الطريق إلى الحرية والتحرر
للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد
.................
[1] عِندَما يَسْتَقِرُّ قَلْب
الفرد في رُوحِ الجماهيرِ ، سيتحوَّل إلى فكرةٍ لا تَموتُ مَعَ الأيامِ .
الجماهيرُ هي الحاضنةُ للمشروعِ الإنسانِيِّ
. إنَّها الثَّورة ووقودُها . وعِندَما تَحتضِنُ الجماهيرُ أحلامَ الفردِ ، فإِنَّ
هذا الفَرد سَيُصبحُ أيقونةً خالدةً ونظريةً معرفيةً، ويَنتقل من الإطار الفرديِّ
إلى الكَينونة الجماعية ، فَيُصبح عقلُ الفردِ عقلاً جَمْعِيًّا ، ويُصْبِحُ
كَيانُ الفردِ فِكرةً عابرةً للتَّجنيسِ والزمان والمكان، لأنَّ الإنسانَ حِينَ
يَتحوَّل إلى فِكْرةٍ ، يُصبِح حُلْمًا للجماهير في كُل زمان ومكان. والفِكرةُ لا
تَمُوتُ ، ولا يُمْكِنُ مُوَاجَهَةُ الفِكرة إلا بالفِكرة . الفِكْرةُ أقوى مِنَ
الرَّصاصة .
[2] اعتادَ الناسُ عَلى السُّجون ، فَصَارَت الحرِّيةُ خَطَرًا على حَياتهم
.
الاعتياديةُ قَاتلةٌ ، تَجعل الموجودَ
غَيْرَ مَوجودٍ . فالعَينُ التي تَتَعَوَّدُ على رُؤية شَيء ، لا تَعُودُ تَرَاه .
الاعتياديةُ هِيَ العَمَى الشاملُ . والناسُ غَرِقُوا في فِكرة السُّجون ، وعاشوا
في سُجون الرُّوحِ والجسدِ ، فصارت العُبوديةُ هِيَ الحرِّيةَ بالنسبة إلَيهم ،
وصارَ السِّجْنُ هُوَ أرضَ الأحلام ، وصارَ الوَطَنُ هُوَ المنفَى . والغريقُ في
قاع البحر لا يُمْكِنُ أن يَرى بَرَّ الأمان . وَلَوْ لَم يَكُنْ هُناك سُجون ،
لقامَ الناسُ باختراعها ، لِيَعيشوا فِيها . وسَوْفَ يُلَمِّعُون قُيودَهم لأنَّ جُلودَهم
اعتادتْ على مَلْمَسِ القُيود، ولَن يُفكِّروا في فَكِّ القُيود، لأنَّ الحريةَ
خَطَرٌ على العبيد ، كما أنَّ نُورَ الشمس خَطَرٌ على الخفافيش .
[3] شَيْءٌ مُؤسِفٌ أنَّني لَن أتَمَكَّنَ مِن شَرْحِ أفكاري لِحِيطانِ
غُرفتي .
حِيطانُ غُرفتي عَاشَتْ مَعِي ، وعِشْتُ
مَعَها . رَأَتْ دُموعي في ليالي الشتاء الطويلة ، ورَأيتُ أحلامَها المقتولة تحت
الأرض . كَم كُنتُ أتمنَّى أن تستمع إلى كلماتي . أُريدُ أن أشرحَ لها فَلْسفتي.
قَد لا تَكُون فَلسفةً عظيمةً ، ولكنها نابعةٌ مِن قَلبي وأحزاني وذِكرياتي .
[4] البَشَرُ صِنْفَان : صِنْفٌ يَنامُ ، وصِنْفٌ يَسْهَرُ عَلى أُولئك
النَّائمين .
لا عَدالةَ في هذا العالَم. السَّادةُ
يَنامون في الأحلام والعسلِ ، والعبيدُ يُضَحُّون بِرَاحتهم مِن أجل رَاحة السادة
. يَسْهَرُ العَبيدُ وهُم في أمَسِّ الحاجة إلى النَّوْم . ولكنَّه قانون السُّوق
. مَن يَمْلِكْ يَفْرِضْ شُرُوطَهُ عَلى مَن لا يَمْلِك . والعَبيدُ لا يَمْلِكُون
حَقَّ الاختيارِ .
[5] الشَّخصان الوَحيدان القادران على كَسْر رُوتين العالَم هُما
العَبقريُّ والمجنون .
العَبقريُّ يُغيِّر العالَمَ بذكائه الخارق.
يُعيدُ تَرتيبَ الفَوضى في هذا الوجود الذي دَمَّرَه الإنسانُ. يَنقل حياةَ
الإنسانِ مِنَ الصُّعوبات المادية إلى السُّهولة المعرفية . والمجنونُ يُغيِّر
العالَم بِهَلْوَساته وعُقَدِه النَّفسية وأمراضه العقلية، فَيَبدأ رِحلةَ الهدم ،
وتَعُمُّ الفَوضى ، فَتُصبِح حياةُ الناسِ جَحيمًا لا يُطاق . وأيُّ فَرْقٍ
يَشْعُرُ بِه الناسُ ، سواءٌ كان إيجابيًّا أَم سلبيًّا ، فإنَّهُ صِناعةُ عبقريٍّ
أو مَجنون .
[6] التناقضُ جُزْءٌ أساسِيٌّ
مِنَ القَلَق ، والقلقُ جُزْءٌ أساسِيٌّ مِنَ الإبداع .
لا مَفَرَّ مِنَ التناقض ، لأنَّ عَقْلَ
الإنسانِ مَحدودٌ ، وصِفَاتِه نِسْبية لا مُطْلَقة . والْمُبْدِعُ عَلَيهِ أن
يَتطهَّر مِنَ التناقض إلى أقصى حَدٍّ مُمْكِن ، ويُعيد تَدوير تناقضاته لِيَحصل
على أفكارٍ جَديدةٍ منطقية ومتسلسلة . والتناقضُ جُزء مِن مَنظومة القَلَق.
فالقلقُ هو العنصر الضاغط على ذِهن الْمُبْدِع، ولا يَسْمَح له بالتحرك بحرية.
والقلقُ هو الْحَجَرُ الذي يُرْمَى في الماء الراكد لِكَسْرِ الملَل الفكريِّ ،
وتَحطيمِ الروتين الوظيفيِّ، وإعادةِ إنتاج الاعتيادية الحياتية . وهذه العناصر
الأساسية تَجعل القلقَ جُزءًا أساسيًّا مِنَ الإبداع . ولا نُبَالِغ إذا قُلنا
إنَّ القَلَقَ _ بما فِيه مِن حركة مستمرة _ هُوَ الإبداعُ نَفْسُه.