منهج الصيام في الإسلام
تأليف : إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
....................................
تأليف : إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
....................................
1_
الطعام والأغذية :
لم تجئ شريعةُ الصيام من أجل تعذيب النفس
الإنسانية أو القضاء عليها أو حرمان الإنسان من الطعام الطيب. إن الصيام نظام
حياتي دقيق يرمي إلى إثبات قدرة المؤمن على التضحية بشهواته من أجل خالقه تعالى .
وبالتالي يصبح الصيامُ منظومة التضحية والصبر والتحمل لصناعة جيل قادر على تحمل
أعباء الحياة لا ينكسر أمام التحديات الجسيمة . وهذا كله يدفع باتجاه صناعة
الإنسان المتفوق الذي يقوم بإعمار الأرض وفق مراد الله تعالى بكل صبر وتحمل ،
فيؤسس مجتمعَ الخير والجمال على الأرض ، ويفوز بالنعيم الإلهي في الآخرة .
قال الله تعالى : } يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طَيِّباً {[ البقرة : 168] .
واللهُ تعالى يمن على عباده بأن أباح لهم
الطيبات ، فأمرهم بأن يأكلوا من الخيرات الطيبة الحلال الموجودة في الأرض . فلا
يوجد ضيقٌ أو حَرج في تناول الطيبات ، فهي تُعين على العبادة ، وتبعث البهجة في
النفس ، فيستقبل الإنسانُ يومَه بإشراق وتفاؤل دون تحجير للرحمة الإلهية ، أو
تحريم للطعام الحلال بدافع الزهد أو التقوى . فالتقوى في اتِّباع الأوامر الشرعية
، وليس تحريم الحلال أو التضييق على النفس وتعذيبها وحرمانها من الطيبات .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 277 ) : (( أباح
لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كَوْنه حلالاً من الله طيباً ، أي مستطاباً في نفسه
غير ضار للأبدان ولا للعقول )) اهـ .
وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 1/ 172) عن
الآية : (( نزلت في ثقيف وخزاعة وبني عامر ابن صعصعة فيما حَرَّموا على أنفسهم من الحرث
والأنعام ، وحَرَّموا البحيرة والسائبة والحام ، قاله ابن السائب )) اهـ .
وأهلُ الجاهلية كانوا مولعين بتحليل الحرام
وتحريم الحلال ، وقد اخترعوا أحكاماً كثيرة ما أنزل اللهُ بها من سلطان، وربطوها
بعقائدهم وعاداتهم وحياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وهذا يعكس مدى
التخلف العقائدي نتيجة غياب الهداية الإلهية ، وغبشِ الوعي الإنساني .
والقاعدةُ الفقهية الشهيرة تقول إن الأصل في
الأشياء الإباحة . بمعنى إن كل شيء حلال ما لم يأت نصٌّ بتحريمه .
ففي صحيح مسلم( 4/ 2197 ) : عن عياض بن حمار
_ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته : (( ألا إن
ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمَني يومي هذا . كل مال نحلته عبداً حلال
. وإني خلقتُ عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمتْ
عليهم ما أحللتُ لهم )).
وهذا يعني أن كل مال أعطاه الله تعالى
لعباده فهو حلال. كما أن العباد مخلوقون حنفاء كلهم، أي إنهم مَوْلودون على
الفِطرة ( توحيد الله تعالى ) . لكنَّ الشياطين أوردتهم المهالك ، فانحرفوا عن
جادة الطريق ، وقامت بتحريم الحلال عليهم ، فاتَّبعوها بلا بصيرة . وفي هذا إنكار
على أهل الجاهلية ما حرَّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي{(1)}.
والله تعالى خلق عبادَه كلهم حنفاء أي
مسلمين . (( وقيل : طاهرين من المعاصي ، وقيل : مستقيمين منيبين لقبول الهداية ، وقيل
: المراد حين أخذ عليهم العهد فى الذر )){(2)}.
وإن الشياطين أزالوا الناسَ عن الحق وجالوا
معهم في الباطل ، وحرَّموا عليهم ما أحلَّه الله ، افتراءً عليه ، ورفضاً للشريعة
الإلهية السمحة . فالشياطين دفعوا الناسَ إلى الانحراف ، وتحريمِ الحلال ، وتحليلِ
الحرام ، ضمن فوضى عبثية ضاع فيها الإنسان بسبب ابتعاده عن المنهج الإلهي .
والجدير بالذكر أن عملية الابتعاد عن الحلال
الطيب والغرقِ في الحرام ، من شأنها تدمير الكيان الإنسان والقضاء على حياته
الدنيوية ، وإضاعته يوم القيامة . فالحرامُ له تأثير سلبي للغاية في مسار حياة
الفرد وعواطفه وطموحاته وإمكانياته . فهو يَحْرمه التوفيق ، ويجعل صدرَه ضيقاً
حرجاً ، ويجعل نظرته للحياة غارقة في المادية الآنية والاستهلاكية الفجة بلا هدف
ولا مسار ، مما يؤدي إلى تكوين سلوكيات منحرفة تُعمِّق أزمات الإنسان على الصعيد
الحسي والمعنوي .
ففي صحيح مسلم ( 2/ 703 ): عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أيها الناسُ إن اللهَ طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وإن اللهَ
أَمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ] يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحَاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [ [المؤمنون :51]. وقال: ] يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [[البقرة : 172] . ثم ذكر الرجلَ يُطيل
السَّفرَ، أشعثَ أَغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرامٌ ،
ومشربه حرام ، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام فأنى يُستجابُ لذلك )) .
فالحرامُ من شأنه أن يُعرِّض الإنسان لغضب
الله تعالى ، ويفقده طمأنينة الإيمان . فيصبح دعاؤه مرفوضاً غير مستجاب ، وهذا
يقوده إلى الهاوية السحيقة على الصعيد النفسي والمادي ، لأن الإنسان سيضيع إذا
تخلى عنه اللهُ تعالى ، فيفقد توازنه الروحي ، ويغرق في مستنقع الحياة الدنيا ،
بلا مسار ولا هدف .
وإننا لنجد أن ذنوب البشر قد أدَّت إلى
حرمانهم من الطيبات كعقوبة بسبب تقصيرهم، وظلمهم لأنفسهم. قال الله تعالى : } فَبِظُلْمٍ من الذين هادوا حَرَّمْنا عليهم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ
لهم { [ النساء : 160] .
يخبر الله تعالى عن اليهود الذين ظلموا
أنفسهم ، وارتكبوا الذنوبَ الجسيمة ، فتم تحريم طيبات كانت حلالاً لهم كعقوبة
وإجراء رادع . فقد حُرِموا الرزقَ الحلال بسبب غرقهم في المعاصي دون التفكير في
التوبة والرجوع إلى الله تعالى .
فالذنوبُ توصد الأبوابَ أمام الإنسان ،
وتجعل حياته محصورةً في زاوية ضيقة خانقة ، لا مكان فيها للتحرر والانطلاق، فتضيق
عليه الأرضُ بما رَحُبت ، وينكمش صدرُه بحيث يصبح غير قادر على استيعاب الخير
واحتضان المعروف . وهذه هي بداية النهاية المشتملة على الانكسار الكلي الذي يضرب
الفكر الإنساني ، فيجعل من المرء شبحاً لا وزن له ، وكائناً مسخاً بلا هوية ، لا
يعرف مسارَه ، ولا يدرك مصيرَه .
(( وهذا التحريم قد يكون قَدَرياً ، بمعنى أنه
تعالى قيَّضهم لأن تأوَّلوا في كتابهم ، وحرَّفوا ، وبدَّلوا أشياء كانت حلالاً ، لهم
فحرَّموها على أنفسهم تشديداً منهم على أنفسهم ، وتضييقاً وتنطعاً. ويحتمل أن يكون
شرعياً ، بمعنى أنه تعالى حرَّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك )){(3)}.
2_ وجوب الصيام :
قال الله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من
قبلكم لعلكم تتقون { [ البقرة : 183] .
وهذا أمرٌ إلهي بصوم رمضان الذي هو الإمساك
عن كافة المفطِّرات مع النية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
وفوائد الصيام لا يمكن حصرها ، فهي تشتمل
على تهذيب النفس وتطهيرها من الآثام والشوائب والأخلاق السيئة ، وتضييق مسالك
الشيطان عبر قطع الشهوة . فالصيامُ نظامٌ دِيني ودُنيوي ينتشل الفرد من مستنقع
الماديات الروتينية ليعيد صناعته من جديد وفق منظور إيماني .
ومفهومُ الصيام أكبر من قضية الامتناع عن
الطعام والشراب . إنه بناءٌ روحي يعيد الفردَ إلى إنسانيته ، وإنتاجٌ للقيم
الإنسانية والحضارية خارج إطار النمط الاستهلاكي الفج .
لذلك وجَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم
الشبابَ القادرين على الزواج إلى أهميته ، وأرشد غير القادرين على الزواج إلى
الصيام لأنه وقاية من الوقوع في الحرام ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( يا معشر الشباب،
من استطاع الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفَرْج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم
، فإنه له وِجاء)) {(4)}.
وفضل الصيام مشهور للغاية، وقد ورد في ذلك
نصوص شرعية كثيرة. وهذا غير مستغرب ، فهو أحد أركان الإسلام الخمسة. ومعلومٌ من
الدين بالضرورة، إذ إنه ثابتٌ في القرآن والسنة والإجماع . فمنكره كافر .
فالصيامُ مدرسةٌ دينية وأخلاقية متكاملة ،
فلا يمكن حصره في دائرة الطعام والشراب ، فالنظر إلى ماهية العبادات والحكمة منها
وما يترتب عليها من مبادئ وسلوكيات ضروريٌّ للغاية إذا أردنا تكوين فهم أفضل
للعقائد الدينية ، والعباداتِ وتطبيقاتها على أرض الواقع ، وتصرفاتِ المؤمنين .
فالدِّينُ الإسلامي كلٌّ لا يتجزأ . وهنا تتجلى عظمة الإسلام في كَوْنه منظومة
صالحة لكل زمان ومكان ، ونظاماً إصلاحياً لكل عناصر الطبيعة بلا استثناء .
وعن أبي سعيد _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار
سبعين خريفاً )){(5)}.
ومن الواضح من خلال آية الصيام أنه كان
مفروضاً على أهل الكتاب الذين كانوا قبل أتباع الرسالة المحمدية الإسلامية. فالله
تعالى يقول : } كما كُتب على الذين من قبلكم { في إشارة واضحة إلى أهل الكتاب . والجمهورُ على
أن التشبيه واقع على نفس الصوم لا صيام رمضان .
قال الحافظ في الفتح ( 8/ 178 ) : (( أما قوله
} كُتب { فمعناه فُرض . والمراد بالمكتوب فيه اللوح المحفوظ
. وأما قوله }كما{ فاختلف في التشبيه الذي دلت عليه الكاف ، هل هو على
الحقيقة فيكون صيام رمضان قد كُتب على الذين من قبلنا ، أو المراد مطلق الصيام دون
وقته وقدره ... وفي قوله } لعلكم تتقون { إشارة إلى أن من قبلنا كان فرض الصوم عليهم من قبيل الآصار والأثقال
التي كُلِّفوا بها.وأما هذه الأمة فتكليفها بالصوم ليكون سبباً لاتقاء المعاصي وحائلاً
بينهم وبينها )) اهـ .
وقد مَرَّ الصيام بأطوار متعددة ضمن المنهجية
الإسلامية في التدرج ، وإصدار الأحكام بشكل تدريجي على شكل خطوات، وذلك من أجل
احتواء الناس بشكل مرحلي ، وعدم التضييق عليهم، أو نقلهم من طَوْر إلى طور آخر دون
وجود استعداد نفسي وجسدي لهذه النقلة . فكل تغيير يصاحبه تطورات إنسانية واختلافات
مجتمعية . والتغييرُ الفوري بلا مقدمات قد يكون قاصماً .
فعن معاذ بن جبل _ رضي الله عنه _ قال : أمَّا
أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر
ثلاثة أيام ، وصيام يوم عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام ، فأنزل الله : } يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من
قبلكم { [ البقرة : 183] إلى هذه الآية } وعلى الذين يطيقونه فِدْيةٌ طعامُ مسكين { [ البقرة :
184] . فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً، فأجزى
ذلك عنه . ثم إن الله أنزل الآية الأخرى} شهرُ رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس { [ البقرة :185] إلى قوله تعالى :
} فمن شهد منكم الشهرَ فليصمه { [ البقرة :
185]. فأثبت اللهُ صيامه على المقيم الصحيح ، ورخَّص
فيه للمريض وللمسافر . وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حَوْلان
. وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا امتنعوا . ... وكان
عمر قد أصاب من النساء من جارية أو حرة بعدما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر
ذلك له، فأنزل الله :} أُحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم { [ البقرة : 187] إلى قوله : } ثم أتموا الصيامَ إلى الليل { [ البقرة : 187]{(6)}.
وهكذا يتضح لنا أن مشروعية الصيام مرَّت في
أحوال متعددة لمراعاة أحوال المؤمنين ، والتسهيل عليهم ، وعدم حشرهم في الزاوية
الضيقة . فالشريعةُ جاءت لرفع الحرج ، وفتح الأبواب الشرعية أمام الناس لا إغلاق
المنافذ عليهم .
وعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت : كانوا يصومون
عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان ... فلما فرض اللهُ رمضان ، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : (( من شاء أن يصومه فليصمه ، ومن شاء أن يتركه فليتركه )){(7)}.
وكل هذه النصوص تعكس أهمية الصيام ودوره
المحوري في حياة المسلم ، حيث ينقل الأفرادَ والجماعات من الفوضى إلى الانضباط،
ومن خشونة الطباع إلى الأخلاق اللينة ، ومن سطوة الشهوة إلى الشهوة المنضبطة في
المكان والزمان المناسبَيْن . فلا يمكنُ للمرء أن ينتصر على صعوباتِ حياته إلا إذا
انتصر على نفسه ، ولا يمكن للمرء أن يكون سيداً بين الناس وهو عبدٌ لشهواته .
وكل العبادات إنما جاءت لانتشال الفرد من
مستنقع الروتين الوظيفي الدنيوي الترابي ، وزراعته في قلب الفعل الاجتماعي المؤمن
، حيث تتجلى قيم خلافة الله في الأرض ، وإعمارها وفق الشريعة الإلهية الخالدة .
ولا يمكن إنكار دور العبادات في تنظيم
الحياة الدنيا ، ونيلِ السعادة السرمدية في الآخرة . وكل هذا يعود على الفرد
بالطمأنينة والاتزان النفسي والقوةِ المادية . فاللهُ تعالى هو خالق الإنسان،
وأعلم به منه، ويعرف _ تعالى _ ما يصلح الإنسانَ وما يفسده . ولم يتم تشريع
العبادات للتضييق على الناس ، إنما شُرعت لإنقاذ الإنسان ومنحه الخلود في الدارين
: خلودُ ذِكره الطيب في الدنيا ، وخلوده في الجنة في الآخرة .
إن العبادات صناعةٌ حقيقية للسلوك الإنساني،
وإعادة القطار الاجتماعي المنحرف إلى السكة . والعباداتُ وُجدت من أجل سعادة الناس
أنفسهم. فالطاعاتُ لا تنفع اللهَ تعالى، والمعاصي لا تضرُّه. فحينما يذوب المرءُ
في أداء العبادة على أكمل وجه فإنه يَشكر خالقه المنعِم عليه ، ويُجدِّد معه
العهدَ والوعد . وإذا نظر المرءُ إلى نفسه ومحيطه سيجد أنه غارق في النعم الإلهية
بلا حصر ، فعليه أن لا يبخل على نفسه بأداء العبادات ، لأنها _ أولاً وأخيراً _
وُجدت لمصلحته ، وإنقاذه من ضنك الحياة ، وضيق الصدر ، وهواجس الفكر . فهي طوقُ
النجاة الذي إذا ذهب قد لا يَعود .
وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قال الله : كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه
لي وأنا أَجزي به ، والصيامُ جُنَّة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ،
فإن سَابَّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم . والذي نَفْس محمد بيده لخلوف فم الصائم
أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح ، وإذا لقي رَبَّه
فرح بصومه )){(8)}.
وهذا الحديث يُقدِّم لنا منهجاً متكاملاً في
فقه الصيام . فالصيامُ عبادةٌ خفية لا يدخلها الرياء مطلقاً لأنها متوارية عن أعين
الناس . أما باقي العبادات كالصلاة والحج _ مع فضلها الجليل _ فيمكن أن يدخلها
الرياءُ والسُّمعة، وحبُّ الظهور ، واستمالةُ عيون الناس ، واستدعاءُ انتباههم ،
فهي عبادات ظاهرية أمام عيون الناس وأسماعهم . أما الصيامُ فسرٌّ بين العبد وخالقه
_ تعالى _، لا يعلم وجودَه من عدمه سوى الله تعالى . لذلك كان الصيامُ لله تعالى
يجزي به .
والصيامُ جُنَّة ، أي وقاية من الوقوع في
المحرَّمات والشهوات والأخلاق القبيحة ، ومانعٌ من النار ، فمن صام يوماً لله باعد اللهُ النارَ عنه
سبعين سنة . وعلى الصائم أن يبتعد عن الشهوة والصياح وكل الأخلاق الدميمة . وهذا
أمرٌ شاملٌ في حال الصوم أو عدمه .
والصيامُ سدٌّ منيع يحمي الإنسانَ من الغرق
في الأخلاق الذميمة أو الانجرار إلى الخطايا المهلِكة. وهذه الحمايةُ الشاملة تجعل
من الفرد كائناً نورانياً يمكن تمييزه بين الناس بسبب صفته وسَمْته ، فهو ليس
إنساناً عادياً أو عابرَ سبيل في هذه الحياة . إنه يملك بصمته الشخصية المؤثرة في
مسار المجتمع الإنساني ومصيره . إنه ليس رقماً هامشياً يُضاف إلى أعداد البشر لأنه
حاملُ الرسالة الإلهية إلى الناس ، سائراً على خطى الأنبياء _ عليهم السلام _ .
وهذا هو التميز الحقيقي بلا غرور أو تطاول على الآخرين .
وإن اعتدى أحدٌ على الصائم بشتمه أو مدافعته
فليقل إني امرؤ صائم لكي يُذكِّر نفسَه ومن حوله بأنه في حالة إيمانية سامية لا
تقبل الشتم والمجادَلة والمقاتَلة . فالصائمُ لا يقع ضحية جهل السفهاء أو كلماتهم
الاستفزازية .
أما تغيرُ رائحة فم الصائم فهو يؤذي من حول
الصائم لأنهم يستقذرونها ، لكنها عند الله تعالى أطيب من ريح المسك .
والصائمُ له فرحتان : الأولى _ إذا أفطر فرح
بفطره ، فقد أطاع اللهَ تعالى ، وامتثل أمرَه ، وأنهى يومَه على أحسن ما يُرام .
وأيضاً يفرح بالطعام الطيب والشرابِ اللذيذ . والفرحة الثانية_ إذا لقي اللهَ فرح
بثوابه العظيم ومكافأته التي لا تضيع .
.........................................
{(1)} قال الله تعالى : } ما جعل
اللهُ من بَحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله
الكذب وأكثرهم لا يعقلون { [المائدة :
103].قال الصابوني في صفوة
التفاسير ( 3/ 47 ) : (( كان أهل الجاهلية إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذَكر
، بحروا أذنها أي شقوها وحرَّموا ركوبها وهي البحيرة، وكان الرجل يقول : إذا قدمتُ
من سفري أو برئتُ من مرضي فناقتي سائبة ، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها،
وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى
قالوا : وصلت أخاها وهي الوصيلة ، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى
ظهره وهو الحام، فلما جاء الإسلام أبطل هذه العادات كلها فلا بحيرة ولا سائبة ولا
وصيلة ولا حام )) اهـ .
{(2)} شرح
النووي على صحيح مسلم ( 17/ 197 ) .
{(3)} تفسير ابن كثير ( 1/ 777) .
{(4)} متفق
عليه. البخاري ( 5/ 1950 ) برقم ( 4779 )،ومسلم ( 2/ 1018 ) برقم ( 1400).
{(5)} متفق
عليه. البخاري ( 3/ 1044 ) برقم ( 2685 )، ومسلم ( 2/ 808 ) برقم ( 1153 ).
{(6)} رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 301 ) برقم ( 3085 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(7)} رواه البخاري ( 2/ 578 ) برقم ( 1515) واللفظ له،ومسلم ( 2/ 792 )
برقم ( 1125 ).
{(8)} متفق عليه .
البخاري( 2/ 673 ) برقم ( 1805) ، ومسلم ( 2/ 806 ) برقم ( 1151) .