العقائد الدينية في شعر المعلقات / الجزء الثالث
إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
......................
إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
......................
الحلفُ بالله :
الحلفُ باللهِ تعظيمٌ
لله تعالى، وتعظيمٌ لمقام الأُلوهية . فالإنسانُ حين يمرُّ في موقفٍ صعب ، وتُحيط
به الأزمات، فإنه يلجأ إلى خالقه تعالى،وتختفي أمامه قوة الكائنات الحية، وقوة
الجمادات ، فلا يعود يرى إلا القوة العُليا السَّامية ، قوة الله تعالى ، فيلجأ
إليها . والحلفُ بالله يَشتمل على هذه المعاني .
يقول امرؤ القَيْس :
فقالتْ يَمينَ اللهِ ما لكَ حِيـلةٌ وَما إنْ أرى عنكَ الغَوايةَ تَنْجلي
يَخبرنا الشاعرُ عن حبيبته ، فقد حاصرها من كل الجهات ، ولم يترك لها
منفذاً للتهرب أو الهرب ، ويَرفض أن يَتركها وشأنها . وعندما أحسَّت الحبيبةُ أن
دائرةَ الحِصار قَد أُطبقت عليها ، زالت القوى البشرية المحدودة من قلبها وعقلها ،
ورأتْ قوةَ خالق البشر، فاعتمدتْ على الحلف بالله في هذا المأزق الخطير الذي وَقعت
فيه. فهي في حالة اضطرار لا اختيار . والإنسانُ _ عادةً _ لا يَلجأ إلى الحلف إلا
في المواقف الصعبة. وكأن الحلفَ في هذا الموضع يَحمل نداء استغاثة ضمنياً، أو طلب
مساعدة خفياً . والإنسانُ _ عندما تُغلَق في وجهه كل الأبواب وتتساقط أمام عينيه
الأسباب والمسبِّبات _ ، فإنه يفرُّ إلى خالق الأسباب، ويُهرَع إلى بابه .
وها هِيَ تقول: أحلف
بالله، ما لي حِيلة لإبعادكَ عني ، ولا سبيل إلى دَفعكَ، وليسَ لكَ حَل . وهنا
يبرز ضعفُ الأنثى وعَجْزها أمام شهوة الذَّكر الجامحة ، وإلحاحه الشديد . فالعاشقُ
قد أَحكم قَبضته على المرأة التي يُحبُّها، ولا يَسمح لها بالفرار أو الهروب من
هذا المأزق . فقد وَصلا إلى نقطة اللاعودة ، وهو يُريد استغلال هذا الموقف حتى آخر
لحظة ، فقد لا يتكرر ثانيةً . وإذا سَيطرت الشهوةُ على الأعضاء ، فإن صوتَ العقل يتلاشى
، وتصبح الغريزةُ هي القوةَ الضاربة ، وصاحبةَ اليد الطولى .
إنها لم تجد حِيلةً ولا
حَلاً لإصرار الشاعر ، ولا ترى في الأفق بارقةَ أمل . فهي مقتنعة أن الضلالة
مسيطرة على الشاعر ، ولن يُفلِت منها . وقد أَعْمته هذه الضلالة فلم يَعد يرى غيرَ
لذة القرب من الحبيبة، مهما كانت الأخطار المحدِقة مثل : انكشاف أمره أمام الناس،
أو التسبب بفضيحة لا أول لها ولا آخر، أو معرفة الأهل بالموضوع ، خصوصاً أهل
الحبيبة .
وينبغي تذكُّر أن
المجتمع الجاهلي هو مجتمع قَبَلي مُغلَق لا مجتمع مُنفَتح متحرر . وهذا المجتمعُ
المغلَق المحافِظ يَحرص على قيم الشرف ، وصَوْن الأعراض . والجميعُ على استعداد
لبذل دمائهم رخيصةً من أجل حماية سُمعة القبيلة ، وحماية أعراض نسائها . وهذه
القضيةُ لا مُساوَمة فيها ، ولا مُساوَمة عليها . لذلك ما قامَ به الشاعرُ يُمثِّل
مغامرةً خطيرةً. إنه يَلعب بالنار،ومع هذا لم يكترث بهذه النار لأنه في جنَّة
الحبيبة.
وقد قال الرواة : (( هذا
أغنج بيت في الشِّعر )) . وكأنهم يَستشعرون انكسارَ الحبيبة أمام حبيبها،
ويَعتبرون أن كلامَها لا يَنبع من قلبها، وإنما يَنطلق من وراء قلبها ، وأنها
تتمنَّع وهي راغبة . وبعبارة أخرى ، إنها تريد بقاءَ حبيبها معها ، ولكنها لا
تَقدر على التصريح بهذا ، لِمَا في الأمر من خطورة أكيدة. وكأنها تقول له بلسان
المقال : ابتعدْ عني، أمَّا لسانُ حالها : اقتربْ مني . أي إنَّ قلبَها وعقلَها
يَسيران في مسارَيْن متوازيَيْن ولا يَلتقيان .
وبشكلٍ عام ، سيظل
حَلْفُها بالله تعالى مؤشراً واضحاً على صعوبة الموقف ، والمعاناةِ الشديدة التي
تكابدها روحياً ( عاطفياً ) ، ومادياً ( جسمانياً ) .
ونَنتقل من الحلف في
المجال العاطفي الذي يتعلق بمشاعر فردية ، إلى الحلف في المجال السياسي العسكري
الذي يتعلق بحياة الجماعة ، ومصائر الكثيرين .
يقول زهير بن أبي سُلمى :
ألا أَبْلِغِ الأحلافَ عني رسـالةً وَذُبيانَ هل أَقسَمتُم كلَّ مُقسَمِ
إنها رسالةٌ سياسية إصلاحية تمس حياةَ الفرد والجماعة . فالشاعرُ هنا يَلعب
دوراً هاماً في الفكر السياسي القَبَلي ، ويقدِّم نَفْسَه كزعيم عشائري وداعية
سلام ، يَجْمع ولا يُفرِّق ، أو وسيط دبلوماسي هَمُّه تقريب وجهات النظر ، وجمع
الأطراف على كلمة سَواء . وهذا جانبٌ مهم من جوانب شخصية الشاعر، فهو لا يَكتفي
بترتيب الكلام، وصناعة الصور الفنية الجَمالية . إنه يُحوِّل شِعْرَه إلى نظرية في
عِلم الاجتماع السياسي ، ويَجعل كلامه وثيقةَ صُلح ومحبة بين القبائل المتناحرة .
وقد اندلعت حربٌ طاحنة
بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان . وقد نصَّب الشاعرُ نَفْسَه رَجلَ سلام وصُلح ،
ووضع شِعْرَه في سياق إنهاء الحرب ، وإشاعة السلام والوئام . وهذا يدل على بُعد
نظره ، وكَوْنه مثقَّفاً عُضوياً ، أي منخرطاً في قضايا مجتمعه ، وهموم أفراده
وطموحاتهم .
يقول الشاعر : أَبلغ
ذُبيان وحُلفاءها ، وقُل لهم قد حَلفتم على إبرام الصُّلح كل حلف ، فاحذروا من
الحنث باليمين.
فالشاعرُ يَدعوهم إلى
حفظ اليمين. فهذه قضيةٌ لا تحتمل التلاعب، ولا تَقبل التحايل. فالحنثُ باليمين
يُعتبَر وصمة عار، ويُشير إلى سوءِ الأخلاق، وخُبث السريرة، وفساد الطباع ، ويدل
على انهيار الشخصية الإنسانية، وتلاشي القِيَم.
وبالإضافة إلى هذا،
فاليمين متعلِّق بإبرام الصُّلح ، وإنهاء حالة الحرب بين عَبْس وذُبيان. ويترتبُ
على الحنث به عودة الحرب ، وإزهاق الأرواح، وإتلاف الممتلكات . فلا بد من تذكيرهم
باليمين ، وضرورة الالتزام به . فالالتزام به طريقُ الخير والسلام والمصالحة القَبَلية
، أمَّا الحنثُ به فهو طريق الشر والحرب والدمار الحتمي .
ويقول النابغة الذبياني
:
حَلفتُ
فلم أترك لنفسكَ رِيبةً وليس
وراءَ الله للمرء مَطْلبُ
إن الشاعرَ يؤكد أنه قد
حَلَفَ ، ولولا أن الأمر جليل لما أَقدم على هذا الأمر . وقد أَقدم على الحلف لأنه
يريد ألا يترك في نَفْس المخاطَب شَكاً ولا رِيبة . وليس بعد اليمين بالله مجال
لطلب غير ذلك من الحجج ، فلا بد من تصديقه وعدم تكذيبه، وهذا ما يَطمح إليه
الشاعرُ، وقد جاءَ باليمين من الأجل الوصول إلى هذه الغاية ( تصديقه وتَنْزيه
كلامه عن الكذب ) . فاليمينُ بالله هو أعظمُ حُجَّة، وأكبر دليل. وإذا لم يُصدِّق
المخاطَبُ هذا اليمينَ ، فلن يُصدِّق شيئاً ، وستنهشه الوساوسُ والشكوك .
تعظيمُ الكعبة :
تعظيمُ الكعبة عقيدةٌ
أساسية في الجاهلية . فالكعبةُ هي بيتُ الله الذي طاف حَوْله الأنبياء والناس من
بعدهم، وهي مركزُ الوجود الدِّيني في الجزيرة العربية ، ومحط أنظار العرب من شتى
القبائل ، ومَوْضع حَجِّهم، وبيت أبيهم إبراهيم _ عليه الصلاة والسلام _ ، ومأوى
أفئدتهم ، وحاضنة أصنامهم. وقد كان عربُ الجاهلية لا يَبنون بنياناً
مُربَّعاً تعظيماً للكعبة ، وحِفظاً لمكانتها وتميُّزها . لذلك ، فليس غريباً أن يُحلَف بها ، وأن تُذكَر في المعلَّقات .
ولَوْلا مكانتها السامية لما تم تعليق أشعارهم عليها .
يقول الشاعرُ زهير بن أبي سُلمى :
فأقسمتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حَوْلَه رِجالٌ بَنَوْهُ من قُرَيْشٍ
وَجُرْهُـمِ
لقد بدأ كلامَه بالقَسَم بالكعبة المشرَّفة، ولَوْلا عَظَمتها لَمَا أقسمَ
بها . ولا يكتفي بالقَسَم بها ، بل يُركِّز _ أيضاً _ على قضية الطواف بها . وهو
يشير إلى مَن طافَ حَوْلها ، وهُم رِجالٌ قاموا ببنائها ، ويَنتمون إلى هاتَيْن
القبيلتَيْن . جُرهم : وهي قبيلة قديمة تزوَّج فيهم إسماعيل _ عليه الصلاة والسلام
_، فَغَلبوا على الكعبة والْحَرم بعد وفاته ، وضعف أمرُ أولاده ، ثم استولى عليها
بعد جُرهم خُزاعة ، إلى أن عادت إلى قُرَيْش ( وهو اسم لولد النضر بن كنانة ) .
ولم يَكتفِ الشاعرُ
بتعظيم الكعبة وإبراز قُدسيتها ومكانتها الجليلة عن طريق القَسَم بها ، بل _ أيضاً
_ يُبرِز الحالةَ التاريخية المحيطة بالكعبة . وكأنه يُريد توضيح الأصول التاريخية
للكعبة ، والقول إن مقدَّسات العرب لها تاريخٌ ضارب جذوره في الأعماق ، وليست
مقدَّسات سطحية جاءت صُدفةً ، أو تم اختراعها دون سند حضاري أو تاريخي .
ونراه يُنوِّه بقُرَيْش
وجُرهم ، ويُظهِر دورهما التاريخي في بناء الكعبة ، والسيطرة عليها ، وبَسط النفوذ
على الْحَرم . وهُما قبيلتان عريقتان لهما وزنٌ مهم في حضارة الجزيرة العربية ،
وتاريخهما جزءٌ من تاريخ الكعبة. ولا يَخفى أن القبائل تَنظر إلى الكعبة باعتبارها
المركز ، وتَنظر إلى القبيلة التي تَغلب على الكعبة على أنها سَيِّدة القبائل بلا
منازِع ، والقبيلة الأولى المقدَّمة في كل المحافل . فالأمرُ لا يَقف عن الدلالة
الدينية، بل يحتوي_كذلك_على دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية شديدة الأهمية، ولا
يمكن تهميشها بأية حال من الأحوال .
ويقول الشاعرُ النابغة
الذبياني :
فلا، لَعَمْرُ الذي مسَّحتُ كعبتَــه وما هُريق على الأنصاب من جسدِ
يَحلفُ الشاعرُ بربِّ الكعبة التي مَسَّحها ، أي طافَ بها ولَمَسَها . وهنا
تَظهر إحدى الشعائر التعبدية ، وهي الطواف حَوْل الكعبة ولَمْسها للتبرك بها . كما
تَظهر إحدى الشعائر الوثنية التي كانت تُدنِّس الكعبةَ المشرَّفة، وهي الذبحُ
للأصنام ، وتقديم القرابين للآلهة . فالأنصابُ هي حجارةٌ كانت تُنصَب في الجاهلية
، وتُذبَح عليها الذبائح ، فيسيل الدمُ على الأنصاب . وهذه التفاصيل وضَّحها
الشاعرُ من أجل إظهار عقيدته الإيمانية ( الإيمان بالأصنام الآلهة والالتزام بكافة
الطقوس التعبدية من ذبحٍ ، وتقديم قرابين ، ... إلخ ) . فالشاعرُ ملتزم بدِين
آبائه الموْروث بكل تفاصيله ، ولا يَحيد عنه . وهذه القضيةُ _ بالنسبة إليه _ قضية
مبدأ لا مساوَمة فيها .
وهذا الطقسُ الديني (
الذبح على الأنصاب ) شديد الأهمية في العقيدة الوثنية الجاهلية ، لأنه تجسيدٌ عملي
لفكرة الولاء للأصنام الآلهة ، والانتماء إلى دِين الآباء والأجداد . والأصنامُ هي
الفلسفة العَقَدية المركزية في دِين العرب قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية .