سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

23‏/05‏/2024

الترابط بين علم النفس والأدب والتاريخ

 

الترابط بين علم النفس والأدب والتاريخ

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..........................

     إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان ، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة ، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَكَائن حَي وحُر ، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه ، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه . وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة ، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا ، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي . واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدبِ ، باعتباره الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان ، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه ، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ ، باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي ، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة ، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ . وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ _ تأثُّرًا وتأثيرًا _ ، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده ، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة . ومِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ ، رِوايةُ " لوليتا " ( 1955 ) ، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف ( 1899 _ 1977 )، وقد تَمَّ تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962 ، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك   ( 1928 _ 1999 ) الذي يَعتبره الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .

     أبرزت الروايةُ مَواضيع مُثيرة للجدل ، ومُنِعَتْ في الكثير مِن البُلْدَان بوصفها تتناول حالةً مُخالِفة للقانون ، وسُلوكًا يُعْتَبَر تَحَرُّشًا جِنسيًّا بالأطفال ، فبطلُ الرواية " هَمْبِرْت هَمْبِرْت " هو أستاذ أدب في مُنتصف العُمر ، مريض بشهوة المُراهقين ، يَرتبط بعلاقة جنسية معَ الفتاة دولوريس هيز ذات الاثنَي عشر عامًا ، بعد أن أصبحَ زَوْجًا لأُمِّهَا ، و " لوليتا " هو لقب دولوريس الخاص .

     يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على السَّرْد الذاتي ، حيث يقوم " همبرت همبرت " بسرد قِصَّته معَ دولوريس مِن جانب واحد ، كاشفًا عن مشاعره الذاتية وأحاسيسه الشخصية ، مُحَاوِلًا كسب تعاطف القارئ ، وهذه العلاقة المتوترة تنتهي بشكل مأساوي . وقَد قَدَّمَت الروايةُ تحليلًا نَفْسِيًّا للهَوَسِ الجِنسي بالصغيرات (البيدوفيليا ) . وصارتْ " عُقْدَة لوليتا " ( عُقْدَة الحِرمان الكبير ) مِن أشهر العُقَد النَّفْسِيَّة بَين المُراهِقَات ، وهي وُقوع الفتاة في حُب رَجُل يَكْبُرها بِضِعْفِ عُمرها على الأقل ، أوْ في عُمر أبيها ، لَيْسَ هذا فقط ، بَلْ إنَّها كذلك تُحاول لَفْتَ نَظَرِه وَجَذْبَ انتباهِه بِكُلِّ مَا تَملِكه مِن قُدرة على فِعْل ذلك . وغالبًا مَا يَكُون السببُ وراء ذلك هُوَ حِرمانها مِن والدها في الطفولةِ ، أوْ فِقْدَانها لاهتمامه . وبما أنَّها لَمْ تَجِد الاهتمامَ داخل البَيْت ، فإنَّها تَبحَث عَنه خارج البَيْت . وهذا دائمًا يَرجِع إلى أسباب نَفْسِيَّة عِند الفتاة أوْ أسباب اجتماعية تَتَعَلَّق بالمَادَّة . والجديرُ بالذِّكْر أنَّ مَلْءَ الفراغ العاطفي يَبدأ مِن داخل الإنسان . ومِن أبرز الأمثلةِ على تأثير عِلْمِ النَّفْسِ في التاريخِ ، نظريةُ التَّحَدِّي والاستجابةِ ، التي وضعها المُؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي (1889_ 1975 )، وهو مِن أشهر المُؤرِّخين في القرن العشرين، ويُعْتَبَر أهَمَّ مُؤرِّخ بحث في مسألة الحضارات بشكل مُفصَّل وشامل . ويُفَسِّر توينبي نُشُوءَ الحَضارات الأُولَى ، أوْ كما يُسَمِّيها الحضارات المُنقطعة ، مِن خلال نظريته الشهيرة الخاصة بـ " التَّحَدِّي والاستجابة " التي يَعترف بأنَّه اسْتَلْهَمَهَا من عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي ، وعلى وَجه الخُصُوص مِن عَالِم النَّفْس السويسري كارل يونغ (1875_ 1961) مُؤسِّس عِلْم النَّفْس التَّحليلي.ويَقُول يونغ إنَّ الفَرْدَ الذي يَتعرَّض لصدمة قَد يفقد توازنه لفترة ما، ثُمَّ قَد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة : أ _ استجابة سلبية : تَتَمَثَّل في النُّكُوصِ والرُّجُوعِ إلى الماضي والتَّمَسُّك به ، ومُحاولة استرجاعه واستعادته تعويضًا عن واقعه المُرِّ في مُحاولة يائسة،فَيُصبح الفردُ مُتَوَحِّدًا انعزاليًّا انطوائيًّا. ب_ استجابة إيجابية : تَتَمَثَّل في تَحَدِّي الواقع والاعتراف بالصدمة ومُحاولة التَّغَلُّب عليها ، فَيُصبح الفردُ مَرِنًا تفاعليًّا انبساطيًّا.

     إنَّ " التَّحَدِّي والاستجابة " نظرية في التاريخ، اقْتَبَسَهَا توينبي مِن عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي ( العِلْم الذي يَدرس العلاقةَ بين العقلِ والسُّلُوكِ مِن أجْلِ اكتشافِ أنماطِ السُّلُوكِ وخَصائصِ الأفعالِ ) ، وقامَ بتطبيقها على الأُمَمِ والحضاراتِ ، فالأُمَمُ حِين تَتَعَرَّض للمخاطرِ العظيمةِ والأزماتِ الشديدة، وتَكُون هي الحَلْقَةَ الأضعف ، ويَكُون تَوَازُن القُوى في غَيْرِ مَصلحتها ، فإنَّها تَعُود إلى تُراثِها الحضاري ، وذاكرتها المَاضَوِيَّة ، في مُحاولة لاستجماعِ قُوَّتها ، واستنهاضِ قُدرتها على مُواجهة التَّحَدِّي ، فالتاريخُ لا يُمكِن استرجاعُه إلا بشكل تَمَاثُلِي أوْ تَشَابُهِي ، ولا يُمكِن استعادته إلا كَمَأسَاةٍ أوْ مَلْهَاةٍ . والحضارات _ حَسَب نظرية توينبي _ تَصْعَد أوْ تَسْقُط على قَدْرِ استجابتها للتحدياتِ والأزماتِ التي تُواجهها، فإمَّا أن تَنكمش على ذاتها ، وتَتَقَوْقَع على نَفْسِها ، وتَنسحب مِن الحياة، وتَرْجِع إلى الوراء ، وإمَّا أن تَتَحَدَّى الواقعَ بالإبداعِ والابتكارِ في مُحاولة مِنها لتجاوزه ، وصناعة واقع جديد مُنَاسِب لِمُتَطَلَّبَاتِ العَصْرِ ومُقتضياته .

22‏/05‏/2024

فلسفة الواقعية السحرية

 

فلسفة الواقعية السحرية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..........................

     إنَّ الواقعية السِّحْرية لَيْسَتْ تَيَّارًا أدبيًّا يَجْمَع بَين الواقعِ والخَيالِ ضِمْن إطار إبداعي فَحَسْب ، بَلْ هِيَ فلسفة إنسانية مُتكاملة تَرْمي إلى اكتشاف العناصر الغامضة في الواقع المُعاش ، والانقلابِ عليه ، وإعادة إنتاجه أفقيًّا وعَمُوديًّا ، مِن أجل تَحويلِ العناصر الرُّوتينية إلى رُموز عجائبية ، ونَقْلِ الأنساقِ الحياتية مِن الرَّتابة الخاضعة للزمنِ والمكانِ إلى السِّحْرِ السائلِ في التراكيبِ اللغوية العابرةِ للتَّجنيسِ والحُدودِ. وبالتالي، تَصِير الأبجديةُ زمنًا مُتَدَفِّقًا ومَكانًا غامضًا ، يَلِد نَفْسَه بِنَفْسِه، ويتكاثر في آلِيَّاتِ الفِعْلِ الإبداعي ، وأدواتِ التَّعبير الفَنِّي ، فتنتقل الاستعاراتُ البصرية مِن المَلَلِ المَحصورِ في النظام الواقعي المادي الاستهلاكي إلى الدَّهشةِ الباعثةِ للأحلامِ المَكبوتةِ والذكرياتِ المَنسيَّةِ والرَّغَبَاتِ المَقموعة ، فَيُصبح الواقعُ الساكنُ وقائعَ عجائبية مُتحركة شكلًا ومَضمونًا ، ويُصبح الإنسانُ تاريخًا لانبعاثِ الحَيَوَاتِ السِّرِّيةِ مِن أعماقه السحيقة ، ونُقْطَةَ الارتكازِ في عملية الاندماج بين الماضي والحاضرِ والمُستقبَلِ . وإذا صَارَ الإنسانُ تاريخًا مُتَوَاصِلًا بلا قطيعة معرفية ، فإنَّ الوَعْيَ الإنساني سَينتقل مِن التَّكرار القاتلِ لِعُذوبةِ الرُّوحِ وتَدَفُّقِ الشُّعُورِ إلى التَّوليدِ الرُّوحي المُستمر للأحداثِ والوقائعِ . وإذا صارَ الواقعُ سِحْرًا دائمًا بلا انكسار شُعُوري ، فإنَّ بُنية الحضارة ستنتقل مِن كَينونةِ الزَّمَنِ المُستعارِ إلى كِيَانِ الحُلْمِ المُستعادِ .

     إذا كانَ الإنسانُ هُوَ الساحرَ الذي يُنَقِّب عَن وجهه بَيْن الأقنعةِ ، ويَبحَث عَن الأحلامِ الوَرديةِ في الواقعِ الجريحِ ، فإنَّ الواقعية السِّحرية هي انقلابُ السِّحْرِ على الساحر ، وهذا الانقلابُ لا يَكُون دمويًّا ولا مُتَوَحِّشًا ، لأنَّ الهدفَ مِنْه هُوَ إحلالُ الحِبْرِ مَكانَ الدَّمِ ، وتَتويجُ القَلَمِ سَيْفًا على الأوهامِ لا سَيْفًا على الرِّقَابِ ، وقَتْلُ الوَحْشِ داخل الإنسان ، ولَيْسَ قتل الإنسان . وبالتالي ، يُصبح العملُ الأدبي عمليةَ حَفْرٍ في الأحلامِ الورديةِ والحُلُولِ السِّحْريةِ في رُوحِ الزمنِ وجَسَدِ المكانِ ، ولَيْسَ حاجزًا عسكريًّا بَين الحُلْمِ والكابوسِ ، أوْ نُقْطَة تَفتيش عسكرية في مَسَارِ الفِعْلِ الاجتماعي المُنْدَمِج معَ التجربة الإبداعية الإنسانية . لذلك ، كانت الثقافةُ الحقيقيةُ هِيَ زَمَنَ الخَلاصِ لا زَمَنَ الرَّصَاصِ .

     في أحيان كثيرة ، يَكُون الواقعُ المُعاشُ أكثرَ غُموضًا مِن السِّحْرِ، وأكثرَ عجائبيةً مِن الخَيَالِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحياةَ اليومية كَنْزٌ مِن الأسرار ، يَحتاج إلى بَحْثٍ دائم ، وتَنقيبٍ مُستمِر . واللغةُ هي أداةُ الحَفْرِ في جَوْهَرِ الواقعِ ، وحقيقةِ الحياةِ ، وصُلْبِ المَوضوع . وبِدُون اللغةِ سَيَكُون الإنسانُ شَبَحًا هُلامِيًّا بلا خريطة ولا بُوصلة ، يُشبِه الذاهبَ إلى المَعركةِ بِلا سِلاح . واللغةُ هي مِحْوَرُ التوازن بين السِّحْرِ والساحرِ . وكُلُّ لُغَةٍ تُولَد خارجَ رَحِمِ الدَّهْشَةِ والإبهارِ هِيَ تراكيب مِيكانيكية بِلا رُوح ، وكُلُّ وَاقِعٍ يُولَد خارجَ نِطاق الفِعْل الاجتماعي الإبداعي هُوَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَة. وإذا اجتمعَ الواقعُ واللغةُ في بُنيةِ الوَعْي المَنطقي المُتَسَلْسِل ، صارَ الأدبُ جَسَدًا للخَيَالِ في هُوِيَّةِ المُجتمع ، وصارت الثقافةُ تَجسيدًا للمَعرفةِ الإنسانية في رِحلة البحث عن المَعنى .

     إنَّ السِّحْرَ اللغوي لَيْسَ حُقْنَةً مُخَدِّرَةً في جَسَدِ الواقع ، وإنَّما هُوَ إعادةُ إنتاج مَعرفي للتاريخِ والجُغرافيا والذكرياتِ ، بِحَيث تُصبح نَقْدًا عقلانيًّا لتفاصيلِ المُجتمع الحَيِّ والحُرِّ ، وكَشْفًا للصِّرَاعَاتِ المُستترة في أعماقِ النَّفْسِ الإنسانية. والسِّحْرُ اللغوي هُوَ القُوَّةُ الدافعة للتَّعبير الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ، الذي يَعمل على عَقْلَنَةِ الأُسطورةِ وأنْسَنَتِهَا ( جَعْلِها عَقلانيةً وإنسانية ) مِن أجل نَقْلِ الزمنِ مِن طَبيعةِ الواقعِ إلى رمزية الوُجودِ ، ونَقْلِ المَكانِ مِن زاوية الرُّؤيةِ إلى رُؤيةِ الحُلْمِ .

     والتَّعبيرُ الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ يُمَثِّل صِياغةً جَديدةً لإرادةِ المَعرفةِ ، بِحَيث تُصبح طريقةً لتحليل الدَّورِ الوظيفي للإنسانِ في الحياة ، وتَرتيبِ تفاصيل الحياة ضِمْن نظام تَرَاتُبي مِن التجارب الشُّعوريةِ والأدبيةِ ، يَسْتَنْبِط العناصرَ الخياليةَ المُتشظية مِن الواقع المادي المُنكمِش على نَفْسِه بِفِعْلِ ضَغط النظامِ الاستهلاكي . وبالتالي ، تُصبح الواقعيةُ السِّحرية عملية إحلال لتجربةِ الكِتابة الرُّوحية الإبداعية مَكَانَ النَّسَقِ الماديِّ الوظيفي الذي يَسْحَق رُوحَ الإنسانِ ، ويُعيد هَندسةَ مَشاعرِه وأحاسيسِه بشكل مِيكانيكي آلِيٍّ ، بِحَيث يُصبح الإنسانُ سِلْعَةً ضِمْن قانونِ العَرْضِ والطلبِ ، وشَيْئًا مِن الأشياءِ المَسحوقةِ بِلا هُوية مَعرفية . وأهميةُ الواقعيةِ السِّحْرية تَكْمُن في أمْرَيْن: تَفجير الطاقةِ الرمزية في اللغة،وتَجديد شَبابِ اللغةِ. وهاتان العَمليتان تَحْدُثان بشكل تَزَامُني ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى احتراقِ المُبْدِعِ ذاتيًّا كَي يُضِيءَ العناصرَ المُحيطة به . وعمليةُ الاحتراق الذاتي تَشْمَل الأحلامَ والذكريات، وتُولِّد طاقةً معرفية قادرة على جمع شظايا قلب المُبْدِعِ. وهكذا، ينبعث المُبْدِعُ مِن احتراقِه، ويُولَد مِن مَوْتِه . وفي هذه الرحلة، ينبغي أن يَجِد المُبْدِعُ نَفْسَه خارج نطاق الأقنعة ، وخارج نُفُوذ المرايا ، لأنَّ التَّقَمُّصَ والتقليدَ يَقتلان رُوحَ الإبداعِ ، ويُحوِّلان النَّصَّ إلى نُسخة مُقَلَّدَة ومُزَوَّرَة ، وقيمةُ المُبْدِعِ تَتَجَلَّى في صَوْتِه الخاص المُتَفَرِّد . وإذا تَحَوَّلَ إلى صَدى سَيَفْقِد سُلطته الاعتبارية ، ويَفْقِد النَّصُّ مَركزيته الأدبيةَ . والواقعيةُ السِّحْريةُ لَيْسَتْ عمليةَ رَش للسُّكَّرِ على مَوْتِ الواقع ، وإنَّما هي منظومة لِجَعْلِ الأحلامِ مَرئيةً في مَرايا الحياةِ اليوميةِ ، وخرائطِ النَّفْسِ الإنسانية ، مِن أجْلِ تَحريرِ التجاربِ الإبداعية مِن سَوداويةِ الواقعِ ، وتحقيقِ التوازنِ بَين الألَمِ والأمَلِ .

21‏/05‏/2024

قصتي مع ميادة الحناوي

 

قصتي مع ميادة الحناوي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................

   بدايةً ، ينبغي أن أقول إِنني لا أعرف المطربة السورية ميادة الحناوي شخصياً ، ولم ألتقِ بها في حياتي . لكنَّ قصتي معها لا تزال محفورة في ذاكرتي ، وهي قصة غريبة وحقيقية في آنٍ معاً .

     في عام 1998 ، كُنتُ طالباً في الصف العاشر . وكان مُعلِّم اللغة العربية يشرح قصيدة أبي العلاء المعري الشهيرة التي مطلعها : غَيْرُ مُجْدٍ في مِلَّتي واعتقادي ... نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنُّمُ شادِ . واصلَ المعلِّم الفاضل شرحه حتى وصل إلى البيت : أبَكَت تِلْكُمُ الحمامةُ أَم غَنَّت ... على فَرْعِ غُصنها الميَّادِ . ثُمَّ قال : ما معنى كلمة" الميَّاد" ؟ . وما إِن سمعتُ السؤال حتى تبادرَ إلى ذِهني اسم " ميادة الحناوي " ، لأن الكلمة ذات معنى واحد . فالغُصن الميَّاد هو المائل . ومادت المرأة أي : مالت وتبخترت كما يَميد الغُصن .

     لقد تَهَوَّرْتُ وارتكبتُ الخطأ الكبير ، وقلتُ بكل طَيش ورُعونة : (( ميادة الحناوي ! )) . صُعق المعلِّم من هذا الرَّد ، لكنَّه لَم يَعرف الطالب الذي تَفَوَّه بهذه الكلمة ، فقال مُخاطباً طلاب الصف كلهم _ وكانوا تقريباً ثلاثين طالباً_: (( مَن الذي قال هذه الكلمة ؟ )). رَفعتُ يدي بخجلٍ شديد، وقُلتُ: (( أنا )). فما كان مِن المعلِّم إلا أن قال : (( اطلع بَرّه ! )) .

     لقد طردني من الصف . وهذه كانت أول مرَّة في حياتي الدراسية يتم طردي مِن الصف _ وقد كانت الأخيرة والحمد للَّه _ . خرجتُ أجرُّ أذيال الخيبة والعار أمام طلاب الصف . وقد أثَّرَ فِيَّ هذا الموقف كثيراً ، فقد كُنتُ طالباً مجتهداً وذا أخلاق حسنة ، ومحط أنظار المعلِّمين . لكني ارتكبتُ خطأ كبيراً ، وما زِلتُ نادماً عليه حتى هذه اللحظة .

     هذه الحادثة الحقيقية لا تزال تسيطر على تفكيري رغم مرور كُل هذه السنوات. وقد اقترنَ طَرْدي من الصف باسم "ميادة الحناوي". صحيح أن الذَّنْب ذَنْبي، ولا أدافع عن نَفْسي، ولا أُبرِّر الخطأ الذي ارتكبته،ولا ذنب لميادة الحناوي في موضوعي الشخصي، لكن ذنبها أكبر من قصتي.

     إن ميادة الحناوي تَدعم رئيس النظام السوري بشكل أعمى ومُطْلق، وتصفه بالقائد العظيم ، وهو الذي طَرَدَ نِصف الشعب السوري من ديارهم ، ودمَّر حضارةً كاملةً عُمرها آلاف السنين . وهي تُجاهر بهذا الرأي أمام وسائل الإعلام ، ولم نسمع كلمةً منها في الدفاع عن أبناء وبنات شعبها .

     والمضحكُ المبكي أن ميادة الحناوي تُقدِّم نفسها ملكةً للرومانسية والأحاسيس والأغاني العاطفية ، ومَعَ هذا تقف مع الجاني ضِد الضحية . فأينَ المشاعر والأحاسيس والحب الدافئ والكلمات الرقيقة ؟! .

     وقد يقول قائل إن الفنانين السوريين محاصَرون ضمن دائرة حكومية قمعية، فلا يقدرون على تبني قضايا الحرية والعدالة ونقد النظام السياسي خوفاً من اضطهادهم وتعريض حياتهم وأُسرهم للخطر. فنقول إن مشاهير الفن ليسوا أعظم من الشعوب الثائرة التي تُضحِّي بحياتها في سبيل حريتها . فهؤلاء النجوم عليهم أن يساهموا في قيادة حركة الجماهير نحو التحرر لا العبودية . فالفنُّ الحقيقي هو رسالة وموقف ، وله ضريبة ينبغي دفعها. وهذا ليس كلاماً إنشائياً في الهواء . فهذا المعنى جسَّدته الممثلة المصرية الراحلة فاتن حمامة واقعاً ملموساً، وقد دفعت ثمن مواقفها السياسية المعارضة لنظام جمال عبد الناصر ، مِمَّا اضطرها إلى مغادرة مصر عام 1966م ، لكي تظل عَصِيَّةً على التدجين .

     فقد سعت المخابرات المصرية في الستينات لتجنيد فاتن حمامة والعديد من الفنانات والفنانين، ولم تنجح بذلك مع فاتن حمامة بالرغم من الشائعات والضغوطات التي مارستها. وبعد جهد طويل وقرارات حظر السفر ومنع فاتن حمامة من المشاركة بالمهرجانات، استطاعت السَّفرَ خارج مصر . وبالرغم من طلب جمال عبد الناصر من المشاهير إقناعها للعودة إلى مصر ، ووصفها بأنها " ثروة قومية" إلا أنها عادت عام 1971 ، بعد وفاة عبد الناصر . واتجهت بعد ذلك لتجسيد أدوار نسائية ذات طابع نقدي وتحمل رموزًا ديمقراطية كما حدث في فيلم "إمبراطورية ميم"( 1972). والكثيرون أَبَوْا أن يكونوا أبواقاً جَوفاء، وقد دفعوا ثمن مواقفهم ، لأن الفن _أولاً وأخيراً_ هو التزام فكري أخلاقي وليس صفقة انتهازية .

     وإذا كانت ميادة الحناوي لا ذَنْبَ لها في طَرْدي من الصف أيام المدرسة ، إلا أنها مُذنبة بحق الشعب السوري الذي صار مصيره محصوراً بين القتل أو التهجير .

16‏/05‏/2024

العشق وسنوات الرصاص

 

قصيدة/ العشق وسنوات الرصاص

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

وَقَعَت الدُّموعُ مِن عَرَبَاتِ القِطارِ

وَالمَوْجُ فَقَدَ قُدْرَتَهُ عَلى الكَلامِ

لَم يَعُدْ لأبجدِيَّةِ البَحْرِ نَشيدٌ إِلا الكُوليرا

أرْجُوكَ أيُّها النِّسيانُ

اقْتُلْ طَيْفَ النِّساءِ في ذَاكرةِ أشلائي كَي أستطيعَ النَّوْمَ

إنَّ الأمواتَ يَنتظِرُونني في الصَّباحِ

أركضُ إلى ضَريحي في لَيالي الشِّتاءِ

ولا شَيْءَ يُضِيءُ شَراييني المُعْتِمَةَ سِوى وُجوهِ الغُرَبَاءِ

أيُّها الخَوْخُ الذي يَنْمُو في ثُقوبِ رِئتي

أيُّها النَّمْلُ الذي يَخْرُجُ مِن شُقوقِ جِلْدي

مَن أنا ؟

هُوِيَّتي الشَّخصيةُ هِيَ مِقْصَلَتي

وَجِنْسِيَّتي هِيَ أعشابُ المقابرِ

فَلا تَكْرَهْني يا أبي

هَرَبَ الجنودُ مِنَ المعركةِ

كَي يَكْتُبوا دُستورَ الوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ

والعَاطِلُونَ عَنِ العَمَلِ يَكْتُبُونَ الرَّسائلَ الغرامِيَّةَ لِبَناتِ آوَى

والمساءُ يُذَوِّبُ الأوسمةَ العَسكرِيَّةَ في عَصيرِ البُرتقالِ

إِذا كانَ هَذا الحُبُّ القَاتِلُ هُوَ حَياتي

فَمَتَى أعِيشُ يا تِلالًا وَلَدَتْني وَوَأَدَتْني ؟

لَم يَعُدْ في المدينةِ بَشَرٌ كَي يُقْتَلُوا

فَمَا مَعْنَى أن يَحِنَّ النَّهْرُ إلى أرْمَلَتِهِ ؟

كُلُّنا فَرائِسُ لِوَحْشٍ غَامِضٍ يُولَدُ فِينَا

والمَزْهَرِيَّاتُ مُسْتَوْدَعٌ لِدُموعِ النِّساءِ في المساءِ السَّحيقِ

والمرايا صَوْمَعَةٌ لأسرارِ القَتْلَى في لَيالي الخريفِ

تُحَدِّدُ السَّناجبُ مَوْعِدَ شَنْقِ الأشجارِ

وَلَم تَعُدْ في أجفاني نَوَارِسُ

لأنَّ رَمْلَ البَحْرِ عَلى فِرَاشِ الموْتِ

وصَوْتُ النِّساءِ البَاكياتِ حَوْلَ جُثةِ القَتيلِ

يَكْسِرُ ذَاكرةَ العصافيرِ السَّجينةِ في قَفَصي الصَّدْرِيِّ

فَمَا فَائِدَةُ النَّظاراتِ الشَّمْسِيَّةِ وشَمْسُ القُلوبِ غَابَتْ ؟

مَا فائدةُ أسوارِ المقبرةِ والسَّنابلُ في شَراييني مَاتَتْ ؟ .