سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/03‏/2016

هرمان هسِّه وذاكرة التمرد

هرمان هسِّه وذاكرة التمرد

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي

لندن ، 31/3/2016

...........................

   يُعتبر الكاتب الألماني هِرمان هِسِّه ( 1877_ 1962) واحداً مِن أعمدة الأدب الألماني والعالمي في القرن العشرين. وقد تَمَّ الاعتراف به على المستوى العالمي ، بعد منحه جائزة نوبل للآداب سنة 1946.
     وُلد هِسِّه في عائلة محافظة ملتزمة بالمذهب البروتستنتي ، وكان والده يعمل مُبشِّراً ، كما أن جَدَّه لأُمِّه كان مُبشِّراً أيضاً ، وهذا المناخ ساهم في توجيهه في بداية حياته نحو الدراسات الدينية . إلا أن المشكلات العائلية ، والصراعات الفكرية، والضغوطات النَّفسية المحيطة به من كل جانب ، أدَّت إلى خروجه من هذه الحلقة المغلقة ، وتمرده على العائلة والمدرسة والدِّين والدُّنيا . ولا يخفى أن كثرة الضغط تُولِّد الانفجار .
     ونزعةُ التمرد كانت متجذرة في كيانه ، وبذرة الرفض كانت مغروسة في شخصيته ، كما أن فلسفة العزلة سيطرت على قلبه وجوارحه ، لذلك بدأ بصناعة عالَمه الخاص القائم على الأفكار والخيالات والأشواق الروحية والانطلاق إلى الطبيعة، وهذه القيم تتنافى جُملةً وتفصيلاً معَ المناخ العائلي القاسي، وجَوِّ بيته الخانق.
     وكان الخلاص _ من وجهة نظره _ هو الهروب إلى الخيال والتأمل ، وكانت الرومانسية الحالمة هي التعويض الحتمي عن خيبة أمله ، وتكرَّست الطبيعةُ كمبدأ حياتي لملء فراغه الروحي . ولم يكن توجهه إلى الطبيعة أمراً غريباً ، فقد وُلد في منطقة تقع في قلب الغابة . وهذا الأمر _بالتأكيد_ زرعَ فيه حُب التأمل، وعِشق الطبيعة بكل عناصرها. فصارت الأشجارُ والأزهار والطيور عائلته الجديدة التي عَوَّضَتْه عن سنوات الحرمان الروحي والقلق الوجودي والاضطراب النَّفسي. واندماجه مع الطبيعة بهذا الشكل الوثيق ساهمَ بشكل أساسي في تغذية إحساسه الشِّعري، وتقوية خياله المتدفق .
     وبالطبع، لا يوجد تمرد مجاني ، إِذ إِن كُل تمرد له ضريبة يجب دفعها . وقد أدركَ هِسِّه هذا الأمر ، فهرب من السُّلطة العائلية، والسَّطوة الكهنوتية، وأخذ يعتمد على نفْسه من أجل إيجاد مصدر دخل بعيداً عن العائلة ، فكرَّس حياته للعمل الشاق ، حيث إِنه عمل ساعاتياً ، ثم بائع كُتب ، ثُمَّ قرَّر أن يصبح كاتباً ، فبدأ بكتابة الشِّعر الذي رأى فيه غاية وجوده ، ومُنتهى أحلامه . وفي ذلك يقول : (( إمَّا أن أصبح شاعراً أديباً ، أو لا أصبح شيئاً على الإطلاق )) . وهذا يدل على أنَّ الكتابة _ بالنسبة إليه_ منهج حياة ، ووسيلة علاج ، وهدف وجودي ، وهوية تكشف معنى الانتماء . لقد عالَجَ رُوحه المتشظية وقلبه المكسور بالقراءة وتثقيف نفْسه وتكوين فلسفته الخاصة ، وتخلصَ مِن اكتئابه وعُقده النَّفسية ووحدته القاسية بالكتابة وتطوير أسلوبه .
     ومن أبرز العوامل التي ساهمت في رفع مستوى ثقافة هِسِّه ، عمله المبكر في مكتبة، حيث إِنَّه قضى وَقته في قراءة الكتب وتنظيمها ، فدرسَ الكتبَ اللاهوتية ، ثُمَّ قَرأ أعمال غوته وشيلر ، وتأثر بشكل واضح بفلسفة نيتشه ، وهذا التأثر ظهر في أعماله الروائية .
     وعلى الرَّغم من اتجاه هِسِّه إلى الشِّعر في بداية حياته الأدبية ، حيث إِنه نشر ديوانه الأول سنة 1899 ، إلا أنه سُرعان ما اتَّجه إلى كتابة الرواية. لقد غيَّر الوعاءَ الأدبي ، وانتقلَ من الشِّعر إلى الرواية بسبب طبيعة أفكاره الفلسفية ذات النَّزعة التأملية المرتبطة بانكسار الإنسان في هذه الحياة، وغُربته الروحية والمكانية . وقد أدركَ أن هذه المفاهيم تحتاج إلى مناخ سردي روائي ، ولا تحتاج إلى جَو شِعري رمزي تكثيفي ، لذلك سار في طريق الرواية ، وكانت رواياته ذات طابع فلسفي ، تمتلئ بالأسئلة العقائدية ، والهواجس المتمردة ، والشكوك المتكاثرة ، والضياع الإنساني ، والمشاعر المكسورة .
     ولم يكن طريق هِسِّه الأدبي مفروشاً بالورود. بَل على العكس . كان مليئاً بالعقبات ومحفوفاً بالإخفاقات . إذ إِن مؤلفاته الشِّعرية الأُولى لم تحظَ بأي نجاح، وباءت بالفشل على الصعيد التجاري، وبِيعَ منها نُسخ محدودة لا تكاد تُذكَر . ولم تقف الأمور عند هذا الحد ، بَل رَفضت أُمُّه قصائده الرومانسية ، واعتبرتها خروجاً على التقاليد العائلية الصارمة. ولم تكن حياته الاجتماعية سهلة، فبعد طفولة مُعذَّبة، ومليئة بالعُقد النفسية والتَّحدي والتمرد ، تلقى صدمة في مطلع شبابه ، إِذ تَمَّ إعفاؤه من الخدمة العسكرية سنة 1900 ، بسبب الصداع الدائم ، واضطرابات الجهاز العصبي . وبما أن المصائب لا تأتي فُرادى ، فقد اكتملت أحزانه وازداد اكتئابه سنة 1902 ، حيث تُوُفِّيت والدته.ولم يحضر جنازتها خوفاً من ازدياد أحزانه وأزماته النفسية ومشكلاته الصحية.
     ولم يخرج هِسِّه مِن دوامة الأحزان والاكتئاب إلا بعد صدور روايته " بيتر كامينتسيند " ( 1904) ، حيث حقَّقت نجاحاً هائلاً في ألمانيا ، وكانت بالنسبة إليه طَوق النجاة ، وجعلت منه كاتباً مشهوراً يُشار إليه بالبنان ، وقادراً على العيش من كتاباته . وبعد أن صار كاتباً مشهوراً ، تلقى ثلاث صدمات عنيفة ومتتابعة، حيث تُوُفِّيَ والده سنة 1916 ، فدخل في حالة حزن حادة ، وأُصيب ابنه بمرض خطير ، وأُصيبت زوجته بانفصام في الشخصية . وهذا دفعه إلى تلقي علاج نفسي خاص . وكالعادة ، كانت الكتابة هي الانعتاق والخلاص، وطَوق النجاة ، والعلاج النفسي الأكثر فاعلية ، فصدور روايته " كلينجزور في صيفه الأخير " ( 1920) حقَّقت له النشوة والسعادة ، والاستقرار العاطفي ، والرغبة في الحياة . وقد كان نجاحه الأدبي هو الحلم الذي أعطى حياته الجدوى والشرعية والمشروعية .
     وبما أنَّه ألماني ظهر في فترة المد النازي ، فلا بد أن تصيبه لعنة النازية كما أصابت كُلَّ مثقفي ألمانيا في تلك الحقبة. وتضاعفت مشكلاته الشخصية لأن زوجته الأخيرة كانت يهودية، وأضحى حائراً بين قناعاته الشخصية المعارضة للنازية، وبين ضغط الدولة البوليسية التي صنعها النازيون. وهذه الحيرة أكسبته غضب جميع الأطراف. فتمَّ انتقاده ولَومه لأنه لم يقم بإدانة الحزب النازي . وعلى الجهة المقابلة، قام النازيون بحظر أعماله من النشر، ومنعه من الكتابة في الصحف والمجلات .
     وقد كان منحه جائزة نوبل سنة 1946 ولادةً جديدة له، حيث تعرَّف عليه العالَم بأسره، وأُعيد اكتشاف أشعاره ورواياته، وأُتيح للجيل الجديد أن يَطَّلع على تاريخه الأدبي ، ويبني عليه من أجل الانطلاق إلى المستقبل . وكما قال هِسِّه ذات مرة: (( عليك أن تُجرِّب المستحيل لتصل إلى الممكن )). وبالفِعل، لقد جرَّب المستحيل ، ووصله إلى هدفه الذي رسمه بنفْسه بعيداً عن ضغط العائلة والمجتمع .

     وفي التاسع من آب سنة 1962 تُوُفِّيَ هِسِّه ، عن عُمر يُناهز الخامسة والثمانين . لقد رحل بجسده ، وبقيت كلماته حيَّة وراءه، حيث خلَّف العديد من الأعمال الأدبية، من أبرزها : قصائد رومانسية ( 1899) ، بيتر كامينتسيند ( 1904) ، تحت الدولاب ( 1906) ، دميان ( 1919) ، ذئب البوادي ( 1927) ، لعبة الكريات الزجاجية ( 1943) .

24‏/03‏/2016

مقدمة كتاب/ فلسفة المعلقات العشر

مقدمة كتاب / فلسفة المعلقات العشر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

  إن الشِّعر هو دِيوان العرب _ شَاءَ مَن شاء وأبى مَن أبى _ . وهو لم يصل إلى هذه المكانة السامية بالصُّدفة ، بل وصل إليها بسبب كَوْنه _ أي الشِّعر _ هو المتحدث الرسمي باسم تاريخ العرب وبطولاتهم وأمجادهم ، وهو السِّجلُ الشريف الذي يَحْوي تفاصيلَ حياتهم الروحية والمادية . لذلك نظرَ العربُ إلى الشِّعر باعتباره نظاماً للتخليص والخلاص، تخليصهم من ضغط العناصر الحياتية، وخلاصهم الإنساني الذي يَمنحهم المجدَ أثناء الحياة، والخلودَ بعد الموت . ووفق هذه الرؤية ، ليس غريباً أن يَضع العربُ كلَّ بَيْضهم في سَلة الشِّعر .
     ولا يَخفى أن العرب قبل البعثة المحمَّدية كانوا أُمَّةً وثنية ليس لها كتابٌ سماوي مُقدَّس ، وهذا جعلها في مرتبة أدنى من أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) الذين كان في أيديهم التوراة والإنجيل . ومن الطبيعي أن يَشعر العربُ بُعقدة النقص لأنهم منقطعون عن السماء . فكان الحلُّ _ من وجهة نظرهم _ هو اتخاذ الشِّعر كتاباً مقدَّساً، وذلك لكي يُعوِّضهم عن عدم وجود كتاب سماوي في أيديهم ، ولكي يَجبر كَسْرَهم ، ويُحطِّم عُقدةَ الشعور بالنقص ، فيتعاملوا مع الأمم الأخرى _ خصوصاً اليهود والنصارى _ بكل ثقة ، غير شاعرين بالنقص أو الانكسار أو تدني المرتبة .
     ومن هذا المنطلق لم يكن الشِّعرُ نظاماً لغوياً اجتماعياً فَحَسْب، بل كان_ أيضاً_ منظومةً دِينية، وَوَحْياً خاصاً. وهذا منحَ الشِّعرَ منزلته الرفيعة، وجعله أيديولوجية قائمة بذاتها تشتمل على أبعادٍ أسطورية ، وتقاطعاتٍ اجتماعية ، وأحلامٍ إنسانية ، وثقافاتٍ محلية وإقليمية .
     ويمكن اعتبار المعلَّقات هي دُرة تاج الشِّعر الجاهلي ، فقد اشتملت على صور صادقة للحياة الاجتماعية ، والعواطفِ الإنسانية ، والفلسفةِ العربية المصهورة في الواقع والخيال معاً . كما أنها امتازت بلغة قوية آسرة تستمد مفرداتها من البيئة المحيطة، فالشاعرُ _ أولاً وأخيراً _ هو ابنُ بيئته ، وحاملُ تاريخها. والجديرُ بالذِّكر أن المعلَّقات سُمِّيت بهذا الاسم لأنها عُلِّقت على الكعبة المشرَّفة تنويهاً بقيمتها الشعرية ، وعَظَمة شأنها ، ومكانة أصحابها .
     وقد قال ابن خلدون في تاريخه ( 1/ 803) : (( اعلم أن الشِّعر كان ديواناً للعرب ، فيه علومهم ، وأخبارهم ، وحِكَمهم . وكان رؤساء العرب منافسين فيه ، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده ، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن ... حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام مَوْضع حَجِّهم ، وبيت أبيهم إبراهيم )) .
     وما كان لهذه الأشعار أن تُعلَّق على الكعبة لولا اعتبارها نصوصاً شِعرية مُقدَّسة تُجسِّد التاريخَ العربي ، والأحاسيسَ الإنسانية في بيئة الجزيرة العربية ، والصورَ الحياتية المنتشرة في عوالم الإنسان العربي . كما أن تعليقها على الكعبة جرى بكل سلاسة دون اعتراض من أَحد ، وهذا مؤشر واضح على اتفاق الناس على قيمة المعلَّقات المعنوية والمادية ، وأهميةِ الشِّعر في صناعة الحضارة العربية ، وإخراج أُمَّة العرب المحصورة في الجزيرة العربية إلى آفاق جديدة ، وعوالم أكثر رحابة . إذن ، فالعقلُ الجمعي العربي كان يُقدِّس الشِّعرَ ، ويَجعله في قمة الهرم الحضاري، ويَنظر إلى الشاعر على أنه نبيٌّ يُدافع عن القبيلة ، ويَرفع اسمَها ، ويَحفظ التراث الإنساني الحضاري . وبالتالي ، ليس غريباً أن تَحتفل القبيلةُ إذا نبغ فيها شاعر ، فهي تَعلم  _ عِلْمَ اليقين _ أنه لسانُها الناطق ، وسيفُها القاطع .
     إن الشِّعرَ يَكشف نَفْسَه بنفْسه ، فهو نسقٌ قائم بذاته ، تَنبع مرجعياته ونظرياته من داخله ، لذلك لم أقم باستيراد النظريات الأدبية من هنا وهناك ، لإيماني بأن المعلَّقات ذات نسق فريد ليس على مستوى الشِّعرية العربية فَحَسْب ، بل أيضاً على مستوى الشِّعرية العالمية . كما أنني حاولتُ الإصغاءَ لما يقوله شعراءُ المعلَّقات، وتفسير رموزهم ، وتحليل تطبيقاتها ، وجعلَ الشِّعر يُفَسِّر الشِّعرَ دون حقنه بعناصر دخيلة ، أو آراء شاذة عن مسار الحضارة الشِّعرية التي صَنعتها المعلَّقات .
     لقد حاولتُ أن أستمع إلى آراء شعراء المعلَّقات التي أدْلَوا بها في شتى المواضيع. ولا يَخفى أن آراءهم مستمدة من خبراتهم الحياتية، ومكنوناتهم النَّفسية، وتأثيرات البيئة الفكرية والاجتماعية في تكوينهم الشخصي . إنهم قد عاشوا الحياةَ بكل تفاصيلها ، لمعرفتهم أن الحياة تشكِّل قيمةً أساسية في الفكر الإنساني ، فهي الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الإنسان لتحقيق الغاية من وجوده ، وتحويل أشواقه الروحية إلى واقع ملموس ، وإشباع حاجاته المادية .
     والجديرُ بالذِّكر أن ولادة الكلمات الثورية في شِعر المعلَّقات ، إنما تتم بواسطة زرع ثورة اللفظة والمعنى في أرجاء النَّص عن طريق بناء تكوينات فلسفية مُبْتَكَرَة ومُدهِشة وصادمة للمألوف ، وهذا يتحقق في نفسية الشاعر الثوري أولاً ثم يهبط على النتاج الأدبي الشِّعري . وهذه الولادة المتفجرة لها تشكيلان :
     الأول _ تشكيلٌ بصري فاقع لامتلاكه عناصر الرؤية الفنية التي تُختصَر في صدمة الصورة المتخيَّلة التي تهز الواقع هزاً ، وتُفرغه من محتواه السلبي لصالح الصورة الفنية الساطعة التي تملأ نفسية الصانع والمتلقي على السواء .
     والثاني _ تكوين سمعي يهز أركانَ المتلقي من أجل حشده بالقيم المطْلقة . فالعنصر السمعي موسيقى داخلية تنبع بالأساس من الصورة المتفردة، ولا ضير أن تنبع من الأوزان الشِّعرية، لكن الأولوية للصورة المتدفقة التي تأخذ مسارها الماحي الهادر دون حواجز لغوية أو أوزان قد تعيق التصويرَ الصادم ذا المعاني المبتكَرة . فالموسيقى تهز الإنسان حتى لو لم يفهمها ، فزقزقة العصافير _ على سبيل المثال _ تثير الخيال، وتهز الأحلام، وتحرِّك ثوريةَ العاطفة، دون أن يفهمها المتلقي، وقد يصل الشِّعرُ إلى هذا الطَوْر _ أحياناً _ .
     إن هذا الكتاب يأتي كمحاولة شخصية للتنقيب عن القيم المركزية في المعلَّقات العَشْر ، واكتشافِ المستويات الشعرية بكل تطبيقاتها الدينية والإنسانية والاجتماعية والفلسفية . والمعلَّقاتُ مَنجم كبير بحاجة إلى عمليات تنقيب كثيرة ومكثَّفة . والفلسفةُ الشِّعرية الكامنة في المعلَّقات هي بحرٌ متلاطم الأمواج . وقد حاولتُ     _ قَدْر المستطاع _ أن أغوص في أعماق هذا البحر لعلِّي أضع يدي على الجواهر والدُّرر. فإن نجحتُ فذلك توفيقٌ من الله تعالى، وإن أخفقتُ فعُذري أني قد حاولتُ، وشرفُ المحاولة يَكفيني .
     وأخيراً وليس آخِراً ، فهذا الكتابُ محاولةٌ ذاتية لاستنطاق شِعر المعلَّقات ، وجهدٌ مختصَر شديد التكثيف، ومغامرةٌ شخصية لم أُقلِّد فيها أحداً. وإنما سِرتُ على ضوء الشِّعر مُسلَّحاً بالمنهج العِلمي الذاتي وأدواته . والمرجعُ الوحيد الذي اعتمدتُه لتأليف هذا الكتاب هو " شرح المعلَّقات السَّبع " للزوزني . 

22‏/03‏/2016

نقد بدعة السلفية

نقد بدعة السلفية

من كتاب / قضايا تهم كل مسلم

تأليف : إبراهيم أبو عواد

................................

     بدايةً ينبغي أن نحدِّد المصطلحات بدقة بالغة الخصوصية . فمصطلح " السلفية " باعتبارها مرحلة زمنية مباركة لأعظم رجالات الإسلام على الإطلاق وهم السلف الصالح أهل القرون الثلاثة الأولى المشهود لهم بالخيرية مصطلح زمني يحدِّد مرحلة طيبة ناصعة البياض ولا يحدِّد مذهباً إسلامياً ذا قواعد أصولية وفروع منبثقة عن تلك القواعد . والخيرية ثابتة ليست موضوع نقاش ، فعن عمران بن حصين _رضي الله عنهما_قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( خَيْركم قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )){(1)}. وينبغي أن نُقَيِّد لفظة    " السلف" بلفظة " الصالح " ، لأن كثيراً من الطوائف والفئات المنحرفة ظهرت أيضاً في القرون الثلاثة الأولى ، وبالطبع فإن الحديث يستثنيهم ضميناً .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (3/ 138) ناقلاً عن ابن عبد البَر : (( إن قوله صلى الله عليه وسلم : (( خَيْرُكم قَرْني )) على الخصوص ، معناه خير الناس قرني ، أي : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم ، فهؤلاء أفضل الأمة ، وهُم المرادون بالحديث ، وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن رآه وصحبه ، أو لم يكن له سابقة ، ولا أثر في الدِّين ، فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار )) اهـ .
     وهذا كلام نفيس للغاية رغم أن الغالبية الساحقة من العلماء على خِلافه ، فهالة القداسة التي تحيط بالصحابة وأنهم لا يُنْقَدُون هالة وهمية ، فالصحابي تشرَّف بصحبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهذه مزية جليلة ومنحة ربانية عظيمة ، ولكن يجب أن تكون أفعاله موافقة للشرع ، فالصحابي الذي أسرف على نفسه بالمعاصي والآثام علينا أن ننقده نقداً علمياً مُنْصِفاً ونبيِّن حاله للناس . فنحن لا نعطي حصانة دبلوماسية للصحابي تجعله فوق مستوى النقد . فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يتمتع بالحصانة فقط ، وكل الذين هم دونه مُعَرَّضون للنقد والجرح والتعديل حسب الحالة . لذا فتقديس الصحابة كلهم فرداً فرداً رغم الآثام الكارثية للبعض مرفوض جملة وتفصيلاً ، وهذا سيأتي بحثه معنا في هذا الكتاب فيما بعد . والرأي الذي نقف عليه أن هناك أناساً من القرون المتأخرة يفوقون بعض الصحابة الذين خلطوا الأمور وارتكبوا المحرَّمات ، منزلةً ورُتبةً عند الله تعالى. وهذا لا يَطعن في الصحابة_ رضوان الله عليهم _ حملة هذا الدِّين، لأن الله تعالى قيَّض لحمل الرسالة صحابة أثباتاً عدولاً ينشرون تعاليم الإسلام الدين السماوي الأوحد ، وبعض الصحابة لم يكن لهم دور في نشر الإسلام ولا سابقة ولا أثر في الدِّين ، والبعض لم يكونوا عدولاً ، وهذا الأمر المعلوم لا ينتقص من قَدْر الصحابة الأثبات الذين حملوا الدِّين على أكتافهم كمرجعية كُلية ومدرسة فكرية مخلِصة . ونحن لسنا من الروافض الذين أسقطوا السواد الأعظم من الصحابة ، ولسنا ممن يُردِّدون خرافة أن كل الصحابة عدول فرداً فرداً بلا استثناء . وسيأتي تفصيل هذا الكلام واضحاً في موضع آخر من هذا الكتاب.
     ولنأتِ إلى مصطلح آخر وهو " السلفية التَّيمية النجدية "، نسبة إلى ابن تيمية ومقلِّده محمد ابن عبد الوهاب . ويجب أن نُمَيِّز بينه وبين مصطلح السلفية المراد بها مرحلة السلف الصالح الزمنية. فبدعة السلفية التَّيميَّة النجدية هي إسهامات مبنية على اجتهادات في غير محلها، وأخطاء منهجية واضحة ، وحمل النصوص على ظواهرها دون معرفة قواعد اللغة العربية . وهي إعادة بَلْورة لأفكار صِغار العقول من الحنابلة الذين دخلوا في التجسيم الواضح، وأعرضوا عن منهجية الإمام أحمد بن حنبل _ رضي الله عنه _ ، ولم يلتزموا بالقواعد الحنبلية الأساسية للمذهب التي وضعها علماء المذهب الأثبات من أصحاب العقيدة الراسخة مثل الإمام أحمد وابن الجوزي ( المتوفى سنة 597 هـ ) الذي رَدَّ على مُجسِّمة الحنابلة الذين شَوَّهوا المذهب ، مثل القاضي أبي يعلى المجسِّم الذي كان إذا ذُكِر الله سبحانه ، قال : (( ألزموني ما شِئْتُم فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة )) كما نقل ابن العربي في العواصم ( 2/ 283)، ومثل هذا الكفر البواح استهزاء واضح بالذات الإلهية وهذا راجع إلى حمل النصوص على ظواهرها الحسية المادية . وقد قال العلامة أبو محمد التميمي في الكامل لابن الأثير       ( 10/ 52 ) : (( لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار )) اهـ، ومن مجسِّمة الحنابلة ابن الزاغوني ( المتوفى سنة 527هـ )، وأيضاً أبو عبد الله ابن حامد ( المتوفى سنة 403هـ ) {(2)}.
     والسلفية التَّيمية النجدية في ثوبها المعاصر وضعها محمد بن عبد الوهاب {(3)}،  حيث استمد عقائده من عقائد ابن تيمية ( 661هـ_728هـ) وأفكار ابن القيم {(4)}(691هـ_751 هـ)  لا السلف الصالح . وهذه السلفية التَّيمية النجدية هي فلسفة الفقه البدوي الأعرابي البدائي. فمن بدا جفا ، لأن الأعراب الذين يعيشون في البادية بعيداً عن التجمعات المدنية المتحضرة يمتازون بغلظة الطبع لقلة مخالطة الناس، فيصعب التعامل معهم، ويغلب فيهم الجهل والجفاء والقسوة . وبسبب قسوة قلوبهم وجهلهم حوَّلوا الدِّينَ وكأنه أوامر عسكرية ميكانيكية مُفرَغة من الروحانية، وعذوبةِ الرُّوح ، وهذا دَيْدنهم . 
     وإنني أجزم أن نية محمد بن عبد الوهاب كانت صالحة وأفكاره فيها خير كثير، وفيها انحرافات كثيرة أيضاً، لكن النية الصالحة لا تُصْلِح العملَ الفاسد. وإن الكارثة الحقيقية هي الغرق في أفكار ابن تيمية المنحرِفة دون بصيرة، فكانت النتيجة مأساوية ، لا سيما وأن المصالح السياسية تدخَّلت لأدلجة السلفية النجدية من أجل ترسيخ الحكم السياسي عن طريق قتل المخالِفين والمعارِضين لهذه البدعة .
     وَلْيُعْلَم أنه لا يوجد في الإسلام شيء اسمه " السلفية " كمذهب إسلامي. فالصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة والقرآن الكريم يَنْزل عليهم . كما لا يوجد في الإسلام شيء اسمه عقيدة السلف أو مذهب السلف . هناك العقيدة الإسلامية المستقاة من النصوص قطعية الورود ( الكتاب والسنة المتواترة) وقطعية الدلالة . فهذه المصطلحات البدعية المنحرِفة ( عقيدة السلف، مذهب السلف ... إلخ ) مرفوضة لأنه لا دليلَ شرعياً عليه . وإذا كان الأمر هكذا فسيأتي من ينادي بعقيدة الأشاعرة ومذهب الأشاعرة ، وآخر بعقيدة الماتريدية ومذهب الماتريدية ، ويختفي مصطلح "العقيدة الإسلامية " من الوجود . قال الله تعالى :  )إِن الذين فَرَّقوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُم فِي شَيء إِنما أَمْرُهُم إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون ( [ الأنعام: 159] . مع العلم أن النبي إبراهيم r سَمَّانا المسلمين ولم يُسَمِّنا السلفيين ولا الأشاعرة ، قال الله تعالى: ) مِلَّةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُم الْمُسْلِمِين ( [ الحج : 78] .
     ويحاول البعضُ إحلال ما يسمى بعقيدة السلف مكان العقيدة الإسلامية ، وهذا إرهاب فكري يضاد الإسلام ويتجاهل وجوده. وأخشى من يوم يستخدم فيه هؤلاء القوم عبارة" الديانة السلفية" لتحل مكان الديانة الإسلامية. وتراهم يُنافِحون بكل ما أُوتوا من قوة لتسويق مصطلحاتهم البدعية، وهذا يدل على انتصارهم لأفكارهم وفهمهم ، لا انتصارهم للإسلام . فهم لم يسعهم ما وسع الأمة الإسلامية ( أهل السنة والجماعة ) ، فتراهم يشذون عنها أكثر فأكثر . وقد أجار اللهُ تعالى الأمة أن تجتمع على ضلالة ، إذ إن الأمة معصومة عِصمة عامة ، فإن وجدتَ اختلافاً فعليك بالسواد الأعظم أي : بالحق وأهله ، لأن الذي على الحق أغلبية ولو كان لِوَحْده . 
     ولنرد على مصطلح " عقيدة السلف " رداً علمياً فنقول إن هذا المصطلح يفترض أن الصحابة والتابعين وباقي السلف الصالح _ رضوان الله عليهم _ متحدون في كل مسائل العقيدة ، دون اختلافات فيما بينهم ، وأنهم يملكون مذهباً مُوَحَّداً في الأصول والفروع جاهزاً لمن يريد الأخذ به ، وهذا غير صحيح البتة ، فقد تباينت اجتهاداتهم في فهم أمور عَقَدية هامة مثل مسألة رؤية الله تعالى ومسألة تأويل الصفات ، وإليك بيان ذلك تفصيلاً :
     مسألة رؤية الله ليلة المعراج :
     اختلفَ الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ في قضية رؤية الله تعالى ليلة المعراج . فَذَهب البعضُ إلى أنه صلى الله عليه وسلم رآه بأُمِّ عَيْنيه ، وذَهبت آخرون إلى أنه رآه بقلبه لا عينيه . وقد أثبتَ ابن عباس _ رضي الله عنهما _ هذه الرؤيةَ ، في حين أن السيدة عائشة _ رضي الله عنها _ نَفَتْها بشدة .
     رَوى مُسْلم في صحيحه( 1/ 158 )عن عطاء عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال : (( رآه بقلبه )) .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 6) : (( قال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال المفسرون : هذا إخبار عن رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّه _ عَزَّ وجَل _ ليلة المعراج . قال ابن عباس وأبو ذر وإبراهيم التيمي : رآه بقلبه. قال : وعلى هذا رأى بقلبه رَبَّه رؤية صحيحة، وهو أن الله تعالى جعل بَصَرَه في فؤاده أو خلقَ لفؤاده بَصَراً حتى رأى رَبَّه رؤية صحيحة كما يُرى بالعَيْن  . قال : وقد ذهبَ جماعة من المفسِّرين إلى أنه رآه بِعَيْنه وهو قول أنس وعكرمة والحسن والربيع )) اهـ .
     وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 608 ) : (( وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، فذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها ، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حَلَفَ أن محمداً رأى رَبَّه . وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها ، وكان يَشتد عليه إذا ذُكر له إنكار عائشة ، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس )) اهـ .
     وردَّت السيدة عائشة _ عليها السلام_ كلام القائلين بالرؤية رداً حاسماً ، فعن مسروق قال : قلتُ لعائشة _ رضي الله عنها _: يا أُمَّتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم رَبَّه، فقالت : (( لقد قَفَّ شَعْري مِمَّا قلتَ . أين أنتَ من ثلاث من حدثكهن فقد كَذب ، مَن حَدَّثكَ أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى رَبَّه فقد كَذب، ثم قرأتْ : ) لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخبيرُ ( [ الأنعام :  103] ... )){(5)}.
     إن رؤيةَ الله تعالى في الدنيا متعذرة. وبالتالي، فالمقصودُ برؤية الله تعالى هي الرؤية القلبية . ووفقَ هذه القاعدة ، فإن إثبات الرؤية هو إثبات لرؤية القلب ، أمَّا نفي الرؤية فهو نفي لرؤية البصر . وهكذا يزولُ التعارضُ الظاهري .   
     قال الحافظ في الفتح ( 8/ 608) : (( فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يُحمَل نفيها على رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب )) .
     لاحظ كيف أن السلف الصالح اختلفوا في مسألة عَقَدية هامة ، فهؤلاء الذين يتشدقون بعبارة " عقيدة السلف " هلا أخبرونا ما هي العقيدة الصحيحة في هذه المسألة رغم أن القَوْلَيْن صادران عن السلف الصالح ؟ .
     مسألة تأويل الصفات :
     تباينت آراءُ السلف الصالح في هذه المسألة ، فطائفة تُفَوِّض ، وطائفة تقوم بالتأويل ، والبعض يُؤَوِّل في موقف ويُفَوِّض في موقف آخر . وهذا يدل على سعة هذا الدِّين وعظمته ، ويدل كذلك على عِلم السلف الصالح _ رضي الله عنهم _ الذين اختلفت فهومهم واجتهاداتهم حسب الحصيلة العلمية الذاتية لكل واحد منهم. وكل الاجتهادات المستقيمة المبنية على الكتاب والسنة الصحيحة اجتهادات مقبولة ، وأصحابها مأجورون _ إن شاء الله تعالى _ رغم الاختلافات في الفهم تبعاً لاختلاف المنهج وتباين العقول وتفاوت المستويات العلمية . وهذا لا يطعن في السلف الصالح ، وهم لم يطعنوا في بعضهم البعض ، ولم يُبَدِّعوا أو يُفَسِّقوا أو يُكَفِّروا بعضهم البعض مثلما يفعل الكثيرون من الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين الذين يرمون الناس بالبدعة والشِّرك والفسق لأقل مسألة اجتهادية .
     فابن عباس _ رضي الله عنهما_الذي يُعتبَر من علماء الصحابة نُقِلت عنه تأويلات كثيرة بمسألة الصفات ، فعلى سبيل المثال المختصَر لا الحصر :
     1) عن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ أنه سُئل عن قَوْله عَزَّ وجل: ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ( [ القلم: 42]. قال : (( إذا خُفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشِّعر ، فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر : أصبر عناق إنه شر باق، قد سن قومك ضرب الأعناق،  وقامت الحرب بنا عن ساق )) . قال ابن عباس : (( هذا يوم كرب وشدة )){(6)}.
     قال الطبري في تفسيره ( 12/ 197 ) : (( قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل يبدو عن أمر شديد )) اهـ . ونقل الطبري تأويل الساق بالشدة عن مجاهد وقتادة اللذين هما من علماء السلف ، انظر تفسير الطبري ( 12/ 197 ) . 
     وهذا يدل على أن التأويل كان عند السلف الصالح . فالذي يرمي الذين يتأولون بالجهل والضلال فهو يتهجم ضمنياً على جماعة من علماء الصحابة والتابعين. والتأويل ثابت عنهم ومنتشر في كتب الحديث والتفسير ومبسوط باستفاضة مُدَعَّماً بالأسانيد الثابتة، ونحن هنا لن نستعرض كل ما ورد ، لكن يهمنا إيصال الفكرة بأن التأويل كان عند السلف الصالح ، ولم يأت به الخلف من بنات أفكارهم ، لذا مَنْ أَوَّلَ ضمن الضوابط الشرعية واللغوية ، هو على خير كثير ومأجور على عمله المتوافق مع الكتاب والسنة الصحيحة وهو أبعد ما يكون عن الضلال والزيغ .
     قال الحافظ في الفتح ( 13/ 428 ) : (( وقال الخطابي : تَهَيَّب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس: إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن )) اهـ .
     2) وأيضاً الإمام أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي الذي يقول الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين إنهم ينتسبون إليه يُؤَوِّل أيضاً ، وله تأويلات كثيرة جداً خصوصاً في فتنة خلق القرآن وتصديه للمعتزلة الذين احتجوا ببعض الآيات القرآنية ، فما كان منه إلا أن تأوَّلها . 
     قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 10/ 327 ) : (( روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمر ابن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأوَّلَ قول الله تعالى: ) وَجَاءَ رَبُّكَ ( [ الفجر: 22] أنه: جاء ثوابه ،  ثم قال البيهقي : وهذا إسناد لا غبار عليه )) اهـ .
     وأيضاً التفويض كان منهجاً معتمَداً عند السلف الصالح مثله مثل التأويل ، وإليك كلام أهل العِلم في هذا الصدد :
     قال الترمذي في سُننه ( 4/ 691) : (( والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عُيَيْنَة ووكيع وغيرهم أنهم رَوَوْا هذه الأشياء ثم قالوا : تُروَى هذه الأحاديث ونؤمن بها ، ولا يقال كيف . وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروَى هذه الأشياء كما جاءت ، ويُؤمَن بها ، ولا تُفَسَّر ، ولا تُتَوَهَّم ، ولا يُقال كَيْف ، وهذا أمر أهل العِلم الذي اختاروه وذهبوا إليه )) اهـ .
     والحقُّ هو الإيمان بهذه الأشياء على مُراد الله مع اعتقاد تَنْزِيه الله عن كُلِّ ما لا يَليق به . نؤمن بها كما ذَكَرَ اللهُ لا كما يَخطر للبشر . وعلى المسْلم أن يؤمن بها بلا تشبيه ، ويُصدِّق بلا تمثيل ، ويُمسِك عن الخوض فيما لا عِلم له به . ومِيزةُ التفويض أنه لا يَحتمل الخطأ ، أي إن المفوِّض محقٌّ دائماً على يقين تام . أمَّا المعتمدُ على التأويل ، فإن تأويله عُرضةٌ للخطأ وعدم اليقين .
     ومن غرائب ابن تيمية أنه قال في درء التعارض ( 1/ 115) : (( فتبيَّن أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم مُتَّبعون للسُّنة والسلف مِن شر أقوال أهل البدع والإلحاد )) اهـ .
     وهذا الكلامُ المتهوِّر يمثِّل طعناً في أئمة المسلمين في كل العصور . فالتفويض منهج معتمَد عند السلف والخلف . وكلامُ ابن تيمية منطلق من الهوى والتعصب بلا دليل شَرعي .
     قال الحافظ في الفتح ( 13/ 383 ) : (( والصواب : الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب اللهُ في كتابه أو على لسان نَبِيِّه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال ، وبالله التوفيق . ولو لم يمكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازماً بتأويله ، بخلاف صاحب التفويض )) اهـ .
     ونقل الحافظ في الفتح( 13/ 383) عن ابن دقيق العيد قوله: (( في العقيدة نقول في الصفات الْمُشْكِلَة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله ، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريباً على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه ، وإن كان بعيداً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه )) .
     إذن ، يتضح لنا ثبوت التأويل والتفويض عن السلف الصالح ، وهذه مسألة عَقَدية لم يتفقوا عليها بل ذهب كل منهم إلى الرأي الذي يطمئن إليه ، ولا تثريب على الفريقين . وهكذا تسقط عبارة " عقيدة السلف" ويتبين عدم صحتها وفق هذه الأدلة التي وضَّحت اختلاف السلف في أمور عقدية ، وعدم اتفاقهم المطْلَق عليها . لذا نخرج من هذا التحزب لما يسمى بعقيدة السلف لنلتزم بالعقيدة الإسلامية التي تُوَحِّد ولا تُفَرِّق ، فهي الوعاء الجامع لنا كلنا ، والأصول الثابتة متفق عليها بين جميع المسلمين سَلفاً وخَلفاً . فلا مُسمَّيات لا وزن لها من قبيل " عقيدة السلف " و " عقيدة الخلف " التي تعمل على تفريق الصف الإسلامي وتقسيم الأمة تقسيمات ما أنزل اللهُ بها من سلطان من شأنها إثارة النعرات الحزبية .
     ومنهجنا هو الاعتراف بالسلف الصالح أسياداً لهذه الأمة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم وأعلم الأمة ، والاعتراف بالخلف الصالح من أهل العلم المشهود لهم بالتقوى والصلاح والعلم والتمسك بالكتاب والسنة الصحيحة شُرَّاحاً لآراء السلف المجْمَلة المعتمِدة على التسليم المطْلَق المبصِر دون الخوض في التفاصيل ، أما أن نشطب علماءنا سَلَفاً كانوا أم خَلَفاً فهذا لا يقوم به إلا أحمق. فجناحا الأمة السلف الصالح والخلف الصالح ، ولا تَقْدر الأمةُ على التحليق بجناح واحد أو بدون أجنحة . والمسألة ليست كما يتصورها البعض بأنها معركة بين السلف والخلف ، وكأننا في حلبة مصارعة ، فيذهب كل طرف ليعتديَ على الطرف الآخر، فهذا العبث يجب أن ينتهيَ عاجلاً لأنه ليس له أدنى صلة بالسلف الصالح ، ولا بالخلف الصالح .
     وبعد أن سقط مصطلح " عقيدة السلف " لعدم توافر شروط الصحة فيه ، دعونا نذهب إلى مصطلح بدعي آخر وهو مصطلح " مذهب السلف "، والمقصود به في هذا السياق هو الفقه وليس العقيدة، فبالتأكيد لا يوجد مذهب فقهي واحد للسلف الصالح ، واختلافاتهم أكثر من أن نحصيَها. فالصحابة كانوا يختلفون في المسائل الفقهية والقرآن يَنْزِل عليهم . وأيضاً ظهور المذاهب الفقهية الأربعة والاختلافات المنهجية والتفريعية بينها التي صارت معروفة عند شريحة واسعة . فلو كان هناك مذهب فقهي واحد للسلف لما تعب الأئمة الأربعة في البحث والدراسة والتمحيص والتفكير ووضع القواعد والفروع ، ولما ظهرت هذه الاختلافات الواضحة ، ولما ظهرت المذاهب الأربعة ، ولما ظهر أي مجتهد نهائياً ، لأن افتراض وجود مذهب للسلف يعني أن السلف اتفقوا على كلمة واحدة وضعوها في مذهب واحد لا يتعدد ، وهذا غير موجود من الناحية الواقعية .
     ومن يطالع كتب الفقه سوف يقف على آراء متعددة للصحابة في مسائل فقهية لا حصر لها ، ومن المعلوم أن الصحابة _ رضوان الله عليهم _ سادة السلف الصالح والمقدِّمة . وهذا الاختلاف المحمود لم يجعلهم متعصبين لآرائهم المبنية على اجتهاداتهم المختلفة ، ولم يرمِ بعضهم بعضاً بالجهل والبدعة كما يفعل البعض في زماننا . وهكذا يتبين لنا أنه لا يوجد مذهب خاص للسلف الصالح لا في العقيدة ولا في الفقه أو الفروع . واختراع مُسَمَّيات خاصة بالسلف الصالح لا دليل عليها وإعطاؤها هالة القداسة والعِصمة ليس من الإسلام في شيء .
     وقال الشاطبي في الاعتصام ( 1/ 413) : (( وروى ابن وهب عن القاسم أيضاً قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون ، لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضِيق ، وإنهم أئمة يُقتَدى بهم )) اهـ .
     فالصحابةُ قد فَتحوا بابَ الاجتهاد ، وفي هذا توسيعٌ على الناس ، ورفعٌ للحرج . ولو أنهم التزموا قولاً واحداً لشقَّ ذلك على المسلمين ، ولكان المجتهِدون في ضيق شديد . ولا يَخفى أن الاجتهادات والآراء تختلف حَسْبَ اختلاف العقول والبيئة الاجتماعية .
     ومصادرُ التشريع الأربعة ( الكتاب ، السُّنة ، الإجماع ، القياس ) ، ليس فيها أقوال السلف . وهذا الأمر يقودنا إلى مسألة حُجِّية مذهب الصحابي الذي هو رأس السلف الصالح ، وفي ذلك تفصيل كبير جداً ، لكننا سنختصر المسألة اختصاراً غير مخل .
     فإذا كان مذهب الصحابي بين أخذ ورد عند العلماء ، فما بالك بمن يتخذ قول أحد السلف حُجَّةً لازمةً ويحيطه بالعِصمة والقداسة لا لشيء سوى أنه من السلف الصالح ؟!. والذي يفعل هذا بعيد كل البعد عن منهج علماء العقائد والأصوليين الذين قَعَّدوا المسائل ، ووضعوا له ضوابط وتفريعات ، وأصَّلوها وفق الكتاب والسنة الصحيحة . فينبغي أن نبتعد عن التعصب لأقوال الرجال ، فالحق أحق أن يُتَّبع . وإذا كنتَ على الحق فأنتَ أغلبية حتى لو كنتَ وَحْدَك .
     حُجِّيةُ مذهب الصحابي :
     إن مذهبَ الصحابي لا يكون حُجَّةً على غيره من الصحابة المجتهِدِين ، وذلك لأن قولَ المجتهِد لا يَنقض قولَ مجتهِد آخر . فالعِصمةُ ليست لأقوال الرجال ، إنما العِصمةُ للكتاب والسُّنة الصحيحة . 
     قال الآمدي في الإحكام ( 4/ 155) : (( اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حُجَّة على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً ، واختلفوا في كَوْنه حُجَّةً على التابعين ومن بعدهم من المجتهِدين ، فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه والكرخي إلى أنه ليس بحُجَّة . وذهب مالك بن يروي والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة والشافعي في قول له وأحمد ابن حنبل في رواية له إلى أنه حُجَّة مُقدَّمة على القياس . وذهب قومٌ إلى أنه إن خالف القياس فهو حُجَّة  وإلا فلا . وذهب قوم إلى أن الحجَّة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما ، والمختار أنه ليس بحُجَّة مُطْلقاً )) اهـ .
     ولا يجوز اتخاذ مذهب الصحابي حُجَّة بشكل مطْلق ، فإن الصحابي بشر يجوز عليه الخطأ والنسيان ، وبالتالي فكلامُه وفِعْله غير معصومَيْن . كما أن الصحابة مجتمع يجوز عليه الاختلاف ، وقد اختلفوا فِعلاً ، فكيف تتصادم أقوالُ المعصومِين ؟!. والأُمَّةُ مُجمِعة على جواز مخالفة الصحابة. إذن ، فلا عِصمة لشخص يُصيب ويُخطِئ ، ولا حُجَّة لكلامه أو فِعله . 
     وقال الغزالي في المستصفى ( 1/ 168 ) : [ من الأصول الموهومة قول الصحابي، وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حُجَّة مطْلقاً ، وقوم إلى أنه حُجَّة إن خالف القياس، وقوم إلى أن الحجَّة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم : (( اقتدوا باللذين من بعدي )){(7)}، وقوم إلى أن الحجَّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا ، والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حُجَّة في قَوْله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ ؟،وكيف تدعى عِصمتهم حُجَّة متواترة ؟، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف ؟، وكيف يختلف المعصومان كيف ؟، وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة  ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نَفْسه ] اهـ.
     إن قولَ الصحابي ليس بِحُجَّة إذا انفرد ، إلا أنه يجب الانتباه إلى حالة انتشار قول الصحابي بلا مخالفة ، وفي هذه الحالة يكون قَوْله حُجَّة . فانتشارُ قول الصحابي بلا مخالِف دليل اتفاق الصحابة على الحُكم ، وما كان ليتم ذلك لولا استنادهم إلى دليل قاطع . مع الانتباه إلى أن الصحابة إذا اختلفوا فللمجتهِد أن يأخذ ما شاء من أقوالهم ويترك ما شاء ، ولا يجوز الخروج عن أقوالهم جميعاً لأن هذا خروج على الإجماع . فإذا انتشر في أوساط الصحابة قَوْلان كان القَوْلان إجماعاً لا نخرج إلى ثالث ، وإذا انتشر بينهم ثلاثة أقوال كان الثلاثة إجماعاً ولا نخرج إلى رابع ، وهكذا . وفي هذا السياق تبرز قاعدةٌ هامة ، وهي : إن قول الصحابي لا يَنسخ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم .
     ولنرجع إلى كلمة " السلف " ومعناها اللغوي . ( سَلَفَ ) _ سُلُوفاً ، وسَلَفاً : تَقَدَّم وسبق ومضى وانقضى ، فهو سالف{(8)}.
     ولنقم الآن باستعراض الجذر " سلف " ومشتقاته في الكتاب والسنة الصحيحة لنُكوِّن فهماً دقيقاً عن الأساس الفكري لبدعة السلفية النجدية البعيدة عن الكتاب والسنة الصحيحة .
     1) قال الله تعالى : ) فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن ربِّه فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ([ البقرة: 275] .
      ومعنى ) مَا سَلَفَ ( ما مضى . والآيةُ تتحدث عن أكل الرِّبا . فأكلُ الربا قبل تحريمه معفوٌّ عنه ، فهو في حُكم الماضي . قال الطبري في تفسيره ( 3/ 101 ) عن معنى ) فَلَهُ مَا سَلَفَ (  : (( ما أكل وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربِّه في ذلك )) اهـ .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 436 ) : (( قال سعيد بن جبير والسدي : ) فَلَهُ مَا سَلَفَ ( فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم )) اهـ .
     2)قال الله تعالى:) وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ( [النِّساء: 22].
     ومعنى ) مَا قَدْ سَلَفَ ( ما قد مضى . فاللهُ تعالى عفا عمَّا مضى في جاهليتهم ، حيث كانوا ينكحون ما نكح آباؤهم. وقال الطبري في تفسيره ( 3/ 659 ) : (( وعفا لهم عما سلف منهم في جاهليتهم وشِركهم من فعل ذلك )) اهـ .
     3) قال الله تعالى : ) وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ( [ النِّساء : 23] .
     ومعنى ) مَا قَدْ سَلَفَ ( ما قد مضى . والآيةُ تتحدث عن حُرمة الجمع بين الأختين ، ومَن فَعلَ ذلك فيما مضى ( الجاهلية ) ، فقد تجاوزَ اللهُ عنه ، وعفا عنه . 
     قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 2/ 90 ) : (( أي وحُرِّم عليكم الجمع بين الأختين معاً في النكاح إلا ما كان منكم في الجاهلية فقد عفا الله عنه )) اهـ .
     4) قال الله تعالى : ) عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ ( [ المائدة : 95] .
     والمعنى : عفا اللهُ عما مضى وانقضى ، فلا يؤاخذكم به .
     5) قال الله تعالى : ) قُل للذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم ما قَدْ سَلَفَ ( [ الأنفال : 38] .
     والمعنى : أن الكافرين إذا انتهوا عن كفرهم وضلالهم وأسلموا ، فإن الله يغفر لهم ما مضى أيام كفرهم ، ويتجاوز عنهم ، فالإسلام يَجُبُّ ما قَبْله ، أي : يَمحوه .  
     6) قال الله تعالى : ) هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ( [ يُونُس : 30] .
     فكلُّ نَفْسٍ تَعلم ما سلفَ من عملها ، أي ما قَدَّمَتْه من خير أو شر .
     قال القرطبي في تفسيره ( 8/ 301 ): (( تختبر كل نفس ما أسلفت أي جزاء ما عملت وقَدَّمتْ )) اهـ . وقال ابن كثير ( 2/ 546 ) : (( في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر )) اهـ .
     7) قال الله تعالى : ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( [ الحاقة : 24] .
     ) أَسْلَفْتُمْ ( ، أي : قَدَّمْتُم في الأيام الماضية ( أيام الدنيا ) . 
     قال القرطبي في تفسيره ( 18/ 236 ):(( ) بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( ، أي قدَّمتم في أيام الدنيا )).
     8) قال الله تعالى : ) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخِرِين ( [ الزخرف : 56] .
     إن اللهَ تعالى قد جعلهم عِبرةً لمن جاءَ بعدهم ، ومَثَلاً يَعتبرون به لئلا يُصيب المتأخرين ما أصاب المتقدِّمين    ( السَّلف ) من العذاب. قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 165 ) : (( قال أبو مجلز : سَلَفاً لمثل من عمل بعملهم، وقال هو ومجاهد: ومثلاً أي عِبرة لمن بعدهم )) اهـ .
     هذه الآيات الشريفةُ هي التي وَردت في القرآن الكريم ، وتتضمن كلمة " سلف " وما يتفرع عنها ، وهي واضحة لمن له أدنى معرفة باللغة العربية ، ومعناها واضحٌ في تحديد الفترة الزمنية السابقة الماضية لا تحديد مذهب إسلامي أو منهجية عَقَدية أصولية فقهية . فمعناها لا يخرج عن الإطار اللغوي المعروف . وعبثاً حاول البعض إخراج المعنى إلى المجال الديني ، فهذا مضاد لسياق الآيات الكريمة ، وقواعد اللغة العربية . والذين ينادون بما يسمونه السلفية ليس لهم أي حُجَّة أو بَيِّنة من القرآن الكريم لتثبيت مصطلحهم البدعي وانتزاع الشرعية الدينية له ، فالقرآن الكريم أورد لفظة " سلف " وما يتفرع عنها ليُظهِر المعنى الزمني لهذه اللفظة وما يتفرع عنها ، فالمعنى القرآني حصرَ هذه اللفظة في المجال اللغوي فقط لا الدِّيني أو التَّعبدي . فمن ينادون بهذه البدعة لا دليل لهم من القرآن الكريم ، والله تعالى أجل وأعلم . وأولئك الذين كوَّنوا مذهباً بدعياً وأسموه السلفية مرجعهم في ذلك إلى أهوائهم ، فالسلف الصالح لم يكن لهم مذهب محدَّد لهم ، فالصحابة   _ رضوان الله عليهم _ اختلفت اجتهاداتهم ومذاهبهم ، والتابعون كذلك ، ومن تبعهم بإحسان كذلك ، والإسلام يتسع لاجتهادات مختلفة ويعترف بها ما دامت ضمن المنهج الإسلامي المبني على الكتاب والسنة الصحيحة .
     أمَّا المعاني الواردة في السنة النبوية الشريفة حول لفظة السلف فمختصة بالمعنى اللغوي فحسب، وهو معنى التقدم والسبق دون وجود أية إشارة لمعنى ديني أو مذهب إسلامي . والذين لم يجدوا في القرآن الكريم ما يؤيد بدعتهم المذهبية انطقلوا إلى السنة النبوية فلم يجدوا سوى المعنى اللغوي المعروف في لغة العرب ، لكنهم احتجوا بهذا الحديث النبوي الذي يُعتبَر عمدتهم في هذا السياق بعد أن فهموه فهماً خاطئاً ، فقد قال النبي r للسيدة فاطمة الزهراء _ عليها السلام_ : (( فإني نِعْمَ السَّلف أنا لكِ )){(9)}.
     ومن العجيب أن يُحمَل هذا الحديث الشريف على شرعنة بدعة السلفية استناداً إلى فهم مغلوط لمعنى كلمة " السلف "،ولنعد إلى تفسير الحديث فقد قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 7 ) : (( والسَّلف المتقدِّم ، ومعناه أنا متقدِّم قُدَّامك فَتَرِدين عليَّ )) .
     وقد تبيَّن لك عدم وجود مرجعية من القرآن أو السنة لما يسمى بالسلفية ، فليست هي بأكثر من مذهب بدعي حزبي غير منقَّح فلا أصول قواعدية معتمَدة له ولا فروع، يستند إلى كثير من الأفكار المنحرِفة لابن تيمية قديماً ومحمد بن عبد الوهاب حديثاً ، ومن هنا كانت التسمية الحقيقية لهذه الفئة السلفية التَّيمية النجدية ، فابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب هم سَلَف من يقول بهذه البدعة، والأمر لا علاقة له بالسلف الصالح _ رضوان الله عليهم _ في كثير من الأمور التي يعتنقها من يسمون أنفسهم بالسلفية .
..........الحاشية...........
{(1)} متفق عليه. البخاري ( 2/ 938 ) برقم ( 2508 ) ، ومسلم ( 4/ 1964 ) برقم ( 2535).
{(2)} راجع كتاب "دفع شُبه التشبيه بأكف التنزيه" للإمام ابن الجوزي .
{(3)} وُلد في العيينة سنة 1115 هـ ، ورحل في طلب العلم إلى الحجاز والشام والبصرة ، وكانت دعوته بدعية بعيدة عن منهج الفهم الصحيح للكتاب والسنة الصحيحة ، أعاد استلهام انحرافات ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ، وقد رمى الناس بالشِّرك والبدعة دون وجه حق . غطَّت بدعته على المذهب الحنبلي في بلاد الحرمين الشريفين ، ورد عليه علماء كثيرون بسبب انحرافه وجهله الفظيعين .أسَّس بِدعة " النجدية " ولا أقول الوهابية، لأن الوهابية مشتقة من اسم الله الوهاب، وهذا المذهب البدعي لا يجوز أن يُسمَّى باسم ذي اشتقاق من اسم الله تعالى . كما أسس منهج التكفير دون وجه حق ، واستحلال المحارم ، وقتل المخالفين . ولهذه البدعة الجديدة خمسة أصول رئيسة : 1) اتخاذ ابن تيمية مُقَدَّساً وأقواله حُجَّة قطعية 2) تشبيه الله تعالى بالخلق 3) التثليث في العقيدة إذ يُقسِّمون التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو تقسيم باطل لا دليل عليه ، وإنما انتشر بعد القرن السابع الهجري ، وهو غير معروف عند السلف الصالح مُطْلقاً 4) عدم توقير النبيِّ صلى الله عليه وسلم .5) تكفير الناس دون وجه حق . فمن توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو عندهم كافر حلال الدم، ومن استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك، وهناك مسائل كثيرة لا يتسع المجال لذكرها كاملةً. مات سنة 1206هـ . وفي صحيح البخاري( 6/ 2598) : عن ابن  عمر_ رضي الله عنهما _ قال : ذَكَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( اللهم بارك لنا في شأمنا، اللهم بارك لنا في يمننا ))، قالوا : يا رسول الله، وفي نجدنا. قال : (( اللهم بارك لنا في شأمنا ، اللهم بارك لنا في يمننا )) ، قالوا : يارسول الله ، وفي نجدنا . فأظنه قال في الثالثة : (( هناك الزلازل والفتن وبها يَطْلع قَرْنُ الشيطان )) .
{(4)} ) لمعرفة العقائد المنحرفة عند ابن القيم راجع كتابَيْ : السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ، وتبديد الظلام المخيِّم على نونية ابن القيم .
{(5)} رواه البخاري ( 4/ 1840 ) برقم ( 4574 ) واللفظ له، ومسلم ( 1/ 160) برقم ( 177).
{(6)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 542) برقم ( 3845 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(7)} رواه الحاكم ( 3/ 80 ) برقم ( 4455) وصححه، والترمذي( 5/ 672 )برقم ( 3805) وحسَّنه . وصحَّحه الشوكاني في إرشاد الفحول ( 1/ 124 ) .
{(8)} انظر المعجم الوجيز ،مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ص 318 .
{(9)} متفق عليه. البخاري( 5/ 2317 ) برقم ( 5928) ، ومسلم ( 4/ 1904 ) برقم (2450) .

19‏/03‏/2016

هايدغر بين الوجود والعدم

هايدغر بين الوجود والعدم

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............................

    لا يوجد فيلسوف أوروبي في القرن العشرين أفلتَ من تأثير الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ( 1889_ 1976) . وهذا يشير بوضوح إلى مكانة هذا الفيلسوف في النسق الفلسفي الغربي . فما الذي جعله يتبوَّأ هذه المكانة رغم كثرة القامات الفلسفية في أوروبا عبر تاريخها الطويل ؟ .
     إن النقطة الجوهرية في فكر هايدغر ، هي عدم تقليده للآخرين . لقد كانَ نفْسَه ولا شيء آخر، ولم يَعبأ بالنقد والاتهامات . فقد آمنَ بأفكاره الشخصية وفلسفته الخاصة ، ومضى في طريقه وحيداً نحو الهدف الذي رسمه بنفْسه ، ووصل إلى أبعد نقطة ممكنة ، لأنه كان يعرف مسارَه وهدفَه ، ولو كان متردداً لما حقَّق أيَّ إنجاز.
وكما قِيل:لا يذهب بعيداً مَن لا يَعرف إلى أين هو ذاهب.وهذا الأمر يُحسَب له بغض النظر عن طبيعة أفكاره.
     وُلد هايدغر في جنوب ألمانيا، ودرس في جامعة فرايبورغ، حيث تتلمذ على يد الفيلسوف هوسِّرل ، ثم صارَ أستاذاً فيها عام 1928. أبرز مؤلفاته : الوجود والزمان ( 1927) ، دروب مُوصَدة ( 1950) ، ما الذي يُسمَّى فكراً ( 1954) ، ما هي الفلسفة ؟ ( 1956) ، المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا ( 1961) .
     وفلسفة هايدغر شديدة التعقيد والتَّشعب ، وهي قائمة على ثلاثة أركان : القلق ، الاغتراب ، الموت .
ويمكن تبسيطها على النَّحو التالي : إِنها فلسفة تقوم على فكرتين مركزيتين : الوجود ( حياة الإنسان ) والعدم  ( الموت ) . وضمن هذه الثنائية ، على الإنسان أن يشعر بالقلق تجاه مصيره ، لأن نهايته الحتمية هي الموت. وهذا يعني أن القلق الوجودي المسيطر على الإنسان هو الذي كشف معنى العدم ( الموت ) . وفي ظل هذه المعطيات ، يبدأ الإنسانُ رحلةَ البحث عن وجوده وجدوى استمراره في الحياة . والقلق في هذا السياق ليس شعوراً ، وإِنما قيمة فلسفية . إذ إِن سبب القلق هو الخوف على الوجود من العدم . وبعبارة أخرى ، الخوف على الحياة من الموت . وهكذا يتكرس القلقُ الوجودي كجرس إنذار ، وأداة كاشفة لماهية العدم والفناء ، ومبدأ لإزالة القناع عن وجه الإنسان ، وتعريته ، وتأكيد ذاته .
     إن القلق الوجودي في فلسفة هايدغر ، مؤشر واضح على أن الحياة لا معنى لها ، ولكن الإنسان صاحب الحضور المركزي في هذا العالَم ، هو الذي يُعطي الحياةَ معناها ، ويَمنح الشرعية والمعقولية للوجود . وبالتالي ، فالإنسان يصنع نفْسه بنفْسه ، ويصنع عالَمه المحيط به ، ولا يمكن للإنسان أن يجد نفْسَه إلا إذا كان حراً . وهكذا تتجذر الحرية كمبدأ أساسي من مبادئ الفلسفة الوجودية. وعلى الجهة المقابلة ، يبرز مفهوم الوجود الوهمي ، حيث يعاني الإنسان من الاغتراب ، فيتقمص الآخرين ، ولا يجد نفْسَه ، وهذه المرحلة تُمثِّل نوعاً من عدم الوجود .
     والفلسفةُ الوجودية تُشدِّد على أهمية القلق لخلاص الإنسان وتخليصه من أزماته . لذلك فهي تقف ضد الأشخاص الذين يرفضون تحمل مسؤولية القلق الوجودي ، ولا يريدون تأكيد ذواتهم ، ولا يَطمحون إلى اكتشاف مواهبهم ، ولا يَتركون بصمة في حياتهم . وهؤلاء _ وفق المنظور الوجودي _ يَغرقون في نظام استهلاكي روتيني مغلق ، ويَبحثون عن الراحة والرفاهية بعيداً عن الأسئلة الوجودية والقضايا المصيرية . لذلك، فإِن الفلسفة الوجودية تعتبر الهروب من مسؤولية القلق هو نهاية الإنسان . وبما أن الإنسان محكوم _ منذ ولادته _ بالموت ، فعليه أن يكتشف تفاصيل حياته بنفْسه، ويستغل كل لحظة زمنية ، ولا يُضيِّع وقته في الأمور غير المفيدة . وهذا لا يتحقق إلا بالبحث عن معنى الوجود والماهية الحقيقية للأشياء ، والتفتيش عن الوجوه لا الأقنعة .
     وقد أصابَ التعقيدُ والتناقضُ فلسفةَ هايدغر وحياته الشخصية على حَد سواء . وهذا الأمر اتَّضح بشكل مُبكِّر . إِذ إِن هايدغر بدأ حياته بدراسة علم اللاهوت ليصير كاهناً ، ثم ابتعد عن هذا المجال ، ودرس العلوم الطبيعية ، وأخيراً انتهى إلى الفلسفة . والغريب في الأمر أن أهم إنجازات هايدغر يتجلى في إِبعاد الفلسفة الغربية عن الأسئلة اللاهوتية والغَيبية ( الميتافيزيقية ) ، والتركيز على الأسئلة الوجودية ومعنى الكَينونة ، وهو الذي بدأ حياته بدراسة علم اللاهوت القائم _ أساساً _ على المفاهيم الغَيبية .
     ومن الأمور الغريبة أيضاً ، انتماء هايدغر إلى الحزب النازي الألماني ، ورئاسة الجامعة في العهد النازي. مما جعل كثيراً من الباحثين يتهمونه بمعاداة السامية . وتزداد الغرابة إذا عَلمنا أنَّ علاقة عاطفية كانت تجمع هايدغر " النازي " مع تلميذته الكاتبة حنّة أرندت " اليهودية " التي طاردتها النازية، فهربت إلى فرنسا . وبين الأستاذ وتلميذته رسائل غرامية متبادلة ، وقد جُمعت في كتاب صدر بالألمانية ، وقد تُرجِم إلى العربية . إنه العشق القاسي بين " المعلِّم النازي " و" التلميذة اليهودية " في زمن صعود النازية .

     لقد تركَ هايدغر أعمالاً فكرية كثيرة ، وتميَّز بتأثيره الهائل على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ، كالوجودية ، والتفكيكية ، وما بعد الحداثة . ورغم كل الانتقادات التي وُجِّهت لهذا الفيلسوف ، إلا أنه بقي في قلب المشهد الفلسفي العالمي ، ولم يَقدر أحد على تحييده أو إقصائه .