سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/04‏/2021

جوزيف روديارد كبلينغ وتأييد الاستعمار

 

جوزيف روديارد كبلينغ وتأييد الاستعمار

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............

     وُلد الأديب البريطاني جوزيف روديارد كِبلينغ ( 1865_ 1936) في بومباي بالهند ، التي كانت آنذاك جُزءًا من الإمبراطورية البريطانية ، وكان والده فنَّانًا وعالِمًا . وقد تعهَّد الخدم الهنود كبلينغ بالرعاية ، فدرس على أيديهم اللغة الهندوستانية ( وهي تسمية قديمة للغة الأردية ، كان يستخدمها الإنجليز خاصةً ) ، ثم درس اللغة الإنجليزية .

     وعندما بلغ الخامسة ، أرسله أبواه إلى المدرسة في هامبشاير بإنجلترا ، وعاشَ مع وصيٍّ عامله بقسوة بالغة أثَّرت في الطفل سلبًا ، وقد عبَّر كبلينغ عن تجارب طفولته التعيسة في بعض قصصه .

     وفي سن الثانية عشرة التحق بكلية الخدمات المتحدة في ديفون بإنجلترا . وكانت هذه المدرسة قد أُنشئت بشكل خاص لتعليم أبناء الضباط العسكريين ، الذين لَم يكونوا قادرين على الالتحاق بالمؤسسات التعليمية ذات التكاليف المرتفعة .

     وكتب كبلينغ عن هذه المدرسة في مجموعة قصصية بعنوان " ستولكي وشركاه " ( 1899 ). وقد تحمَّل التخويف والنظام الصارم في المدرسة ، وأقام صداقات ، وطَوَّرَ قدراته الأدبية . وفيما بعد اعتبرَ كبلينغ هذه المدرسة نموذجًا لتدريب قادة المستقبل البريطانيين .

     وعندما بلغ سن السابعة عشرة ، رفضَ عرض والديه لإلحاقه بالجامعة ، وعادَ إلى الهند، وعمل مُوظفًا في صحيفة الجازيت التي كانت تصدر في لاهور ( في باكستان الآن ) . وعلى الرغم من ضغوط الوظيفة ومتاعبها، بدأ كبلينغ في كتابة القصائد والقصص القصيرة . ونشر العديد من أعماله الأدبية في الجريدة التي يعمل فيها.

     وفي عام 1889 ، سافرَ إلى إنجلترا للعمل مراسلاً للجريدة ، وبعد وصوله بوقت قصير نشرت جريدة التايمز اللندنية ذات الشُّهرة العالمية في ذلك الوقت نقدًا امتدحت فيه كتاباته . وقد كان هذا النقد أول وأهم اعتراف به ككاتب . وفي عام 1892 ، انتقلَ إلى الولايات المتحدة ، وكتب هناك روايةً بالاشتراك مع صديقه الأمريكي بالستير . لكنَّ كتابهما لَم يَعرف طريقَ النجاح .

     وفي نفْس العام تزوَّج كبلينغ مِن أخت صديقه بالستير . وعاش الزوجان في فيرمونت إلى أن انتقلا إلى إنجلترا سنة 1896 . يُعتبَر كبلينغ من أهم كُتَّاب القصة القصيرة ، وتُعَدُّ قصص الأطفال التي كتبها من كلاسيكيات الأدب العالمي . وتبرز في رواياته موهبته السردية القائمة على التقاط اللحظة ، والتصوير الفني الدقيق . وقد شملت موهبته الأدبية النثر والشِّعر معًا .

     تتناول معظم أعمال كبلينغ الأولى عَظَمة الإمبراطورية البريطانية،والإشادة بالجنود البريطانيين، وتصوير عُمَّال الحكومة كأبطال ، ووصفهم بأنهم ناشرو العدل والازدهار والحضارة في البلاد البعيدة ، وتمجيد النَّزعة الاستعمارية التي كانت تُمثِّل العقيدة السياسية لبريطانيا . وهذه المبادئ تتجلى في مجموعاته القصصية : حكايات بسيطة من التلال ( 1888 )، جنود ثلاثة (1888) ، وقصص أخرى( 1889).وقد استغل مهارته الأدبية ومعرفته بالهند لجعل كتاباته مُقنعة ومتماسكة.

     كتب كبلينغ أول رواية له : " الضوء الذي خبا " (1890) بعد عودته إلى إنجلترا من الهند بوقت قصير. ولَم يَنَلْ هذا الكتاب شُهرةً كبيرة، لكنه أظهر أن كبلينغ قادر على الكتابة بتعاطف عن قضايا لا علاقة لها بالإمبراطورية البريطانية . والروايةُ تتحدث عن جندي فنَّان شاب ، يُواجِه العمى المتوقَّع،وفقدان حُب امرأة.ويُقْدِم على الانتحار عن طريق تعريض نفْسه لنيران العدو عَمْدًا.

     وحقَّق كبلينغ شهرةً عالمية ، وكسب جمهورًا كبيرًا مِن القُرَّاء بقصصه التي كتبها للأطفال . وأشهر مجموعاته القصصية على الإطلاق كتاب الأدغال(1894) الذي يصف مغامرات ماوكلي ، الطفل الهندي الذي يضيع في الأدغال ، ويعيش مع عائلة من الذئاب ، وبعد مرور السنوات ، يعود ليعيش مع البشر . وقد جعل كبلينغ الأدغال تبدو عالَمًا سياسيًّا واجتماعيًّا متكاملاً .

     تعرَّض كبلينغ لحملة من الرفض والكراهية ، وساءت سُمعته ، وصارَ شخصًا غير مرغوب فيه، لأن الكثيرين أخذوا يُعارضون الاستعمار ورموزه ، وبدأت شهرة هذا الكاتب تنطفئ بين النُّقاد بعد عام 1910 . لقد خسر الكثير من شعبيته بسبب تأييده للتَّوسُّع الاستعماري البريطاني . وعارضه آخرون بسبب وقوفه ضد منح المرأة حق التصويت .

     بقي كبلينغ يكتب إلى ثلاثينيات القرن العشرين ، ولكن بوتيرة أقل ، ودون نجاح يُذكَر . وقد تُوُفِّيَ عن عمر يناهز السبعين عامًا ، ولَم يتمكن من استعادة شعبيته التي حقَّقها في شبابه . وقد أُحرِق جُثمانه ، ودُفن رماد جثته في رُكن الشعراء .

     يُعتبَر كبلينغ أصغر فائز بجائزة نوبل للآداب ( 1907 ) . وأول كاتب باللغة الإنجليزية يحصل عليها .

     مِن أبرز أعماله الأدبية : النور الذي خبا ( 1890) ، كتاب الأدغال ( 1894) ، البِحَار السبعة ( 1896) ، القادة الشجعان ( 1897) ، عمل اليوم ( 1898) .

29‏/04‏/2021

جوزيبي أونغاريتي والاعترافات الشعرية

 

جوزيبي أونغاريتي والاعترافات الشعرية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............

وُلد الشاعر الإيطالي جوزيبي أونغاريتي ( 1888 _ 1970 ) في الإسكندرية بمصر ، وتُوُفِّيَ في ميلانو بإيطاليا .

تنحدر أسرته من أصول توسكانية . تُوُفِّيَ والده أثناء أعمال الحفر بقناة السويس ، ونشأ في رعاية والدته ومُرَبِّيته النوبية . التحقَ أونغاريتي بالمدرسة السويسرية بالإسكندرية، وعاش بالمدينة حتى عمر الرابعة والعشرين، قبل أن ينتقل إلى باريس بفرنسا، ومنها لروما التي استقر بها فترة مُؤسِّسًا التيار الشِّعري المغلق الهرمسي . بعدها سافر للبرازيل بصحبة أسرته، قبل أن يعود مُجَدَّدًا إلى إيطاليا مع الحرب العالمية الثانية . وكان دائم الترحال والأسفار .

حضر أونغاريتي في الكوليج دو فرانس محاضرات الناقد الأدبي الفرنسي غوستاف لانسون ، ومحاضرات جوزيف بدييه أستاذ أدب العصر الوسيط ، كما واظب في جامعة باريس على حضور محاضرات الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون . وقد تردَّد أونغاريتي خلال مُدَّة إقامته في باريس على أكثر الأوساط الثقافية والفكرية والفنية الطليعية نشاطًا آنذاك . كما اطلع على أعمال ثُلَّة من الشعراء الفرنسيين الذين أثَّروا تأثيرًا بالغًا في مسيرته الشعرية، مِثل : بودلير ومالارميه ورامبو .

نفخَ أونغاريتي في بواكير إنتاجه روحًا جديدة في الشعر الإيطالي، وانطلق صوته غريبًا عن قضايا الشعر الإيطالي السائد آنذاك ، وبَلْوَر أسلوبًا شعريًّا جديدًا في مبناه ومعناه .

نظم أونغاريتي ستة دواوين شِعرية ، جمعها في خمسة مجلدات ، وهي على التوالي :

1_ " غبطة الغرقى " . نظمه خلال الفترة ( 1914_ 1916 ).ويحتوي بين دفتيه على ديوان صغير بعنوان "المرفأ الغائر". وصف أونغاريتي في ديوانه هذا أهوال الحرب ومآسيها، وعبَّر فيه عن فرحة البقاء بعد انتهائها . ويُلمس في هذا الديوان شفافية التشاؤم البطولي الذي يطبع بطابعه مجموعة قصائد الديوان .

2_ " الشعور بالزمن " . نظم قصائده خلال الفترة ( 1919 _ 1937 ) .عبَّر فيه عن ضيقه بالعَيش وتبرُّمه به، واستحواذ فكرة الموت وهاجسه على نفسه، فبحث عن وطن حقيقي ضائع ومختبئ في ليل الزمان السحيق. كما بحث عن "البراءة الأولى". وتُظهِر هذه الأحاسيس كُلُّها أن جرح النفي والاغتراب الذي كان يشعر به على الدوام لَم يندمل عنده . وقد زاد من حِدَّة اغترابه عن وطنه آنذاك معارضته للفاشية وأفكارها ، فشدَّ الرحال من جديد وسافر إلى البرازيل، ليُدرِّس فيها الأدب الإيطالي الحديث خلال الفترة ( 1937 _ 1942 ) . وقد بحث أونغاريتي في ديوانه هذا عن أسلوب أكثر إتقانًا ، وعن شكل شِعري أكثر اتباعية .

3_ "الألم".نظم قصائده خلال الفترة(1937_1946) . وقعت أحداث جِسام تركت بصماتها المأساوية على قصائد هذا الديوان. فقد تُوُفِّيَ ولده ، وأدمى قلبه احتلال النازيين لروما ، فصبَّ أحزانه في قصائد فيها نُواحٌ يُمزِّق القلوب .

4_ " الأرض الموعودة " . نظم قصائده خلال الفترة ( 1947 _ 1950 ) . لقد شعر أونغاريتي طيلة حياته أنه منفي في الأرض ، وهائم على وجهه ، ودائم التنقل والترحال، يحثُّ السير أبدًا نحو آفاق جديدة.فقد وُلِد في مصر التي تعجُّ بشتى الأساطير،وبالسِّحر الذي يفتن الغرب. وبقي طوال حياته داعيًا لهذه الازدواجية التي تجري في عروقه بين أصله الإيطالي ومولده المصري.

5_ " صراخ ومناظر ". وهو آخر دواوينه. نظم أشعاره خلال الفترة ( 1950_ 1954).

أمَّا في مجال النثر،فقد كتب أونغاريتي مجلدات كثيرة عن ذكرياته.كما كتب مقالات ودراسات شرح فيها تجربته في الهرب من " قلق العصر " عن طريق الصفاء التقني في النظم الشعري، واللوذ بالأحلام، والتلاشي في الأحاسيس. وهذه كُلها منابع للخلاص الإنساني يمكن أن يبلغ الشِّعر فيها شأوًا بعيدًا لا يخلو من غموض وانسجام . كما كتب أونغاريتي دراسات في التصوير والمصورين.

شِعر أونغاريتي بأكمله وبعُمقه مرآة لسيرته الذاتية والمناسبات التي عاشها. فهو لَم يترك مناسبة أو تجربة إلا ونظم فيها شِعْرًا . ويُعَدُّ هذا الشِّعر اعترافات متلاحقة، لكنه تمالك فيها نفْسه، وكبح جماحها من شطط الحقيقة وخفاياها اللاذعة أحيانًا .

يُعتبَر أونغاريتي رائدًا من رواد المدرسة الهرمسية أو الإبهامية التي اختارت الإبهام والغموض منهجًا لها . وشِعره رصينٌ ، دقيق المعنى والفِكرة، ليس فيه تكلُّف، وليس فيه حَشْو ولا إسفاف، وهو يُعيد القارئ في شِعره إلى ماضٍ بعيد، ماضي ما قبل الولادة ، ماضي الإنسان البدائي، فيصل بذلك في شِعره إلى مرحلة الأسطورة .

كان أونغاريتي أحد المساهمين البارزين في الأدب الإيطالي خلال القرن العشرين ، وقد حصل على جائزة نيوستاد الدولية للأدب عام 1970 . وهي جائزة تمنحها جامعة أوكلاهوما كل عامين، وتُعَدُّ ثاني أعظم جائزة أدبية في العالَم بعد جائزة نوبل للآداب .

28‏/04‏/2021

جوزويه كاردوتشي وتمجيد الشيطان

 

جوزويه كاردوتشي وتمجيد الشيطان

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

..........

وُلد الأديب الإيطالي جوزويه كاردوتشي ( 1835_ 1907) في بلدة فال دي كاستيلُّو شمال غربي إيطاليا ، وتُوُفِّيَ في مدينة بولونيا.

انتقلت أسرته إلى فلورنسا عام 1845 . تلقى تربية دينية لدى مُرَبِّين خاصِّين ، ثم تابعَ دراسته، ودخلَ دارَ المعلمين العليا في مدينة بيزا عام 1856 لنيل الماجستير . شهدت بداية حياته مآسي عِدَّة ، مِنها : وفاة والده الطبيب، وانتحار شقيقه ، إضافة إلى ضائقة مادية تفاقمت بزواجه . يُعتبَر أول إيطالي يَفوز بجائزة نوبل للآداب ( 1906 ) .

علَّم في إحدى المدارس الثانوية ، وعُرف بأخلاقه الرفيعة. وقد عَرض عليه وزيرُ التربية في أول حكومة شهدتها إيطاليا بعد توحيدها منصب أستاذ للأدب الإيطالي في جامعة بولونيا، فتولى المنصب عام 1860. وقد تفرَّغ للتدريس والكتابة النقدية والنشر ، وبقي فيه حتى تقاعده عام 1904. وقد لفت انتباهَ الوزير بقصائده التي نشرها عام 1857 ، وحَملتْ نفحةً إبداعية رومانسية صادرة من القلب، إلا أن كاردوتشي ابتعدَ عن هذا المجال، وانضمَّ إلى أنصار المذهب الكلاسيكي في الأدب ، الذين كانوا يَعملون في مجلة" الْمُلْحَق "، ويَهدفون إلى نُصرة اللغة الإيطالية ، والوقوف ضد التيار الإبداعي الأوروبي .

وَرِثَ كاردوتشي عن والده الفكرَ الثوري الحر ، وكان يَحلم بإنجازات حقيقية تُساهم في توحيد إيطاليا وتأسيس الحكم الجمهوري . وبدأ تمرده على الدِّين والمجتمع ، فاتَّخذَ موقفًا مُعادِيًا للوضع الدِّيني والحالة الاجتماعية ، رافضًا السُّلطة الكنسية المهيمنة على المجتمع . فنظمَ أنشودة    " إلى الشيطان" ( 1865) . و" جدال شيطاني " ( 1869 ). وقد وضع فيهما فكرته الشخصية حول الشيطان ، وأنَّه يُمثِّل العِلْمَ وتقدم الفكر البشري في وجه الجهل والخرافات .

تابعَ كاردوتشي الأحداثَ السياسية منذ الاستقلال ، وعايشَ ظروف توحيد البلاد ، وانتقال العاصمة إلى فلورنسا ، ونهاية الْحُكم البابوي الاستبدادي، وخسارة حزب اليمين، ووصول اليسار إلى الحكم عام 1876. وكان في هذه الفترة عضوًا جمهوريًّا عاملاً ، ومُنع من التعليم ، إلا أن حياته تغيَّرت بالكُلِّية في عام 1878 ، فقد التقى الملكة الشابة مرغريتا ، وتَغَنَّى بجمالها في إحدى قصائده . وقد أدى هذا اللقاء _ إضافةً إلى تغيُّر المسار السياسي العام والحزن الذي أصابه بعد وفاة والدته وابنه _ إلى تقرُّبه من السُّلطة .

وهذا ساعده في الفوز بمقعد في مجلس الشيوخ عام 1890. فتراجعَ عن مواقفه العدائية، وخفَّف من لهجته الحادة.وبدأ يَميل إلى التوازن والاعتدال، معَ المحافظة على الثوابت التي يُؤمن بها، وهي حُبُّه للوطن ، وحُبُّه للشِّعر ، ونظرته التَّشاؤمية للحياة .

أصدرَ كاردوتشي عِدَّة مجموعات شِعرية ، مِن أبرزها : " جوفينيليا " ، "هجائيات " ، " قوافٍ جديدة " ، " قصائد همجية " . وله أيضًا كتابات نثرية ، مِن أهَمِّها : " اعترافات ومعارك " .

كَتب كاردوتشي الشِّعرَ في فترة كان النثر فيها أقرب إلى التيار الواقعي . وحاولَ جاهدًا أن يَرفع مِن شأن الشِّعر قائلاً : (( إن لغة الشعر أدبية ورفيعة المستوى ، وقراءتها نُخبوية )) .

وأظهرَ في كتابه " هجائيات وإيبودات " انفتاحًا نحو الشِّعر الحديث ، إلا أن لغته المصقولة لَم تُسعفه كثيرًا في وصف الحاضر ، الذي اعتبره مناخًا فاسدًا انتشرَ فيه الرياء والجحود ، وكَثُرَ فيه اللاأخلاقيون .

وقد تغنَّى بالأمجاد الغابرة ، ورأى في الثورة الفرنسية حَدَثًا عظيمًا في التاريخ المعاصر ، وكان يسعى إلى بناء حاضر إيطالي مثالي . كما أنَّه عُرف بِسَعْيه الدؤوب من أجل تحديث قوالب الشِّعر، فخرجَ عن التناغم التقليدي الذي يستند إلى تناوب المقاطع القصيرة والطويلة في البيت الشِّعري ، ولجأ إلى تشديد النَّبْر بما يُحْدِث تناغمًا بين الأبيات .

27‏/04‏/2021

جورج هيغل وفلسفة التاريخ

 

جورج هيغل وفلسفة التاريخ

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........


وُلِد الفيلسوف الألماني جورج هيغل ( 1770 _ 1831 ) في شتوتغارت في المنطقة الجنوبية الغربية من ألمانيا ، لعائلة تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة . كان والده موظفًا في الدولة البروسية . وكانت أُمُّه ابنة مُحامٍ في المحكمة العليا .

دخل هيغل المدرسة في سن الثالثة . وحين دخل المدرسة اللاتينية في سن الخامسة ، كان بالفعل يعرف الأبجدية اللاتينية التي سبق أن علَّمته أُمُّه إياها . في سن السادسة ، التحقَ بمدرسة متقدمة في شتوتغارت . وفي فترة المراهقة كان هيغل قارئًا نهمًا ، وكان ينسخ مقاطع طويلة مِمَّا يَقرأ . وكانت أطروحة هيغل للتخرج من الثانوية بعنوان " حالة ركود الفن والمعرفة في تركيا " .

بعد أن أنهى هيغل دراساته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت ، انتقل عام 1788 إلى مدينة توبينغن، ودخل كلية الإلهيات الشهيرة. وهناك،درس التاريخ وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه " هولدرلين" الذي سيصبح شاعرًا كبيرًا فيما بعد. وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة، وصديقه الآخر " شيلنغ " الذي سيصبح فيلسوفًا. وكانوا يتشاركون الغرفة نفسها .

أتَمَّ هيغل تعليمَه في كلية توبينغر شتيفت ، وحصل على الشهادة اللاهوتية . ثُمَّ عمل مُدَرِّسًا خصوصيًّا مُدَّة ثلاث سنوات لدى أسرة أرستقراطية في برن . وفي تلك الفترة ، ألَّف كتابه الذي عُرِف فيما بعد باسم " حياة يسوع " . وكان عنوانه الأصلي " إيجابيات الدين المسيحي " .

توتَّرت علاقته بالأسرة التي كان يعمل لديها ، فعرض عليه صديقه "هولدرلين" العمل مُدَرِّسًا عند أُسرة أخرى في فرانكفورت.وفي تلك الفترة بالذات كان لهولدرلين تأثير كبير على فكر هيغل .

أثناء عمله في فرانكفورت ، كتب هيغل مقالات مِثل:" شذرات عن الدين والحب "، و "روح المسيحية ومصيرها " . ولَم تُنشَر هذه الأعمال في حياته . ومقال آخر بعنوان "أقدم نظام للمثالية الألمانية " الذي يُعتقد أنه كتبه عام 1797 ، لكنه لَم يُنشَر إلا عام 1926 .

في عام 1801 ، انتقلَ هيغل إلى يينا ( تبعد 300 كم عن فرانكفورت ) بتشجيع من صديقه "شيلنغ" الذي كان بروفيسورًا في جامعة المدينة . عمل هيغل في الجامعة مُحَاضِرًا مُتعاونًا ( بدون راتب ) بعد أن قَدَّمَ أطروحة دكتوراة في علم الفلك . وفي تلك السنة ، نشر هيغل كتابه الأول" الفرق بين فيخته وشيلنغ في النظام الفلسفي". وكان هيغل يحاضر عن المنطق والميتافيزيقا، وشاركَ في تقديم فصلَيْن دراسيين مع صديقه شيلنغ .

في عام 1805 ، قامت الجامعة بترقية هيغل إلى منصب بروفيسور ( لكن دون راتب ) ، بعد أن أرسل هيغل رسالة إلى وزير الثقافة غوته ، احتجَّ فيها على ترقية الجامعة لخصمه فرايز جاكوب فريدريش . كذلك حاولَ هيغل التَّوَسُّط ليحظى بمنصب في الجامعة الناشئة ( جامعة هايدلبرغ )، لكنه لَم يُفلِح . في حين أن خصمه " فرايز " قد عُيِّنَ في تلك الجامعة أستاذًا دائمًا براتب كامل .

ساءت أوضاع هيغل المالية ، واضْطُر إلى الإسراع في إنجاز الكتاب الذي سَيُقدِّم فيه نظامه الفلسفي . وبينما كان يضع اللمسات الأخيرة لكتابه " ظواهرية الروح " ، غزا نابليون بروسيا في أكتوبر 1806 . ولَم يستطع هيغل إخفاء إعجابه بنابليون واحترامه له .

يُعتبَر هيغل أحد أهم الفلاسفة الألمان ، ويُنظَر إليه على أنه أهم مُؤسِّسي المثالية الألمانية في الفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي . طَوَّرَ المنهجَ الجدلي الذي أثبت من خلاله أن سير التاريخ والأفكار يتم بوجود الأطروحة ثم نقيضها ثم التوليف بينهما.وكان هيغل آخر بُناة المشاريع الفلسفية الكبرى في العصر الحديث . وكان لفلسفته أثر عميق على معظم الفلسفات المعاصرة . يمكن وصف فكر هيغل بأنه بناء وتطوير داخل نطاق التقاليد الأفلاطونية التي تشمل أرِسْطو وكانت وغَيرهما . وما يُميِّز هؤلاء الفلاسفة أنهم يعتبرون الحرية والجبر الذاتي كلاهما حقيقي ، وله آثار وجودية هامة للروح أو العقل . هذا التركيز على فكرة الحرية جعل أفلاطون يأتي بفكرة أن الروح لها وجود أسمى أو أكمل من وجود الكائنات الجامدة .

كان مشروع هيغل الفلسفي الرئيسي هو أن يأخذ التناقضات والتوترات في المجتمع والثقافة والفلسفة ، ويضعها في سياق وَحدة عقلانية شاملة . وقد سَمَّى هذه العملية " الفكرة المطْلقة " ، أو " المعرفة المطْلقة " . وطِبقًا لهيغل ، إن الخاصية الرئيسية في هذه الوَحدة أنها تتطوَّر وتظهر على شكل التناقض والسَّلْب . ويكون للتناقض والإنكار طبيعة حركية دائمة في كل مجال من مجالات الحقيقة : الوعي . التاريخ . الفلسفة . الفن . الطبيعة . المجتمع . وهذه الجدلية هي ما تُؤدِّي إلى تطوير أعمق حتى الوصول إلى وَحدة " عقلانية " تتضمَّن تلك التناقضات كمراحل وأجزاء ثانوية ضمن كُل تطوُّري أشمل . وهذا الكُل عقلي، لأن العقل وَحْدَه هو القادر على تفهُّم كُل هذه المراحل والأجزاء الثانوية كخطوات في عملية الإدراك. وقد اعتبرتْ فلسفةُ هيغل أن الميِّزة الأساسية للإنسان هي " الوعي بالذات "، وأن هذه السِّمة " تجعله قادرًا على الارتداد إلى ذاته ، وهي نفسها جوهر الفكر الذي يعني الانعكاس أو الارتداد". واستعملَ هيغل مفهوم "الوعي" لتأسيس فلسفة شمولية للتاريخ الذي هو المنتوج الأهم للعقل الإنساني .

26‏/04‏/2021

جورج هربرت ميد وعدم نشر الكتب

 

جورج هربرت ميد وعدم نشر الكتب

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.........


وُلد الفيلسوف الأمريكي جورج هربرت ميد ( 1863 _ 1931 ) في جنوب هيدلي ، ماساتشوستس . تَمَّت تربيته في عائلة بروتستانتية من الطبقة المتوسطة . كان والده قسًّا سابقًا من نسل المزارعين ورجال الدين ، ثم تقلد منصب كبير في اللاهوت في كلية أوبرلين . أمَّا والدته ، فقد شغلت منصب رئيس كلية ماونت هوليوك في جنوب هادلي، ماساتشوستس ، في عام 1879.

التحق ميد بكلية أوبرلين، وتخرَّج في عام 1883 بدرجة البكالوريوس. على مدى السنوات الثلاث التالية بعد التخرج، عمل ميد مسَّاحًا للأراضي لشركة ويسكونسن المركزية للسكك الحديدية . وفي خريف 1887 ، التحق ميد بجامعة هارفارد ، حيث كانت اهتماماته الرئيسية هي الفلسفة وعلم النفس . وفي عام 1888 ، غادر ميد جامعة هارفارد بعد حصوله على شهادة البكالوريوس فقط . وانتقل إلى لايبزيغ بألمانيا للدراسة مع عالم النفس فِيلهِلم فونت .

وعلى الرغم من عدم الانتهاء من درجة الدكتوراة ، استطاع ميد الحصول على وظيفة في جامعة ميتشيغان في عام 1891 . وفي عام 1894 ، انتقل ميد مع ديوي إلى جامعة شيكاغو ، حيث درَّس هناك حتى وفاته .

خلال مسيرته الفكرية التي امتدت لأكثر من 40 عامًا ، كتب ميد دائمًا ونشر العديد من المقالات ومراجعات الكتب في كل من الفلسفة وعلم النفس. ومع ذلك ، لَم ينشر أي كتاب. ولكن بعد وفاته، قام العديد من طلابه بتجميع وتحرير عِدَّة مجلدات من سجلات دورة علم النفس الاجتماعي الخاصة بميد في جامعة شيكاغو، ومذكراته، وأوراقه العديدة غير المنشورة .

والمجلدات هي : محاضرات كاروس ( 1930 ). فلسفة الحاضر (1932). العقل والذات والمجتمع ( 1934). حركة الفكر في القرن التاسع عشر ( 1936 ) .فلسفة القانون (1938).

أبرز ما تم نشره لميد من الأوراق البحثية هو"اقتراحات لنظرية التطبيقات الفلسفية" (1900) " الوعي الاجتماعي ووعي المعنى " ( 1910 ) ."ما هي الأشياء الاجتماعية التي يجب أن يفترضها علم النفس " ( 1910 ) . " آلية الوعي الاجتماعي " ( 1912 ) . " النفس الاجتماعية " (1913) . " المنهج العلمي وتفكير الفرد " ( 1917 )."الحساب السلوكي للرمز الكبير" (1922 ) . " تكوين الذات والتحكم الاجتماعي " ( 1925) . " واقع الهدف من وجهات نظر " ( 1926 ) . " طبيعة الماضي " ( 1929 ) .

ركَّز ميد على تطوير الذات والموضوعية في العالَم ضمن المجال الاجتماعي، وقد أصرَّ على أن "عقل الفرد لا يمكن أن يتكون إلا في وجود العقول الأخرى المحيطة ذات المعاني المشتركة".

وأهم ركيزتين لعمل ميد _ والتفاعلية الرمزية بشكل عام _، هُما فلسفة البراغماتية والسلوك الاجتماعي .

وهناك أربعة مبادئ أساسية للبراغماتية : 1_ بالنسبة للبراغماتيين فإن الواقعية غير موجودة في العالَم الحقيقي، ولكن " يتم إنشاؤها وَفْقًا لنشاطنا نحن تجاه العالَم المحيط " . 2 _  يتذكر الناس ويبنون معارفهم حول العالم على ما هو مفيد لهم ، ومن المرجَّح أن يُغيِّروا ما لَم يعد يعمل أو يفيد. 3_ يُحدِّد الأشخاص المؤثرات الاجتماعية والبدنية التي يواجهونها في العالَم وفقًا لاستخدامهم لها. 4_ إذا أردنا أن نفهم الجهات الفاعلة ، يجب أن نبنيَ هذا الفهم على ما يفعله الناس فعلاً .

أمَّا التفاعل الرمزي فهو يقوم على ثلاثة مبادئ:1_ التركيز على التفاعل بين الإنسان والعالَم . 2_ النظر إلى كُل من الإنسان والجماعات والعالَم على أنها عمليات ديناميكية وليس هياكل ثابتة. 3_ قدرة الإنسان على تفسير العالم الاجتماعي .

كان ميد شخصية مهمة في الفلسفة الاجتماعية في القرن العشرين . وكان أحد أكثر أفكاره تأثيرًا هو نشوء العقل والنفس من خلال عملية الاتصال بين الكائنات الحية، والتي تَمَّت مناقشتها في بحث " العقل والذات والمجتمع " ، والمعروفة أيضًا باسم السلوك الاجتماعي .

وبالنسبة لميد ، فإن العقل ينشأ من فعل التواصل الاجتماعي. وقد كان مفهوم ميد للفعل الاجتماعي ذا صلة ليس فقط بنظريته الذهنية، بل أيضًا بجميع جوانب فلسفته الاجتماعية .

إن نظريته عن" العقل والذات والمجتمع " هي في الواقع فلسفةُ الفعل من وجهة نظر العملية الاجتماعية التي تنطوي على تفاعل العديد من الأفراد ، تمامًا مثل نظريته في المعرفة والقيم ، والتي تنطوي على فلسفة الفعل من وجهة نظر الشخص الذي يتفاعل مع البيئة .

والجزء الأخير من نظرية ميد الاجتماعية هو العقل باعتباره نتاج الفرد للعملية الاجتماعية . ويقول ميد : (( الذات هي عملية اجتماعية )) . وهذا يعني أن هناك سلسلة من الإجراءات التي تستمر في العقل للمساعدة في صياغة الذات الكاملة .

يُعتبر ميد هو الفيلسوف الأمريكي الرئيسي ، ومِن أبرز مُؤسِّسي البراغماتية . كما قدَّم مساهماتٍ كبيرة في فلسفات الطبيعة، والعلوم، والتاريخ، والأنثروبولوجيا .

25‏/04‏/2021

جورج مور والنزعة الحدسية

 

جورج مور والنزعة الحدسية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............


وُلد الفيلسوف البريطاني جورج إدوارد مور ( 1873 _ 1958 )في لندن لأسرة متوسطة. كان أبوه طبيبًا متقاعدًا .

أثَّر مور في كثير من الفلاسفة البريطانيين المعاصرين ، رغم إقلاله من الكتابة. ودافعَ عن نظريات الفِطرة السليمة ، وشجَّع على دراسة اللغة العادية أداة للفلسفة .

تلقى تعليمه في كلية دولويتش . وفي عام 1892 ، التحق بكلية ترينتي في جامعة كامبردج لدراسة العلوم الأخلاقية . وأصبح مُدَرِّسًا للفلسفة العقلية والمنطق في جامعة كامبردج ( 1925_ 1939 ).ولمدة ثلاثين عامًا تقريبًا، كان يُحرِّر مجلة العقل، وهي مجلة فلسفية. مِن أبرز مؤلفاته: " مبادئ عِلم الأخلاق " ( 1903 )، وطرح فيه مفهوم مغالطة المذهب الطبيعي .

والمذهب الطبيعي مذهب يَرُدُّ الأشياء عامةً إلى الطبيعة وحدها ، ففي ضوئها يقوم بتفسير الظواهر كُلَّها مُستبعدًا كُل مُؤثِّر يُجاوز عالَم الطبيعة . فالحياة الأخلاقية مثلاً في تصوُّره امتداد للحياة البيولوجية ، والمثل الأعلى تعبير عن حاجات الفرد وغرائزه. وسلوك الإنسان ومصيره عامة رهينا التأثر بعاملين طبيعيين هُما : الوراثة والبيئة . ويقع هذا المذهب تحت تأثير نظرية داروين التي تُؤكِّد انتماء الإنسان كُلِّية إلى نظام الطبيعة ، وتنفي صلته بعالَم ما وراء الطبيعة .

والمذهبُ الطبيعي في الأدب يهدف إلى معالجة الموضوعات،وتسجيل الحالات الجديرة بالدراسة طبقًا للقوانين العلمية، التي تحكم الإنسان ، وتُكسِبه أنواع سُلوكه وأفعاله للوصول إلى الحقيقة . يُعتبَر مور أحد مُؤسِّسي التقليد التحليلي في الفلسفة . وقادَ مسيرة الابتعاد عن المثالية في الفلسفة البريطانية، وأصبح معروفًا تمامًا بتأييده لمفاهيم الحِس السليم ، ومساهماته في الأخلاق ، ونظرية المعرفة ، والميتافيزيقا ، و " شخصيته الاستثنائية وشخصيته الأخلاقية " .

عُرف مور بالدفاع عن الأخلاق غير الطبيعية، وتأكيده على الفِطرة السليمة في الأسلوب الفلسفي. وقد كان محط إعجاب بين الفلاسفة الآخرين. ولكن مور _ على عكس زميله برتراند راسل _ غير معروف في الغالب اليوم خارج الفلسفة الأكاديمية . مع أنه يُقال إن تأثيره على راسل أكبر من تأثير راسل عليه. تشتهر مقالات مور بأسلوبها الواضح والسَّلِس ، ومنهجيتها القائمة على حل المشكلات الفلسفية. وكان مور ينتقد الفلسفة الحديثة ، لاعتقاده أنها تتناقض بشكل صارخ مع التطورات الدراماتيكية في العلوم الطبيعية منذ عصر النهضة .

أكَّد مور أن الْحُجَج الفلسفية يمكن أن تُعاني من الارتباك بين استخدام مصطلح في حُجَّة مُعيَّنة وتعريف هذا المصطلح في جميع الْحُجَج . وسَمَّى هذا الارتباك المغالطة الطبيعية .

على سبيل المثال ، قد يدَّعي أحدهم أنه إذا كان لشيء ما خصائص مُعيَّنة ، فإن هذا الشيء "جيِّد". وقد يُجادل آخرون بأن الأمور " السَّارة " هي أشياء " جيِّدة ". وقد يقول البعض إن الأشياء " المعقدة " هي أشياء " جيِّدة " . يُؤكِّد مور أنه حتى لو كانت هذه الحجج صحيحة ، فإنها لا تُقدِّم تعريفات لمصطلح " جيِّد " .

كان أحد أهم إنجازات مور في تطوُّره الفلسفي هو ابتعاده عن المثالية التي هيمنت على الفلسفة البريطانية ، ودفاعه عن ما اعتبره " حِسًّا ". وفي مقالته " الدفاع عن الحِس المشترك " ( 1925)، جادلَ ضد المثالية والشكوك تجاه العالَم الخارجي .

حاول مور كشف أسس التحليل الأخلاقي ومشكلاته . ووَفْق مور فإن المشكلة الرئيسية في قضية الأخلاق هي مشكلة تحليل " الخير " وتحديده. فكيف نعتبر شيئًا ما خَيْرًا ، وشيئًا آخر شَرًّا؟. وما هي الأشياء الخيِّرة ؟ .

يرى مور أن " الخير " فكرة بسيطة لا أجزاء لها ، ولا يمكن تحليلها وتفتيتها إلى أجزاء . فالخير صفة بسيطة ، وكل تعريف له هو مغالطة طبيعية ، لأن كل تعريف له هو صفة " لا طبيعية ". فالخير لا يُحلَّل ، بل يُدرَك بالحدس ، لذلك يُعتبَر مور مؤسس النَّزعة الحدسية في علم الأخلاق .

24‏/04‏/2021

الأخلاق والأفكار والتفاعلات الاجتماعية الرمزية

 

الأخلاق والأفكار والتفاعلات الاجتماعية الرمزية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..........

مركزيةُ الأخلاق في النظام الاجتماعي تُمثِّل منظومةً معرفية مُتكاملة ، تشتمل على المعاني القادرة على تكوين التَّخَيُّلات، وتحويلها إلى سُلوكيات يَوْمية مُعاشة . والمعاني لا تتجذَّر في المجتمع إلا بامتلاك مبدأ التَّوليد ، والمحافظة على استمراريته ، أي : تَوليد الأفكار وتَوليد السلوكيات . وهذه الحركة المُستمرة تمنع المجتمعَ من السقوطِ في الفراغ ، والغرقِ في تأويل الظواهر الثقافية الخاضعة للشُّعور الجَمْعي . وإذا تَمَّ توظيفُ الطاقة الفكرية الناتجة عن الحركة الاجتماعية المُستمرة ، في تكوين رؤية جديدة للعَالَم قائمة على تبادُل المنافع والخبرات ، بعيدًا عن الاستغلال والاضطهاد والصراع، فإنَّ قواعد تفسيرية جديدة ستنشأ في العلاقات الإنسانية ، وتكتشف التفاعلاتِ الاجتماعية الرمزية التي تعتمد على اللغة باعتبارها حاضنةً للأخلاق والمبادئ والقِيَم المُطْلَقَة والنِّسبية .

وبما أن فلسفة الحياة اليومية مُستمدة من التواصل اللغوي والوَعْي بالمشاعر ، فإنَّ سلوكيات متعدِّدة ومعايير مُتنوِّعة وأفكارًا إبداعية ، سَتُساهم في بناء ظواهر إنسانية إيجابية عابرة للحسابات الضَّيقة والمصالح الشخصية والمنافع الفئوية والسياسات المُؤَدْلَجَة ، التي تَدفع باتجاه الصِّدام معَ الذات ، والصراع معَ الآخَر ، لتمزيقِ الروابط الاجتماعية ، وتحطيمِ مُستوياتِ الشعور الإنساني ، وبناءِ كِيانات السَّيطرة ومشاريع الهَيمنة على أنقاض الأُمَم والشعوب .

وكُلُّ حضارة مَبنية على الحُطام هِيَ مُجرَّد وَهْم ، وكُل أيديولوجية تنال شرعيتها من شقاء الناس واضطهادهم وابتزازهم ، هِيَ مُجرَّد وسيلة تجارية لتحقيق أرباح مادية ، بلا فكر سليم ولا عِلْم صحيح ولا عَقْل واعٍ مُدرك لطبيعة الانتقالات الاجتماعية بين الأزمنة والأمكنة . وبناءُ الحضارة الذاتية لا يكون بزرع العقبات في طريق الآخرين ، أو دفعهم إلى الوقوع في الحُفَر ، وإنما يكون بتذليل العقبات في الطريق ، وتَعبيده من أجل المشي عليه والوصول إلى الهَدف . وكسرُ مجاديف الآخرين لا يزيد مِن سُرعة قاربك . وكُل إنسان يأخذ مكانَه تحت الشمس باجتهاده الشخصي ، ولا أحد يأخذ مكانَ أحد .

والأنساقُ العميقة في التفاعلات الاجتماعية الرمزية تُجسِّد حقيقةَ الحياة الاجتماعية،على كافة المستويات: الفردية والجماعية ، المعنوية والمادية . ولا يُمكن إدراك هذه الأنساق والتحكُّم بها وتوظيفها لصالح معركة الوَعْي ضِد الوهم ، إلا بإدراك المعاني الكامنة في الشعور الداخلي للإنسان ، والتي تنعكس على سلوكه وطبيعة حياته ، وتُمثِّل مَاهِيَّةَ وُجوده وشرعيةَ صُموده في ظِل نظام اجتماعي مُسيَّس يَضغط على الظواهر الثقافية ، ويُحاول امتطاءها لتغييب العقول، وحَقْنها بالمُسلَّمات الجاهزة، وحَصْرها في القوالب المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وإبعادها عن الأسئلة المصيرية التي لا تُجَامِل منظومةَ الفِعل الاجتماعي ( الجُزئي والكُلي ) ، ولا تُهَادِن سُلطةَ المعنى الرمزي ( اللغوي والشُّعوري ) .

وكُلُّ نظام فكري يخاف من طرح الأسئلة، يشتمل على بِذرة انهياره في داخله ، وسَوْفَ يُدمِّر نَفْسَه بِنَفْسِه، ويَسقط معَ مرور الزمن ، بسبب عدم امتلاكه لعناصر المناعة الذاتية . وكما أن المبنى ينهار إذا تَمَّ تفريغه من الهواء ، كذلك العقل ينهار إذا تَمَّ تفريغه من الأفكار . والحَلُّ الوحيد لحماية العقل هو تكوين منظومة نقدية ذاتية ، تعمل على اكتشاف العيوب والثغرات في الإنسان ، من أجل التخلص مِنها . وهكذا ، يَدخل الإنسانُ في حركة تصحيحية ذاتية ، يَفْرِضها على كِيانه بمحض إرادته ، لتحقيق المنافع ، والتصالح مَعَ نَفْسِه ، وتقليل نقاط ضعفه ، ولا ينتظر أحدًا كي يَفْرِضها عليه . ونُقْطَة القُوَّة الرئيسية في حياة الإنسان هي معرفة أخطائه ، والاعتراف بها ، والعمل لتصحيحها بلا تبرير ولا هُروب مِن تحمُّل المسؤولية . وإذا هَرَبَ الإنسانُ مِن الدَّواء المُر بسبب طَعْمه ، فقد حَكَمَ على نَفْسِه بالهلاك ، وحَفَرَ قَبره بيدَيْه .

23‏/04‏/2021

جورج لوكاش والبنيوية التوليدية

 

جورج لوكاش والبنيوية التوليدية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........


وُلد الفيلسوف المجري الماركسي جورج لوكاش (1885_ 1971) في بودابست ( عاصمة المجر ) ، لعائلة يهودية ثرية ألمانية الأصل . بدأ فيلسوفًا مثاليًّا ، وانتهى فيلسوفًا ماركسيًّا مُجَدِّدًا وناقدًا. انتسب إلى الحزب الشيوعي المجري عام 1918 وتولى فيه أمانة الشؤون الثقافية لجمهورية المجالس المجرية الفتية . يعتبره معظم الدارسين مُؤسِّس الماركسية الغربية في مقابل فلسفة الاتحاد السوفييتي . أسهمَ بِعِدَّة أفكار ، مِنها " التَّشَيُّؤ " و " الوعي الطبقي " . وكان نقده الأدبي مُؤثِّرًا في مدرسة الواقعية الأدبية ، وفي الرواية بشكل عام باعتبارها نوعًا أدبيًّا . خدم لفترة وجيزة كوزير للثقافة في المجر بعد الثورة المجرية ( 1956 ) التي قامت على الرئيس ماتياش راكوشي . بينما كان لوكاش يدرس في قسم اللغات بالجامعة في بودابست، انضم إلى حركات اشتراكية متعددة،وتواصلَ مع المعارض إرفن تسابو الذي ينتمي إلى أحد مدارس الفكر اللاسُلطوي وأطلعَ تسابو الطالبَ لوكاش على كتابات الفيلسوف الفرنسي الثوري جورج سيرويل الذي كانت آراؤه ونظرياته في تلك الفترة في أوجها ، وكانت أفكارًا حداثية ، وضد الوضعية .

قضى لوكاش وقتًا طويلاً في ألمانيا ، وتعرَّفَ على العديد مِن مُثقفيها وكُتَّابها . ذهب إلى برلين بغرض الدراسة في عام 1906 . وذهب مرة أخرى في عامَي 1909و1910 ، وتعرَّفَ هناك على عالِم الاجتماع الألماني جورج سيميل . وفي مدينة هايلدبرغ في عام 1913 ، تعرَّفَ على عالِم الاجتماع المعروف ماكس فيبر وأصبحا صديقين.ثم تعرَّف على الفيلسوف الماركسي إرنست بلوخ ، ثم على الشاعر ستيفان جورج.كان لوكاش في ذلك الوقت منتميًا إلى النظام المثالي المأخوذ عن مثالية الفلاسفة الألمان . وهذا النظام كان متأثرًا بفلسفة كانت، والتي هيمنت على جامعات ألمانيا لوقت طويل. وقد ألَّف لوكاش كتابين في ذلك الوقت هُما : " الروح والجسد " ( 1910) و" نظرية الرواية " ( 1916 ) . عاد لوكاش إلى مدينته بودابست في عام 1915 ، وكان يُدير صالونًا ثقافيًّا أو حلقة ثقافية تُدعَى حلقة الأحد أو حلقة لوكاش. يتحدث فيها بالمقام الأول عن الموضوعات الثقافية والنقدية في أعمال الروائي الروسي دوستويفسكي ، الذي كان مُستحوذًا على اهتمامات لوكاش في فترة إقامته في هايلدبرغ في ألمانيا .

ويُعَدُّ كتابه " التاريخ والوعي الطبقي " ( 1923 ) وثيقةً لفلسفة التاريخ الماركسي . جابه لوكاش الوضعية الْمُسْتَحْدَثَة بعنف وشِدَّة ، ويُلاحَظ في تفكيره تجريبية أساسية تظهر واضحةً في غمار الدراسة النظرية ، ولا سِيَّما في كتابيه : عِلم الجمال ( 1972_ 1976 ) ، والأنطولوجيا " عِلم الوجود "( 1972). حيث تلتحم معطيات الحياة العامة مع الواقع لتقوم بدور منهجي حاسم. ويُناقش لوكاش في كتابه " عِلم الجمال " مكانة المبدأ الجمالي في إطار فعاليات الإنسان العقلية، ويرى أن هذه الفعاليات ليست كياناتٍ نفسية ، بل هي لغة مختلفة يُنظِّم الإنسان بموجبها أفعالَ العالم الخارجي ، وردود أفعاله التي يتعرَّض لها دومًا للدفاع عن ذاته وكيانه الداخلي .

ويُؤكِّد لوكاش أن الفن في معناه الأنطولوجي ( الوجودي )، هو إعادة تكوين عملية يستوعب الإنسان في خضمها حياته الذاتية في إطار المجتمع والطبيعة، بما في ذلك من مشكلات ومبادئ، المحرِّضة منها والعائقة، لذا فالفن عنده لا ينفصل أنطولوجيًّا عن نشوئه، كما يُؤكِّد أن الفن ليس له منشأ واحد، وأن جوهره إيجاد التضاد بين ما يتحلى بقيمة، وبين ما لا يتحلى بقيمة ، وأن التساؤل عن المفيد وغير المفيد، عن الملائم وغير الملائم ، يُولِّد مفهوم القيمة .

يُعَدُّ لوكاش واحدًا من أبرز مُنظِّري النقد الماركسي ومُمارسيه ومُطوِّريه، ويتَّضح ذلك من الكيفية التي وظَّف فيها ما يُعرَف بالواقعية الاشتراكية في دراساته، خاصة ما كتبه حول الرواية في كتابه " دراسات في الواقعية الأوروبية ". ويرى لوكاش أن الواقعية تسعى إلى تناول شمولي للإنسان يأخذ في الحسبان الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية من دون أن يتجاهل البُعد الداخلي الذاتي . ويرفض لوكاش رفضًا تامًّا استغراق الأديب في مُعاناته وتجربته الذاتية مهما كانت صادقة أو أصيلة، خشية ازدياد تفاقم التمزق في التناسق الفني . ويقول عن الرواية إنها " ملحمة البرجوازية في العصر الحديث "، وكان قَوْله مُحصِّلة لدراسة مُعمَّقة تقصَّت علاقة الفن بالسياسة والتركيب الاجتماعي الاقتصادي الثقافي .

     ويُعتبَر كتابه " تحطيم العقل " ( 1952 ) ذِروة مؤلفات لوكاش، وقد صدر في جزأين كبيرين، كان الأول حول بدايات اللاعقلانية الحديثة من شيلنغ إلى نيتشه، والثاني حول اللاعقلانية الحديثة من دلتاي إلى توينبي . وتتراكب موضوعات الكتاب ضمن خط السيرورة التاريخية من الرِّدة الإقطاعية أو نصف الإقطاعية والرومانسية ضد الثورة الفرنسية إلى الفاشية ، من النضال ضد الجدل المثالي وفكرة التقدم البرجوازية إلى النضال ضد الماركسية والثورة البروليتارية . لا يمكن إنكار ما قدَّمه لوكاش للفكر السياسي من إضافات وعناصر جديدة. فهو يُعَدُّ بالنسبة لخصومه أو مُؤيِّديه أهم مفكر ماركسي منذ ماركس، بل يعتبره البعض أهم فيلسوف في النصف الأول من القرن العشرين . لقد كان له تأثير حاسم على كارل مانهايم وكارل كورتس ومارتن هايدغر على وجه الخصوص ، ويُعتبَر مِن مُؤسِّسي تيار البنيوية التوليدية .