةٌ وقبيلةٌ مثل كل الأسماك ، لكي أطمئن أن وطني سيسمحُ لي بالبكاء الطويل دون ملاحقاتِ العسكر ، وأضواءِ المعتقَلات .

ونسيتُ معطفاً من السياطِ في حُجرة التوقيفِ ، وناداني أمسٌ . إنه جزءٌ مني . لَعَلِّي هُبوبُ الأطيافِ في حِبرٍ على رَفٍّ مُخَلْخَلٍ في بئرٍ نائيةٍ. وتذكرتُ كيف كانت أمي توقظني لصلاةِ الفجرِ . سيُهَشِّمُ عظمُ الرمدِ الرَّميمُ عروشَ الماعزِ في السَّواحلِ . إنما جسمي قفزةٌ ليست لراقصاتِ الباليه . والغصونُ تستأنفُ إضرابها في ظَهْري. ربما تتجسسُ أدواتُ المرسمِ على غُربة الرَّسامِ ، وربما أموتُ مراراً قبل الموتة الكبرى ، لكني سأُكْمِلُ خيوطَ ثورة كَبِدي ، وأُعلِّق أوردتي على حيطان مطبخ بَيْتنا في كوكب زُحل .

واصلتُ التفتيشَ في هجراتِ الشوارعِ إلى غَدِها ، فرأيتُ شخصاً نحيلاً يلتحف زخرفةَ كبريتٍ وبقايا أمطارٍ . ارتبكتْ بَشَرتي ، وتفاجأ نَوْمي. قد يكون مجنوناً أو يدعي الجنونَ . كلامه إرهاصاتٌ مستقبلية، أو مستقبلٌ للإرهاصات. عجيبٌ سكوته المرتفع أحطابَ ضوضاءٍ . أَتُرَاهُ عَجَنَ اكتئابَه بساعة المنبِّه ؟ . قَرَّرَ الرحيلُ أن يقتحم خطوةَ محاورته نيابةً عن ذاكرتي . أَشْرِكوني في القرار يا أجزائي التي تجتمع في مكانٍ سِرِّيٍّ بدوني . أَطْلِعُوني على أفكاركم في المجلس الوطني للذكريات!.

قد خسرتُ طيفي وأعشابي، أنا الخاسرُ الأكبر الاحتضارُ بلا ألوانٍ تجميلية . حاجبي الأيسر سبورةٌ عاريةٌ من طباشير الأسرى . أَخْبِرْني عن دمكَ وأجسادِ رُمحكَ . قِصَّتي لا تُشبه إلا عَظْماً تعيساً ينتخبني . فاسمعها واجمع دموعي لتستخرج منها اليورانيومَ المخصَّب . تَجَمَّعَ ذهني مُصغياً إليه، وقوله ودمعه يتزوَّجان. وأحكامُ قانون الطوارئ تزعجُ هواجسَ غرفة الطوارئ في مستشفى متنقل لا يقدرُ الفقراءُ على دخوله .