سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

27‏/08‏/2015

الإخلاص في الدين

الإخلاص في الدين

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

.................................

     الإخلاص هو أساس الدِّين ، ويعني التوجه الكامل نحو الله تعالى، بحيث يكون قصدُ كل أعمال الإنسان هو وجه الله وَحْدَه . وبدونه لا تُقبَل العبادات . والإخلاصُ هو القوة الروحية الهائلة التي تنعكس على سلوك المرء وطبيعة تفكيره ونظرته إلى الأفعال الحياتية على كافة الصُّعد . كما أن الإخلاص يُحرِّر الفردَ من شوائب العلاقات الدنيوية الوضيعة ، ويجعل تَوجُّهه نحو الخالق العظيم بلا شريك. وبذلك يتجذر شرفُ العبادة في أسمى معانيها في الذات الإنسانية المتحررة من قيود المصالح الدنيوية ونيلِ الحظوة عند الناس . فالناسُ لا يملكون من أمرهم شيئاً . والأمرُ كله بيد الله تعالى . وإذا استقرت هذه العقيدة في النفس فإنها تُورِث المرءَ أماناً وسعادة ولذةً في أداء العبادات مع إدارة الظهر لكل أوهام الدنيا وإغراءاتها الشكلية . ولا يمكن للمرء أن يتوجه إلى سَيِّدَيْن ، لذلك على الإنسان أن يُسقِط الناسَ من حساباته ، ولا يُعير بالاً لأحكامهم عليه ، بل يتوجه بالكلية إلى الخالق تعالى ، فهو _ وَحْدَه _ الذي يَحكم له أو عليه .
     قال الله تعالى : } فاعبدِ اللهَ مخلِصاً له الدِّين { [ الزُّمر : 2] .
     إن هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة ، وعدم الشرك بالله تعالى ، يُعتبَر أساساً في منهجية الإسلام الذي جاء من أجل إفراد الله تعالى بالعبادة ، وعدم تأليه المخلوقات . فلا أحدٌ يستحق العبادة إلا الله تعالى صانع المخلوقات وموجدها من العَدم. وكلُّ مبدأ بُنِيَ على منح صفةٍ إلهية لمخلوق ، فإنه مبدأ باطل ، لا حَظ له من الحق. وما بُنِيَ على باطل فهو باطل . ولا يمكن أن يتساوى المخلوق مع الخالق ، أو يشاركه في إحدى صفاته . فلا يُعقَل أن يتساوى الكرسي مع النَّجار الذي صَنعه أو يشاركه في خصائصه ، ومن غير المنطقي أن يصبح السيفُ كالحدَّاد الذي صنعه . فالنقلُ والعقلُ متفقان على استحالة تساوي الصانع مع المصنوع . وللهِ المثلُ الأعلى .
     قال الطبري في تفسيره ( 10/ 610 ) : (( يقول تعالى ذِكره : فاخشع لله يا محمد بالطاعة ، وأخلص له الأُلوهة ، وأفرده بالعبادة ، ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكاً ، كما فعلت عبدة الأوثان )) اهـ .
     إن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الناس إلى عبادة الله وحده الذي لا ند له ، ولا شريك له . فلا خالق إلا الله تعالى ، وعلى الخلق أن يتوجهوا إليه وفق طريق التوحيد المستقيم بلا شوائب شِركية مهما كانت صغيرة أو خفية .
     وفي الواقع فإن العربي كان غارقاً في الشِّركيات بفعل علاقته مع الأصنام المنتشرة في البيئة الجاهلية . وقد اخترع أهلُ الأوثان علاقاتٍ بين الأصنام والله تعالى ، فزعموا أنها تُقرِّبهم إلى الله تعالى . مما يشير إلى تغلغل الجاهليِّ في هذه العقلية البدائية الوهمية . وقد جاء الإخلاصُ لانتشال الفرد من عبودية الأشياء ، وتوجيه كل الطاقات البشرية للخضوع لله تعالى بلا شريك . فالإنسانُ لا يكون إلا عبداً . فمن ليس عبداً لله الإلهِ الحق فهو عبدٌ لإله معبود بغير حق. وبالتالي فالإخلاصُ إنقاذٌ للبشر من الوقوع في مستنقع الباطل ، ومسارٌ مضيء لاعتناق الحق ورفض الباطل . وهكذا يلتقي الإنسان بإنسانيته ، ويعرف خالقَه تعالى الذي أوجده من العَدَم وسيُعيده إلى التراب .
     وقال الله تعالى : } فإذا ركبوا في الفُلْك دَعَوُا اللهَ مخلِصِين له الدِّين فلما نجَّاهم إلى البَر إذا هم يشركون { [ العنكبوت : 65] .
     وهذا يشير إلى أن الإنسان في الشدائد يعود إلى الأصل الثابت الكامن في نفسه وهو توحيد الله تعالى . فحينما يوقن الفردُ بالهلاك يتوجه _ بكل جوارحه _ إلى خالقه وَحْدَه . لكنه حينما يشعر بالأمان يعود إلى طبعه الأول وهو الشرك بالله تعالى افتراءً عليه . فالفِطرةُ الإنسانية خاضعة لإلهٍ واحد لا شريك له ، لكن المصالح الشخصية وغياب الهداية وتزيين الشيطان تؤدي إلى الشِّرك .
     والناسُ _ على اختلاف عقائدهم وأجناسهم _ يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن هذه الموجودات لها صانع حكيم هو الله تعالى . حتى الملحِدُ يؤمن في قرارة نفسه بوجود الله تعالى لكنه يُكابِر ويُعانِد ويضحك على نفسه بأن يخترع أوهاماً ومبادئ فاسدة . والكلُّ يتوجَّه في الشدائد إلى الله الواحد الأحد المنَزَّه عن الشريك والنِّد . وهنا تتجلى العودةُ إلى الفِطرة ، والنواةِ الإيمانية الأساسية الكامنة في العنصر البشري . فالبشرُ يُدركون عجزَهم وخضوعهم لقوةٍ عليا ، هي قوة الخالق العظيم ، صانعِ الأشياء ، ومُوجِد الحياة بكل تفاصيلها .   
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 301 ) : (( إذا انقطع رجاؤهم من الحياة ، وخافوا الغرق، رجعوا إلى الفِطرة فدعوا اللهَ وحده ، كائنين على صورة المخلِصين له الدين بصدق نياتهم ، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام ، لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله _ سبحانه _ )) اهـ .
     والإخلاصُ والتوحيد يشيران إلى خطورة الشِّرك الأكبر ( المخرج من الملة )، والشركِ الأصغر ( غير المخرج من الملة ) . فالمقارنةُ بين الأضداد تقود إلى فهم أكثر تماسكاً . 
     فعن شداد بن أوس _ رضي الله عنه_ قال : (( كنا نَعُد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشِّرك الأصغر )) {(1)}.
     والرياءُ أن لا يُقصَد بالعمل وجه الله تعالى ، وهذا محبط للعمل وفق درجات متفاوتة . كما أنه أمر بالغ الخطورة ، لأنه يُفقد العباداتِ معناها الحقيقي عبر توجيهها إلى غير الله تعالى ، كما يُفقد الإنسانَ متعة الإخلاص وحسن أداء الشعائر الدينية ، ويُعرِّض الإنسان لغضب الله في الدارَيْن .
     فينبغي أن تُترَك ملاحظة العمل لا العمل . فعلى المرء أن يسعى بكل جوارحه إلى عبادة الله تعالى دون النظر إلى تعليقات الناس ، أو التوقف عن رأيهم . أي إنه يُقبِل على العمل ويُهمِل ملاحظة العمل التي قد تنشأ في كلام الناس ورؤيتهم له . فمن يَعرف طريقَه لا يلتف أثناءَ سَيْره . فالعابدُ لا يهتم بالأحكام البشرية ، نفياً أو إثباتاً ، سلباً أو إيجاباً ، لأنه لا يرى إلا الله تعالى .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1513) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رَجل استشهد، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟، قال : قاتلتُ فيكَ حتى استشهدتُ . قال : كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال جريء فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار. ورجلٌ تعلم العلمَ وعلَّمه وقرأ القرآنَ فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال : تعلمتُ العلمَ وعلَّمْتُه وقرأتُ فيك القرآن. قال : كذبتَ ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالِم، وقرأتَ القرآنَ ليقال هو قارئ فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار . ورَجلٌ وسَّع اللهُ عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها . قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال : ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك . قال : كذبتَ ولكنك فعلتَ ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقيَ في النار )) .
     وهكذا نرى خطورة الرياء ، وانعدامِ الإخلاص لله تعالى . فالمرائي شخصٌ يريد بعمله أن ينال ثناءَ الناس والحظوةَ عندهم . وقد تم مدحه والإطراء عليه ووصفه بالجرأة والعلم والكرم ، لكنه قد أخذ نصيبَه في الدنيا ، وما له في الآخرة من خَلاق .
     فالمقاتِلُ الذي مارس فعل القتال في المعركة بكل بسالة وإقدام كان يقصد نيل مديح الآخرين ، والإعجاب به ، والثناء عليه بأنه شجاعٌ مِقدام ، وجريء لا يخاف الموتَ . فهذا القصدُ الوضيع كان الدافع لعمله ، فلم يُقاتِل لتكون كلمةُ الله هي العليا ، إذ إن هَمَّه محصور في لفت أنظار الناس والحصول على الإطراء منهم .
     ونحن نرى كثيراً من القادة العسكريين الذين يتبخترون أمام وسائل الإعلام مع أنهم لم يُحرِّروا ذبابةً . نراهم وقد امتلأوا فخراً زائفاً ، وبريقاً وهمياً . ويُحبون أن يُحمَدوا بما لم يَفعلوا . وحتى لو قاتلوا فإنهم يُقاتِلون دفاعاً عن الحاكم الفلاني ، أو تعصباً لقومية معينة أو عِرْق محدد أو مذهب سياسي منحرف . وهؤلاء أبعد ما يكونون عن الإخلاص ومعرفةِ القصد الحقيقي وراء التضحية بالنفس التي هي أغلى ما يملكه الإنسان .
     فقبل أن يُضحِّيَ الفرد بنفسه ، عليه أن يسأل ذاته عن سبب التضحية . فإن كان يُقاتِل من أجل الله تعالى فليتقدم واثقاً بالموعود الإلهي ، إما النصر أو الشهادة . أما إن كانت نيته غير ذلك ، فينبغي أن يعيد تقييم الموقف . فالتضحيةُ بالنفس ذهابٌ بلا عودة ، ولا توجد فرصة للتعويض . فلا بد أن يكون هدف التضحية سامياً . ولا يوجد أسمى من الإخلاص لله تعالى كهدف وحيد .
     والذي تعلَّم العلمَ ، وزاحم العلماء في مجالسهم . وقام بقضاء الليالي في الدراسة ، وأعطى الدروس للطلاب ، ونشر العلمَ في كل الاتجاهات . كلُّ ذلك لا فائدة منه إذا كانت النيةُ غير خالصة لله تعالى . فكثيرٌ من طلبة العلم إنما يهدفون لنيل مكانة اجتماعية مرموقة ، وأن يُوَسَّع لهم في المجالس ، ويُوصفوا بالعلماء . فترى الواحد منهم يقضي حياته طالباً للعلم من أجل شهادة ورقية تزيد راتبَه الشهري أو تضمن له ترقية جامعية ، أو منزلة سامية بين أقرانه . فصار العلمُ للأسف من أجل إضافة حرف " د " إلى بداية الاسم . فصار الواحدُ يطلب العلمَ لكي يُوصف بالدكتور أو البروفسور أو العلامة ، فيتصدر المجالس ، ويقتحم عالم اللقاءات التلفزيونية ، ويجلس مع عِلية القوم من السياسيين ورجال الأعمال لتحقيق منافع شخصية لا تمتُّ للحياة العلمية بصلة . وهؤلاء خاب مسعاهم ، ولم يذوقوا حلاوة الإخلاص في طلب العلم ، لأنهم غرقوا في الألقاب العلمية ، فشُغلوا بها عن القيمة الشريفة للعلم . وصدق القائل :
ولم أَقضِ حَقَّ العلم إن كان كُلما              بدا طَمعٌ صَيَّرْتُه لِي سُلَّمـــا
     أما الذي تصدق بأمواله رياءً وسمعة ، وأنفق في دروب الخير ليُقال إنه جواد ومحسن . فإنفاقُه سيكون وبالاً عليه ، لأنه لم يقصد وجهَ الله تعالى ، ولم يعرف حقَّ خالقه الرزاق الذي منحه الأموال فأنفقها للفت انتباه الناس، والحصول على إعجابهم وتقديرهم ، وكَيْل المديح له . وبالتالي فإن نيته الفاسدة سوف تورده المهالك لأنه حصر هَمَّه في أغراض دنيوية بائسة وزائلة ، ولم ينظر إلى النعيم المقيم ، لذلك فقد أخذ نصيبه من الدنيا ، مديحاً زائلاً وإعجاباً مؤقتاً وإطراءاً لا يدوم . وفي الآخرة سيأتي صفر اليدين مأزوراً لا مأجوراً .
     فعلى الإنسان أن يُسقط الناسَ من حساباته ، ليس بمعنى احتقارهم . بل بمعنى الإيمان بأنهم لا يملكون من أمورهم شيئاً ، وليس بيدهم الضر أو النفع . وبالتالي يركِّز جهودَه على تنقية عبادته من أية شائبة رياء معتصماً بالإخلاص في أدق التفاصيل، لأن مديح الناس سرعان ما يذهب أدراج الرياح، إذ إن إرضاءهم غاية لا تُدرَك . وكما قال أحدهم : (( نظرتُ إلى الناس فرأيتُهم موتى فكبَّرتُ عليهم أربع تكبيرات )) .
.............الحاشية...............

{(1)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 365 ) برقم ( 7937 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .

23‏/08‏/2015

لا إكراه في الدين

لا إكراه في الدين

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

..............................

     لا يخفى أن ماهية الدين الإسلامي تتعارض تماماً مع الإكراه والاعتناق القسري . فالإجبارُ يتنافى مع التصديق القلبي والاطمئنان الروحي . فلا يوجد في الإسلام محاكم تفتيش كالتي حدثت في "إسبانيا " لإجبار الناس على اعتناق النصرانية{(1)}. ولم توجد في تاريخ الحضارة الإسلامية أي فترة زمنية تضمنت إخضاع الأفراد لاعتناق الإسلام بقوة السيف . فالمسلمون استعملوا القوةَ ضد الطواغيت الرافضين منح شعوبهم حرية الاطلاع على الإسلام ، وسماع تعاليم الشريعة السماوية .
     وهكذا تكون القوةُ موضوعةً في سياقها الصحيح الرامي إلى إتاحة الفرصة أمام الناس للتعرف على الإسلام، وبعدها يقررون بكامل حريتهم اعتناقه أو رفضه . والذين يزعمون أن الإسلام قد انتشر بالسيف عليهم أن يذكروا نصاً شرعياً ( آية قرآنية أو حديثاً نبوياً ) يأمر بإجبار الناس على اعتناق الإسلام ، أو يقول إما أن تعتنقوا الإسلامَ أو يتم قتلكم .
     وأصحابُ خرافة " الإسلام انتشر بالسيف " يعتمدون على ظواهر النصوص ، فيأخذونها مُجرَّدةً من أسباب نزولها وسياقها التاريخي مع عدم التمييز بين المحارِبين حاملي السلاح، والأبرياء غير المحارِبين . أو يلجأون إلى لوي أعناق النصوص فيخترعون تأويلاتٍ مغرِضة للنصوص الشرعية من أجل إثبات الفكرة المسبقة في أذهانهم حول " العنف الإسلامي " . مع العلم أن أي نص لغوي في الوجود سواءٌ كان دينياً أو غير ديني يمكن تأويله وإخراجه في سياق داعم للتطرف والعنف .
     فلوي أعناق النصوص ، وإخراجها من سياقها ، والتلاعب بالتفسيرات اللفظية والمعنوية، والأفكار الشاذة المسبقة ، واللف والدوران في إيجاد روابط مغرضة بين الأحداث ، وتحويل الواقع إلى خيال والخيال إلى واقع ، ... ، إلخ . كل هذه الأمور تساهم في إنتاج صورة مشوَّهة عن النص الديني ، وتحويله إلى سيف مرفوع على الرقاب . فالأفكارُ المظلمة المسبقة في أذهان أعداء الحقيقة تدفعهم إلى إخراج الكلام عن سياقه بُغية الوصول إلى أهدافهم الظلامية المرسومة مسبقاً ، والمفتقدة إلى أصول المنهج العلمي في البحث والفهم والاستنباط .
     قال الله تعالى : } لا إكراهَ في الدِّين { [ البقرة : 256] .
     فالإكراه يتعارض مع الدِّين جملةً وتفصيلاً . ولا يمكن للمُكْرَه أن يشعر بالسعادة الروحية أو الطمأنينة في حياته . بل إنه يغرق في الشكوك والشبهات والخوف من كل ما حوله . وهذا يؤدي إلى صناعة إنسان مضطرب نفسياً يكون معولَ هدم في المجتمع البشري . والإكراهُ يجعل من القلب مكاناً مُلوَّثاً لا تَنبت فيه بذرة الإيمان والاستقرارُ الروحي. ولا يخفى أن العقيدة الصحيحة مكانها القلب الصافي، وإذا كان القلبُ غير نظيفٍ، فلا يمكن أن يحتضن الإيمان والسَّكينة .
     وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : } لا إكراهَ في الدِّين { . قال : [ (( كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد فتحلف : لئن عاش لها ولد لَتُهَوِّدَنَّه . فلما أُجْلِيَت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار ، فقالت الأنصار : يا رسول الله ، أبناؤنا . فأنزل الله هذه الآية  : } لا إكراهَ في الدِّين { )).قال سعيد بن جبير:فمن شاء لحق بهم ،ومن شاء دخل في الإسلام  ]{(2)}.
     فلم يتم إجبارهم على اعتناق الإسلام بأية وسيلة ، وإنما تُركوا لكي يُقرِّروا مصيرَهم بأيديهم اعتماداً على فكرهم الذاتي . وفي هذا احترامٌ لحرية الاعتقاد ورفع من شأن العقل البشري الذي منحه اللهُ تعالى حقَّ تقرير المصير مع تحمل مسؤولية الاختيار كاملةً . ولو كان الإسلامُ دِيناً عنيفاً لوضع السيفَ على الرقاب لإدخالهم في الدِّين رغم أنوفهم ، وهو يملك النفوذ والقوة والسَّطوة . ومع هذا فلم يُفرَض الإسلامُ عليهم . وكل فرد اختار طريقَه وفق مشيئته الخاصة دون إكراه .
     وفي الحديث إشارةٌ إلى الجهل المتجذر في بعض النساء. فالمرأةُ من الأنصار التي لا يعيش لها ولد اتَّخذت من الانحراف العَقدي سلوكاً اجتماعياً على أمل حماية أبنائها من الموت. فصار النذرُ بتهويد ابنها إن عاش هو الطريق الأمثل بالنسبة إليها . وبدلاً من شُكر الله تعالى على حياة ابنها ، فإنه تهوِّده . وهذا الضلالُ المتفشي في البيئة الاجتماعية يعكس مدى التخلف العَقدي ، والانهيار الاجتماعي المنتشر على نطاق واسع . والمرأةُ غارقةٌ في بحر عواطفها ، فهي تريد أن يعيش أبناؤها بأي ثمن ، ومستعدة لتقديم كل شيء في سبيل هذه الأمنية . إنها تريد أن تكون أُمَّاً ، وتعيش عاطفةَ الأمومة بكل حيثياتها، ولا تبالي بالثمن الذي تقدِّمه، حتى لو كان عقيدةً زائغة، أو انحرافاً أخلاقياً .       
     وقال الله تعالى : } فَمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر { [ الكهف : 29] .
     وهذه منتهى الحرية الممنوحة للإنسان الذي بإمكانه أن يختار الدرب الذي يريده ، ويتحمل مسؤولية اختياره أمام الله تعالى وأمام الناس . وهذا يدل على تكريم الله تعالى لبني البشر ، حيث أعطاهم حرية تقرير مصيرهم وفق ما يرونه ، وعليهم أن يتحملوا تبعاتِ اختيارهم . } إن الله لا يظلم الناسَ شيئاً ولكنَّ الناسَ أنفسهم يَظلمون { [ يُونُس : 44] .
     وقال الله تعالى : } ولو شاء ربُّكَ لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أَفأنتَ تُكرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين { [ يُونُس: 99] . 
     فاللهُ تعالى قادرٌ على جعل العباد كلهم مؤمنين على شريعة واحدة ، وعلى قلب رَجل واحد دون وجود للأديان أو المذاهب . لكنه _ سبحانه _ شَرَّف العقلَ البشري بأن منحه حريةَ الاختيار وفق ما يراه مناسباً . إذ إن العقيدة والإكراه ضِدَّان لا يجتمعان في قلب إنسان . فالاختيارُ الذاتي دون ضغوط هو _ وَحْدَه _ القادر على جعل العقيدة تستقر في النفس البشرية .
     وفي فتح القدير للشوكاني ( 1/ 416 ) : (( أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكن لم يفعل ، وبنى الأمر على الاختيار )) اهـ .
     وهذا يشير إلى التكريم الإلهي للإنسان الذي مُنح حق الاختيار بين الإيمان والكفر ، فلا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم إكراه الناس على الدخول في الإسلام بالقوة،  لأن الإنسان حر في اختياره ، كما أن العقيدة مبنية على حرية الاختيار ، والقبولِ الطَّوْعي ، والتصديقِ القلبي بدون ضغط . ولا يمكن للجوارح أن تعمل بأريحية ذاتية إلا إذا كان عملُها نابعاً من القلب ، وهذا القلب لا سُلطة بشرية لأحد عليه ، أي إنه لا يخضع للسيف ولا التهديد ولا الوعيد . فالقلوبُ بيد الله وحده .
     وكلُّ تعاليم الإسلام تعتمد على النية التي محلها القلب ، والنيةُ الصادقة في العبادة والإكراهُ نقيضان لا يجتمعان ، وبالتالي فالذين يعتنقون الإسلام فكراً وتطبيقاً لا يمكن أن يكونوا مُكْرَهين .
     وهذا يدحض الشبهاتِ التي يثيرها المغرِضون حول انتشار الإسلام ، وينسبون إليه الدموية والوحشية ، وأنه يجبر الناسَ على اعتناقه بالسيف . وهذا كلام بلا دليل ، ولا تقوم له قائمة لأنه لا يستند على أدلة معرفية وحُججٍ منطقية . فالذي يتهم الإسلامَ بأنه دموي انتشر بالسيف عليه أن يُقدِّم البراهين ، بأن يحضر نصوصاً شرعية تحض على قتل رافضي اعتناق الإسلام ، أو يُثبِت أن الناس اعتنقوه مُكْرَهين ، أو أن الإسلام اعتمد منهجية " إما تُؤمن أو تُقتَل " ، أو يُحضِر أدلةً تاريخية تفيد بقتل الناس لأنهم لم يختاروا الإسلام دِيناً . كما أن الذين يتهمون الإسلامَ بالدموية وإجبار الناس على اعتناقه عليهم أن يُفسِّروا وجود الأقليات الدينية في العالم الإسلامي ، مع أن المسلمين كانوا قادرين على قتلهم أو فرض الإسلام عليهم بكل سهولة ، حينما كانت الحضارة الإسلامية تبسط سيطرتها على كوكبنا ، وكانت الأمة الإسلامية أقوى الأمم ، ولا أحد يجرؤ على تحديها أو معارضتها .
.................الحاشية....................
{(1)} محاكم التفتيش ( محاكم الاستجواب) تم إنشاؤها بأمر السلطة الدينية لقتل المخالفين عَقدياً والتنكيل بهم بكل وحشية. وقد مرت بعدة أطوار: محاكم التفتيش التي أنشأها البابا غريغوروس التاسع عام 1231م لمكافحة الذين أعملوا عقولَهم وخرجوا عن الدِّين، ومحاكم التفتيش الإسبانية التي أُنشئت في إسبانيا بموافقة البابا سيكستس الرابع عام 1478م لمطاردة المسلمين واليهود ، وديوان التفتيش الروماني الذي أنشأه البابا بولس الثالث عام 1542م لمقاومة الحركة البروتستنتية بالقسوة والتفنن بالتعذيب حتى الموت .

{(2)} رواه ابن حبان في صحيحه ( 1/ 352 ) برقم ( 140 ) . 

16‏/08‏/2015

الدين عند الله

الدين عند الله

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

....................................

     إن الإسلام هو الدِّين الوحيد المقبول عند الله تعالى ، وهو دين كل الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ ، جاؤوا من أجل نشره ، وإيصاله إلى العباد ، فهو رسالة الله تعالى إلى خلقه .
     والإسلامُ نظامٌ إلهي متكامل لا نقص فيه أو خلل . دِينٌ خالدٌ إلى يوم القيامة صالحٌ لكل زمان ومكان ، يشتمل على أنظمة الوجود كلها بلا غُلُو أو تطرف . ففيه السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والأشواق الروحية والنزعات المادية. وكل هذه الأنظمة تسير جنباً إلى جنب ضمن منظومة متكاملة لا تضاد فيها أو تنافر. فليس الإسلامُ نزعةً تأملية محصورة في إطار الروح تعيش في عوالم الأحلام والخيالات الهلامية ، وليس شهوةً مادية شرسة موغلة في تقديس المادة ووأد الفرد والجماعة والطبيعة . إنه نظام شامل للحياة الدنيا وما وراء الدنيا ( الآخرة ) ، وكل ما يرتبط بهاتين الحياتين من قواعد وعلاقات وأنظمة .
     والإسلامُ هو الدِّين الذي ارتضاه اللهُ تعالى لعباده ولا يَقبل غيرَه . إذ إنه مبني على عقيدة تنزيه الخالق وتمجيده وإفراده بالعبادة والقداسة . وهذه المعاني السامية غير متواجدة في أي دِين آخر .
     فالنصرانيةُ تعتمد على تعدد الآلهة وخلط الصفات البشرية بالصفات الإلهية ضمن فوضى تأليه المخلوق ( جعل المسيح إلهاً ) وأنسنة الخالق ( جعله بشرياً ) . لذلك يكثر في النصرانية استخدام المصطلحات المشوَّشة مثل الناسوت ( الطبيعة البشرية ) واللاهوت ( الطبيعة الإلهية ) ، وذلك ضمن فوضى دينية عارمة لا تزيد الفردَ إلا حيرة ، حيث يخرج الإنسانُ من متاهة إلى متاهة بسبب غياب المنهج الواضح ، وعدم التمييز بين الخالق والمخلوق .  
     واليهوديةُ تعتمد على تشبيه الخالق بالمخلوق. فهي غارقة في التجسيم ( إثبات صفات الأجسام لله تعالى ) . كما أنها تنسب صفاتِ النقص للخالق تعالى . فتجد في توراة اليهود المحرَّفة أن الله تعالى استراح بعد عمله ، وأنه يندم على فعل الشر ... إلخ .
     وهذا كله يشير إلى غياب تنزيه الله تعالى وتقديسه عن العقائد النصرانية واليهودية . وبالتالي فلا يمكن لهاتين الديانتين أن تكونا مقبولتَيْن عند الله تعالى لأنهما تسيران وفق مسار مضاد للإرادة الإلهية .
     أما الإسلامُ فهو عقيدة التنزيه والتمجيد. فهو لا يُؤَلِّه محمداً صلى الله عليه وسلم كما يُؤلِّه النصارى عيسى صلى الله عليه وسلم . كما أنه لا ينسب الصفاتِ البشرية للذات الإلهية كما يفعل اليهود . لذلك كان الإسلامُ هو منظومة الخلاص الشاملة ، والدِّين الصالح في الأرض والسماء .
     وقد قال الله تعالى : } إن الدِّين عند الله الإسلام { [ آل عمران : 19]{(1)}.
     وهذا يشير إلى وحدانية الخالق تعالى ، ووحدانية الدِّين الصحيح ( الإسلام ) . وما سواه هي إسهامات بشرية تم تجميعها على شكل أديان في الشرق والغرب ، وهذه الأديان البشرية كالنصرانية واليهودية والبوذية والهندوسية ... إلخ ، هي تياراتٌ فكرية وفلسفية اختلط فيها الحابل بالنابل دون وُجهة صحيحة لأن البوصلة مفقودة . فهذه التياراتُ هي مذاهب نفعية تم ابتكارها لتحقيق مكاسب شخصية، واختراع هالة القداسة حول الأشخاص من أجل بسط السيطرة والنفوذ على الأتباع ، واستغلال الناس حتى الرمق الأخير ، وإخضاعهم لسُلطة الأمر الواقع . وذلك للحفاظ على مصالح عِلية القوم ، وإبقاء سطوتهم وسُلطتهم الطامحة إلى إبقاء الناس عبيداً للسادة لا يرفعون رؤوسهم ، ولا يُعمِلون عقولَهم ، ولا يُمارِسون النقد والنقض . فهذه الأديانُ الوضعية تستند في بسط نفوذها على منطق القطيع ، وتحويل الأفراد إلى أغنام تُساق إلى الذبح دون تفكير أو اعتراض . أما الإسلامُ فقد أمر الناسَ بالتفكير ، وفتح عيونَهم لكي يروا المشهدَ الكوني بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، ومنحهم حقَّ التعبير وممارسة النقد الاجتماعي ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، ومواجهة الباطل بحزم وثبات ، وعدم تصنيم الذوات ومنحها القداسة المزعومة . فالمسلمُ هو القدوة الحسنة وله الريادة الباهرة، وليس جزءاً من قطيع يأكل ويشرب وينام ويموت . فالإسلام أحدث ثورةً عارمة في المجتمع وانقلاباً في طبيعة التفكير والممارسة الحياتية ، فجعل الأفرادَ قادةً للحراك الإنساني يصنعون الفعلَ ولا يَنتظرون ردَّ الفعل . وقد حرَّرهم من عبادة العبيد والخضوع للمخلوقات فوجَّه خضوعَهم للخالق العظيم وَحْدَه . ومنحهم القوةَ الروحية القادرة على تثوير الفكر والمجتمع من أجل توليد حركة إنسانية راقية قادرة على بناء الحضارة الأرضية المرتبطة بالسماء . واستناداً إلى هذه المبادئ تحرَّر الفرد من السلبية والعجز ، وانتقل إلى الممارسة الواقعية الواعية لفعل الإعمار وصناعة المجتمع المتحرر من الأوهام والأساطير والأمراض الروحية والعُقد النفسية . لذلك فليس من المستغرب أن يكون المسلمُ _ بما لديه من قوة العقيدة والطاقة الروحية الهائلة _ قادراً على مواجهة العالَم ، فَيَنصر الحقَّ ويَهزم الباطلَ دون خوف أو تردد .
     وعن أُبي بن كعب _ رضي الله عنه _ قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((... وأن الدِّين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية )){(2)}.
     والحنيفيةُ هي الدِّين المائل عن كل دِين منحرف ، وهذا يعني أنه على الصراط المستقيم ، فلا يزيغ ، ولا يضل طريقَه ، وهذا الدِّين المعصوم _ وحده _ من يملك القدرة على هداية البشرية نحو الهدف الصحيح ( عبادة الله وحده ) ، ومن ثم نيل رضا الله تعالى ودخول الجنة في الآخرة .
     فاليهوديةُ والنصرانية دِينان منحرفان عن الجادة ، بسبب غرقهما في الأهواء الشخصية والأغراض الدنيوية التي لا تمت للحق بصلة . فهما أداتان في أيدي رجال الدِّين المتحالفين مع عِلية القوم لتحقيق منافع متبادلة على حساب العامة ، والمتاجرةِ بمصائرهم وأحلاهم . وقد رأينا حجمَ التغييرات الطارئة على اليهودية والنصرانية ، مما يشير إلى كثرة الأيدي المتلاعبة بهما ، وكثرة المصالح المادية التي تفرض نفسها على القيم الروحية الدينية عند أهل الكتاب .
     وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي ( 10/ 272 ) : (( أي الشريعة المائلة عن كل دين باطل، فهي حنيفية في التوحيد. وأصل الحنف الميل. والحنيف المائل إلى الإسلام الثابت عليه )) .
     وهذا يدل _ بلا شك_ على علو منزلة الإسلام باعتباره الدين الوحيد الذي اختاره الله تعالى لعباده . فهو نظام متكامل ، ويقدِّم تصوراً شاملاً لكل مناحي الدنيا والآخرة ، ويوفِّق بين الروح والمادة بكل توازن وبدون تلفيق متكلف . كما أنه دِين متماسك من ناحية الشكل والمضمون ، قادر على توفير السعادة في الدارين . وقد تم تطبيقه عملياً على أرض الواقع في مناسبات كثيرة جداً ، فأنقذ البشريةَ من أزماتها الوجودية .
     والإسلام ليس فرضيةً فلسفية في أبراج عاجية ، عائشةً في الخيال وعاجزةً عن الوصول إلى الناس. بل هو نظام متكامل لا يعتريه أي نقص ، ولا يَبلى كلما مرت السنوات وتقدمت البشرية ، ولا يفقد بريقَه في ظل ازدياد المنجزات الحضارية المدنية. مما يشير إلى أن مصدره إلهي لا آدمي، لأن الكاملَ لا يصدر إلا عن الكامل . وعلى الرغم من الحرب الشعواء التي تُشَن على الإسلام سِراً وعلانية في الماضي والحاضر إلا أنه ما زال الدِّين الأكثر انتشاراً في العالَم ، والقادر على الإجابة عن كل الأسئلة التي تدور في الذهن البشري . فليس في الإسلام أسرار كهنوتية أو أشياء يُخجَل من إعلانها . فالإسلامُ دِين واضح يتحرك في ضوء الشمس ، وليس لديه ما يُخفيه تحت الطاولة ، أو يحجب عيونَ الناس خوفاً من رؤيته . مع ضرورة الانتباه إلى أن الإنسان له حدود تحصره لا يمكنه تجاوزها . فالعقلُ البشري قاصر يتحرك في إطار محدود ولا يقدر على مغادرة مداره لئلا يَحترق . وكلُّ الأفعال البشرية يعتريها النقص والسهو والقص واللصق والتجريب والتغيير . أما الأفعال الإلهية فهي كاملة لا يمكن الاستدراك عليها لخلوها من أي ثغرة .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأديان أحب إلى الله ؟ ، قال :        (( الحنيفية السمحة )){(3)}.
     وهذا يدل على تعذر إمكانية الوصول إلى الله تعالى إلا عبر انتهاج الصراط المستقيم ، وهو الإسلام ( الحنيفية السمحة ) الذي يتضمن توحيدَ الله تعالى وتنزيهه عن كل النواقص. وما كان الله تعالى ليختار الإسلام ديناً وحيداً معتمَداً عنده _ سبحانه _ لولا اشتماله على الكمالات كالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه شِرك ، والتماسكِ البنائي الذي لا يمكن خدشه . وهذا غير مستغرب على الإسلام بوصفه الدِّين السماوي الأوحد .
     وقال الله تعالى: } ومَن يبتغِ غيرَ الإسلام ديناً فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين {  [ آل عمران : 85] .
     وفي هذه الآية مؤشر واضح على وجود طريق واحد مقبول لا يتكرر ولا يتعدد. وهذا الطريق هو الإسلام الموصل إلى سعادة الدارين بلا انقطاع . فكل ما سوى الإسلام غير مقبول ، وسيقود إلى خسارة الدنيا، حيث فقدان الطمأنينة، والنكد الحياتي ، والأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة بلا حل ، وغياب السلام في داخل الإنسان ، وازدياد مشكلات الجماعة البشرية .
     كما يقود إلى خسارة الآخرة، أي الخلود في النار، حيث لا توجد أية فرصة للتعويض ، أو تدارك ما فات ، ولا ينفع حينئذ الندم ، أو تمني اختيار طريق الإسلام . فالدار الآخرة هي دار جزاء لا دار عمل ، ومن أراد العمل عليه أن يغتنم وقتَه في الدنيا لأنها مزرعة الآخرة ، أما الآخرة فهي ساعة الحصاد .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 471 ) : (( لا دِين عنده _ سبحانه_ يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرُّسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ... فمن لقي اللهَ بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبَّل )) اهـ .
     فالإسلامُ _ وَحْدَه _ هو الدِّينُ الحق الذي احتوى جميع الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ ، وهو وَحدة واحدة لا تعارض فيها . وكلُّ نبي تَرك بصمته في مجال خدمة الإسلام ، ومضى إلى لقاء ربِّه . وهذا يدل على أن الإسلام ليس مشروعاً عائلياً ، أو نزعةً إقليمية ضيِّقة ، وإنما هو نظام حياة للإنس والجن ، لا مكان فيه للشطط الطبقي ، أو الظلم الاجتماعي . إذ إن مقياس التفاضل يكمن في التقوى . وهذا المبدأ العظيم قرَّره الإسلامُ ، وجعل منه واقعاً ملموساً . والدعوةُ إلى الإسلام لا تعني مجاملة العرب على حساب غيرهم ، أو التعصب لمحمد صلى الله عليه وسلم في مواجهة باقي الأنبياء . فالأنبياء _ جميعاً _ يدينون بالإسلام . فالمسْلمُ يُعظِّم موسى وعيسى كما يُعظِّم محمَّداً ، ويؤمن بالتوراة والإنجيل ( قبل تحريفهما ) كما يؤمن بالقرآن . وهذا يدل على عالمية الإسلام وشموليته .    
     وقال الله _ عز وجل _ : } اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً { [ المائدة : 3] .
     فهذه بشارة عظمى من الله تعالى تتضمن إكمال دين الإسلام وجعله خالياً من أي نقص ، وإتمام النعمة على المسلمين الذين هداهم اللهُ تعالى إلى الدين الحق الذي رَضِيَه لعباده وهو الإسلام .
     فهذا الكمالُ يبعث في النفس البشرية الراحة والطمأنينة . فخلوُّ الإسلام من أي ثغرة _ بغض النظر عن حجمها _ ، وعدم وجود أي خطأ فيه ، وتحديه لكل أعدائه المعانِدين . كل ذلك يبث القوةَ في نفسية المسلم ، ويجعل منه أداة بناء لا تنكسر أمام العواصف والمصاعب . فحينما يدرك الفردُ أبعادَ اعتناقه للإسلام فإنه يتحول إلى طاقة جبارة لصناعة الفرد وإعمار البيئة ، وليس لقهر الآخرين أو إخضاعهم لوجهة نظره .
     فهذه القوةُ الدينية الكاملة لا يمكن محاصرتها ، وغير قابلة للاختراق أو التدجين . الأمر الذي يؤدي إلى ولادة أجيال واثقة بنفسها وعقيدتها وتاريخها ، قادرة على ممارسة فعل البناء الإنساني ، والتشييد الحضاري ، وإنشاء الطبيعة .
     إن الخوفَ يأتي من النقص . والمشكلاتُ تُولَد من الثغرات . فاللصُّ لا يدخل إلا من خلال ثغرة ما . ولو كان البيتُ مُحصَّناً ضد الاختراق فلا يمكن لأحد أن يقتحمه .
     وبما أن الإسلام ( أعظم بناء حضاري ) دِين كامل لا ثقب فيه ، فلا يمكن اختراقه أو التلاعب به ، أو إجراء عمليات ترميم له . فالكاملُ غير قابل للزيادة أو النقصان . وهذه هي قوة الدِّين الإسلامي ، عقيدةً وفكراً وممارسةً . 
     وعن عمر بن الخطاب أن رَجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : (( أي آية ؟ )) ، قال : } اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً { . قال عمر : (( قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة )){(4)}.
     وقد كان المسلمون لحظة تلقي هذه الآية في عيدَيْن : يوم عرفة ، ويوم الجمعة . ولم ينتبه اليهودي إلى ذلك الأمر . لكنه أدرك عظمةَ الآية الشريفة التي تحمل بشارة إكمال الدِّين وإتمام النعمة، مما يدل على أهمية الأمة المحمَّدية الإسلامية التي تلقَّت هذه المكافأة الربانية الكريمة، وكَوْنها الأمة الوحيدة الحاملة لكلمة الله إلى الخلائق .
     كما أن الحديث يدل على فِطنة عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ ، وسَعة عِلمه . فهو عالِمٌ بمكان نزول الآية وزمانها ، واستطاع استحضارهما دون تردد أو طُول تفكير . مما يشير إلى ارتباطه الوثيق بالوحي القرآني والظروفِ المحيطة به .
     ولا شك أن اليهودي كان يستشعر النقصَ في دِينه دون الإفصاح عنه . فكل شخص يَبحث عمَّا ينقصه ، وما تعلقه بآية إكمال الدِّين إلا مؤشر باهر على شعوره بالعجز ، وأنه ينتمي إلى دِينٍ ناقصٍ تمَّ التلاعب به . ومن سياق كلامه يظهر أنه يتمنى لو كانت اليهودية دِيناً كاملاً ، ولو نَزلت عليهم آيةٌ بهذا الخصوص لاتخذوا ذلك اليوم عيداً ، واحتفلوا به ، ونشروه بين الناس . لكنَّ فاقدَ الشيء لا يُعطيه . 
.................الحاشية...................
{(1)} من الخطأ الفظيع استخدام عبارة " الأديان السماوية" . فالإسلام هو الدِّينُ السماوي الأوحد . وباقي الأديان أرضية. أما الشَّرائع فمتعددة ومختلفة باختلاف الزمان والمكان . قال الله تعالى : ] لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً [[ المائدة: 48] . فهناك شرائع سماوية وكتب سماوية، ولكن لا توجد أديان سماوية .
{(2)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 244 ) برقم ( 2889 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
{(3)} رواه أحمد ( 1/ 236 ) برقم ( 2107 ) ، وحسَّنه الحافظ في الفتح ( 1/ 94 ). وقال العجلوني في كشف الخفاء ( 1/ 51 ) : (( ورواه أحمد في مسنده بسند حسن عن عائشة أيضا لكن بلفظ" إني أُرسلتُ بالحنيفية السمحة " )). وقال الحافظ في الفتح ( 1/ 94 ) : (( والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تُبدَّل وتُنسَخ . والحنيفية مِلة إبراهيم . والحنيف في اللغة من كان على ملة إبراهيم . وسُمِّيَ إبراهيم حنيفاً لميله عن الباطل إلى الحق لأن أصل الحنف الميل )) اهـ .

{(4)} متفق عليه . البخاري ( 1/ 25) برقم ( 45) ، ومسلم ( 4/ 2312 ) برقم ( 3017 ) .