الإخلاص في الدين
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
.................................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
.................................
الإخلاص هو أساس الدِّين ، ويعني التوجه
الكامل نحو الله تعالى، بحيث يكون قصدُ كل أعمال الإنسان هو وجه الله وَحْدَه .
وبدونه لا تُقبَل العبادات . والإخلاصُ هو القوة الروحية الهائلة التي تنعكس على
سلوك المرء وطبيعة تفكيره ونظرته إلى الأفعال الحياتية على كافة الصُّعد . كما أن
الإخلاص يُحرِّر الفردَ من شوائب العلاقات الدنيوية الوضيعة ، ويجعل تَوجُّهه نحو
الخالق العظيم بلا شريك. وبذلك يتجذر شرفُ العبادة في أسمى معانيها في الذات
الإنسانية المتحررة من قيود المصالح الدنيوية ونيلِ الحظوة عند الناس . فالناسُ لا
يملكون من أمرهم شيئاً . والأمرُ كله بيد الله تعالى . وإذا استقرت هذه العقيدة في
النفس فإنها تُورِث المرءَ أماناً وسعادة ولذةً في أداء العبادات مع إدارة الظهر
لكل أوهام الدنيا وإغراءاتها الشكلية . ولا يمكن للمرء أن يتوجه إلى سَيِّدَيْن ، لذلك
على الإنسان أن يُسقِط الناسَ من حساباته ، ولا يُعير بالاً لأحكامهم عليه ، بل
يتوجه بالكلية إلى الخالق تعالى ، فهو _ وَحْدَه _ الذي يَحكم له أو عليه .
قال الله تعالى : } فاعبدِ اللهَ مخلِصاً له الدِّين { [ الزُّمر : 2] .
إن هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه
وسلم بالإخلاص في العبادة ، وعدم الشرك بالله تعالى ، يُعتبَر أساساً في منهجية
الإسلام الذي جاء من أجل إفراد الله تعالى بالعبادة ، وعدم تأليه المخلوقات . فلا
أحدٌ يستحق العبادة إلا الله تعالى صانع المخلوقات وموجدها من العَدم. وكلُّ مبدأ
بُنِيَ على منح صفةٍ إلهية لمخلوق ، فإنه مبدأ باطل ، لا حَظ له من الحق. وما
بُنِيَ على باطل فهو باطل . ولا يمكن أن يتساوى المخلوق مع الخالق ، أو يشاركه في
إحدى صفاته . فلا يُعقَل أن يتساوى الكرسي مع النَّجار الذي صَنعه أو يشاركه في
خصائصه ، ومن غير المنطقي أن يصبح السيفُ كالحدَّاد الذي صنعه . فالنقلُ والعقلُ
متفقان على استحالة تساوي الصانع مع المصنوع . وللهِ المثلُ الأعلى .
قال الطبري في تفسيره ( 10/ 610 ) : (( يقول
تعالى ذِكره : فاخشع لله يا محمد بالطاعة ، وأخلص له الأُلوهة ، وأفرده بالعبادة ،
ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكاً ، كما فعلت عبدة الأوثان )) اهـ .
إن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة
الناس إلى عبادة الله وحده الذي لا ند له ، ولا شريك له . فلا خالق إلا الله تعالى
، وعلى الخلق أن يتوجهوا إليه وفق طريق التوحيد المستقيم بلا شوائب شِركية مهما
كانت صغيرة أو خفية .
وفي الواقع فإن العربي كان غارقاً في
الشِّركيات بفعل علاقته مع الأصنام المنتشرة في البيئة الجاهلية . وقد اخترع أهلُ
الأوثان علاقاتٍ بين الأصنام والله تعالى ، فزعموا أنها تُقرِّبهم إلى الله تعالى
. مما يشير إلى تغلغل الجاهليِّ في هذه العقلية البدائية الوهمية . وقد جاء
الإخلاصُ لانتشال الفرد من عبودية الأشياء ، وتوجيه كل الطاقات البشرية للخضوع لله
تعالى بلا شريك . فالإنسانُ لا يكون إلا عبداً . فمن ليس عبداً لله الإلهِ الحق
فهو عبدٌ لإله معبود بغير حق. وبالتالي فالإخلاصُ إنقاذٌ للبشر من الوقوع في
مستنقع الباطل ، ومسارٌ مضيء لاعتناق الحق ورفض الباطل . وهكذا يلتقي الإنسان
بإنسانيته ، ويعرف خالقَه تعالى الذي أوجده من العَدَم وسيُعيده إلى التراب .
وقال الله تعالى : } فإذا ركبوا في الفُلْك دَعَوُا اللهَ مخلِصِين له الدِّين فلما نجَّاهم
إلى البَر إذا هم يشركون { [ العنكبوت : 65] .
وهذا يشير إلى أن الإنسان في الشدائد يعود
إلى الأصل الثابت الكامن في نفسه وهو توحيد الله تعالى . فحينما يوقن الفردُ
بالهلاك يتوجه _ بكل جوارحه _ إلى خالقه وَحْدَه . لكنه حينما يشعر بالأمان يعود
إلى طبعه الأول وهو الشرك بالله تعالى افتراءً عليه . فالفِطرةُ الإنسانية خاضعة
لإلهٍ واحد لا شريك له ، لكن المصالح الشخصية وغياب الهداية وتزيين الشيطان تؤدي
إلى الشِّرك .
والناسُ _ على اختلاف عقائدهم وأجناسهم _
يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن هذه الموجودات لها صانع حكيم هو الله تعالى . حتى
الملحِدُ يؤمن في قرارة نفسه بوجود الله تعالى لكنه يُكابِر ويُعانِد ويضحك على
نفسه بأن يخترع أوهاماً ومبادئ فاسدة . والكلُّ يتوجَّه في الشدائد إلى الله
الواحد الأحد المنَزَّه عن الشريك والنِّد . وهنا تتجلى العودةُ إلى الفِطرة ، والنواةِ
الإيمانية الأساسية الكامنة في العنصر البشري . فالبشرُ يُدركون عجزَهم وخضوعهم
لقوةٍ عليا ، هي قوة الخالق العظيم ، صانعِ الأشياء ، ومُوجِد الحياة بكل تفاصيلها
.
قال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 301 ) : ((
إذا انقطع رجاؤهم من الحياة ، وخافوا الغرق، رجعوا إلى الفِطرة فدعوا اللهَ وحده ،
كائنين على صورة المخلِصين له الدين بصدق نياتهم ، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام ،
لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله _ سبحانه _ )) اهـ .
والإخلاصُ والتوحيد يشيران إلى خطورة
الشِّرك الأكبر ( المخرج من الملة )، والشركِ الأصغر ( غير المخرج من الملة ) .
فالمقارنةُ بين الأضداد تقود إلى فهم أكثر تماسكاً .
فعن شداد بن أوس _ رضي الله عنه_ قال : ((
كنا نَعُد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشِّرك الأصغر ))
{(1)}.
والرياءُ أن لا يُقصَد بالعمل وجه الله
تعالى ، وهذا محبط للعمل وفق درجات متفاوتة . كما أنه أمر بالغ الخطورة ، لأنه
يُفقد العباداتِ معناها الحقيقي عبر توجيهها إلى غير الله تعالى ، كما يُفقد
الإنسانَ متعة الإخلاص وحسن أداء الشعائر الدينية ، ويُعرِّض الإنسان لغضب الله في
الدارَيْن .
فينبغي أن تُترَك ملاحظة العمل لا العمل .
فعلى المرء أن يسعى بكل جوارحه إلى عبادة الله تعالى دون النظر إلى تعليقات الناس
، أو التوقف عن رأيهم . أي إنه يُقبِل على العمل ويُهمِل ملاحظة العمل التي قد
تنشأ في كلام الناس ورؤيتهم له . فمن يَعرف طريقَه لا يلتف أثناءَ سَيْره .
فالعابدُ لا يهتم بالأحكام البشرية ، نفياً أو إثباتاً ، سلباً أو إيجاباً ، لأنه
لا يرى إلا الله تعالى .
وفي صحيح مسلم ( 3/ 1513) : عن أبي هريرة _
رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رَجل استشهد،
فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟، قال : قاتلتُ فيكَ حتى استشهدتُ
. قال : كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال جريء فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى
أُلقيَ في النار. ورجلٌ تعلم العلمَ وعلَّمه وقرأ القرآنَ فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه
فعرفها، قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال : تعلمتُ العلمَ وعلَّمْتُه وقرأتُ فيك القرآن.
قال : كذبتَ ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالِم، وقرأتَ القرآنَ ليقال هو قارئ فقد قيل
، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار . ورَجلٌ وسَّع اللهُ عليه وأعطاه
من أصناف المال كله ، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها . قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال
: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك . قال : كذبتَ ولكنك فعلتَ
ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقيَ في النار )) .
وهكذا نرى
خطورة الرياء ، وانعدامِ الإخلاص لله تعالى . فالمرائي شخصٌ يريد بعمله أن ينال
ثناءَ الناس والحظوةَ عندهم . وقد تم مدحه والإطراء عليه ووصفه بالجرأة والعلم
والكرم ، لكنه قد أخذ نصيبَه في الدنيا ، وما له في الآخرة من خَلاق .
فالمقاتِلُ
الذي مارس فعل القتال في المعركة بكل بسالة وإقدام كان يقصد نيل مديح الآخرين ،
والإعجاب به ، والثناء عليه بأنه شجاعٌ مِقدام ، وجريء لا يخاف الموتَ . فهذا
القصدُ الوضيع كان الدافع لعمله ، فلم يُقاتِل لتكون كلمةُ الله هي العليا ، إذ إن
هَمَّه محصور في لفت أنظار الناس والحصول على الإطراء منهم .
ونحن نرى
كثيراً من القادة العسكريين الذين يتبخترون أمام وسائل الإعلام مع أنهم لم
يُحرِّروا ذبابةً . نراهم وقد امتلأوا فخراً زائفاً ، وبريقاً وهمياً . ويُحبون أن
يُحمَدوا بما لم يَفعلوا . وحتى لو قاتلوا فإنهم يُقاتِلون دفاعاً عن الحاكم
الفلاني ، أو تعصباً لقومية معينة أو عِرْق محدد أو مذهب سياسي منحرف . وهؤلاء
أبعد ما يكونون عن الإخلاص ومعرفةِ القصد الحقيقي وراء التضحية بالنفس التي هي
أغلى ما يملكه الإنسان .
فقبل أن
يُضحِّيَ الفرد بنفسه ، عليه أن يسأل ذاته عن سبب التضحية . فإن كان يُقاتِل من
أجل الله تعالى فليتقدم واثقاً بالموعود الإلهي ، إما النصر أو الشهادة . أما إن
كانت نيته غير ذلك ، فينبغي أن يعيد تقييم الموقف . فالتضحيةُ بالنفس ذهابٌ بلا
عودة ، ولا توجد فرصة للتعويض . فلا بد أن يكون هدف التضحية سامياً . ولا يوجد
أسمى من الإخلاص لله تعالى كهدف وحيد .
والذي
تعلَّم العلمَ ، وزاحم العلماء في مجالسهم . وقام بقضاء الليالي في الدراسة ،
وأعطى الدروس للطلاب ، ونشر العلمَ في كل الاتجاهات . كلُّ ذلك لا فائدة منه إذا
كانت النيةُ غير خالصة لله تعالى . فكثيرٌ من طلبة العلم إنما يهدفون لنيل مكانة
اجتماعية مرموقة ، وأن يُوَسَّع لهم في المجالس ، ويُوصفوا بالعلماء . فترى الواحد
منهم يقضي حياته طالباً للعلم من أجل شهادة ورقية تزيد راتبَه الشهري أو تضمن له
ترقية جامعية ، أو منزلة سامية بين أقرانه . فصار العلمُ للأسف من أجل إضافة حرف
" د " إلى بداية الاسم . فصار الواحدُ يطلب العلمَ لكي يُوصف بالدكتور
أو البروفسور أو العلامة ، فيتصدر المجالس ، ويقتحم عالم اللقاءات التلفزيونية ،
ويجلس مع عِلية القوم من السياسيين ورجال الأعمال لتحقيق منافع شخصية لا تمتُّ
للحياة العلمية بصلة . وهؤلاء خاب مسعاهم ، ولم يذوقوا حلاوة الإخلاص في طلب العلم
، لأنهم غرقوا في الألقاب العلمية ، فشُغلوا بها عن القيمة الشريفة للعلم . وصدق
القائل :
ولم أَقضِ حَقَّ العلم إن كان كُلما بدا طَمعٌ صَيَّرْتُه لِي سُلَّمـــا
أما الذي
تصدق بأمواله رياءً وسمعة ، وأنفق في دروب الخير ليُقال إنه جواد ومحسن . فإنفاقُه
سيكون وبالاً عليه ، لأنه لم يقصد وجهَ الله تعالى ، ولم يعرف حقَّ خالقه الرزاق
الذي منحه الأموال فأنفقها للفت انتباه الناس، والحصول على إعجابهم وتقديرهم ،
وكَيْل المديح له . وبالتالي فإن نيته الفاسدة سوف تورده المهالك لأنه حصر هَمَّه
في أغراض دنيوية بائسة وزائلة ، ولم ينظر إلى النعيم المقيم ، لذلك فقد أخذ نصيبه
من الدنيا ، مديحاً زائلاً وإعجاباً مؤقتاً وإطراءاً لا يدوم . وفي الآخرة سيأتي
صفر اليدين مأزوراً لا مأجوراً .
فعلى
الإنسان أن يُسقط الناسَ من حساباته ، ليس بمعنى احتقارهم . بل بمعنى الإيمان
بأنهم لا يملكون من أمورهم شيئاً ، وليس بيدهم الضر أو النفع . وبالتالي يركِّز
جهودَه على تنقية عبادته من أية شائبة رياء معتصماً بالإخلاص في أدق التفاصيل، لأن
مديح الناس سرعان ما يذهب أدراج الرياح، إذ إن إرضاءهم غاية لا تُدرَك . وكما قال
أحدهم : (( نظرتُ إلى الناس فرأيتُهم موتى فكبَّرتُ عليهم أربع تكبيرات )) .
.............الحاشية...............
{(1)}
رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 365 ) برقم ( 7937 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .