إنَّ
عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان ، وإرجاعِ حياته
الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة ، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ
العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان
كَكَائن حَي وحُر ، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه ، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه . وكُلُّ
إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة ، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على
وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ
والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا ، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي
تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي .
واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدبِ ، باعتباره الشكل الإبداعي
المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان ، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه
وهَوَاجِسِه ، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ ،
باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي ، والتأويل العقلاني للفِعْلِ
الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ
التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة ، ونُقْطَةَ
الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ . وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق
بالأدبِ والتاريخِ _ تأثُّرًا وتأثيرًا _ ، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ
الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده ، وتحليلِ عَلاقته
بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة . ومِن أبرزِ
الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ ، رِوايةُ " لوليتا " (
1955 ) ، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف ( 1899 _ 1977 )، وقد تَمَّ
تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962 ، مِن إخراج الأمريكي ستانلي
كوبريك ( 1928 _ 1999 ) الذي يَعتبره
الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .
أبرزت الروايةُ مَواضيع مُثيرة للجدل ،
ومُنِعَتْ في الكثير مِن البُلْدَان بوصفها تتناول حالةً مُخالِفة للقانون ،
وسُلوكًا يُعْتَبَر تَحَرُّشًا جِنسيًّا بالأطفال ، فبطلُ الرواية "
هَمْبِرْت هَمْبِرْت " هو أستاذ أدب في مُنتصف العُمر ، مريض بشهوة
المُراهقين ، يَرتبط بعلاقة جنسية معَ الفتاة دولوريس هيز ذات الاثنَي عشر عامًا ،
بعد أن أصبحَ زَوْجًا لأُمِّهَا ، و " لوليتا " هو لقب دولوريس الخاص .
يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على
السَّرْد الذاتي ، حيث يقوم " همبرت همبرت " بسرد قِصَّته معَ دولوريس
مِن جانب واحد ، كاشفًا عن مشاعره الذاتية وأحاسيسه الشخصية ، مُحَاوِلًا كسب
تعاطف القارئ ، وهذه العلاقة المتوترة تنتهي بشكل مأساوي . وقَد قَدَّمَت الروايةُ
تحليلًا نَفْسِيًّا للهَوَسِ الجِنسي بالصغيرات (البيدوفيليا ) . وصارتْ "
عُقْدَة لوليتا " ( عُقْدَة الحِرمان الكبير ) مِن أشهر العُقَد
النَّفْسِيَّة بَين المُراهِقَات ، وهي وُقوع الفتاة في حُب رَجُل يَكْبُرها
بِضِعْفِ عُمرها على الأقل ، أوْ في عُمر أبيها ، لَيْسَ هذا فقط ، بَلْ إنَّها
كذلك تُحاول لَفْتَ نَظَرِه وَجَذْبَ انتباهِه بِكُلِّ مَا تَملِكه مِن قُدرة على
فِعْل ذلك . وغالبًا مَا يَكُون السببُ وراء ذلك هُوَ حِرمانها مِن والدها في
الطفولةِ ، أوْ فِقْدَانها لاهتمامه . وبما أنَّها لَمْ تَجِد الاهتمامَ داخل
البَيْت ، فإنَّها تَبحَث عَنه خارج البَيْت . وهذا دائمًا يَرجِع إلى أسباب
نَفْسِيَّة عِند الفتاة أوْ أسباب اجتماعية تَتَعَلَّق بالمَادَّة . والجديرُ
بالذِّكْر أنَّ مَلْءَ الفراغ العاطفي يَبدأ مِن داخل الإنسان . ومِن أبرز
الأمثلةِ على تأثير عِلْمِ النَّفْسِ في التاريخِ ، نظريةُ التَّحَدِّي
والاستجابةِ ، التي وضعها المُؤرِّخ البريطاني
أرنولد توينبي (1889_ 1975 )، وهو مِن أشهر المُؤرِّخين في القرن العشرين،
ويُعْتَبَر أهَمَّ مُؤرِّخ بحث في مسألة الحضارات بشكل مُفصَّل وشامل . ويُفَسِّر
توينبي نُشُوءَ الحَضارات الأُولَى ، أوْ كما يُسَمِّيها الحضارات المُنقطعة ، مِن
خلال نظريته الشهيرة الخاصة بـ " التَّحَدِّي والاستجابة " التي يَعترف
بأنَّه اسْتَلْهَمَهَا من عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي ، وعلى وَجه الخُصُوص مِن
عَالِم النَّفْس السويسري كارل يونغ (1875_ 1961) مُؤسِّس عِلْم النَّفْس
التَّحليلي.ويَقُول يونغ إنَّ الفَرْدَ الذي يَتعرَّض لصدمة قَد يفقد توازنه لفترة
ما، ثُمَّ قَد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة : أ _ استجابة سلبية : تَتَمَثَّل
في النُّكُوصِ والرُّجُوعِ إلى الماضي والتَّمَسُّك به ، ومُحاولة استرجاعه
واستعادته تعويضًا عن واقعه المُرِّ في مُحاولة يائسة،فَيُصبح الفردُ مُتَوَحِّدًا
انعزاليًّا انطوائيًّا. ب_ استجابة إيجابية : تَتَمَثَّل في تَحَدِّي الواقع
والاعتراف بالصدمة ومُحاولة التَّغَلُّب عليها ، فَيُصبح الفردُ مَرِنًا تفاعليًّا
انبساطيًّا.