جرعة زائدة من الذكريات
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/5/2018
..............
(1) أخْشَى أَن تُصْبِحَ حِيطانُ غُرفتي
وَحْدَها القادرةَ على فَهْمِ مَشَاعري .
أنظُرُ إلى المرايا ، ولا أعْرِفُ مَن أنا . أَهْرُبُ إلى غُرفتي، وأُغْلِقُ
البابَ على ذِكرياتي . مَشَاعري مُخْتَلِطَةٌ . لا أقْدِرُ أن أفْصِلَ الأُكسجين
عن الهيدروجين في الماءِ . حِيطانُ غُرفتي هِيَ الشَّاهِدَةُ على انكساراتي . ورُبَّما
تَفْهَمُ مَشَاعري ، لأنَّها تَعيشُ مَعي ، وتَعيش فِيَّ . وأشعرُ أنَّها تَنظرُ
إِلَيَّ ، كما تَنْظُرُ الأمُّ إلى ابنها . الحِيطانُ تَمْسَحُ دُموعي. أنا
والحِيطانُ نَشْرَبُ الشايَ مَعَ أطيافِ الموتى على زُجاجِ نافذتي. هذه الحِيطانُ
هِيَ عَشيقتي الرُّومانسيةُ وزَوْجتي الْمُخْلِصَةُ .
(2) في
زَمَنٍ يَتَكَلَّمُ فِيهِ المالُ ، لَيْسَ غَريبًا أن يَصْمِتَ البَشَرُ .
الإنسانُ كَائِنٌ جَاهِلٌ، يَفتخِرُ بِجَهْلِه. إنَّهُ الصانعُ الذي يَنهزِمُ
أمامَ إبداعاته . صَنَعَ الحاسوبَ ، وهُزِمَ أمامَه . وصَنَعَ السيارةَ ، لَكِنَّه
لا يَقْدِرُ أن يَسْبِقَها . صَنَعَ الإنسانُ الرَّجُلَ الآلِيَّ ، فَخَسِرَ
البشرُ وظائفهم ، وصارَ الصانعُ خادمًا للمَصنوع . الإنسانُ خادمٌ للآلةِ التي
صَنَعَها بِيَدَيْهِ . صَارَ العقلُ البشريُّ مُسْتَسْلِمًا للعقل الإلكترونِيِّ .
والبَشَرُ الذينَ وَضَعُوا قوانين المال والاقتصادِ ، واخترَعوا البنوكَ ، صاروا
عَبيدًا للمالِ . المالُ هُوَ السَّيد ، والإنسانُ عَبْدٌ وتَحصيلُ حاصلٍ . غُرورُ
الإنسانِ سَيَقتله . يَخضع الإنسانُ رَغْمَ أنفِه لِسَطْوة الآلة مَعَ أنَّه هُوَ
الذي صَنَعَها. الإنسانُ يَصنع قاتلَه بِيَدَيْهِ. كَم مِن شَخْصٍ صَنَعَ ثروةً
ماليةً ثُمَّ صَارَ عَبْدًا لهذا المال ، وحارسًا له . رُبَّ امرئٍ حَتْفُه فِيما
تَمَنَّاه . الإنسانُ في واقع الأمر يَركضُ إلى الموتِ دون أن يَلتفِت إلى العناصر
المحيطة بِه . حتَّى الكاتب ، قَد يَتحوَّل إلى عَبْدٍ لِكِتاباته .
(3) أيْنَما
تُوجَد العبقريةُ تُوجَد الْمُعاناة .
الْمُعاناةُ هِيَ أساسُ الإبداعِ وأُمُّ العبقريةِ ، كما أنَّ الحاجةَ أُمُّ
الاختراعِ . والْمُعاناةُ لا تَعني أنَّ يَكون الشخصُ فقيرًا بائسًا . الْمُعاناةُ
الحقيقيةُ مُتعلِّقة بالقلب لا الجسدِ . والْمُعاناةُ هِيَ حربٌ أهليةٌ داخل عقل
الإنسان، حيث تتصارع الأفراح والأحزان، وتَبْرُز حقيقةُ الموتِ في وَجْه أُكذوبة
الحياةِ، وتَظهر معاني الوجود والأحلام والذِّكريات والانكسار. هذا المفاهيمُ
تُسيطِرُ على كيان الإنسان، فَيَبدأ رِحلة البحث عن مَعْنى حياته ، وَجَدْوى حياة
الآخرين ، وصُعود الحضاراتِ وسُقوطها . وتكاثرُ الأسئلةِ في ذهن الإنسان ، يَدفعه
إلى البحث عن إجابات . ومُتعةُ البحثِ تَنْقُلُ الإنسانَ مِن الاستهلاكية إلى
الإبداع ، ومِن اللامُبالاة إلى قلب الوجود الحضاريِّ ، فَتَنتقل مَشاعرُ الإنسانِ
مِنَ الآلِيَّة الميكانيكية إلى التفكير الإبداعيِّ الخلاق . وإذا تَحَرَّرَ
الإنسانُ مِن دائرةِ الاعتياديةِ ، واستطاعَ أن يَكْسِرَ الحِصارَ المفروض على
أشواقه الروحية . عندئذٍ ، سَيَصير مُبْدِعًا حقيقيًّا ، يَرى ما لا يَراه الآخرون
، ويَكتشِف طَريقًا جَديدًا لا يَمشي فِيه الناسُ .