يُعْتَبَر الأديبُ والفَيلسوفُ
الفرنسي ألبير كامو ( 1913_ 1960 / نوبل 1957 ) ، ثاني أصغر حائز على جائزة نوبل
للآداب بعد الكاتب البريطاني كِبلنغ ، كما أنَّه أصغر مَنْ مَاتَ مِنْ كُلِّ
الحائزين على جائزة نوبل للآداب .
تنقسم أعمال كامو إلى مجموعتَيْن أسماهُما : حَلْقة
التَّمَرُّد ، وَحَلْقة العَبَثِ ، فَكَانَ أوَّلَ مَنْ أطلقَ تَسمية " العَبَث " التي صارت تيارًا
أدبيًّا وفلسفيًّا نالَ شُهرةً كبيرةً في الخَمْسِينِيَّات مِنَ القَرْنِ العِشرين
.
والعَبَثُ وَفْق مَنظورِ كامو هُوَ شُعُورُ القَلَقِ
المُتَوَلِّد عن الإحساس بِوَطأةِ التاريخ . هذا الإحساسُ بعبثية الحياة يُولِّد
التَّمَرُّدَ الذي يُمْكِن أن يَكُونَ فرديًّا في بداية الأمر ، ثُمَّ يَتَحَوَّل
إلى تَمَرُّد جَمَاعِيٍّ .
تَمَرَّدَ كامو على آليَّة الحياة
المِيكانيكية،فالإنسانُ يَعِيشُ على وَتِيرة واحدة إلى أنْ يَصْحُوَ يَومًا،
ويَشْعُر بأنَّه غريب ووحيد في هذا العَالَمِ ، وأنَّ الزمن هو العَدُوُّ الذي
يُبدِّد جُهُودَه ، ويَرْمِيه في أحضانِ الموت . وهَذه هي الحقيقة التي يُفْتَرَض أنْ يَتَصَدَّى لها
هذا الإنسانُ ، فلا أخلاقياتُه ولا جُهوده ولا ذكاؤه ، تُجْدِي نَفْعًا أمامَ هَذا
العَالَمِ العَبَثِيِّ المَلِيء باللاعَقْلانيين .
والحُرِّيةُ التي يَظُنُّ أنَّه يَتَمَتَّع بِها
وَهْمِيَّة ، فَهُوَ عَبْدٌ للأحكامِ المُسْبَقَةِ والعاداتِ ، وَتَبْقَى
العَلاقاتُ البشرية زائفة، والتواصلُ مَفقودًا، وسُوءُ الفَهْمِ هُوَ المُسَيْطِر،
فتزداد الفَجْوَةُ بَين الناس . والإنسانُ الصامتُ هُوَ الضَّحِيَّةُ والمُجْرِمُ
المُدَان .
لَقَدْ ثارَ كامو على الأعرافِ والأيديولوجيات القائمة
على الاستعبادِ والتَّخويف ، كما نَدَّدَ بأُسطورة التطوير والتَّقَدُّم التي
تَخْدَع الناسَ مُتَذَرِّعة بِوُعود مُسْتقبلية ، لِتَبريرِ ظُلْمِ الحاضر،
وشَرْعَنَةِ الرُّضوخِ والاستسلامِ ، بَدَلًا مِنْ إيجاد ظُروف أفضل. وَكَرِهَ
كامو الهُروبَ أو الانتحار، وَوَجَدَ نَفْسَه في التَّمَرُّدِ على القِيَمِ
الاجتماعيةِ والعَقائدِ الدِّينية ، وكذلك في مُواجَهة المَوْت ، وَتَقَبُّلِ
الوَضْعِ الإنسانيِّ دُون عَقْد الآمال على الغَدِ أوْ عَلى حَياةٍ أُخْرَى .
أمَّا السُّؤالُ الأساسيُّ الذي تطرحه أعمال كامو : هَل
الحَياةُ جَديرةٌ بأنْ تُعَاش في ظِلِّ صَمْتِ العَالَمِ ؟ . ومَعَ أنَّه رَفَضَ
إعطاءَ جَوَابٍ مُتكامِل عن ذلك، إلا أنَّه أوْحَى بأنَّه يُمْكِن للإنسان
تَجَاوُز عَبَثِيَّة الحَياةِ مِنْ خِلال وَعْيِه وَتَمَرُّدِه المُسْتَمِيت .
وَتُعَدُّ فَلسفةُ كامو عَن العَبَثِ المُرتبطة
بِمَفهومِ انعدامِ المَعنى الجَوهريِّ للحَيَاةِ أساسيَّةً لِفَهْمِ أعمالِه،
وَهُوَ يَرى أنَّ تَقَبُّلَ العَبَثِ يُفْضِي إلى التَّمَرُّدِ والحُرِّيةِ
الشَّخصية . وتُشيرُ مُلاحظته الشَّهيرة : " لا شَمْسَ بِلا ظِل ، وَمِنَ
الضَّروريِّ مَعرفةُ الليلِ " إلى أنَّ الفَهْمَ الكاملَ للحَياةِ
يَتَطَلَّبُ الاعترافَ بالفَرَحِ والمُعَاناة .
اعتقدَ كامو أنَّ العَبَثِيَّةَ تَنْبُعُ مِنَ
المُواجهةِ بَيْنَ شَوْقِ الإنسانِ وَصَمْتِ العَالَمِ . وكانَ يُؤْمِنُ بأنَّ
البَشَرَ لَيْسُوا عَبَثِيِّين بطبيعتهم ، بَلْ إنَّ الشُّعُورَ بالعَبَثِ
يَنْبُعُ مِنْ عَلاقتهم بالعَالَمِ ، وَيَحْدُثُ عِندَما يَكُون هُناك تَنَاقُض
بَيْنَ مَا يُريدونَه أوْ يَتَوَقَّعُونه مِنَ الحَيَاةِ ، وَمَا يُقَدِّمُه
العَالَمُ لَهُم بالفِعْلِ . فالبَشَرُ يُنَاضِلُون في سَبيلِ إيجادِ مَعْنى في
هَذا العَالَمِ ، بَيْنَمَا لا يَجِدُون مِنَ العَالَمِ في المُقَابِلِ سِوَى
الإهمالِ والصَّمْتِ .
في فَلسفةِ كامو يَنْشَأ مَفهومُ " البَطَل العَبَثِي"
مُجَسِّدًا التَّوَتُّرَ العَميقَ بَيْنَ الرَّغَبَاتِ الإنسانيةِ ولامُبَالاة
العَالَمِ. البَطَلُ العَبَثِيُّ يُدْرِكُ تَمَامًا هَذا الصِّرَاعَ الجَوهريَّ ،
فَهُوَ يُدْرِكُ أنَّه بَيْنَما يَسْعَى البَشَرُ بطبيعتهم إلى المَعنى والهَدَفِ
، فإنَّ العَالَمَ لا يُقَدِّمُ أيًّا مِنْهُمَا ، ومعَ ذلك ، بَدَلًا مِنَ
الاستسلامِ لليأسِ ، أو التَّمَسُّكِ بآمالٍ زائفة ، يَختار أنْ يَعيشَ مُدْرِكًا
تَمَامًا لِهَذا التَّنَاقُضِ .
رَأى كامو أنَّ الحَيَاةَ قائمةٌ عَلى العَبَثِ ، وَهَذه
بِداية الانطلاقة الجديدة للحَيَاةِ ، وَلَيْسَتْ نِهايتها . وَقَد اعتمدَ على
أفكارِ المَدارسِ الفَلسفيةِ المُعَاصِرَة في تَفسيرِ ماهيَّةِ العَبَثِ ،
وَتَوَصَّلَ إلى مَفهومِ "الشُّعور العَبَثي"،حَيْثُ اعْتَبَرَ أنَّه
يَظْهَر عَلى أساسِ التناقضِ بَيْنَ الإنسانِ والمُحِيطِ الخارجيِّ. ففي حالِ
تَمَكَّنَ الإنسانُ مِنْ تَفسيرِ العَالَمِ تَفسيرًا مُقْنِعًا ، يُصْبح هَذا
العَالَمُ في نَظَرِهِ مَفهومًا وَمَقبولًا إلى حَدٍّ مَا ، ولكنْ حِينما يُدْرِك
الإنسانُ وَهْمَ هَذا التفسيرِ ، سُرعان مَا يَشْعُر عَلى الفَوْرِ أنَّه غريبٌ في
العَالَمِ ، فَيَشُكُّ في مَعنى الحَياةِ وَجَدْوَى أنْ يَعيشها ، وهُنا
يَتَوَلَّد الشُّعورُ العَبَثيُّ .
وَقَدْ فَسَّرَ كامو العواملَ الخَاصَّة المُتعلقة بهذا
الشُّعور ، مُعْتَبِرًا أنَّ العَبَثَ يَتغلغل في وَعْي الإنسانِ فَجْأةً في
اللحظةِ التي يَشْعُر فيها الإنسانُ بالفَراغ ، وَيَحُسُّ بالإرهاقِ مِنَ الوُجودِ
اليَوْمِيِّ أو الحَيَاةِ اليَوْمِيَّة ، لأنَّ الوَعْيَ في هَذه اللحظة
يَتَوَقَّف عَن استيعابِ الغايةِ مِنْ هَذه الحَياةِ اليوميةِ، وتَنقطع سِلسلةُ
التَّصَرُّفاتِ الاعتيادية والرُّوتينية.
وإحساسُ الإنسانِ بِغُربته في العَالَمِ المُحيطِ مُرتبط بِعَبَثِ الوُجود ، وبالإضافةِ إلى هَذا ، فإنَّ الإنسانَ يُخْفي في داخلِه شيئًا مِنَ اللاإنسانية التي تَظْهَر في تَصَرُّفَاتِه وَحَرَكَاتِه ، وهَذه اللإنسانيةُ تَكْشِفُ الوَجْهَ الحقيقيَّ للإنسانِ، وهُنا يَتَجَلَّى العَبَثُ مَعنويًّا ومَاديًّا . واعْتَبَرَ كامو أنَّ العَبَثَ لا يَختبئ في الإنسانِ ، ولا في العَالَمِ ، وإنَّما في اختلاطِهما ، فَيُصْبح العَبَثُ هُوَ الخَيْطَ الوَحيدَ المُشترَك بَيْنَهما ، ثُمَّ طَوَّرَ هَذه الفِكرةَ ، فَتَوَصَّلَ إلى نَوْعٍ مِنَ الاتِّحادِ الثُّلاثيِّ : العَبَثُ وَالوَعْيُ الإنسانيُّ والعَالَمُ . تُوُفِّيَ كامو في حادث سَيَّارة عَنْ عُمر يُنَاهِز 46 عامًا ، والعجيبُ أنَّه كانَ قَدْ عَلَّقَ في أوائل حَياته الأدبية أنَّ أكثر مَوْتٍ عَبَثي يُمْكِن تَخَيُّله هُوَ المَوْت في حادث سَيَّارة ! .