سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

06‏/12‏/2016

الطعام والإطعام في شعر المعلقات

الطعام والإطعام في شعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 6/12/2016

.....................

   تحتل منظومةُ ( الطعام والإطعام ) في البيئة القَبَلية موقعاً حسَّاساً ، وشديد الأهمية. فهذه المنظومة دليل باهر على الكَرَم والسِّيادة والمكانة الاجتماعية الرفيعة . ولا شَكَّ أن المنْزلة الاجتماعية في الجاهلية كانت تقاس بالقُدرة على إعداد الطعام ، وتنظيم الولائم ، وإطعام الناس . وهذه الأمورُ لا يمكن للشخص العادي أن يَقوم بها، وإنما يقوم بها شيوخُ القبائل ووجهاء القَوْم وأبناء العائلات الشريفة الثَّرية. فإعدادُ الطعام ليس عملاً مجانياً ، أو شِعاراً مُفْرغاً من المعنى ، بل هو عملٌ يحتاج إلى أموال طائلة ، ورجالٍ كثيرين .
     وقد بَرز الطعامُ كقيمةٍ أساسية في بعض الأشعار . واهتم بهذه القيمة شاعران من شعراء المعلَّقات هُما امرؤ القَيْس وطَرَفة بن العبد . والجدير بالذِّكر أن هذين الشاعرَيْن من أُسرتَيْن شريفتَيْن . فامرؤ القَيْس من عائلة مَلَكِية ، وطَرَفة من عائلة شريفة غنية . لذلك ليس غريباً أن يتشرَّبا ثقافةَ إعداد الولائم للآخرين .
     ويتَّضح الارتباطُ الوثيقُ بين المغامرات العاطفية وإعداد الطعام ، فتظهر فكرةُ إطعام العذارى ( النساء القريبات إلى قلب الشاعر ). وبالطبع ، إن المرأةَ تحب الرَّجلَ الكريمَ الذي يُنفِق عليها بلا حساب، ويقوم بتحقيق رغباتها الروحية والمادية.
     وأيضاً ، تَظْهر مؤشِّرات شِعرية على " كثرة الطعام " ، وهذا يدل على الغِنى والازدهار ، ورغد العَيْش ، والمنْزلة الاجتماعية الرفيعة .
     وتتجلى ثقافة إطعام الندامى ( الأصدقاء ) في النسق الشِّعري ، مما يشير إلى ترابط العلاقات الاجتماعية ، والحرصِ على حضور مجالس اللهو والاستمتاع ، وتنظيمِ اللقاءات الحميمة بين الأصدقاء والأحبة .
     وأخيراً ، يَبْرز الفرقُ بين طعام السادة وطعامِ الخدم، وهذا أمرٌ طبيعي في المجتمع العربي القَبَلي القديم الذي هو مجتمع طبقي إقطاعي قائم على التمييز والعنصرية .

1_ إطعام العذارى :

     يعيش الشاعرُ حُلماً سِحرياً مع حبيباته العذارى، وهو حريصٌ على خَطْبِ وُدهنَّ، وبعثِ الفرح في قلوبهنَّ، ونَيْلِ ثقتهنَّ . ولم يجد أفضل من ذبحِ بَعيره ، وإطعامهنَّ من لحمه ، وذلك تعبيراً عن حُبِّه لهنَّ ، وسعادته بوجودهنَّ .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ويَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطِيَّتي          فيا عَجَباً مِن كُورِها المُتَحَمَّلِ

     ما زالت تلك الحادثةُ الرائعةُ عالقةً بذهن الشاعر رغم مرور الوقت . وما زالَ ذلك اليومُ الذي عقرَ فيه بَعيره للعَذارى عَصِيَّاً على النسيان . لقد ذَبَحَ البعيرَ ( المَطِيَّة ) من أجل عيون العذارى ( الأبكار ) . وقد كان ذلك اليوم من أجمل أيام حياته ، ففيه نالَ إعجابَ حبيباته ، وكسبَ قلوبهنَّ . وهذه الذِّكرى الجميلة دَفعت الشاعرَ إلى تخليد ذلك اليوم المهم ، وتمجيد ذلك الحَدَث البارز ، لَيَبْقيا منارةً على طول الزمان، وتاريخاً مجيداً تتوقف عنده الأجيال، وشِعراً خالداً في قاموس العُمر .
     ثُمَّ تعجَّب الشاعرُ مِن حَملهنَّ رَحْل ( كُور ) بعيره بعد ذَبْحه، واستحواذهنَّ على متاعه وأشيائه بعد ذلك . لقد قُمْنَ باقتسام متاع الشاعر دون إعارته أي اهتمام ، كأنه غير موجود معهنَّ . وهذا يشير إلى سقوط الحواجز بين العذارى والشاعر ، لذلك تَجَرَّأْنَ عليه ، وتَصَرَّفْنَ اعتماداً على عواطفهنَّ ودلالهنَّ ، وَهُنَّ على ثقة تامة بأن الشاعر لا يَقْدر على منعهنَّ أو توبيخهنَّ ، فَهُنَّ يَمْلِكْنَ سلاحاً فعَّالاً لا يَستطيع الشاعرُ مواجهته ، وهو دلع الأنوثة . ولا يخفَى أن ضعفَ المرأةِ هو نقطةُ قُوَّتها . وقد قامت العذارى بتوظيف دلالهنَّ ، واستغلالِ سُلطة أُنوثتهنَّ ، من أجل التلاعب بالشاعر ، والسيطرةِ على ممتلكاته بكل هدوء وبرودة أعصاب . وهكذا صارت الأنوثةُ الناعمةُ هي القوةَ الضاربةَ التي استسلم لها الشاعر .
     ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

فظلَّ العَذارى يَرْتَمِينَ بلَحْمِهـا          وشَحمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ

     تستمتع العذارى بشبابهنَّ ، ويَقضينَ وقتهنَّ في اللعب والمرح . يُلقي بعضُهنَّ إلى بعض لحمَ البعيرِ المشويَّ ، فهو لحمٌ شهيٌّ ولذيذٌ منحهنَّ السعادةَ والنَّشوةَ والمتعةَ .
     إنهنَّ غارقاتٌ في التَّسلية والألعابِ الطفولية ، تُلقي كلُّ واحدةٍ شواء المَطِيَّة ( البعير ) باتجاه رفيقتها ، وذلك بهدف الاستمتاعِ ، والاستجمامِ ، وكسرِ الملل ، وطردِ السآمة . يَقضينَ نهارهنَّ في ممارسة هذه اللعبة ، متحرِّراتٍ من الضغوطِ الاجتماعية، وأعباءِ الحياة ، وتعبِ الفكر، وثقلِ المسؤولية. لا شيء يُعكِّر مزاجهنَّ ، ولا شيء يُكدِّر عَيْشهنَّ .
     ويَفتخر الشاعرُ بِجَوْدة لحم بعيره ، كما يَفتخر بالشَّحم، ويُشبِّهه بخيوط الحرير ( هُدَّاب الدِّمَقْس ) الذي أُتقِن فَتْلُه، فصارَ منظره يَبعث على البهجة، ويُسيل اللعابَ. وهذا يشير إلى أن المطيَّة تَمَّ شواؤها بصورة مُتقَنة ، فنضجَ اللحمُ ، وصارَ كُتلةً شهية، وذابَ الشَّحمُ، وصارَ خيوطاً حريرية ناعمة مفتولة بكل جَمال وإتقان.

2_ كَثرة الطعام :

     لا رَيْبَ أن كَثْرةَ الطعام مُؤشِّرٌ واضح على خصوبةِ المراعي ، ووَفْرةِ المحصول الزراعي ، والرخاءِ الاقتصادي ، والرفاهيةِ الاجتماعية ، والاستقرار السياسي . وبالإضافة إلى هذا ، فإن كثرة الطعام دليلٌ على قوة القبيلة ، وتماسكها الطبقي .
     والأمنُ الغذائي هو طريق السيادة الحقيقية لا الشعاراتية. وإذا استطاعت القبيلةُ أن تُطعِم نَفْسَها بنفْسها ، فهذا يعني أن قرارها سيكون مستقلاً لا يَتْبع أيةَ جهة. أمَّا إن عَجزت القبيلةُ عن إطعام نفْسها ، فسوفَ تَخضع للقُوى التي تُقدِّم لها الطعامَ ، وعندئذ تَخسر هَيْبتها ، وتَفقد مكانتها ، ويصبح مصيرُها لُعبةً في أيدي الآخرين .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِن بَينِ مُنْضِجٍ          صَفيفَ شِواءٍ أوْ قَديرٍ مُعَجَّـلِ
     إنه الرخاءُ الاجتماعي . لا مكان هنا للمجاعات ، أو الصراع على الطعام . فالطعامُ يَكفي الجميعَ. كَثُرَ الصَّيْدُ، وعَمَّ الخِصْبُ ، واشتغل القومُ بالطبخ والشَّوي.
     انقسمَ طُهاةُ اللحم ( الأشخاص الذين يَعْملون على إنضاجه ) إلى قِسْمَيْن : قِسْمٌ يُنضِجون شِواء مصفوفاً  ( صَفيفاً ) على الحجارة في النار ، وقِسْمٌ يَطْبخون اللحمَ في القِدْر . والقديرُ هو اللحم المطبوخ في القِدْر .
     كُلُّ فريقٍ يَعرف عَمَلَه بدقة ، ويقوم بمهمَّته على أكمل وَجْهٍ . إنهما فريقان متكاملان . ولا يوجد أحدٌ بلا عمل . إنها عملية دؤوبة من أجل إعداد الطعام الفاخر الممتلئ باللذةِ ، والمذاقِ الطَّيب ، والرائحةِ الشَّهية . 

3_ إطعام الندامى :

     لا بد أن يَحْضر في مجالس الأصدقاء ( الندامى ) في الجاهلية الطعامُ والخمرُ . وهذا أمرٌ طبيعي لأنه جزءٌ من عاداتِ الناسِ المتعلِّقةِ بالضِّيافة والكَرَم واللهو ، والهادفةِ إلى تمتين الروابط الاجتماعية . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فَمَرَّتْ كَهاةٌ ذَاتُ خَيْفٍ جُلالةٌ          عَقيلةُ شَيْخٍ كالوَبيلِ يَلَنْــدَدِ

     تسلَّط الشاعرُ على إبل والده ، ولم يعد أحدٌ قادراً على إيقافه، أو منعه من ذبح الإبل التي سيطرَ عليها الخوف ، وهَيْمنَ عليها الذُّعر . وكُلما رَأت الشاعرَ أَدْركتْ أن ساعة النهاية قد حَلَّتْ . أثارَتْ مخافةُ الشاعرِ وهَيْبته هذه الإبلَ . وفي ظِل هذا الجَو الملبَّد بالرُّعب، وانعدامِ الثقة بين الطرفَيْن، مرَّت بالشاعر ناقةٌ ضخمةٌ     ( كَهاة / جُلالة ) ، لها جِلْد الضَّرْع ( ذات خَيْف ) . وهذه الناقةُ الضخمة السمينة مَنْظرها يُغري بذبحها ، والحصولِ على لحمها ، وتقديمه للندامى وَليمةً ما بَعْدها وليمة . لكنَّ المشكلة أن هذه الناقة الضخمة هي عقيلةُ أبيه الشيخِ الطاعنِ في السِّن ، أي إنها أكرمُ ماله ، وأنْفسُ ممتلكاته . ولا شَكَّ أن ذَبْحها سَيُغضِب أباه اليلندد   ( الشديد الخصومة ) الذي كَبُرَ سِنُّه ، ويَبِسَ جِلْدُه ، وشَابَ شَعْرُه ، ونحل جِسْمُه حتى صارَ كالعصا الصخمة  ( الوبيل ) يَبساً ونحولاً . ومع هذا ، فقد نَحَرَ الشاعرُ كرائمَ مال أبيه لندمائه لكي يَبعث فيهم الفرح والمرح والنَّشوة ، ويُوقنوا بأنه كريمٌ جواد ، ونديمٌ مُخلِص ، لا يُقيم وزناً للمال ، ولا يَعْبأ بلوم اللائمين ، حتى لو كان اللائمُ هو أباه صاحبَ المال. وبالتأكيد، إن العلاقة بين الشاعر العابث وأبيه الحريص متوتِّرة ، ودليلُ ذلك هو وصفُ الابن لأبيه بأنه يلندد .

4_ طعام السادة وطعام الخدم :

     إن السادةَ والخدمَ لا يأكلون معاً، ولا يأكلون نَفْسَ الطعام ، فلا بد _ في البيئة الجاهلية _ من التفرقة بين الطرفَيْن ، فهذه البيئة قائمة على الصراع الطبقي ، والتمييز العنصري . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فظلَّ الإماءُ يَمتلِلْنَ حُوارَهــا          وَيُسعى عَلَيْنا بالسَّديفِ المُسَرْهَدِ


     ظَلَّ الإماءُ يَشوينَ حُوارَ الناقة ( وَلَدَها ) تحت الرماد الحار . وهذه العمليةُ تُسمَّى الامتلال. ويَسْعى الخدمُ على أسيادهم بالسَّنام المقطَّع ( السَّديفِ المُسَرْهَدِ ). لقد أكل السادةُ أَطْيَبَ الأجزاء ، حيث إنهم استأثروا بقطع السَّنام ، وتركوا الباقي للخدم.وذِكْرُ الحُوار يدل على أن الناقة كانت حُبلى،وهي أشْرف الإبل وأنْفس مالٍ عند العرب، وأعز ما تكون عليهم. وما ذَبْحُها إلا مؤشر على لامبالاة الشاعر، وأنه لا يُقيم وزناً لأموال عائلته، وأن هدفه هو الاستمتاع بأيَّة وسيلة،ومهما كان الثمن.

02‏/12‏/2016

يوجين أونيل وقاع المجتمع

يوجين أونيل وقاع المجتمع 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 2/12/2016

..................

     وُلد الكاتب المسرحي الأمريكي يوجين أونيل ( 1888_ 1953) في أحد الفنادق العامة ، حيث كانت تقيم العائلة إقامة مؤقتة . حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1936.
     كانت ولادة أونيل على يد طبيب غير ماهر ، فَعُولِجت والدته بالمورفين وأدمنته . ولَمَّا عَلِمَ في سن المراهقة أن والدته أصبحت مدمنة بسبب ولادته، شعر بالذنب ، وثارَ على كُلِّ ما يُمثِّل السُّلطة ، خصوصاً الجانب الديني منها . وهذه الصدمةُ أدخلته في حرب روحية مع نفْسه .
     كان والده مهاجراً إيرلندياً إلى الولايات المتحدة ، حيث عمل فيها ممثلاً ومدير مسرح . تبع أونيل والده في جولاته ، وقضى سنوات طفولته في غرف الفنادق، أو مسافراً، أو منتظراً خلف كواليس المسارح التي عمل والده فيها ، فافتقد إلى الاستقرار ، إلا أن المسرح كان جزءاً أساسياً من حياته .
     لم يستطع أونيل إكمال دراسته بسبب سفره المتواصل مع والده وفرقته المسرحية . وقد التحق بجامعة برنستون عام 1906 ثم تركها ساعياً للحصول على ما أسْماه" التجربة التعليمية الحقيقية".
     ثارَ أونيل على والده ، فقد رأى الأشياء الرومانسية الزائفة التي جعلته يحتقر المسرح ، وحاولَ أن يكتشف طريقَه الخاص بعيداً عن والده، فعملَ بحَّاراً، وقضى وقته يَتسكَّع في الموانئ، وأدمنَ الكحول، وحاول الانتحار. ولَمَّا بلغ الرابعة والعشرين عمل صحفياً، ونشر بعض القصائد. لكنه أُصيب بالسل ، واضطر أن يَقضيَ ستة أشهر في مصح . وهذه الفترة كانت فرصة له لِيُعيد حساباته ، وَيُصلِح نَفْسَه ، ويبدأ الكتابة للمسرح . وكانت مسرحياته الأولى تمتلئ بالمومسات والمدمنين والبَحَّارة، وتناقش قضايا : فقدان العدالة ، وغياب المساواة ، وانتشار الظلم الاجتماعي.
     التحق بجامعة هارفرد عام 1914 ليدرس مادة الكتابة المسرحية على يد الناقد جورج بيكر، وأعطته هذه الفترة فرصةً للتركيز في الكتابة . وفي عام 1916قامت فرقة مسرحية تجريبية بتمثيل أُولى مسرحياته . وأعطته هذه المسرحية بعض الشهرة . وفي عام 1920 عُرضت مسرحيته الطويلة " وراء الأفق " على مسرح برودواي الشهير . تُصَوِّر هذه المسرحية أخوَيْن يُحبان الفتاة نفسها ، غَير أن أحدهما مُولَع بالبحر والمغامرات . مدح النقادُ الواقعيةَ المأساوية للمسرحية ، ونال أونيل جائزة بوليتزر عنها . وفي السنوات التالية ( 1920_ 1943 ) كتب عشرين مسرحية طويلة ، فازدادت شُهرته ، وارتفعت مكانته الأدبية ، خصوصاً في أوساط الجمهور المسرحي . وأصبحت أعماله من أكثر الأعمال الأدبية ترجمة وإخراجاً .
     يُعتبَر أونيل المؤسس الحقيقي للمسرح الأمريكي ، حيث قام بتطويره ليصبح جنساً أدبياً قائماً بذاته . واستطاعَ من خلال مسرحياته تقديم مواضيع جديدة ، واستقطاب الجمهور والنُّقاد . كما يُعتبَر من أوائل الكتاب المسرحيين الذي درسوا الصراع داخل عقل الشخصية بين البواعث الشعورية والحاجات ، وساعده على ذلك دراسته لعلم النفس الحديث ، خصوصاً أفكار فرويد . وقَدَّمَتْ مسرحياته للدراما الأمريكية تقنيات الواقعية ، وأظهرت الشخصيات في قاع المجتمع ، وصَوَّرت الإنسان في عصر التكنولوجيا ، وكيفية تَحَوُّله إلى ضحية للآلة . وكل مسرحياته تقريباً تتضمَّن قَدْراً من التراجيديا والتشاؤم والانكسار .
     وقد عَرف من خلال الوضع الذي عاشه أحوالَ الطبقة السُّفلى من المجتمع ، عالم الفنادق وحانات البَحَّارة الرخيصة. وتجاربه الشخصية كانت المادة الأولى التي استخدمها لكتابة مسرحياته. لقد سَلَّطَ الضوء على قاع المجتمع ، وأبرزَ أحلامَ المنبوذين ، وأظهرَ معاناة الفقراء ، ووضَّح مشاعر المسحوقين ، في عالَم قاسٍ لا يَرحم . كما أنه فضح المجتمع المادي الذي يَقتل الجوانب الروحية . وتبرز في أعماله المسرحية فكرتان رئيسيتان: الأولى _ الحياة وهم . والثانية _ الإنسان غير قادر على فهم الحياة .
     بدأ أونيل كتابة المسرحيات في عام 1913 ، وانتهى به المطاف ليصبح أبرز كاتب مسرحي في أمريكا ، بعد أن نجح في تحويل حياته الشخصية إلى فن مسرحي . وكان يهدف من هذه العملية إلى التحكم بحياته وإعادة صياغتها من أجل تحليل تفاصيلها واستيعاب أحداثها .
     امتلأت حياته الخاصة بالأزمات الاجتماعية ، فقد تزوج ثلاث مرات ، وأنجب ثلاثة أولاد، ولكنه أصبح غريباً عن كل أولاده ، وقد انتحر أكبرهم . أُصيب أونيل بمرض منعه من الكتابة ، ثم مات في غرفة بفندق في بوسطن بعد أن قال بمرارة وسُخرية : (( وُلدتُ في غرفة فندق ، وأموت في غرفة فندق )) .
     ويبقى أونيل هو الأب الشرعي للمسرح الأمريكي ، ولا يُنافسه في مَنْزلته أي كاتب مسرحي، خصوصاً في نظرية المأساة التي طَوَّرها . فقد اعتبرَ أن العاطفة مهمة جداً، وأن التعبير عنها بالمسرح المأساوي يُعطي الإنسان نوعاً من التَّفهم الروحي .

     من أبرز مسرحياته: وراء الأفق ( 1920 ) . الإمبراطور جونز ( 1921) . آنَّا كريستي ( 1922) . رغبة تحت شجر الدردار ( 1924) . فاصل غريب ( 1928) . 

21‏/11‏/2016

إيفان بونين والتأثر بالقرآن

إيفان بونين والتأثر بالقرآن

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 21/11/2016

.....................

     وُلد الأديب الروسي إيفان بونين ( 1870_ 1953) بمدينة فورونيج في عائلة نبلاء . قضى طفولته في القُرى المجاورة لبيت العائلة ، يرعى الماشية مع الصبيان من أبناء الفلاحين ، وربطته علاقات الصداقة مع بعضهم . وهذه العلاقة مع الطبيعة صارت الموضوع الرئيسي لإبداعه الأدبي شِعراً ونثراً .
     تعثَّرَ بونين في حياته الدراسية ، واضطر لإعادة أحد الصفوف ، وواصلَ التعليم لاحقاً بصورة مستقلة تحت إشراف شقيقه. وفي خريف 1889 بدأ العمل في إحدى الصحف المحلية ، ونشر فيها قصصه وأشعاره، وخُصِّصَ له عمود دائم في الصحيفة ، وكان يكسب رزقه من الكتابة الأدبية.
     تلقَّى أُولَى الصدمات في حياته في عام 1893 ، حيث أفلسَ والده ، وباع ممتلكاته . ووجد الأديبُ الشابُّ نَفْسَه وحيداً في هذا العالَم ، بلا دعمٍ مالي ولا عائلي .
     تَعَرَّفَ بونين أثناء عمله في الصحيفة على ابنة طبيب في المدينة ، كانت تعمل في مراجعة النصوص قبل طبعها.وقرَّر الارتباطَ بها، لكنَّ عائلتها عارضت زواجها من كاتب فقير.وكانت هذه الصدمة الثانية في حياته. وقد أثَّرت عليه سلباً فابتعد عن الناس ، حتى اعتبروه شخصاً جافاً وبارد الأحاسيس. والحقيقة أنه كان من الأشخاص الذين يُخفون مشاعرهم،ولا يَكشفون خفايا نفوسهم.
     أبدى بونين اهتماماً خاصاً بأفكار الروائي الشهير تولستوي الذي كان يُوصي بالعَودة إلى الطبيعة ، واتباع أسلوب حياة بسيط . وفي يناير عام 1894 زار تولستوي في ضَيعته ، وأقنعه بالعُدول عن الغُلُوِّ في حياة البساطة التي كان يدعو إليها أتباعَه .
     وفي عام 1895هربت مِنه صديقته كي تتزوَّج أحد أصدقائه . وكانت هذه الصدمة الثالثة في حياته . تأثَّرَ بهذه الحادثة كثيراً ، وقَرَّرَ أن يَبدأ حياته مِن جديد ، ويُقيم قطيعةً مع الماضي ، فانتقلَ إلى موسكو ، حيث انخرط في الأوساط الأدبية ، وحقَّق هُناك نجاحاً باهراً ، كما أنَّه التقى مشاهير الأدباء والنُّقاد في ذلك العصر.وقد قام بونين برحلات كثيرة إلى أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، تركتْ فيه انطباعات شديدة، ظَهرت في قصصه التي لَقِيَت إقبالاً كبيراً لدى القُرَّاء ، وبرز اسْمُه باعتباره واحداً من أفضل كُتَّاب روسيا في تلك المرحلة .
     وفي عام 1901 ، نشر ديوانه " سقوط أوراق الشجر " ، الذي اعتبره النُّقاد عملاً شِعرياً مُتميِّزاً . وهذا النجاح الباهر كان سبباً في حصوله على جائزة بوشكين ( 1903) التي تُقَدِّمها أكاديمية العلوم الروسية إلى الأدباء سنوياً . وقد فاز بهذه الجائزة للمرة الثانية عام 1909 عن قصته " ظِل الطَّير " وترجمته لقصائد الشاعر الإنجليزي بايرون إلى اللغة الروسية .
     كانت روايته القصيرة " القرية " ( 1910) هي الانطلاقة الحقيقية نحو العالمية ، فقد أحدثت ضجةً كبيرة في الأوساط الأدبية،حيث صَوَّرت الرُّوحَ الروسية وأُسسها المضيئة والقاتمة والمأساوية.
     أصبحَ بونين ظاهرة أدبية مُتميِّزة بروسيا في النصف الأول من القرن العشرين ، رغم اضطراره للهجرة من وطنه إلى فرنسا عام 1918 بعد قيام الثورة البُلشفية ( 1917 ) .
     وفي الفترة بين 1927_ 1930، كتب مجموعةً من القصص القصيرة مِثْل " الفيل " ،        و" الشمس فوق الدار" وغَيرها . وحاولَ إيجاد تقنيات جديدة في الألفاظ والمعاني ، وتَوليد أشكال جديدة للكتابة الموجَزة التي أرسى دعائمها تولستوي وتشيخوف .
     وفي عام 1933 مُنح بونين جائزة نوبل للآداب عن روايته " حياة أرسينيف " ، ليكون بذلك أول كاتب روسي يفوز بهذه الجائزة العالمية . ومِمَّا قِيل في حفل تسليم الجائزة : (( بقرار من الأكاديمية السويدية تُمنَح الجائزة لإيفان بونين على الموهبة الفنية الحقَّة التي تَمَكَّنَ بواسطتها من إعادة خلق الشخصية الروسية بقالب نثري جميل )) .
     درس بونين القُرآنَ الكريم ، واشْتُهِرَ بِشَغفه بالشرق . ومعَ أنَّه قد سافرَ إلى بلاد كثيرة ، إلا أنَّه كان يعود إلى البلاد الإسلامية ، وكأنه يُلَبِّي نِداءً ساكناً في أعماقه . لقد شاهدَ جوانب كثيرة من الحياة الإسلامية، وصارَ يَشعر أنَّه صُوفي مُتحمِّس ، وكتب قصائد عن ليلة القَدْر ، والحجَر الأسود، والحجيج، ويَوم الحساب . وتُعتبَر قصيدة " السِّر " من أبرز قصائد بونين ، وهذه القصيدة مُرفَقة باقتباس مِنَ القُرآن .
     وكان يَحمل القُرآن في حقيبة سَفره طوال حياته ، حتى إِنَّ أُسلوبه في الكتابة _ في بعض الأحيان _ كان يَتبع القُرآنَ بشكل مباشر، وأحياناً كان يُكرِّر الآياتِ القُرآنية . لقد شَعَرَ أنَّه الوارث الشرعي لبوشكين ( الشاعر الروسي الكبير ) في " مُحاكاة القُرآن " وكتابةِ القصائد المستوحاة من المعاني القُرآنية .
     مِن أبرز أعماله : تحت السماوات المفتوحة ( 1898) ، القرية ( 1910) ، كأس الحياة     ( 1915) ، معبد الشمس ( 1917) ، ضربة شمس ( 1927) .

08‏/11‏/2016

توماس مان وقسوة النازية

توماس مان وقسوة النازية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 8/11/2016

....................

   وُلد الأديب الألماني توماس مان ( 1875_ 1955) في مدينة لوبيك الألمانية التي تطل على بحر البلطيق ، وتُوُفِّيَ في مدينة زيوريخ السويسرية . ينتمي إلى عائلة برجوازية ، فقد كان أبوه من كبار التجار ، وعُضواً في مجلس الشيوخ . أمَّا والدته فكانت ابنة أحد أصحاب المزارع الكبرى في البرازيل . وأخوه الكبير هو الأديب والروائي هنريك مان .
     لم يهتم بالحياة الدراسية ، وكانت المدرسة بالنسبة إليه سِجناً لا يُطاق ، فَكَرِهَها ، وهرب من أجوائها الخانقة ، ولم يحصل على شهادة الثانوية . وكانت سعادته مستمدةً من المسرح البسيط الذي أقامه أخوه هنريك في البيت .
     عِندَما بلغ الخامسة عشرة مِنَ العُمُر تُوُفِّيَ والده ، وقامت الأسرة بإغلاق الشركة التجارية التي تركها الأب ، وباعت البَيت بما فيه مِن أثاث . واضطرت والدته البرازيلية إلى الاستقرار معَ أولادها في مدينة ميونيخ عام 1893. والتي كانت العاصمة الثقافية والفنية لألمانيا . وقد أكملَ فيها الشاب توماس تعليمه ، وعمل لفترة بسيطة في شركة تأمين ، ثُمَّ عمل في مجلة أسبوعية كان يُصدرها أخوه . وفي تلك الفترة بدأ يَكتب الشِّعر العاطفي مُتأثِّراً بالشعراء الألمان الكِبار : غوته وشيلر وهاينه .
     سافرَ مَعَ أخيه إلى إيطاليا، وأقامَ فيها لمدة عامَيْن، وبدأ كتابة أُولى رواياته " آل بودنبركس ". ثُمَّ عادَ إلى ميونيخ ، واستقرَّ فيها بعد أن أدَّى الخدمةَ العسكرية . تزوَّجَ مِن كاتيا برنغشايم ، وهي امرأة أرستقراطية ، وبذلك صارَ ضِمْن أرقى العائلات في المدينة .
     وتُعتبَر رواية " آل بودنبركس " ( 1901) مِن أكثر الكتب مبيعاً ، فهي تُمثِّل اعترافاً عالمياً بموهبة هذا الكاتب ، وتَكريساً أدبياً لَهُ ، وسَبباً رئيسياً في حصوله على جائزة نوبل فيما بَعْد . تُصوِّر الروايةُ تراجعَ عائلة تجارية برجوازية من مدينة لوبيك الألمانية على مدى أربعة أجيال . وقد استلهمَ الكاتب الكثير من تاريخ عائلته . وقد بِيع من الرواية حتى اليوم أكثر من أربعة ملايين نسخة باللغة الألمانية وَحْدَها .
     عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، كان توماس مان أديباً مُكَرَّساً ومَشهوراً . وقد استعاد نشاطه الأدبي بعد انتهاء الحرب فكتب روايته الشهيرة الجبل السِّحري ( 1924) ، التي تُعتبَر أهم رواية للمؤلف ، وأهم رواية كلاسيكية في الأدب الألماني في القرن العشرين ، وتَمَّت ترجمتها إلى لغات عديدة. وقد احتلت المرتبة الأربعين في "كتب لوموند المائة للقرن" . وهو تَصنيف كُتُب ضَمَّ عِندَ إعداده مجموعة من الكتب يُعتقَد أنها أفضل 100 كتاب صَدر خلال القرن العشرين . وهذه الروايةُ حَقَّقت للكاتب شهرة عالميةً تُوِّجَت بحصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1929 .وعِندَما عَلِمَ بِفَوزه بجائزة نوبل، قال بلهجة مُتكبِّرة: (( كُنتُ أنتظر ذلك)). وقد قَدَّم الجائزة لشعبه قائلاً : (( سَأُقدِّم هذه الجائزة العالمية التي تحمل بالصُّدفة اسمي لشعبي ولبلدي )) . وقد تُرجمت كتب توماس مان إلى أكثر مِن أربعين لغة .
     كان نجاح هتلر في الانتخابات عام 1930 كارثةً مُدوِّية في تاريخ ألمانيا، وشَكَّلَ خطراً حقيقياً على حياة عائلة ( مان ) الليبرالية . وقد طالبَ الكاتب بتشكيل جبهة من الديمقراطيين لمواجهة المتشدِّدين. وبعد وصول الحزب النازي إلى الحكم عام 1933، أُجْبِرَ على مُغادرة ألمانيا . وقد سُحبت منه الجنسية عام 1936 ، فعاشَ مُتنقِّلاً بين فرنسا وسويسرا ، ثُمَّ هاجرَ إلى الولايات المتحدة ، واستقرَّ فيها مَعَ عائلته حتى عام 1952 . ثُمَّ عادَ إلى أوروبا ، واختارَ مدينة زيوريخ لِيُنهيَ فيها حياته بهدوء .
     لم تكن حياة توماس مان مفروشةً بالورود . لقد عانى في طفولته ، وكَرِهَ المدرسةَ ، ولم يحصل على شهادة الثانوية . كما أنَّ وفاةَ والده أفقدت العائلةَ توازنها الروحي ، وأثَّرَتْ سَلباً على وَضعها الاقتصادي ، حتى اضطرت إلى تغيير مكان إقامتها. ولم تستقر حياة الكاتب بعد زواجه وانضمامه إلى العائلات الراقية وشُهرته الأدبية ، فقد تلقَّى صَدمةً هائلةً عِندَما انتحر ابنُه كلاوس الذي كان يَتمتَّع بموهبة أدبية خاصة . ثُمَّ جاءت الأحداث السياسية لتزيد معاناته ، فقد طرده النازيون من بلاده ، واعتبروه خائناً ، وسَحبوا مِنه الجنسية . وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، عانى من المشكلات النفسية التي سَبَّبت له الاضطراب وعدم التوازن، إلا أنَّهُ نَجح في قيادة المعركة السياسية وتَطوير أعماله الأدبية .
     لُقِّبَ توماس مان بالسَّاحر نظراً لإمكانياته الفكرية الهائلة ، وأسلوبه الأدبي المؤثِّر . وتَمَّ اعتباره أحد أعمدة الأدب الألماني الحديث . وقامت أشهر الجامعات العالمية بتكريمه مثل جامعة أوكسفورد البريطانية وجامعة برنستون الأمريكية. وبَقِيَ قَلْبُه مُعلَّقاً بوطنه وشعبه رغم سنوات الغربة الطويلة .

     مِن أبرز أعماله الأدبية : المهرج ( 1898) . آل بودنبركس ( 1901) . الموت في فينيسيا  ( 1912) . وقد حُوِّلت إلى فيلم سينمائي عام 1971 يحمل نفس الاسم . الجبل السحري ( 1924) . المختار ( 1951) . البجعة السوداء ( 1954) .

01‏/11‏/2016

مقطع من رواية جبل النظيف

مقطع من رواية / جبل النظيف

تأليف : إبراهيم أبو عواد

...................

     حلماً قاسياً كان الصدى الكُحلي . زهرةً مسمومة كان الجرحُ . نادت على ابنتها الصغيرةِ :
     _ أسرعي، نريد أن نحجز مكاناً .
     كَوَّمَتْ البنتُ صُرَّةً بعد أن وضعت فيها مجموعةً من الأحذية الملمَّعة بصورة عشوائية . وقد كانت الصرةُ ثقيلةً بعض الشيء فلم تتمكن الصغيرة من حملها . فهبت الأم المصابةُ بالسُّكري إلى مساعدتها . وراحت خطواتُ الطفلةِ تتهادى على رقعة اللهب ، وتتقدمُ الأحزانُ كما لو أن نورساً يزحفُ على بطنه .
     أنثى ضئيلة الحجم تمسك بثوبِ والدتها البدينة ليس من كثرة الأكل ، وإنما من كثرة الأمراضِ  ،  وتسيران محمَّلتَيْن بآثار الوقتِ القاسية  .  عليهما اجتيازُ الأزقة المتداخلة في الحارات الضيقة كي تصلا إلى السوق .
     _ يا إلهي . الطريقُ طويلٌ .
     قالت الصغيرةُ وعلامات التعب تنهشها . وما تلقَّت أي جوابٍ سوى صمتٍ مغلَّفٍ بالدهشة .
     الدروب تتكرر كل مرةٍ . لا جديد غير أوحالٍ ونفاياتٍ مكدَّسةٍ تناساها عمالُ النظافة ليعودوا إلى جحورهم تحت الأرضِ مُبكرين . لو مشتا في الشارع الرئيسي فهذا يعني إمكانية السقوط ضحية إغراءات سيارات التاكسي ، وبالتالي عجزٌ في الميزانية، وعودةٌ بأيدٍ فارغة . إنهما تمشيان نحو اللاهدف تحت شمسِ الاحتضار .
     كان هذا المشهدُ بالضبط ما رأته رسمية في منامها ، أو ربما كانت أحلام يقظة . هي نفسها لم تعد تعرف طبيعة الأفكار التي تراودها. لكنها تأكدت أنها شَاهدت حُلماً . العَرَقُ يخنقها ويفيضُ على تضاريس جسمها المتآكل ، والقشعريرة تبتلع أعضاءها حجراً حجراً . وقد صار ريقُها مستنقعاً جافاً . وفي تلك اللحظات الرهيبة شَعرت بأنها وحيدة في الفراغ رغم أن زوجها كان نائماً إلى جانبها ، لكن شخيره المرعب زاد من وحدتها ووحشتها .
     ومنذ وفاة الحاجَّة سارة لم تذق ابنتها رسمية طَعم النوم . صارت حياتها أقرب إلى الهلوسة . يقتحم ذهنَها أفكارٌ لا منطقية، وأحلامٌ مختلطة بذكريات قديمة . هجم عليها الأرقُ والكوابيس دون إنذار مسبق . كأنها قَد وَضعت قَدَمَها على طريق الجنون الطويل .

     أحياناً تتفقد جسمَها لتتأكد هل هي موجودة في هذا العالَم أم لا. تتحسس أعضاءها لتطمئن أن جسدها كامل لا ينقصه شيء ! . وهي تقاتل نفسَها من أجل إخفاء هذه الحالة عن زوجها ، فقد يظن أنها مجنونة فيبحث عن زوجة أخرى . وفي هذه الحالة تكون رسمية قد خَسرت أُمَّها وزوجها معاً. وهذا ما لا تريده، ولا تحب أن يخطر في بالها. والحيُّ أبقى من الميت !.

28‏/10‏/2016

سنكلير لويس وإدمان الكحول

سنكلير لويس وإدمان الكحول

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 28/10/2016

....................

   يُعتبَر الكاتب سنكلير لويس ( 1885_ 1951) أول أمريكي يفوز بجائزة نوبل للآداب ( 1930) . وقد حقَّق شُهرةً عالمية بسبب رواياته التي هاجم فيها أشكال الضعف في المجتمع الأمريكي ، وكشف عوالم الرياء والنفاق .
     وُلد في ولاية مينيسوتا . وفي سِن الحادية والعشرين عاشَ فترةً قصيرةً في هيليكن هول ، وهو مركز مجموعة اشتراكية في ولاية نيوجيرسي . وفي عام 1908تخرَّج من جامعة ييل ، ثُمَّ عمل صحفياً. وفي عام 1914نشر أُولَى رواياته " صاحبنا السيد رن "، والتي تُمثِّل سَرداً ساخراً بشكل لطيف عن موظف من نيويورك يذهب في رحلة إلى أوروبا ، ويقوم بمغامرات رومانسية ساذجة .
     انتقلَ لويس إلى العاصمة واشنطن ، وكرَّس نَفْسَه للكتابة. وقد كتب أربع روايات ، لكنَّه لَم يُحقِّق نجاحاً كبيراً . وفي عام 1916 ، بدأ التَّحضير لروايته الجديدة "الشارع الرئيسي" التي تَتحدَّث عن الحياة الواقعية في بلدة صغيرة . وقد أكملها في منتصف عام 1920 ،ونشرها في نفس العام، ولاقت نجاحاً كبيراً، وأثارت تعاطفاً هائلاً مَعَ أفكارها ، وحقَّقت له شُهرةً سريعة .
     أحدثت الروايةُ ضجةً هائلة في المجتمع الأمريكي، وكان صدورها حَدَثاً مثيراً في التاريخ الثقافي الأمريكي . وكانت التوقعات الأكثر تفاؤلاً أن تَبيع الرواية 25 ألف نسخة في الأشهر الستة الأُولَى ، لكنها باعت 180 ألف نسخة . وفي غضون بِضْع سنوات ، قُدِّرت المبيعات بمليونَي نُسخة . وصار الكاتب من الأغنياء .
     وَجَّهت الروايةُ نقداً قوياً لبلادة الذهن ونقص الثقافة في بلدة أمريكية صغيرة ، كما أنَّها سَخِرَت من ضيق التفكير والرضا عن الذات لدى سُكَّانها . وقد كُتبت الرواية بعناية فائقة ، وتَعرَّضت لأدق التفاصيل، وأظهرت معاناة بطلة الرواية وجهودها الضائعة من أجل تحسين مدينتها، وإيقاظها مِن سُباتها العميق . والكاتبُ يُركِّز على مبدأ غياب الأمل في التغيير ، واستحالة تحقيق نهضة أخلاقية في مجتمع مادي استهلاكي .
     واصلَ لويس سلسلة نجاحاته الأدبية ، فأصدرَ في عام 1925 رواية " أروسميث " ، التي تصف خيبة أمل طبيب شاب مثالي في صراعه مع الفساد والحسد وحب الذات والأذى . فازت الرواية بجائزة بوليتزر للعام 1926 . وقد رفضها لويس لاعتقاده أنَّه كان من الواجب أن يَحصل على الجائزة قبل ذلك . وفي روايته " إلمر جَنْتري " ( 1927) يسخر لويس من النفاق الديني والتزمت في بلاد الغرب الأوسط . وكانت روايته دورسورث ( 1929) آخر أعماله الجيدة على المستوى الفني . وهي تتحدث عن التناقضات بين الحياة الأمريكية والحياة الأوروبية ، وتصف مصاعب زواج رجل أعمال أمريكي مشهور خلال جولته الأوروبية .
     وفي عام 1928م تزوج لويس من دوروثي طومسون (1894 – 1961م ) وهي مراسلة أجنبية شهيرة ، وكاتبة عمود صحفي . وانتهى زواجهما بالطلاق عام 1942 .
     حصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1930لقدرته على رسم الشخصيات، ووصف الأحداث بدقة وعُمق ، مع الطرافة والفُكاهة ، مَعَ استخدام أساليب لغوية جديدة . كما يمتاز الكاتب بنقده للرأسمالية الأمريكية المادية في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين . وقد تَمَّ تكريمه بعد فوزه بالجائزة، وذلك بوضع اسمه على طابع بريد تذكاري ضمن سلسلة الأمريكيين العظماء .
     والمضحك المبكي أنَّ الكاتب لم يُعْثَرْ عَلَيه خلال مراسم جائزة نوبل ، ليتسلَّم جائزته من يد ملك السويد ، ووُجد نائماً في دَورة المياه التابعة لدار( الكونسرتو )، وهو في أسوأ حالات السُّكر، وقد أُغلِق عَلَيه باب المرحاض !.
     بعد فَوزه بجائزة نوبل . كتب لويس أكثر من عشر روايات ، لكنَّ مستواها الفني ضعيف . فهي روايات تُصوِّر الواقعَ بصورة ضحلة وساذجة.يعتبره النقادُ في وقتنا الحالي فنَّاناً دقيق الملاحظة، يمتاز بأسلوب وصفي بارع ، لكنَّه ليس مُبدِعاً حقيقياً لافتقاره إلى الأسلوب الأدبي الرفيع .
     إنَّ المشكلة الرئيسية في حياة لويس هي إدمانه على الكحول . وقد نصحه الأطباء بالتوقف عن الشُّرب إذا كان يُريد أن يَعيش . لكنَّه لم يتوقف . وتُوُفِّيَ في رُوما من إدمان الكحول في عام 1951 . وتَمَّ حرق جُثته ، ودُفن رُفاته في مسقط رأسه .

     مِن أبرز رواياته: صاحبنا السيد رن ( 1914 ) . الهواء مجاني ( 1919) . الشارع الرئيسي ( 1920) . بابيت ( 1922) . أروسميث ( 1925) . إلمر جَنْتري ( 1927) . دورسورث ( 1929) .

21‏/10‏/2016

القصيدة والتاريخ الجديد

القصيدة والتاريخ الجديد

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

.................

     إن الحلم القصائدي لا يمكن أن ينتشر في المجتمع بدون الصور الفنية الرمزية البناءة، وهذه الصور هي النظام الذي يجسِّد الشعورَ الوجداني العام، ويَحمل التصورات الاجتماعية التي تعيد اكتشاف أبجدية الثقافة والدلالاتِ الإنسانية العميقة . وهذا لا يعني تحول القصيدة إلى عملية نسخ للعلاقات الاجتماعية . فالقصيدةُ هي منظومة متفردة تصنع تاريخها الشخصي ، وتولِّد أزمنتها وأمكنتها دون ضغط من أحد.وبذلك تَكون الأبجديةُ الشعرية معياراً إنسانياً جديداً متحرراً من ردود الأفعال ، لأنه هو الفعل الحقيقي المتبوع لا التابع .
     والمجالُ الحيوي لنظام القصيدة هو وجوه الناس. فهذا النظامُ المتميز يصنع تاريخاً جديداً للبشر، فهو ينقلهم من فوضى النمط الاستهلاكي إلى فضاءات إبداعية تزرع دهشةَ الحياة في الواقع المادي الضَّيق ، وتنشر لذةَ الوجود الإنساني في العلاقات الاجتماعية ، وتكتشف رمزيةَ العناصر الحياتية . وبالتالي يتم تأريخ الواقع المعاش ضمن أبجديات الرؤية الشِّعرية التي تبحث عن عوالم الماضي في الحاضر ، وتفتِّش عن ذاكرة المستقبل في الحاضر أيضاً ، وهكذا يصير الحاضرُ زمناً قصائدياً ، وتاريخاً كاملاً لا حدود له ، وتدخل القصيدةُ إلى عوالمها وفق سياق معرفي محدَّد المسار والهدف ، مما يقضي على فوضى الأداء العاطفي التي تظهر أحياناً في التقنية الشِّعرية .

     وكلُّ هذه التراكيب المعرفية تساهم في إقناع المجتمع بأن القصيدة ليست ترفاً زائداً ، أو هلوسات عائشة في عالَم الفوضى . وعندما يقتنع المتلقِّي بأن القصيدة جزء لا يتجزأ من شرعية وجوده الروحي والمادي ، نكون قد نجحنا في جعل القصيدة ذاكرةً حية لجميع الناس ، ومشروعاً إنسانياً عاماً يُحرِّر الفكرَ الاجتماعي من ميراث القمع بكافة أشكاله .

17‏/10‏/2016

عوالم القصيدة والمجتمع الإنساني

عوالم القصيدة والمجتمع الإنساني

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............

 القصيدة هي مشروع تنموي لا يهدف إلى التعبير عن الأشياء فَحَسْب ، بل أيضاً الدخول إلى حقيقة المجتمع الإنساني. وهذه النظرة من شأنها مزج المضامين الثقافية مع السلوك الاجتماعي ، والمزاوَجة بين طبيعة المعرفة الإنسانية ومركزية اللغة الشعرية المحرِّكة لمشاعر الناس . وهذا الارتباط الوثيق بين القيم الثقافية والقيم الاجتماعية سيؤدي إلى صناعة عالَم محسوس موازٍ للعالَم الشعري الحالم .
     وكلما ازدادت التداعياتُ الشعورية ، تكاثرت العوالِمُ المحسوسة وغير المحسوسة . وهنا يظهر دور القصيدة المحوري في التوفيق بين الأضداد، وصهر التناقضات الناشئة في بَوتقة واحدة للوصول إلى أرضية مشتركة تجمع بين النَّص الشعري والفكر الاجتماعي . لذلك فإن القصيدة تقف سداً منيعاً في وجه الفوضى ، والإحباطاتِ الحياتية، والاستنْزافِ العاطفي . وبالتالي فليس غريباً أن تصبح اللغةُ الشعرية هي ضابط الإيقاع في مجتمع القصيدة ومجتمعِ الإنسان على حدٍّ سَواء .
     وبما أن العلاقة بين القصيدة والمجتمع الإنساني تبادلية وتكاملية ، فإن الواقع المعاش يساهم في تخليص القصيدة من الهوامش الزائدة التي تصبح عبئاً على قلب الكلمات النابض . مما يؤدي إلى الحصول على لغة شعرية عالية التكثيف تماماً كالماء المقطَّر .

     والمشكلة الحقيقية التي تواجه بُنية العالَم الشعري ، هي وجود قصائد كثيرة مُحمَّلة بشوائب فكرية يتم تقديمها كمسلَّمات ، فصارت القصيدة في كثير من الأحيان بُوقاً إعلامياً ، وسلعةً يراد  ترويجها بكل السُّبل الممكنة. وهذا يقتل الإحساسَ الشعري، ويجعل من الفكر الشعري قيمةً مُبْتَذَلة خالية من المضمون والإيقاع الصادق ، ويهدم كلَّ العناصر الخيالية والواقعية . لذلك ينبغي أن تحافظ القصيدة على اسمها وسُلطتها ولمعانها وأبجديتها الخصوصية ، فهذه هي الضمانة الوحيدة لتكريس القصيدة ككائن حي حالم وواقعي ، يحشد عنفوانَ اللغة في الحلم الاجتماعي ، وينشر فلسفةَ الحلم بغدٍ أفضل .

14‏/10‏/2016

سيغريد أوندست والخيانة الزوجية

سيغريد أوندست والخيانة الزوجية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 14/10/2016

......................

     وُلِدَت الأديبة النرويجية سيغريد أوندست ( 1882_ 1949) في الدنمارك . ولكنَّ عائلتها انتقلت إلى النرويج عام 1924 . وفي عام 1940 هربت من النرويج إلى الولايات المتحدة ، بسبب مُعارَضتها للنازية ، والغَزْوِ الألماني للنرويج . ولكنها عادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. حَصلت على جائزة نوبل للآداب عام 1928 ، بعد النجاح الكبير لروايتها " أولاف أودنسن "  ( 1925_ 1927) .
     نشأتْ في مدينة ( كريستيانيا ) التي سُمِّيت فيما بعد أوسلو ، وصارت عاصمة النرويج . والدُها كان عالَم آثار ، وأمها ابنة محامي دنماركي . وقد عاشت في مناخ عائلي يَسُوده القلق والاضطراب وغياب الإيمان ، لأنَّ وَالِدَيْهَا كانا مِنَ الملحدين . كان لوالدها تأثير كبير عليها ، فقد وجَّهها نحو أساطير التاريخ الإسكندنافي. وشَكَّلَ مَوْتُه وهي في الحادية عشرة من العُمر صَدمةً كبيرةً لها، وأثَّر سلباً على الوضع الاقتصادي للعائلة ، مِمَّا دفعها إلى التخلي عن الأمل في التعليم الجامعي . وفي سِن السادسة عشرة ، حصلت على وظيفة سكرتيرة في شركة هندسية لتساعد عائلتها مادياً . وعِندَما بلغت الخامسة والعشرين ، انضمَّت إلى اتحاد المؤلفين النرويجيين .
     بَدأت الكتابةَ الروائية في مطلع شبابها، حيث إِنها كتبت روايةً عن العصور الوُسطى للدنمارك، ولكنَّ دُور النشر رَفَضَتْهَا ، ولَم تقتنع بموهبتها وأسلوبها . وبعد عامين من هذه الحادثة ، كتبت روايةً أخرى ليس لها علاقة بالعصور الوُسطى ، وإنما تصف حياةَ امرأةٍ واقعيةٍ . وقد رُفِضَتْ مِن قِبَل الناشرين في بداية الأمر ، ثُمَّ تَحَمَّسَ لها أحد الناشرين بعد صعوباتٍ كثيرة ، فوافق على طباعتها . وهذه الرواية هي " السيدة مارتا أولي " ( 1907) ، وكانت الجملة الافتتاحية فيها على لسان بطلة الرواية :  (( كُنتُ خائنةً لِزَوْجي )) . وهذه الجملةُ الصادمة أثارتْ زَوبعةً في المجتمع النرويجي ، وأحدثتْ فَضيحةً هائلةً ، وحقَّقتْ شُهرةً واسعة للكاتبة وهي في الخامسة والعشرين ، وأصبحت قادرةً على العَيش مِن كتاباتها .
     انتشرت هذه الرواية بين القُرَّاء بسرعة فائقة ، ونَجحت بشكل أسطوريٍّ ، لأنَّها كَشفت العلاقات المستورة في المجتمع ، والتي يَنبغي أن تظل طَي الكِتمان . وفَضحت الروايةُ نِفاقَ المجتمع المتغطِّي بالفضيلة والطهارة ، والذي يَحْصُر مَعنَى الشرف في جسد المرأة ، وأظهرتْ عواطفَ المرأةِ وحاجاتها المعنوية والجسدية ، وأثارتْ عاصفةً مِن الأسئلة المتعلِّقة بالصراع بين الإنسان وأشواقه الروحية، وحَذَّرَتْ مِن مَوت الأحاسيس والذكريات، وضياعِ الإنسان في الفراغ العاطفيِّ الموحِش، وأظهرتْ تناقضاتِ النَّفْس البشرية ، وحَيرةَ الإنسان بين المبادئ والغرائز .
     وفي عام 1911 ، أصدرتْ رواية " جيني " ، وهي بمثابة سيرة ذاتية ، حيث تَتحدَّث فِيها عن رحلتها إلى إيطاليا بعد نجاحاتها الهائلة في عالَم الأدب ، وقصةِ الحب التي جمعتها بالرَّسام سفارستاد الذي تَزَوَّجَتْهُ وانفصلتْ عنه فِيما بَعْد كَي تَتفرَّغ لكتاباتها وتربية أطفالها .
     ثُمَّ جاءت روايتها الملحمية " كريستين " ( 1920_ 1922) ، التي تقع في ثلاثة مجلدات ، وتَتحدَّث عن الحياة في الدول الإسكندنافية في العصور الوسطى ، وتَدور أحداثها في محيط نرويجي كاثوليكي مندمج مع المشاعر الإنسانية الشخصية . ومِنَ الواضح أنَّ هذه الرواية أثَّرت بشكل مباشر على الحياة الشخصية للكاتبة ، إِذ إِنها قَد اعتنقت الكاثوليكية عام 1924 ، أي بعد كتابة هذه الرواية . وهذا فاقمَ غُربتها ، لأنَّ الغالبية الساحقة من سكان النرويج من البروتستانت .
     اكْتَوَت الكاتبةُ بنار السياسة، فقد قامت بالتبرع بقيمة جائزة نوبل لدعم المجهود الحربي لفنلندا ( وهي دولة إسكندنافية ) في عام 1940 ، وذلك بعد غزو الاتحاد السوفييتي لفنلندا فيما عُرف بحرب الشتاء . ثُمَّ أُجبرت على الهروب بعد غَزْو ألمانيا للنرويج في نفس العام ، فهربت إلى السويد وأمريكا ، وشجَّعت من هُناك المقاومة النرويجية ضد الاحتلال النازي. وقد انتقدها هتلر بشدة منذ العام 1930 ، وقامت النازية بحظر مؤلفاتها . وقد قُتل ابنها البِكْر أندرس ( الملازم الثاني في الجيش النرويجي ) وهو في السابعة والعشرين في اشتباك مع القوات الألمانية .
     عادت إلى النرويج بعد التحرير عام 1945 ، وتُوُفِّيَت بعد أربع سنوات . وحَظِيَتْ بتكريم هائل . فقد سُمِّيَت فُوَّهة على سطح كوكب الزُّهرة باسمها. وَوُضِعَتْ صورتها على العُملة النرويجية فئة 500 كرونة . وقامت السويد بوضع صورتها على الطوابع في عام 1998 ، باعتبارها رمزاً لحرية الدُّول الإسكندنافية .

     ويمكن القَول إن الأفكار في كتاباتها تَدور حَوْلَ أربعة مبادئ رئيسية : 1_ العلاقات الإشكالية بين الآباء والأبناء ، وبين الرجال والنساء . 2_ الإعجاب بثقافة القرون الوسطى المسيحية للدول الإسكندنافية . 3_ الصراع النفسي في داخل الإنسان ومشكلاته الجنسية .  4_ اعتماد الكاثوليكية كمرجعية للأفكار والمجتمع .

08‏/10‏/2016

هنري برغسون وفلسفة الروح

هنري برغسون وفلسفة الروح

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

صحيفة رأي اليوم ، لندن ، 7/10/2016

.........................

    يُعتبَر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون ( 1859_ 1941) مِن أبرز الفلاسفة في القرن العشرين . ساهمَ في نشر منهج التفكير وأسلوب التعبير اللذين يَعتمدان على الإيمان بالرُّوح . وهذه الفلسفةُ تَركت أثَرَها على النتاج الفكري الأوروبي ، لأنَّها جاءت كردة فِعل ضِد المذهب المادي الذي يُلغي القيمَ الروحية ، ولا يَعترِف إلا بالأمور المحسوسة .
     كانت فلسفة كانط هي المسيطرة على الساحة الفكرية الفرنسية بين عامَي 1870 و1918، وهي فلسفة مُستوردة من ألمانيا، قائمة على الوَضعية التي تعتبر المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحِسِّية . هاجمَ برغسون التطرف المادي لفلسفة كانط ، وانتقدَ إهمالَها للجوانب الروحية والأمورِ الخارجة عن نطاق المادة .
     دَرَسَ برغسون في مدرسة المعلمين العُليا ، ثُمَّ أصبحَ أستاذاً في الكوليج دو فرانس . وهي مؤسسة فرنسية تختص بالبحث العلمي والتعليم العالي ، وتقوم بالتدريس على مستوى الباحثين وطلبة الدراسات العُليا . وفي عام 1914تَمَّ انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية . ثُمَّ سافرَ في عام 1917 إلى الولايات المتحدة لإقناع الرئيس ويلسون بدخول الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا.
     استقالَ من التعليم العالي عام 1921 ، كَي يَتفرَّغ بشكل كامل للقضايا السياسية والشؤون الدولية . وفي عام 1927حصل على جائزة نوبل للآداب اعترافاً بإنجازاته الفلسفية ، وتأثيره الهائل على المذاهب الأدبية والدينية والفلسفية . وخلال العشرين سنة الأخيرة مِن حياته ، لم يُؤلِّف إلا كتاباً واحداً . وقد ماتَ برغسون عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية ، وكانت فرنسا مُحتلة مِن قِبَل الألمان .
     والغريبُ في الأمر أنَّ برغسون حَقَّقَ في حياته شُهرةً عالميةً ، وانتشرت فلسفته في الآفاق . ولكنْ بَعد وفاته ، انقلبت الشُّهرة إلى انطفاء ، وابتعدَ الناسُ عن أفكاره ، وصارت فلسفته جُزءاً من الماضي ، وذَهبت كتاباته إلى النسيان والإهمال . وحدث انصراف تام عن فلسفته وكُتبه ، مِن نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم ، كأن شَيئاً لم يَكُنْ . وقد مَسَحَت الوجوديةُ فَلسفته تماماً ، وجَعَلَتْها أثَرَاً إِثْرَ عَيْن . 
     تقوم فلسفة برغسون على أربعة مبادئ أساسية: المبدأ الأول ( وهو مبدأ سياسي ) _ الإشادة بالديمقراطية واعتبارها نظاماً فكرياً وسياسياً يَعلو على ظروف المجتمع المغلَق ، واعتبار السلام محاولة لتجاوز حالة الطبيعة الموجودة في المجتمع المغلَق ، إذ إن الأصل في الحروب هو الأنانية وحب التَّملك سواءٌ كان فردياً أَم جماعياً . وقد أشادَ بِعُصبة الأمم باعتبارها منظمة دولية تهدف إلى إنهاء الحروب ، وركَّز على ضرورة القضاء على الأسباب المؤدِّية إلى الحروب مثل : تضخم السكان ، والتوزيع غير العادل للثروة .  
     المبدأ الثاني _ اعتبار الروح هي أصل جميع الأشياء ، وأنَّ الزمن مسار مُتَّصل لا فواصل فِيه ، يَمتاز بالدَّيمومة والحركة المستمرة . ولا يمكن معرفة الدَّيمومة إلا بالحدس ( الإدراك الصوفي ) ، حيث يتطابق فِعْل المعرفة مَعَ الفِعْل الذي يَصنع الواقعَ . والحدس _ وَفْقَ تعريف برغسون _ هو الجهد المبذول لمعرفة الموضوع من الداخل ( اكتشاف باطن الشَّيء ) . والحدسُ لَيس ناتجاً عن الغريزة، بل هُوَ ناتج عن التفكير العقلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر .
     المبدأ الثالث _ اعتبار الذاكرة ظاهرةً نَفسية ، وليست ظاهرة فسيولوجية ( والفسيولوجيا هي علم دراسة وظائف الأعضاء والأجهزة الحيوية ) . ويُفرِّق برغسون بين نَوْعَيْن من الذاكرة : الذاكرة العادية وهي المكتَسَبَة بالتكرار ، والمرتبطة بالجهاز العصبي ، حيث تستعيد الماضي بطريقة آلية بحتة . والذاكرة المحضة التي تَختزن الماضي وتَحيا في دَيمومة مستمرة . إنها ذاكرة النَّفْس التي تُصَوِّر الحوادث الذهنية ، وتحتفظ بخصائص الأشياء وتاريخها . والذاكرة _ وفق برغسون _ هي نقطة البداية ، وتَمهيد لحل مشكلة العلاقة بين النَّفْس والجسد .
     المبدأ الرابع _ التمييز بين نَوْعَيْن مِنَ الأخلاق : الأخلاق الساكنة المغلَقة ، والأخلاق المتحرِّكة المفتوحة . الأخلاقُ الساكنة المغلَقة تشتمل على مجموعة العادات التي تَفرضها الجماعة على الفرد ، وتنحصر وظيفتها في حماية كيان المجتمع من التَّفكك . أمَّا الأخلاق المتحرِّكة المفتوحة فتتجاوز حدود الجماعة ، لأنها لَيْسَتْ ناتجة عن الضغط الاجتماعي ، وإنما هي استجابة الفرد لنداء الحياة .
     إنَّ قوة برغسون الفلسفية تتجلى في تأثيره الهائل على الفكر والأدب ، كما تتجلى في أسلوبه البليغ الذي ساهمَ في رَواج كُتبه . أمَّا نِقاط ضَعفه فكثيرة ، مِن أهَمِّها : كثرة العبارات الغامضة وعدم تَوضيحها ، واللجوء إلى الإنشاء وغياب التحليل والمنطق في كثير من الأحيان ، ونَسخ أفكار الفلاسفة السابقين، فمبدأ الصَّيرورة منقول عن هيجل، والتلقائية منقولة مِن ( دي بيران )، والدافع الحيوي منقول عن أفلوطين ، وآراؤه الدينية منقولة عن اليهودية .  

     مِن أبرز مؤلفاته : فكرة المكان عند أرسطو( 1889 ) . المعطيات المباشرة للشعور ( 1889) . المادة والذاكرة ( 1896) . الضحك ( 1900) . الطاقة الروحية ( 1919) .

07‏/10‏/2016

جورج برنارد شو ومتاهة التناقضات


جورج برنارد شو ومتاهة التناقضات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 7/10/2016

................

     وُلد الكاتب المسرحي الإيرلندي جورج برنارد شو ( 1856 _ 1950) في دَبْلِن ، لعائلة بروتستانتية من الطبقة المتوسطة. وعندما بلغ الخامسة عشرة ، ترك المدرسة ليعمل موظفاً . كان نباتياً لا يأكل اللحم إطلاقاً ، كما أنه لم يشرب الخمر في حياته ، لأن والده كان سِكِّيراً ، وهذا الأمر شكَّل صدمةً له .
     انتقل إلى لندن حين أصبح في العشرينات، وعاش في فقر مُدْقِع . لذلك صارت مكافحة الفقر قيمةً مركزية في كتاباته . كما أنه انخرط في العمل السياسي ، وانضم إلى الجمعية الفابِيَّة ( وهي جمعية تهدف إلى نشر المبادئ الاشتراكية بالوسائل السلمية ) .
     قام برنارد شو بتثقيف نفْسه بنفْسه ، فاستمر بالقراءة ، وأخذ يتردَّد على المتحف البريطاني ، وتَعَلَّمَ اللاتينية والفرنسية ، وقد اعتبرَ أن المدارس سجون ومُعتقَلات، كما أنه كان مُعادِياً لحقوق المرأة، ومُنادِياً بالمساواة في الدَّخْل ، ومُتسامِحاً مع الأديان ، معَ أنه _ فكرياً _ كان من اللادينيين.
     والمفارَقة العجيبة هي أن برنارد شو لاديني ، ومعَ هذا كان مَثَلُه الأعلى هو النبيَّ محمداً صَلَّى الله عليه وسَلَّم ، فقد كان يرى أن حياة الجهاد التي عاشها النبيُّ هي الحياة المثالية التي أراد هو نفْسه أن يعيشها . وبلغ به الإعجاب أن حاولَ كتابة مسرحية " محمد " من أجل نشر تعاليمه الدينية ، والكفاح في سبيل حرية الرَّأي ، والخلاص من التعصب الأعمى واستبداد السُّلطة . وقد قامت الرقابة في البلاط الملكي برفض تمثيل النبيِّ محمد على خشبة المسرح، خَوفاً من ردود الأفعال ، وحرصاً على رضا السفير التركي لدى بريطانيا في ذلك الوقت .
     ولم يقف التناقض في حياة برنارد شو عند أفكاره الدينية ، بل شَمِلَ أيضاً أفكاره السياسية ، فقد تَحَدَّث في كثير من الأحيان بشكل إيجابي عن الدكتاتوريات من اليمين واليسار ، وأعربَ عن إعجابه بموسوليني وستالين على حَدٍّ سَواء، رغم ما بينهما من عداوة وتناقض أيديولوجي صارخ .
     يُعتبَر برنارد شو أحد أشهر الكتاب المسرحيين في العالَم ، وهو الكاتب الوحيد في التاريخ الذي حازَ على جائزة نوبل للآداب( 1925)، وجائزة الأوسكار لأحسن سيناريو( عن سيناريو بِجماليون في العام 1938 ).
     وقد فجَّر برنارد شو مفاجأة من العيار الثقيل ، حين رفض جائزة نوبل حِينَ أُعلِن فَوزه به ، ولكنه قَبِلَها بعد ضغوطات كثيرة ، وقال : (( إن وطني إيرلندا سيقبل هذه الجائزة بسرور, ولكنني لا أستطيع قبول قيمتها المادية. إن هذا طَوق نجاة يُلقَى به إلى رَجل وصل فِعلاً إلى بَر الأمان , ولم يَعُدْ عليه مِن خطر )) . وقد تبرَّع بقيمة الجائزة لإنشاء مؤسسة تُشَجِّع نشر أعمال كبار مؤلفي بلاد الشمال إلى اللغة الانجليزية .
     ظل برنارد شو يكتب المسرحيات لمدة نصف قرن . ومنهجه في الكتابة المسرحية هو اعتماد الواقعية الجديدة في الدراما ، وذلك باستخدام الأفكار الأدبية لنشر المبادئ السياسية والاجتماعية والدينية . وتجاوز عدد مسرحياته الطويلة والمتوسطة الخمسين مسرحية ، وتم إخراج عدد كبير من هذه المسرحيات أثناء حياته في أهم العواصم العالمية. وقد تُرجمت أعماله الكاملة إلى اللغة العربية ، وصَدرت على شكل أجزاء ، كما صدرت كل مسرحية على حِدَة .

     مِن أشهر مسرحياته: المال ليس له رائحة ( 1892 ).البطل والجندي ( 1894 ). تلميذ الشيطان ( 1896 ) . رَجل وسوبرمان ( 1903 ) . بِجماليون ( 1912) . بيت القلوب المحطمة ( 1919) . سَلَّة التفاح ( 1929 ) . الملياردير ( 1934 ) .