1
التحليلُ
الفلسفي للروابط الإنسانية في المجتمع يُمثِّل اختبارًا وجوديًّا للعلاقات
الاجتماعية ، وتفكيكًا لعناصر الموضوعات الفكرية التي تُسيطر على ماهيَّة الوَعْي
الإنساني، وتشريحًا لِجُزَيئات العقل الجَمْعي الذي يُسيطر على المفاهيم السائدة في
حياة الفرد ومسار الجماعة . وإذا كانَ التحليلُ الفلسفي صِفَةً مُمَيِّزَةً
للمجتمعات الحَيَّة والحُرَّة ، فإنَّ الوَعْي الإنساني صِفَة مُمَيِّزَة للوجود
الفردي والجماعي ضِمن الظواهر اللغوية والأنماط الثقافية. وثنائيةُ ( التحليل
الفلسفي / الوَعْي الإنساني ) لَيست كُتلةً معنويةً جامدةً أوْ نَسَقًا نظريًّا
بعيدًا عن التطبيقات الواقعية ، إنَّ هذه الثنائية تيَّار فكري قائم على تحقيقِ
التوازن الاجتماعي بين المعايير الأخلاقية ومصادر المعرفة ، وتحقيقِ المُوازنة
الثقافية بين الظواهر اللغوية والظواهر النَّفْسِيَّة . وهذا يُؤَدِّي إلى كشفِ
دَور البُنية اللغوية في تكوين الجانب النَّفْسِيِّ للفرد ، وكشفِ دَور البناء
النَّفْسِيِّ في تشكيل دَلالات اللغة وطاقتها الرمزية . ويقوم التحليلُ الفلسفي
على فَحْص الماهيَّات الاجتماعية التي تتحكَّم بالسلوك ، وتُؤَوِّل الأحداثَ
اليومية ، مِمَّا يَقُود إلى تجزئة المفاهيم اللغوية والبُنى الوظيفية ، وُصولًا
إلى أنويتها الداخلية وعناصرها الأوَّلية ، بهدف تكوين فهم دقيق لحرية الإرادة ،
وإيجاد تفسير عقلاني للمسؤولية الأخلاقية . والغايةُ من التحليل الفلسفي هي الوصول
إلى كَينونة الوَعْي الإنساني ، وتحقيقه واقعًا ملموسًا ، وتفعيله معنويًّا في
صَيرورةِ التاريخ ، وحتميةِ انبثاق المعنى الوجودي من الظواهر الثقافية ، مِن أجل
تكوين رؤية حاضنة لأحلام الفرد وطُموحات الجماعة ، وقادرة على تكوين تقنيات إبداعية
للنهوض بالمجتمع ، وحمايته مِن الأوهام اللذيذة التي تصير مُسلَّمات افتراضية
بِحُكْم سياسة الأمر الواقع ، وحمايته أيضًا من العلاقاتِ الاجتماعية الاصطناعيَّة
التي تَقُوم على المصلحة الآنِيَّة والمنفعة الزائلة ، بعيدًا عن الوَعْي بالماضي
والشُّعور بالحاضر وإدراك المُستقبل .
2
الخطرُ
الحقيقي الذي يُهدِّد الجَوْهَرَ المعرفي للمجتمع،هو قيام الأدوات الاستهلاكية
بفصل الإرادة الحُرَّة عن السُّلوك الإنساني . وهذا الفصلُ يعني تحويلَ الأحداث
اليومية إلى أفعال اجتماعية عبثية بلا قَصْد ولا تخطيط، واعتبارَ الكِيَان
الإنساني مُجرَّد انعكاس للواقع الميكانيكي الآلي ، الذي يتمُّ تفريغه مِن الوَعْي
والشُّعور والإدراك . لذلك ، يجب بناء العلاقات الاجتماعية على قاعدة المُزَاوَجَة
بين الإرادة الحُرَّة والسُّلوك الإنساني ، وجَعْل عملية دَمْجهما حتميةً تاريخيةً
ضِمن تَشَكُّلاتِ هُوِيَّة الفرد ، وامتداداتِ مصير الجماعة . ولا شَكَّ أنَّ
الهُوِيَّة الفردية والمصير الجماعي رُكنان أسَاسِيَّان في بناء الحقائق الاجتماعية
على أرض الواقع ، وهذا يَستلزم توليدَ شروط لاستقلال رمزية اللغة عن التعبيرات
اللفظية، لأن الرَّمْزَ اللغوي حاملٌ للوَعْي الحقيقي ، وكاشفٌ عن الشعور الداخلي
، في حِين أن التعبير اللفظي يُشير في أحيان كثيرة إلى وَعْي زائف وشُعور اصطناعي
، لأن الفرد يُطوِّر بُنيته اللغوية بما يَضمن مصلحته الشخصية ، لذلك تُصبح اللغةُ
وسيلةً للمُجَامَلَة واستثمار الوَهْم لصناعة واقع افتراضي. والمفروضُ أنَّ اللغة
وسيلة لكشف المعنى الحقيقي في الأشياء ، وتوصيله إلى الآخرين. وابتعادُ اللغة عن
وظيفتها الحيوية ، والتَّخَلِّي عن دَورها الوجودي المِحْوَري في عَالَم الأسباب
والمُسَبِّبَات ، يُؤَدِّيَان إلى فصل الوقائع التاريخية عن السِّياقات الثقافية ،
لذلك يَعجَز الفردُ الغارق في النظام الاستهلاكي عن إيجاد البُنية الثقافية التي
تختبئ وراء الحدث التاريخي ، لذلك يُضيِّع الفردُ وَقْتَه في مُلاحقة الروافد ،
لأنَّه غير قادر على الوصول إلى المنبع .
3
لَن يُصبح التحليلُ الفلسفي للروابط الإنسانية في المجتمع خلاصًا للفرد من المأزق الحياتي ، وتَخليصًا للجماعة من التهديد الوجودي ، إلا بدمجِ الإرادة الحُرَّة معَ السُّلوك الإنساني ، ودمجِ الوقائع التاريخية معَ السِّياقات الثقافية ، وهاتان العمليتان ينبغي أن تَسِيرا جَنْبًا إلى جَنْب ، وتَحْدُثا معًا مِن خلال نظام اجتماعي تزامني لا تعاقبي ، لأنَّ الطائر يطير بِجَنَاحَيْه في نَفْس اللحظة ، ولا يَطير بالجناح الأوَّل ثُمَّ الثاني . وكُلُّ تحليلٍ فلسفي للروابط الإنسانية هو بالضرورة تَشييدٌ لِهُوِيَّة الفرد ، وبناءٌ لشرعية المجتمع ، وتكوينٌ لمصادر المعرفة التي تشتمل على التَّصَوُّرات الوجودية والقضايا اللغوية والظواهر الثقافية ، وكيفية تفكيكها وإعادة تركيبها . والتفكيكُ والتركيبُ نَشَاطَان عقليَّان يَكشفان عن النَّوَاة الجوهرية المُكوِّنة لشرعية المجتمع، ويُبْرِزان تأثيرَ اللغة في صِياغة الفِكر والثقافة ، ويُظْهِران دَوْرَ الزمان والمكان في تحديد دَلالة الألفاظ على المعاني ، ودَلالة المعاني على التجارب الوجدانية العميقة والمُعطيات المادية الواقعية .