نقد بدعة السلفية
من كتاب / قضايا تهم كل مسلم
تأليف : إبراهيم أبو عواد
................................
بدايةً ينبغي أن نحدِّد المصطلحات بدقة بالغة
الخصوصية . فمصطلح " السلفية " باعتبارها مرحلة زمنية مباركة لأعظم
رجالات الإسلام على الإطلاق وهم السلف الصالح أهل القرون الثلاثة الأولى المشهود
لهم بالخيرية مصطلح زمني يحدِّد مرحلة طيبة ناصعة البياض ولا يحدِّد مذهباً
إسلامياً ذا قواعد أصولية وفروع منبثقة عن تلك القواعد . والخيرية ثابتة ليست
موضوع نقاش ، فعن عمران بن حصين _رضي الله عنهما_قال : قال النبيُّ صلى الله عليه
وسلم : (( خَيْركم قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )){(1)}. وينبغي أن
نُقَيِّد لفظة " السلف" بلفظة
" الصالح " ، لأن كثيراً من الطوائف والفئات المنحرفة ظهرت أيضاً في
القرون الثلاثة الأولى ، وبالطبع فإن الحديث يستثنيهم ضميناً .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (3/ 138) ناقلاً عن ابن عبد البَر : (( إن
قوله صلى الله عليه وسلم : (( خَيْرُكم قَرْني )) على الخصوص ، معناه خير الناس
قرني ، أي : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم ، فهؤلاء أفضل
الأمة ، وهُم المرادون بالحديث ، وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن رآه
وصحبه ، أو لم يكن له سابقة ، ولا أثر في الدِّين ، فقد يكون في القرون التي تأتي
بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار )) اهـ .
وهذا كلام نفيس للغاية رغم أن الغالبية الساحقة من العلماء على خِلافه ،
فهالة القداسة التي تحيط بالصحابة وأنهم لا يُنْقَدُون هالة وهمية ، فالصحابي
تشرَّف بصحبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهذه مزية جليلة ومنحة ربانية عظيمة ،
ولكن يجب أن تكون أفعاله موافقة للشرع ، فالصحابي الذي أسرف على نفسه بالمعاصي
والآثام علينا أن ننقده نقداً علمياً مُنْصِفاً ونبيِّن حاله للناس . فنحن لا نعطي
حصانة دبلوماسية للصحابي تجعله فوق مستوى النقد . فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم هو
الذي يتمتع بالحصانة فقط ، وكل الذين هم دونه مُعَرَّضون للنقد والجرح والتعديل
حسب الحالة . لذا فتقديس الصحابة كلهم فرداً فرداً رغم الآثام الكارثية للبعض
مرفوض جملة وتفصيلاً ، وهذا سيأتي بحثه معنا في هذا الكتاب فيما بعد . والرأي الذي
نقف عليه أن هناك أناساً من القرون المتأخرة يفوقون بعض الصحابة الذين خلطوا
الأمور وارتكبوا المحرَّمات ، منزلةً ورُتبةً عند الله تعالى. وهذا لا يَطعن في
الصحابة_ رضوان الله عليهم _ حملة هذا الدِّين، لأن الله تعالى قيَّض لحمل الرسالة
صحابة أثباتاً عدولاً ينشرون تعاليم الإسلام الدين السماوي الأوحد ، وبعض الصحابة
لم يكن لهم دور في نشر الإسلام ولا سابقة ولا أثر في الدِّين ، والبعض لم يكونوا
عدولاً ، وهذا الأمر المعلوم لا ينتقص من قَدْر الصحابة الأثبات الذين حملوا
الدِّين على أكتافهم كمرجعية كُلية ومدرسة فكرية مخلِصة . ونحن لسنا من الروافض
الذين أسقطوا السواد الأعظم من الصحابة ، ولسنا ممن يُردِّدون خرافة أن كل الصحابة
عدول فرداً فرداً بلا استثناء . وسيأتي تفصيل هذا الكلام واضحاً في موضع آخر من
هذا الكتاب.
ولنأتِ إلى مصطلح آخر
وهو " السلفية التَّيمية النجدية "، نسبة إلى ابن تيمية ومقلِّده محمد
ابن عبد الوهاب . ويجب أن نُمَيِّز بينه وبين مصطلح السلفية المراد بها مرحلة
السلف الصالح الزمنية. فبدعة السلفية التَّيميَّة النجدية هي إسهامات مبنية على
اجتهادات في غير محلها، وأخطاء منهجية واضحة ، وحمل النصوص على ظواهرها دون معرفة
قواعد اللغة العربية . وهي إعادة بَلْورة لأفكار صِغار العقول من الحنابلة الذين
دخلوا في التجسيم الواضح، وأعرضوا عن منهجية الإمام أحمد بن حنبل _ رضي الله عنه _
، ولم يلتزموا بالقواعد الحنبلية الأساسية للمذهب التي وضعها علماء المذهب الأثبات
من أصحاب العقيدة الراسخة مثل الإمام أحمد وابن الجوزي ( المتوفى سنة 597 هـ )
الذي رَدَّ على مُجسِّمة الحنابلة الذين شَوَّهوا المذهب ، مثل القاضي أبي يعلى
المجسِّم الذي كان إذا ذُكِر الله سبحانه ، قال : (( ألزموني ما شِئْتُم فإني
ألتزمه إلا اللحية والعورة )) كما نقل ابن العربي في العواصم ( 2/ 283)، ومثل هذا
الكفر البواح استهزاء واضح بالذات الإلهية وهذا راجع إلى حمل النصوص على ظواهرها
الحسية المادية . وقد قال العلامة أبو محمد التميمي في الكامل لابن الأثير ( 10/ 52 ) : (( لقد شان أبو يعلى
الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار )) اهـ، ومن مجسِّمة الحنابلة ابن الزاغوني (
المتوفى سنة 527هـ )، وأيضاً أبو عبد الله ابن حامد ( المتوفى سنة 403هـ ) {(2)}.
والسلفية التَّيمية
النجدية في ثوبها المعاصر وضعها محمد بن عبد الوهاب {(3)}، حيث استمد عقائده من عقائد ابن تيمية ( 661هـ_728هـ) وأفكار ابن
القيم {(4)}(691هـ_751 هـ) لا السلف
الصالح . وهذه السلفية التَّيمية النجدية هي فلسفة الفقه البدوي الأعرابي البدائي.
فمن بدا جفا ، لأن الأعراب الذين يعيشون في البادية بعيداً عن التجمعات المدنية
المتحضرة يمتازون بغلظة الطبع لقلة مخالطة الناس، فيصعب التعامل معهم، ويغلب فيهم
الجهل والجفاء والقسوة . وبسبب قسوة قلوبهم وجهلهم حوَّلوا الدِّينَ وكأنه أوامر
عسكرية ميكانيكية مُفرَغة من الروحانية، وعذوبةِ الرُّوح ، وهذا دَيْدنهم .
وإنني أجزم أن نية محمد
بن عبد الوهاب كانت صالحة وأفكاره فيها خير كثير، وفيها انحرافات كثيرة أيضاً، لكن
النية الصالحة لا تُصْلِح العملَ الفاسد. وإن الكارثة الحقيقية هي الغرق في أفكار
ابن تيمية المنحرِفة دون بصيرة، فكانت النتيجة مأساوية ، لا سيما وأن المصالح
السياسية تدخَّلت لأدلجة السلفية النجدية من أجل ترسيخ الحكم السياسي عن طريق قتل
المخالِفين والمعارِضين لهذه البدعة .
وَلْيُعْلَم أنه لا يوجد
في الإسلام شيء اسمه " السلفية " كمذهب إسلامي. فالصحابة اختلفوا في
مسائل كثيرة والقرآن الكريم يَنْزل عليهم . كما لا يوجد في الإسلام شيء اسمه عقيدة
السلف أو مذهب السلف . هناك العقيدة الإسلامية المستقاة من النصوص قطعية الورود (
الكتاب والسنة المتواترة) وقطعية الدلالة . فهذه المصطلحات البدعية المنحرِفة (
عقيدة السلف، مذهب السلف ... إلخ ) مرفوضة لأنه لا دليلَ شرعياً عليه . وإذا كان
الأمر هكذا فسيأتي من ينادي بعقيدة الأشاعرة ومذهب الأشاعرة ، وآخر بعقيدة
الماتريدية ومذهب الماتريدية ، ويختفي مصطلح "العقيدة الإسلامية " من
الوجود . قال الله تعالى : )إِن الذين فَرَّقوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُم فِي
شَيء إِنما أَمْرُهُم إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون ( [ الأنعام: 159] . مع العلم أن النبي
إبراهيم r سَمَّانا المسلمين
ولم يُسَمِّنا السلفيين ولا الأشاعرة ، قال الله تعالى: ) مِلَّةَ
أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُم الْمُسْلِمِين ( [ الحج : 78] .
ويحاول البعضُ إحلال ما
يسمى بعقيدة السلف مكان العقيدة الإسلامية ، وهذا إرهاب فكري يضاد الإسلام ويتجاهل
وجوده. وأخشى من يوم يستخدم فيه هؤلاء القوم عبارة" الديانة السلفية"
لتحل مكان الديانة الإسلامية. وتراهم يُنافِحون بكل ما أُوتوا من قوة لتسويق
مصطلحاتهم البدعية، وهذا يدل على انتصارهم لأفكارهم وفهمهم ، لا انتصارهم للإسلام
. فهم لم يسعهم ما وسع الأمة الإسلامية ( أهل السنة والجماعة ) ، فتراهم يشذون
عنها أكثر فأكثر . وقد أجار اللهُ تعالى الأمة أن تجتمع على ضلالة ، إذ إن الأمة
معصومة عِصمة عامة ، فإن وجدتَ اختلافاً فعليك بالسواد الأعظم أي : بالحق وأهله ،
لأن الذي على الحق أغلبية ولو كان لِوَحْده .
ولنرد على مصطلح "
عقيدة السلف " رداً علمياً فنقول إن هذا المصطلح يفترض أن الصحابة والتابعين
وباقي السلف الصالح _ رضوان الله عليهم _ متحدون في كل مسائل العقيدة ، دون
اختلافات فيما بينهم ، وأنهم يملكون مذهباً مُوَحَّداً في الأصول والفروع جاهزاً لمن يريد الأخذ
به ، وهذا غير صحيح البتة ، فقد تباينت
اجتهاداتهم في فهم أمور عَقَدية هامة مثل مسألة رؤية الله تعالى ومسألة تأويل
الصفات ، وإليك بيان ذلك تفصيلاً :
مسألة رؤية الله ليلة
المعراج :
اختلفَ الصحابةُ _ رضي
الله عنهم _ في قضية رؤية الله تعالى ليلة المعراج . فَذَهب البعضُ إلى أنه صلى
الله عليه وسلم رآه بأُمِّ عَيْنيه ، وذَهبت آخرون إلى أنه رآه بقلبه لا عينيه .
وقد أثبتَ ابن عباس _ رضي الله عنهما _ هذه الرؤيةَ ، في حين أن السيدة عائشة _
رضي الله عنها _ نَفَتْها بشدة .
رَوى مُسْلم في صحيحه(
1/ 158 )عن عطاء عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال : (( رآه بقلبه )) .
قال النووي في شرحه على
صحيح مسلم ( 3/ 6) : (( قال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال المفسرون : هذا إخبار
عن رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّه _ عَزَّ وجَل _ ليلة المعراج . قال ابن
عباس وأبو ذر وإبراهيم التيمي : رآه بقلبه. قال : وعلى هذا رأى بقلبه رَبَّه رؤية
صحيحة، وهو أن الله تعالى جعل بَصَرَه في فؤاده أو خلقَ لفؤاده بَصَراً حتى رأى رَبَّه
رؤية صحيحة كما يُرى بالعَيْن . قال : وقد
ذهبَ جماعة من المفسِّرين إلى أنه رآه بِعَيْنه وهو قول أنس وعكرمة والحسن والربيع
)) اهـ .
وقال الحافظ في الفتح (
8/ 608 ) : (( وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، فذهبت
عائشة وابن مسعود إلى إنكارها ، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها وحكى
عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حَلَفَ أن محمداً رأى رَبَّه . وأخرج ابن خزيمة
عن عروة بن الزبير إثباتها ، وكان يَشتد عليه إذا ذُكر له إنكار عائشة ، وبه قال
سائر أصحاب ابن عباس )) اهـ .
وردَّت السيدة عائشة _
عليها السلام_ كلام القائلين بالرؤية رداً حاسماً ، فعن مسروق قال : قلتُ لعائشة _
رضي الله عنها _: يا أُمَّتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم رَبَّه، فقالت : ((
لقد قَفَّ شَعْري مِمَّا قلتَ . أين أنتَ من ثلاث من حدثكهن فقد كَذب ، مَن حَدَّثكَ
أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى رَبَّه فقد كَذب، ثم قرأتْ : ) لا
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخبيرُ ( [ الأنعام
: 103] ... )){(5)}.
إن رؤيةَ الله تعالى في
الدنيا متعذرة. وبالتالي، فالمقصودُ برؤية الله تعالى هي الرؤية القلبية . ووفقَ
هذه القاعدة ، فإن إثبات الرؤية هو إثبات لرؤية القلب ، أمَّا نفي الرؤية فهو نفي
لرؤية البصر . وهكذا يزولُ التعارضُ الظاهري .
قال الحافظ في الفتح (
8/ 608) : (( فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يُحمَل نفيها على
رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب )) .
لاحظ كيف أن السلف الصالح اختلفوا في مسألة
عَقَدية هامة ، فهؤلاء الذين يتشدقون بعبارة " عقيدة السلف " هلا
أخبرونا ما هي العقيدة الصحيحة في هذه المسألة رغم أن القَوْلَيْن صادران عن السلف
الصالح ؟ .
مسألة تأويل الصفات :
تباينت آراءُ السلف
الصالح في هذه المسألة ، فطائفة تُفَوِّض ، وطائفة تقوم بالتأويل ، والبعض
يُؤَوِّل في موقف ويُفَوِّض في موقف آخر . وهذا يدل على سعة هذا الدِّين وعظمته ،
ويدل كذلك على عِلم السلف الصالح _ رضي الله عنهم _ الذين اختلفت فهومهم
واجتهاداتهم حسب الحصيلة العلمية الذاتية لكل واحد منهم. وكل الاجتهادات المستقيمة
المبنية على الكتاب والسنة الصحيحة اجتهادات مقبولة ، وأصحابها مأجورون _ إن شاء
الله تعالى _ رغم الاختلافات في الفهم تبعاً لاختلاف المنهج وتباين العقول وتفاوت
المستويات العلمية . وهذا لا يطعن في السلف الصالح ، وهم لم يطعنوا في بعضهم البعض
، ولم يُبَدِّعوا أو يُفَسِّقوا أو يُكَفِّروا بعضهم البعض مثلما يفعل الكثيرون من
الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين الذين يرمون الناس بالبدعة والشِّرك والفسق لأقل
مسألة اجتهادية .
فابن عباس _ رضي الله
عنهما_الذي يُعتبَر من علماء الصحابة نُقِلت عنه تأويلات كثيرة بمسألة الصفات ،
فعلى سبيل المثال المختصَر لا الحصر :
1) عن ابن عباس_ رضي
الله عنهما_ أنه سُئل عن قَوْله عَزَّ وجل: ) يَوْمَ
يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ( [ القلم:
42]. قال : (( إذا خُفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشِّعر ، فإنه ديوان
العرب ، أما سمعتم قول الشاعر : أصبر عناق إنه شر باق، قد سن قومك ضرب الأعناق، وقامت الحرب بنا عن ساق )) . قال ابن عباس : ((
هذا يوم كرب وشدة )){(6)}.
قال الطبري في تفسيره (
12/ 197 ) : (( قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل يبدو عن أمر شديد
)) اهـ . ونقل الطبري تأويل الساق بالشدة عن مجاهد وقتادة اللذين هما من علماء
السلف ، انظر تفسير الطبري ( 12/ 197 ) .
وهذا يدل على أن التأويل
كان عند السلف الصالح . فالذي يرمي الذين يتأولون بالجهل والضلال فهو يتهجم ضمنياً
على جماعة من علماء الصحابة والتابعين. والتأويل ثابت عنهم ومنتشر في كتب الحديث
والتفسير ومبسوط باستفاضة مُدَعَّماً بالأسانيد الثابتة، ونحن هنا لن نستعرض كل ما
ورد ، لكن يهمنا إيصال الفكرة بأن التأويل كان عند السلف الصالح ، ولم يأت به
الخلف من بنات أفكارهم ، لذا مَنْ أَوَّلَ ضمن الضوابط الشرعية واللغوية ، هو على
خير كثير ومأجور على عمله المتوافق مع الكتاب والسنة الصحيحة وهو أبعد ما يكون عن
الضلال والزيغ .
قال الحافظ في الفتح (
13/ 428 ) : (( وقال الخطابي : تَهَيَّب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق،
ومعنى قول ابن عباس: إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي
الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن )) اهـ .
2) وأيضاً الإمام أحمد
بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي الذي يقول الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين إنهم ينتسبون
إليه يُؤَوِّل أيضاً ، وله تأويلات كثيرة جداً خصوصاً في فتنة خلق القرآن وتصديه
للمعتزلة الذين احتجوا ببعض الآيات القرآنية ، فما كان منه إلا أن تأوَّلها .
قال ابن كثير في البداية
والنهاية ( 10/ 327 ) : (( روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمر ابن السماك عن حنبل
أن أحمد بن حنبل تأوَّلَ قول الله تعالى: ) وَجَاءَ
رَبُّكَ ( [ الفجر:
22] أنه: جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي :
وهذا إسناد لا غبار عليه )) اهـ .
وأيضاً التفويض كان
منهجاً معتمَداً عند السلف الصالح مثله مثل التأويل ، وإليك كلام أهل العِلم في
هذا الصدد :
قال الترمذي في سُننه (
4/ 691) : (( والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن
أنس وابن المبارك وابن عُيَيْنَة ووكيع وغيرهم أنهم رَوَوْا هذه الأشياء ثم قالوا
: تُروَى هذه الأحاديث ونؤمن بها ، ولا يقال كيف . وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن
تُروَى هذه الأشياء كما جاءت ، ويُؤمَن بها ، ولا تُفَسَّر ، ولا تُتَوَهَّم ، ولا
يُقال كَيْف ، وهذا أمر أهل العِلم الذي اختاروه وذهبوا إليه )) اهـ .
والحقُّ هو الإيمان بهذه
الأشياء على مُراد الله مع اعتقاد تَنْزِيه الله عن كُلِّ ما لا يَليق به . نؤمن
بها كما ذَكَرَ اللهُ لا كما يَخطر للبشر . وعلى المسْلم أن يؤمن بها بلا تشبيه ، ويُصدِّق بلا
تمثيل ، ويُمسِك عن الخوض فيما لا عِلم له به . ومِيزةُ التفويض أنه لا يَحتمل
الخطأ ، أي إن المفوِّض محقٌّ دائماً على يقين تام . أمَّا المعتمدُ على التأويل ،
فإن تأويله عُرضةٌ للخطأ وعدم اليقين .
ومن غرائب ابن تيمية أنه قال في درء التعارض ( 1/ 115) : (( فتبيَّن
أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم مُتَّبعون للسُّنة والسلف مِن شر أقوال أهل البدع
والإلحاد )) اهـ .
وهذا الكلامُ المتهوِّر يمثِّل طعناً في أئمة المسلمين في كل العصور .
فالتفويض منهج معتمَد عند السلف والخلف . وكلامُ ابن تيمية منطلق من الهوى والتعصب
بلا دليل شَرعي .
قال الحافظ في الفتح (
13/ 383 ) : (( والصواب : الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله،
والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب اللهُ في كتابه أو على لسان نَبِيِّه إثباته له أو
تنزيهه عنه على طريق الإجمال ، وبالله التوفيق . ولو لم يمكن في ترجيح التفويض على
التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازماً بتأويله ، بخلاف صاحب التفويض )) اهـ .
ونقل الحافظ في الفتح(
13/ 383) عن ابن دقيق العيد قوله: (( في العقيدة نقول في الصفات الْمُشْكِلَة إنها
حق وصدق على المعنى الذي أراده الله ، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريباً على
مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه ، وإن كان بعيداً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع
التنزيه )) .
إذن ، يتضح لنا ثبوت
التأويل والتفويض عن السلف الصالح ، وهذه مسألة عَقَدية لم يتفقوا عليها بل ذهب كل
منهم إلى الرأي الذي يطمئن إليه ، ولا تثريب على الفريقين . وهكذا تسقط عبارة
" عقيدة السلف" ويتبين عدم صحتها وفق هذه الأدلة التي وضَّحت اختلاف
السلف في أمور عقدية ، وعدم اتفاقهم المطْلَق عليها . لذا نخرج من هذا التحزب لما
يسمى بعقيدة السلف لنلتزم بالعقيدة الإسلامية التي تُوَحِّد ولا تُفَرِّق ، فهي
الوعاء الجامع لنا كلنا ، والأصول الثابتة متفق عليها بين جميع المسلمين سَلفاً
وخَلفاً . فلا مُسمَّيات لا وزن لها من قبيل " عقيدة السلف " و "
عقيدة الخلف " التي تعمل على تفريق الصف الإسلامي وتقسيم الأمة تقسيمات ما
أنزل اللهُ بها من سلطان من شأنها إثارة النعرات الحزبية .
ومنهجنا هو الاعتراف
بالسلف الصالح أسياداً لهذه الأمة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم وأعلم الأمة ، والاعتراف بالخلف الصالح من
أهل العلم المشهود لهم بالتقوى والصلاح والعلم والتمسك بالكتاب والسنة الصحيحة
شُرَّاحاً لآراء السلف المجْمَلة المعتمِدة على التسليم المطْلَق المبصِر دون
الخوض في التفاصيل ، أما أن نشطب علماءنا سَلَفاً كانوا أم خَلَفاً فهذا لا يقوم
به إلا أحمق. فجناحا الأمة السلف الصالح والخلف الصالح ، ولا تَقْدر الأمةُ على
التحليق بجناح واحد أو بدون أجنحة . والمسألة ليست كما يتصورها البعض بأنها معركة
بين السلف والخلف ، وكأننا في حلبة مصارعة ، فيذهب كل طرف ليعتديَ على الطرف
الآخر، فهذا العبث يجب أن ينتهيَ عاجلاً لأنه ليس له أدنى صلة بالسلف الصالح ، ولا
بالخلف الصالح .
وبعد أن سقط مصطلح " عقيدة السلف " لعدم توافر شروط الصحة فيه ،
دعونا نذهب إلى مصطلح بدعي آخر وهو مصطلح " مذهب السلف "، والمقصود به
في هذا السياق هو الفقه وليس العقيدة، فبالتأكيد لا يوجد مذهب فقهي واحد للسلف
الصالح ، واختلافاتهم أكثر من أن نحصيَها. فالصحابة كانوا يختلفون في المسائل
الفقهية والقرآن يَنْزِل عليهم . وأيضاً ظهور المذاهب الفقهية الأربعة والاختلافات
المنهجية والتفريعية بينها التي صارت معروفة عند شريحة واسعة . فلو كان هناك مذهب
فقهي واحد للسلف لما تعب الأئمة الأربعة في البحث والدراسة والتمحيص والتفكير ووضع
القواعد والفروع ، ولما ظهرت هذه الاختلافات الواضحة ، ولما ظهرت المذاهب الأربعة
، ولما ظهر أي مجتهد نهائياً ، لأن افتراض وجود مذهب للسلف يعني أن السلف اتفقوا
على كلمة واحدة وضعوها في مذهب واحد لا يتعدد ، وهذا غير موجود من الناحية
الواقعية .
ومن يطالع كتب الفقه سوف
يقف على آراء متعددة للصحابة في مسائل فقهية لا حصر لها ، ومن المعلوم أن الصحابة
_ رضوان الله عليهم _ سادة السلف الصالح والمقدِّمة . وهذا الاختلاف المحمود لم
يجعلهم متعصبين لآرائهم المبنية على اجتهاداتهم المختلفة ، ولم يرمِ بعضهم بعضاً
بالجهل والبدعة كما يفعل البعض في زماننا . وهكذا يتبين لنا أنه لا يوجد مذهب خاص
للسلف الصالح لا في العقيدة ولا في الفقه أو الفروع . واختراع مُسَمَّيات خاصة
بالسلف الصالح لا دليل عليها وإعطاؤها هالة القداسة والعِصمة ليس من الإسلام في
شيء .
وقال الشاطبي في
الاعتصام ( 1/ 413) : (( وروى ابن وهب عن القاسم أيضاً قال : لقد أعجبني
قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون
، لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضِيق ، وإنهم أئمة يُقتَدى بهم )) اهـ .
فالصحابةُ قد فَتحوا بابَ الاجتهاد ، وفي
هذا توسيعٌ على الناس ، ورفعٌ للحرج . ولو أنهم التزموا قولاً واحداً لشقَّ ذلك
على المسلمين ، ولكان المجتهِدون في ضيق شديد . ولا يَخفى أن الاجتهادات والآراء
تختلف حَسْبَ اختلاف العقول والبيئة الاجتماعية .
ومصادرُ التشريع الأربعة ( الكتاب ، السُّنة ، الإجماع ، القياس ) ،
ليس فيها أقوال السلف . وهذا الأمر يقودنا إلى مسألة حُجِّية مذهب الصحابي الذي هو
رأس السلف الصالح ، وفي ذلك تفصيل كبير جداً ، لكننا سنختصر المسألة اختصاراً غير
مخل .
فإذا كان مذهب الصحابي بين أخذ ورد عند
العلماء ، فما بالك بمن يتخذ قول أحد السلف حُجَّةً لازمةً ويحيطه بالعِصمة
والقداسة لا لشيء سوى أنه من السلف الصالح ؟!. والذي يفعل هذا بعيد كل البعد عن
منهج علماء العقائد والأصوليين الذين قَعَّدوا المسائل ، ووضعوا له ضوابط وتفريعات
، وأصَّلوها وفق الكتاب والسنة الصحيحة . فينبغي أن نبتعد عن التعصب لأقوال الرجال
، فالحق أحق أن يُتَّبع . وإذا كنتَ على الحق فأنتَ أغلبية حتى لو كنتَ وَحْدَك .
حُجِّيةُ مذهب
الصحابي :
إن مذهبَ الصحابي لا
يكون حُجَّةً على غيره من الصحابة المجتهِدِين ، وذلك لأن قولَ المجتهِد لا يَنقض
قولَ مجتهِد آخر . فالعِصمةُ ليست لأقوال الرجال ، إنما العِصمةُ للكتاب والسُّنة
الصحيحة .
قال الآمدي في الإحكام (
4/ 155) : (( اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حُجَّة على
غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً ، واختلفوا في كَوْنه حُجَّةً
على التابعين ومن بعدهم من المجتهِدين ، فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد
قوليه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه والكرخي إلى أنه ليس بحُجَّة . وذهب
مالك بن يروي والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة والشافعي في قول له وأحمد ابن
حنبل في رواية له إلى أنه حُجَّة مُقدَّمة على القياس . وذهب قومٌ إلى أنه إن خالف
القياس فهو حُجَّة وإلا فلا . وذهب قوم
إلى أن الحجَّة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما ، والمختار أنه ليس بحُجَّة مُطْلقاً
)) اهـ .
ولا يجوز اتخاذ مذهب
الصحابي حُجَّة بشكل مطْلق ، فإن الصحابي بشر يجوز عليه الخطأ والنسيان ، وبالتالي
فكلامُه وفِعْله غير معصومَيْن . كما أن الصحابة مجتمع يجوز عليه الاختلاف ، وقد
اختلفوا فِعلاً ، فكيف تتصادم أقوالُ المعصومِين ؟!. والأُمَّةُ مُجمِعة على جواز
مخالفة الصحابة. إذن ، فلا عِصمة لشخص يُصيب ويُخطِئ ، ولا حُجَّة لكلامه أو فِعله
.
وقال الغزالي في
المستصفى ( 1/ 168 ) : [ من الأصول الموهومة قول الصحابي، وقد ذهب قوم إلى أن مذهب
الصحابي حُجَّة مطْلقاً ، وقوم إلى أنه حُجَّة إن خالف القياس، وقوم إلى أن الحجَّة
في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم : (( اقتدوا باللذين من بعدي )){(7)}، وقوم إلى أن الحجَّة في قول
الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا ، والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو
ولم تثبت عصمته عنه فلا حُجَّة في قَوْله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ ؟،وكيف
تدعى عِصمتهم حُجَّة متواترة ؟، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف ؟، وكيف
يختلف المعصومان كيف ؟، وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما
بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نَفْسه ]
اهـ.
إن قولَ الصحابي ليس
بِحُجَّة إذا انفرد ، إلا أنه يجب الانتباه إلى حالة انتشار قول الصحابي بلا
مخالفة ، وفي هذه الحالة يكون قَوْله حُجَّة . فانتشارُ قول الصحابي بلا مخالِف
دليل اتفاق الصحابة على الحُكم ، وما كان ليتم ذلك لولا استنادهم إلى دليل قاطع .
مع الانتباه إلى أن الصحابة إذا اختلفوا فللمجتهِد أن يأخذ ما شاء من أقوالهم
ويترك ما شاء ، ولا يجوز الخروج عن أقوالهم جميعاً لأن هذا خروج على الإجماع .
فإذا انتشر في أوساط الصحابة قَوْلان كان القَوْلان إجماعاً لا نخرج إلى ثالث ،
وإذا انتشر بينهم ثلاثة أقوال كان الثلاثة إجماعاً ولا نخرج إلى رابع ، وهكذا .
وفي هذا السياق تبرز قاعدةٌ هامة ، وهي : إن قول الصحابي لا يَنسخ قولَ النبي صلى
الله عليه وسلم .
ولنرجع إلى كلمة "
السلف " ومعناها اللغوي . ( سَلَفَ ) _ سُلُوفاً ، وسَلَفاً : تَقَدَّم وسبق
ومضى وانقضى ، فهو سالف{(8)}.
ولنقم الآن باستعراض
الجذر " سلف " ومشتقاته في الكتاب والسنة الصحيحة لنُكوِّن فهماً دقيقاً
عن الأساس الفكري لبدعة السلفية النجدية البعيدة عن الكتاب والسنة الصحيحة .
1) قال الله تعالى : ) فَمَن
جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن ربِّه فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ
([ البقرة:
275] .
ومعنى ) مَا سَلَفَ ( ما مضى .
والآيةُ تتحدث عن أكل الرِّبا . فأكلُ الربا قبل تحريمه معفوٌّ عنه ، فهو في حُكم
الماضي . قال الطبري في تفسيره ( 3/ 101 ) عن معنى ) فَلَهُ مَا
سَلَفَ ( : (( ما أكل وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة
والتحريم من ربِّه في ذلك )) اهـ .
وقال ابن كثير في تفسيره
( 1/ 436 ) : (( قال سعيد بن جبير والسدي : ) فَلَهُ مَا
سَلَفَ ( فله ما كان
أكل من الربا قبل التحريم )) اهـ .
2)قال الله تعالى:) وَلا
تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ( [النِّساء:
22].
ومعنى ) مَا قَدْ
سَلَفَ ( ما قد مضى .
فاللهُ تعالى عفا عمَّا مضى في جاهليتهم ، حيث كانوا ينكحون ما نكح آباؤهم. وقال
الطبري في تفسيره ( 3/ 659 ) : (( وعفا لهم عما سلف منهم في جاهليتهم وشِركهم من
فعل ذلك )) اهـ .
3) قال الله تعالى : ) وَأَن
تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ( [ النِّساء
: 23] .
ومعنى ) مَا قَدْ
سَلَفَ ( ما قد مضى .
والآيةُ تتحدث عن حُرمة الجمع بين الأختين ، ومَن فَعلَ ذلك فيما مضى ( الجاهلية )
، فقد تجاوزَ اللهُ عنه ، وعفا عنه .
قال الصابوني في صفوة
التفاسير ( 2/ 90 ) : (( أي وحُرِّم عليكم الجمع بين الأختين معاً في النكاح إلا
ما كان منكم في الجاهلية فقد عفا الله عنه )) اهـ .
4) قال الله تعالى : ) عَفَا اللهُ
عَمَّا سَلَفَ ( [ المائدة :
95] .
والمعنى : عفا اللهُ عما
مضى وانقضى ، فلا يؤاخذكم به .
5) قال الله تعالى : ) قُل للذِينَ
كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم ما قَدْ سَلَفَ ( [ الأنفال :
38] .
والمعنى : أن الكافرين
إذا انتهوا عن كفرهم وضلالهم وأسلموا ، فإن الله يغفر لهم ما مضى أيام كفرهم ،
ويتجاوز عنهم ، فالإسلام يَجُبُّ ما قَبْله ، أي : يَمحوه .
6) قال الله تعالى : ) هُنَالِكَ
تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ( [ يُونُس :
30] .
فكلُّ نَفْسٍ تَعلم ما
سلفَ من عملها ، أي ما قَدَّمَتْه من خير أو شر .
قال القرطبي في تفسيره (
8/ 301 ): (( تختبر كل نفس ما أسلفت أي جزاء ما عملت وقَدَّمتْ )) اهـ . وقال ابن
كثير ( 2/ 546 ) : (( في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من
عملها من خير وشر )) اهـ .
7) قال الله تعالى : ) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( [ الحاقة :
24] .
)
أَسْلَفْتُمْ ( ، أي :
قَدَّمْتُم في الأيام الماضية ( أيام الدنيا ) .
قال القرطبي في تفسيره (
18/ 236 ):(( ) بِمَا
أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( ، أي قدَّمتم
في أيام الدنيا )).
8) قال الله تعالى : )
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخِرِين ( [ الزخرف :
56] .
إن اللهَ تعالى قد جعلهم
عِبرةً لمن جاءَ بعدهم ، ومَثَلاً يَعتبرون به لئلا يُصيب المتأخرين ما أصاب
المتقدِّمين ( السَّلف ) من العذاب. قال
ابن كثير في تفسيره ( 4/ 165 ) : (( قال أبو مجلز : سَلَفاً لمثل من عمل بعملهم، وقال
هو ومجاهد: ومثلاً أي عِبرة لمن بعدهم )) اهـ .
هذه الآيات الشريفةُ هي
التي وَردت في القرآن الكريم ، وتتضمن كلمة " سلف " وما يتفرع عنها ،
وهي واضحة لمن له أدنى معرفة باللغة العربية ، ومعناها واضحٌ في تحديد الفترة
الزمنية السابقة الماضية لا تحديد مذهب إسلامي أو منهجية عَقَدية أصولية فقهية .
فمعناها لا يخرج عن الإطار اللغوي المعروف . وعبثاً حاول البعض إخراج المعنى إلى
المجال الديني ، فهذا مضاد لسياق الآيات الكريمة ، وقواعد اللغة العربية . والذين
ينادون بما يسمونه السلفية ليس لهم أي حُجَّة أو بَيِّنة من القرآن الكريم لتثبيت
مصطلحهم البدعي وانتزاع الشرعية الدينية له ، فالقرآن الكريم أورد لفظة " سلف
" وما يتفرع عنها ليُظهِر المعنى الزمني لهذه اللفظة وما يتفرع عنها ،
فالمعنى القرآني حصرَ هذه اللفظة في المجال اللغوي فقط لا الدِّيني أو التَّعبدي .
فمن ينادون بهذه البدعة لا دليل لهم من القرآن الكريم ، والله تعالى أجل وأعلم .
وأولئك الذين كوَّنوا مذهباً بدعياً وأسموه السلفية مرجعهم في ذلك إلى أهوائهم ،
فالسلف الصالح لم يكن لهم مذهب محدَّد لهم ، فالصحابة _ رضوان الله عليهم _ اختلفت اجتهاداتهم
ومذاهبهم ، والتابعون كذلك ، ومن تبعهم بإحسان كذلك ، والإسلام يتسع لاجتهادات
مختلفة ويعترف بها ما دامت ضمن المنهج الإسلامي المبني على الكتاب والسنة الصحيحة
.
أمَّا المعاني الواردة
في السنة النبوية الشريفة حول لفظة السلف فمختصة بالمعنى اللغوي فحسب، وهو معنى
التقدم والسبق دون وجود أية إشارة لمعنى ديني أو مذهب إسلامي . والذين لم يجدوا في
القرآن الكريم ما يؤيد بدعتهم المذهبية انطقلوا إلى السنة النبوية فلم يجدوا سوى
المعنى اللغوي المعروف في لغة العرب ، لكنهم احتجوا بهذا الحديث النبوي الذي
يُعتبَر عمدتهم في هذا السياق بعد أن فهموه فهماً خاطئاً ، فقد قال النبي r للسيدة
فاطمة الزهراء _ عليها السلام_ : (( فإني نِعْمَ السَّلف أنا لكِ )){(9)}.
ومن العجيب أن يُحمَل هذا الحديث الشريف على شرعنة بدعة السلفية استناداً
إلى فهم مغلوط لمعنى كلمة " السلف "،ولنعد إلى تفسير الحديث فقد قال
النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 7 ) : (( والسَّلف المتقدِّم ، ومعناه أنا
متقدِّم قُدَّامك فَتَرِدين عليَّ )) .
وقد تبيَّن لك عدم وجود مرجعية من القرآن أو السنة لما يسمى بالسلفية ،
فليست هي بأكثر من مذهب بدعي حزبي غير منقَّح فلا أصول قواعدية معتمَدة له ولا
فروع، يستند إلى كثير من الأفكار المنحرِفة لابن تيمية قديماً ومحمد بن عبد الوهاب
حديثاً ، ومن هنا كانت التسمية الحقيقية لهذه الفئة السلفية التَّيمية النجدية ،
فابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب هم سَلَف من يقول بهذه البدعة، والأمر لا علاقة له
بالسلف الصالح _ رضوان الله عليهم _ في كثير من الأمور التي يعتنقها من يسمون
أنفسهم بالسلفية .
..........الحاشية...........
{(2)} راجع كتاب "دفع شُبه التشبيه بأكف التنزيه" للإمام ابن
الجوزي .