سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] الديانات في القرآن الكريم [16] بحوث في الفكر الإسلامي [17] التناقض في التوراة والإنجيل [18] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [19] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [20] عقائد العرب في الجاهلية[21]فلسفة المعلقات العشر[22] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [23] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [24] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [25]مشكلات الحضارة الأمريكية [26]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[27] سيناميس (الساكنة في عيوني)[28] خواطر في زمن السراب [29] فلسفة المتنبي الشعرية [30] أشباح الميناء المهجور (رواية)[31]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/08‏/2025

فلسفة العبث عند ألبير كامو

 

فلسفة العبث عند ألبير كامو

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...............


يُعْتَبَر الأديبُ والفَيلسوفُ الفرنسي ألبير كامو ( 1913_ 1960 / نوبل 1957 ) ، ثاني أصغر حائز على جائزة نوبل للآداب بعد الكاتب البريطاني كِبلنغ ، كما أنَّه أصغر مَنْ مَاتَ مِنْ كُلِّ الحائزين على جائزة نوبل للآداب .

تنقسم أعمال كامو إلى مجموعتَيْن أسماهُما : حَلْقة التَّمَرُّد ، وَحَلْقة العَبَثِ ، فَكَانَ أوَّلَ مَنْ أطلقَ تَسمية   " العَبَث " التي صارت تيارًا أدبيًّا وفلسفيًّا نالَ شُهرةً كبيرةً في الخَمْسِينِيَّات مِنَ القَرْنِ العِشرين .

والعَبَثُ وَفْق مَنظورِ كامو هُوَ شُعُورُ القَلَقِ المُتَوَلِّد عن الإحساس بِوَطأةِ التاريخ . هذا الإحساسُ بعبثية الحياة يُولِّد التَّمَرُّدَ الذي يُمْكِن أن يَكُونَ فرديًّا في بداية الأمر ، ثُمَّ يَتَحَوَّل إلى تَمَرُّد جَمَاعِيٍّ .

تَمَرَّدَ كامو على آليَّة الحياة المِيكانيكية،فالإنسانُ يَعِيشُ على وَتِيرة واحدة إلى أنْ يَصْحُوَ يَومًا، ويَشْعُر بأنَّه غريب ووحيد في هذا العَالَمِ ، وأنَّ الزمن هو العَدُوُّ الذي يُبدِّد جُهُودَه ، ويَرْمِيه في أحضانِ الموت . وهَذه هي الحقيقة التي يُفْتَرَض أنْ يَتَصَدَّى لها هذا الإنسانُ ، فلا أخلاقياتُه ولا جُهوده ولا ذكاؤه ، تُجْدِي نَفْعًا أمامَ هَذا العَالَمِ العَبَثِيِّ المَلِيء باللاعَقْلانيين .

والحُرِّيةُ التي يَظُنُّ أنَّه يَتَمَتَّع بِها وَهْمِيَّة ، فَهُوَ عَبْدٌ للأحكامِ المُسْبَقَةِ والعاداتِ ، وَتَبْقَى العَلاقاتُ البشرية زائفة، والتواصلُ مَفقودًا، وسُوءُ الفَهْمِ هُوَ المُسَيْطِر، فتزداد الفَجْوَةُ بَين الناس . والإنسانُ الصامتُ هُوَ الضَّحِيَّةُ والمُجْرِمُ المُدَان .

لَقَدْ ثارَ كامو على الأعرافِ والأيديولوجيات القائمة على الاستعبادِ والتَّخويف ، كما نَدَّدَ بأُسطورة التطوير والتَّقَدُّم التي تَخْدَع الناسَ مُتَذَرِّعة بِوُعود مُسْتقبلية ، لِتَبريرِ ظُلْمِ الحاضر، وشَرْعَنَةِ الرُّضوخِ والاستسلامِ ، بَدَلًا مِنْ إيجاد ظُروف أفضل. وَكَرِهَ كامو الهُروبَ أو الانتحار، وَوَجَدَ نَفْسَه في التَّمَرُّدِ على القِيَمِ الاجتماعيةِ والعَقائدِ الدِّينية ، وكذلك في مُواجَهة المَوْت ، وَتَقَبُّلِ الوَضْعِ الإنسانيِّ دُون عَقْد الآمال على الغَدِ أوْ عَلى حَياةٍ أُخْرَى .

أمَّا السُّؤالُ الأساسيُّ الذي تطرحه أعمال كامو : هَل الحَياةُ جَديرةٌ بأنْ تُعَاش في ظِلِّ صَمْتِ العَالَمِ ؟ . ومَعَ أنَّه رَفَضَ إعطاءَ جَوَابٍ مُتكامِل عن ذلك، إلا أنَّه أوْحَى بأنَّه يُمْكِن للإنسان تَجَاوُز عَبَثِيَّة الحَياةِ مِنْ خِلال وَعْيِه وَتَمَرُّدِه المُسْتَمِيت .

وَتُعَدُّ فَلسفةُ كامو عَن العَبَثِ المُرتبطة بِمَفهومِ انعدامِ المَعنى الجَوهريِّ للحَيَاةِ أساسيَّةً لِفَهْمِ أعمالِه، وَهُوَ يَرى أنَّ تَقَبُّلَ العَبَثِ يُفْضِي إلى التَّمَرُّدِ والحُرِّيةِ الشَّخصية . وتُشيرُ مُلاحظته الشَّهيرة : " لا شَمْسَ بِلا ظِل ، وَمِنَ الضَّروريِّ مَعرفةُ الليلِ " إلى أنَّ الفَهْمَ الكاملَ للحَياةِ يَتَطَلَّبُ الاعترافَ بالفَرَحِ والمُعَاناة .

اعتقدَ كامو أنَّ العَبَثِيَّةَ تَنْبُعُ مِنَ المُواجهةِ بَيْنَ شَوْقِ الإنسانِ وَصَمْتِ العَالَمِ . وكانَ يُؤْمِنُ بأنَّ البَشَرَ لَيْسُوا عَبَثِيِّين بطبيعتهم ، بَلْ إنَّ الشُّعُورَ بالعَبَثِ يَنْبُعُ مِنْ عَلاقتهم بالعَالَمِ ، وَيَحْدُثُ عِندَما يَكُون هُناك تَنَاقُض بَيْنَ مَا يُريدونَه أوْ يَتَوَقَّعُونه مِنَ الحَيَاةِ ، وَمَا يُقَدِّمُه العَالَمُ لَهُم بالفِعْلِ . فالبَشَرُ يُنَاضِلُون في سَبيلِ إيجادِ مَعْنى في هَذا العَالَمِ ، بَيْنَمَا لا يَجِدُون مِنَ العَالَمِ في المُقَابِلِ سِوَى الإهمالِ والصَّمْتِ .

في فَلسفةِ كامو يَنْشَأ مَفهومُ " البَطَل العَبَثِي" مُجَسِّدًا التَّوَتُّرَ العَميقَ بَيْنَ الرَّغَبَاتِ الإنسانيةِ ولامُبَالاة العَالَمِ. البَطَلُ العَبَثِيُّ يُدْرِكُ تَمَامًا هَذا الصِّرَاعَ الجَوهريَّ ، فَهُوَ يُدْرِكُ أنَّه بَيْنَما يَسْعَى البَشَرُ بطبيعتهم إلى المَعنى والهَدَفِ ، فإنَّ العَالَمَ لا يُقَدِّمُ أيًّا مِنْهُمَا ، ومعَ ذلك ، بَدَلًا مِنَ الاستسلامِ لليأسِ ، أو التَّمَسُّكِ بآمالٍ زائفة ، يَختار أنْ يَعيشَ مُدْرِكًا تَمَامًا لِهَذا التَّنَاقُضِ .

رَأى كامو أنَّ الحَيَاةَ قائمةٌ عَلى العَبَثِ ، وَهَذه بِداية الانطلاقة الجديدة للحَيَاةِ ، وَلَيْسَتْ نِهايتها . وَقَد اعتمدَ على أفكارِ المَدارسِ الفَلسفيةِ المُعَاصِرَة في تَفسيرِ ماهيَّةِ العَبَثِ ، وَتَوَصَّلَ إلى مَفهومِ "الشُّعور العَبَثي"،حَيْثُ اعْتَبَرَ أنَّه يَظْهَر عَلى أساسِ التناقضِ بَيْنَ الإنسانِ والمُحِيطِ الخارجيِّ. ففي حالِ تَمَكَّنَ الإنسانُ مِنْ تَفسيرِ العَالَمِ تَفسيرًا مُقْنِعًا ، يُصْبح هَذا العَالَمُ في نَظَرِهِ مَفهومًا وَمَقبولًا إلى حَدٍّ مَا ، ولكنْ حِينما يُدْرِك الإنسانُ وَهْمَ هَذا التفسيرِ ، سُرعان مَا يَشْعُر عَلى الفَوْرِ أنَّه غريبٌ في العَالَمِ ، فَيَشُكُّ في مَعنى الحَياةِ وَجَدْوَى أنْ يَعيشها ، وهُنا يَتَوَلَّد الشُّعورُ العَبَثيُّ .

وَقَدْ فَسَّرَ كامو العواملَ الخَاصَّة المُتعلقة بهذا الشُّعور ، مُعْتَبِرًا أنَّ العَبَثَ يَتغلغل في وَعْي الإنسانِ فَجْأةً في اللحظةِ التي يَشْعُر فيها الإنسانُ بالفَراغ ، وَيَحُسُّ بالإرهاقِ مِنَ الوُجودِ اليَوْمِيِّ أو الحَيَاةِ اليَوْمِيَّة ، لأنَّ الوَعْيَ في هَذه اللحظة يَتَوَقَّف عَن استيعابِ الغايةِ مِنْ هَذه الحَياةِ اليوميةِ، وتَنقطع سِلسلةُ التَّصَرُّفاتِ الاعتيادية والرُّوتينية.

وإحساسُ الإنسانِ بِغُربته في العَالَمِ المُحيطِ مُرتبط بِعَبَثِ الوُجود ، وبالإضافةِ إلى هَذا ، فإنَّ الإنسانَ يُخْفي في داخلِه شيئًا مِنَ اللاإنسانية التي تَظْهَر في تَصَرُّفَاتِه وَحَرَكَاتِه ، وهَذه اللإنسانيةُ تَكْشِفُ الوَجْهَ الحقيقيَّ للإنسانِ، وهُنا يَتَجَلَّى العَبَثُ مَعنويًّا ومَاديًّا . واعْتَبَرَ كامو أنَّ العَبَثَ لا يَختبئ في الإنسانِ ، ولا في العَالَمِ ، وإنَّما في اختلاطِهما ، فَيُصْبح العَبَثُ هُوَ الخَيْطَ الوَحيدَ المُشترَك بَيْنَهما ، ثُمَّ طَوَّرَ هَذه الفِكرةَ ، فَتَوَصَّلَ إلى نَوْعٍ مِنَ الاتِّحادِ الثُّلاثيِّ : العَبَثُ وَالوَعْيُ الإنسانيُّ والعَالَمُ . تُوُفِّيَ كامو في حادث سَيَّارة عَنْ عُمر يُنَاهِز 46 عامًا ، والعجيبُ أنَّه كانَ قَدْ عَلَّقَ في أوائل حَياته الأدبية أنَّ أكثر مَوْتٍ عَبَثي يُمْكِن تَخَيُّله هُوَ المَوْت في حادث سَيَّارة ! .

22‏/08‏/2025

البنية النفسية في أدب الرعب

البنية النفسية في أدب الرعب

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

........................


     أدَبُ الرُّعْبِ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ يَهْدِفُ بواسطة مَجموعة مِنَ الأحداثِ المُتشابِكةِ والمَواضيعِ المُثيرةِ وَالمُفَاجآتِ الصَّادمةِ، إلى إثارةِ مَشاعرِ الخَوْفِ والرَّهْبَةِ لَدَى القارئِ مِنْ خِلال قِصَص عَن الأشباحِ ، أوْ مَصَّاصِي الدِّمَاءِ ، أو الكائناتِ الغريبة ، أو العناصر الخارقة للطبيعة ، أو القُوى الشِّريرة ، أو الأحداث العنيفة المُرَوِّعَة ، أو الشَّخصيات الشَّاذَّة .

     وأدبُ الرُّعْبِ مُرتبطٌ بالنَّوَاحي النَّفْسِيَّةِ في الإنسانِ ، لذلك يَعْتمد على التَّشويقِ والغُموضِ ، لجعلِ القارئِ في حالةِ قَلَقٍ دائمٍ ، وَتَرَقُّبٍ لِمَا سَيَحْدُث . كما أنَّه يَستكشف الجوانبَ المُظْلِمَةَ في النَّفْسِ البشرية ، مِثْل : الشَّر ، والفَسَاد ، والخَوْف مِنَ المَجهول، ويَتلاعب بِمَشاعرِ القارئِ وأحاسيسِه ، حَيْثُ تَتِمُّ إثارتُه عاطفيًّا بتوظيفِ الأحداثِ المُشَوِّقَةِ والمُرْعِبَةِ في القِصَّة ، ويُركِّز عَلى إثارةِ الخَوْفِ وَبَثِّ الرُّعْبِ عَنْ طَريقِ استكشافِ العُقَدِ والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّةِ للشَّخصياتِ، مِثْل: الجُنون، والقَلَق ، والاكتئاب ، والوَسْوَاس ، كما يُركِّز عَلى الخَوْفِ مِنَ الكائناتِ غَيْرِ البشرية والأمورِ الغامضةِ التي تتَجاوز فَهْمَ الإنسانِ ضِمْن أجواء مُظْلِمَة وأماكن مَهْجُورة .

     إنَّ البُنية النَّفْسِيَّة في أدَبِ الرُّعْبِ تَقُومُ عَلى حقيقة مُفَادها أنَّ شُعورَ الخَوْفِ مِنَ المَجهولِ رَاسِخٌ في الإنسانِ فِطْرِيًّا ، وَمُتَجَذِّرٌ فِيه غَريزيًّا ، وثابتٌ في عَقْلِه وتَفْكيرِه وأعماقِه . وهَذا الخَوْفُ قَدْ يَدْفعه إلى التَّعَلُّقِ بالأوهامِ والخَيَالاتِ وَالحِرْصِ عَلى مَعرفةِ الغَيْبِ ، وَالغَريقُ يَتَعَلَّقُ بِقَشَّةٍ .

     وَأدَبُ الرُّعْبِ فَقَدَ هُوِيَّتَه معَ مُرورِ الزَّمَنِ ، وَتَحَوَّلَ مِنْ إشاعةِ أجواءِ الخَوْفِ والتَّوَتُّرِ خِلال الأحداث التي يُواجهها أبطالُ أيِّ عَمَلٍ، إلى الاعتمادِ عَلى المَشاهدِ العنيفة ، مِنْ قَتْلٍ ، واختطافٍ ، وَتعذيبٍ ، وإراقةِ دِمَاء ، واغتصابٍ بطريقة وَحْشِيَّة ، وَتَنْكِيلٍ بالجُثَثِ ، وغَيْر ذلك .

     وَقَدْ عَزَّزَ هَذا التَّحَوُّلَ الناشرون الطامحون إلى تحقيق أعلى المَبيعات ، وَجَنْيِ الأموالِ الطائلة ، وَصُنَّاعُ السِّينما المُتَخَصِّصُون في أفلامِ الرُّعْبِ، والذينَ يَسْتَغِلُّونَ الإضاءةَ الغريبةَ،والمُؤثِّراتِ الصَّوتية غَيْر الطبيعية والمُبَالَغ فِيها ، لإثارةِ الخَوْفِ والفَزَعِ عِندَ المُشَاهِدِين. والسِّينما تَجْعَلُ المُستحيلَ يَحْدُثُ أمامَ عُيونِنا ، وَهِيَ قادرةٌ على تَحويلِ الكَلامِ والحِوَارِ إلى خَيَالاتٍ بَصَرِيَّة ، وَتَقْدِيمِها بشكلٍ مُثير للاهتمام ، لِتَحقيقِ المُتعةِ أوْ تَكريسِ الخَوْفِ .

     يُعْتَبَر الكاتبُ الأمريكيُّ ستيفن كينغ ( وُلِدَ 1947 ) أعظم رِوائي في مجالِ أدَبِ الرُّعْبِ في التاريخِ عَلى الإطلاقِ . يُلَقَّبُ بـِ " مَلِك الرُّعْب " ، وَهُوَ الكاتبُ الذي مَلَأَ السِّينما رُعْبًا . وَقَدْ وُصِفَ بأنَّه " الأيقونة الأدبية الحَيَّة الأُولَى للرُّعْبِ ، والكاتب الذي كانَ لَهُ دَوْرٌ في تَشكيلِ كَوابيسِنا " .

     اشْتُهِرَ برواياتِه التي تَتَمَيَّزُ بإثارةِ الرُّعْبِ، والتَّشويقِ العميق.وأصبحَ عَلَامَةً فارقةً في هَذا النَّوْعِ الأدبيِّ ، حَيْثُ جَذَبَ مَلايين القُرَّاء إلى عَوالمِه المُخِيفة .

     أوَّل قصة قصيرة باعها كينغ لإحدى المجلات، كانت " الأرض الزُّجاجية " في عام 1967 ، لكنَّ أول رواية كتبها كانت " كاري"، والتي تَتَحَدَّث عَنْ فَتاة غريبة الأطوار تَمتلك قُدرةً عَلى تَحريك الأجسام عَنْ بُعْد . وكان يكتب هذه الرواية كوسيلة لقتل وقت الفراغ لَدَيْه ، ولكنْ حِينَ عَرَضَها على إحدى دُور النشر في ربيع 1973 قامت الدار بنشرها على الفَوْر ، وأمام آراء النُّقَّاد المُنبهرة بهذه الرواية ، عَرَضَ عَلَيْه مُديرُ تحرير الدار تَرْكَ مِهنته في الجامعة كَمُدَرِّس ، والتَّفَرُّغَ للكِتابة تمامًا .

     بَدَأت الصُّعُوباتُ في مُطاردة كينغ ، إذ اضْطُرَّ للانتقال بعائلته إلى جنوب " مين " ( وِلاية تَقَع في أقصى شَمال مَنطقة نيوإنغلاند في شَمال شرق الولايات المُتَّحدة ) ، بَعْدَ أنْ أُصِيبتْ والدتُه بالسَّرَطَان ، وظَلَّ يَرْاعاها طِيلة النهار، بَيْنَما كان يَقْضِي الليلَ في غُرفة صغيرة في جراج المَنزل، يكتب روايته الثانية التي أسْمَاها " العودة الثانية" قَبْل أنْ يُقَرِّر تغييرَ اسْمِها إلى" حشد سالم " ، وفيها يَحْكي عَنْ قَرية مِنْ مَصَّاصي الدِّمَاءِ يَقُوم بزيارتها رَجُلٌ وَطِفْلُه الوحيد . وحين انتهت الرِّوايةُ تُوُفِّيَتْ والدتُه ، فعاد كينغ ينتقل بعائلته ، وعادَ لِتَفَرُّغِه التام للكتابة ، لِينتهيَ في أوائل 1975 مِنْ رِوَايَتَي " الصُّمود " ، و " مَنطقة المَوْت " . أخذتْ رِواياتُ كينغ تتلاحق بِغَزارة غَيْرِ مَسبوقة ،  وَهِيَ رِوايات مِنَ القَطْعِ الكبير ، ولا يَقِلُّ عَدَدُ صَفَحَاتِ الرِّواية عن 700 صفحة .

     كتب كينغ رواية " البريق " ( 1980 ) والتي تَتَحَدَّث عن كاتب مجنون يَقْضِي الشِّتَاءَ مَعَ عائلته في فندق مهجور ، ثُمَّ رِواية " كريستين " التي تتحدث عن سيارة مَسْكُونة ، ثُمَّ بَدَأ في جَمْعِ قِصَصِه القصيرة لِيُنشرها في مجموعات قصصية مِنْ أشهرها " وردية الليل " ، ثُمَّ " أربع دقائق بعد مُنتصَف الليل " . وَتَجَاوَزَتْ مَبيعاتُ كُتُبِه حَوْلَ العَالَمِ أكثرَ مِنْ 350 مَلْيُون نُسْخَة ، وَتُرْجِمَتْ إلى جَمِيعِ اللغاتِ الحَيَّةِ .

     وَقِصَصُ كينغ تَتَضَمَّن شخصيات غَيْر مُتَمَيِّزة، كعائلاتِ الطَّبَقَةِ الوُسطى ، أوْ أطفال ، أوْ في الكثير مِنَ الأحيان مُؤلِّفين . شَخصياتُ قِصَصِهِ مُنخرِطة في الحَياة اليومية ، لَكِنَّ مُؤثِّرات وَتَدَخُّلات فَوْقَ طبيعية وظُروف غَيْر عاديَّة ، تَقُوم بِتَحويلِ مَسَارِ حَيَاتِهِم ، وَتَشْكِيلِ أحداثِ القِصَّةِ الدِّرَامِيَّة .

16‏/08‏/2025

الخيال التاريخي في الرواية الأدبية

 

الخيال التاريخي في الرواية الأدبية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     الخَيَالُ التاريخيُّ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ تَجْري أحداثُه في بيئةٍ مَا تَقَعُ في المَاضِي ضِمْن ظُروفِها الاجتماعية ، وخَصائصِها الحقيقية ، مَعَ الحِرْصِ عَلى بِناء عَالَمٍ تاريخيٍّ يُمْكِن تَصديقُه ، والاهتمامِ بالسِّيَاقاتِ الثقافية ، وكَيفيةِ تَفَاعُلِ الشَّخصياتِ مَعَ عَناصرِ الزَّمَانِ والمكان ، ومُرَاعَاةِ العاداتِ والتقاليدِ والبُنى الاجتماعية والمَلابس وطبيعة الكلام المَوجودة في ذلك الزمنِ البعيد .

     والأعمالُ الأدبية ذات الصِّبْغَة التاريخية يَنْبغي أنَّ تَعتمد عَلى التَّحليلِ النَّفْسِيِّ لِكَينونةِ الإنسانِ ومَشاعرِه ، وَتَقْدِيمِ التاريخِ مِنْ مَنظور الناسِ العاديين الذينَ يَتَحَرَّكُون في الواقع ضِمْن سِياقِ الأحداثِ اليومية ، مَعَ ضَرورةِ اختيارِ العالميَّة والإنسانيَّة المُشْتَرَكَة .

     والرِّوايةُ التاريخيةُ لَيْسَتْ تاريخًا ، وإنَّما هِيَ مَنظومة مِنَ الأفكارِ والمَشاعرِ بأُسلوبٍ فَنِّي وجَمَاليٍّ تَتناول جوانبَ الحَيَاةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ في المَاضِي ، مِنْ أجْلِ رَبْطِ القُرَّاءِ المُعَاصِرِين بالتَّجَارِبِ المُعَاشَةِ في تِلْك الفَترةِ الزَّمنيةِ التي مَضَتْ وانقَضَتْ ، وَمَرَّتْ عَلَيها سَنَوَات طويلة .

     والرِّوائيُّ لَيْسَ مُؤرِّخًا ، وإنَّما هُوَ صانعٌ للأحداثِ المُتَصَوَّرَةِ وَالوَقائعِ المُتَخَيَّلَةِ ضِمْن نَسَقٍ أدبيٍّ يُعيدُ تَكوينَ الزَّمَانِ وَبِنَاءَ المَكَانِ ، وَيُفَسِّرُ العَلاقاتِ الإنسانية بَيْنَ الشَّخصيات ، ولا شَكَّ أنَّ هَذه العَلاقاتِ تَتَأثَّر بالأحداثِ التاريخية ، ولكنْ يَنْبغي التَّركيز عَلى المَشاعر الإنسانية المُشْتَرَكَة العابرةِ للحُدُودِ التاريخيةِ والجُغرافية ، والكاسرةِ لِكُلِّ القوالب الجاهزة .

     إنَّ الخَيَالَ التاريخيَّ هُوَ أدَبٌ مُسْتَوْحى مِنَ التاريخِ ، وَلَيْسَ إعادةَ سَرْدٍ للأحداثِ التاريخية ، والهَدَفُ لَيْسَ نَقْلَ التفاصيلِ بشكلٍ مُتَسَلْسِل ، وإنَّما ابتكارُ شَخصياتٍ تَأثَّرَتْ بالتاريخِ ، والعملُ على تَحليلِ أفكارِها ، واستنباطِ مَشاعرِها ، وإظهارِ أحلامِها ، وتَفْكِيكِ ذِكرياتِها ، وتَفْسيرِ صِرَاعَاتِها . والتاريخُ لَيْسَ إلا إطارًا جامعًا لِكُلِّ هَذه العَناصرِ والتَّراكيبِ . وَمَهْمَا كانَ التاريخُ مُثيرًا للاهتمامِ ، وَمُغْرِيًا بالبَحْثِ ، فإنَّ الرِّواية التاريخية هي قِصَّة تَدُور أحداثُها في التاريخ ، وَلَيْسَتْ قِصَّةً عَن التاريخ .

     والبَحْثُ المُستمر عَن العَوالمِ الغامضةِ والمُشَوِّقَة ، يَقُود أحداثَ الرِّوايةِ التاريخية إلى تَحديدِ الفَترةِ الزمنية التي تَتَنَاولها ، لأنَّ طبيعة الأفكار تُحدِّد إطارَها الزَّمنيَّ ، وطبيعة الشَّخصيات تُحدِّد إطارَها المَكَانيَّ . وهُنا تَبْرُزُ أدواتُ الخَيَالِ التاريخيِّ الذي يَقُوم على ضَبْطِ التفاصيلِ ، والسَّيطرةِ عَلَيْهَا ، مِنْ أجْلِ جَعْلِ السَّرْدِ الرِّوائيِّ سَلِسًا وَحَيَوِيًّا وقابلًا للتَّصديقِ . وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بتصميمِ مَشَاهِد رِوائية مُتماسِكة تَشتمل عَلى حِوَارات مُؤثِّرة ، وصِرَاعات بَيْنَ الأضداد ، وُصولًا إلى ذِرْوَةِ العملِ .

     وَالمَشْهَدُ هُوَ حَجَرُ الأساسِ في الرِّواية ، لأنَّه عَالَمٌ مُصَغَّر ، يُلخِّص التناقضاتِ الحياتية ، وَيَخْتزِل المَشاعرَ الإنسانية المُخْتَلِطَة ، مِمَّا يَجْعَل أحداثَ الرِّوايةِ أكثرَ ارتباطًا بالواقعِ ، وَتَبْدُو الشَّخصياتُ كأشخاصٍ حقيقيين مِنْ لَحْمٍ وَدَم ، يَتَشَابَهُون مَعَ القارئِ ، مَهْمَا كانت الاختلافات الثقافية .

     إنَّ رِوائيَّ الخَيَالِ التاريخيِّ والمُؤرِّخَ يَعْمَلان عَلى إيصالِ الحقيقةِ ، ولكنَّ الفَرْقَ بَيْنَهما هُوَ أنَّ الرِّوائيَّ يَعْتمد عَلى الحُرِّيةِ الإبداعية الفَنِّيةِ التي تَقُومُ عَلى حَرَكَةِ الشَّخصياتِ ومَشاعرِها وصِرَاعاتِها، أمَّا المُؤرِّخ فَيَعْتَمِد عَلى البَحْثِ المَنهجيِّ المُتواصِل للأحداثِ الماضيةِ المُتَعَلِّقَةِ بالبشرية عَبْرَ الزمن . والرِّوائيُّ يُحلِّل الأحلامَ والذكرياتِ والتأمُّلات ، والمُؤرِّخُ يُحَلِّل المَصادرَ التاريخية ، وَيُفَسِّر الأحداثَ كَمَا وَقَعَتْ عَلى الأرضِ ، وَلَيْسَ كَمَا يَتَخَيَّلها أوْ يَتَمَنَّاها . والرِّوائيُّ يَخترع تاريخًا جديدًا، لأنَّ الأدبَ انقلابٌ عَلى الواقعِ ، وَصِناعةٌ لواقعٍ جديد ، والمُؤرِّخُ يُحلِّل الأحداثَ التاريخية القائمة المُستمرة ، لأنَّ التاريخَ دِراسة المَاضِي كَمَا هُوَ مَوصوف في الوثائقِ المَكتوبة .

     يُعْتَبَرُ الأديب الإسكتلندي والتر سكوت ( 1771 _ 1832 ) مُؤسِّسَ الرِّوايةِ التاريخية . في عام 1814 ، وَضَعَ رِوايته الأُولَى " ويفرلي " ، وعالجتْ مَرحلةَ مِنْ مراحل التَّمَرُّد اليعقوبي عام 1745 في التاريخ الإسكتلندي ، ولاقتْ نجاحًا فَوْرِيًّا كبيرًا . وَقَدْ نَشَرَها تَحْتَ اسْمٍ مُستعار ، وَهُوَ مَا دَأبَ عليه بعد ذلك ، فَعُرِفَ بـِ " المجهول العظيم " إلى أن اضْطَرَّهُ إفلاسُه للكشف عَنْ هُوِيَّته عام 1827 .

     ظَلَّ سكوت في السَّنَوَاتِ الخَمْسِ عَشْرَة التالية ، يُصْدِرُ رِوايةً إثرَ أُخْرَى ، تَتناول الحَياةَ في إسكتلندا في القَرْنَيْن السابع عَشَر والثامن عَشَر.ثُمَّ مَا لَبِثَ أنْ وَسَّعَ مَسْرَحَ رِواياته زمانًا ومكانًا،فكتب " إيفانهو " (1819)، وهي أشهر رواياته على الإطلاق . وقد اشْتُهِرَ وعُرِفَ بفضل هذه الرِّواية التاريخية الحديثة ، وأُطْلِق عليه " أبو الرِّواية الحديثة ". وفي نَفْسِ العام مُنِحَ سكوت لقب سير. وفي عام 1822 ، حِينَ زارَ المَلِكُ جورج الرابع إسكتلندا ، كان سكوت عُضْوًا في لجنة الاستقبال ، وحِينَ تَعَرَّفَ إلَيْهِ المَلِكُ أُعْجِبَ بِه كثيرًا .

     يُعَدُّ سكوت واحدًا مِنْ أَهَمِّ مُبْدِعي الرِّواية التاريخية في الأدب الإنجليزي . وَمُعْظَمُ الذين خاضوا كِتابةَ الرِّواية التاريخية بَعْدَه ، إنَّمَا اهْتَدَوْا بأساليبه ، وساروا على خُطاه . وبذلك ، يَكُون أحدَ كِبار الرِّوائيين في العَالَمِ في هذا المَجالِ . ويَعْتبره الكثيرون أَحَدَ أهَم أدباء الحركة الإبداعية الرُّومانسية في الأدب الأوروبيِّ .

     وَقَدْ عَاصَرَ سكوت حُروبَ نابليون ، واهتمَّ بالبحث في شؤون الآثارِ والتُّرَاثِ . وَشُغِفَ مُنذ طُفولته بالقصصِ والتُّرَاثِ الشَّفَهِيِّ الذي يَرْويه الكِبَارُ في عائلته حول إسكتلندا ، مِمَّا أمَدَّه بالكثير مِنَ المادة التاريخية التي استخدمها في كِتاباته فِيما بَعْد .