سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] الديانات في القرآن الكريم [16] بحوث في الفكر الإسلامي [17] التناقض في التوراة والإنجيل [18] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [19] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [20] عقائد العرب في الجاهلية[21]فلسفة المعلقات العشر[22] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [23] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [24] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [25]مشكلات الحضارة الأمريكية [26]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[27] سيناميس (الساكنة في عيوني)[28] خواطر في زمن السراب [29] فلسفة المتنبي الشعرية [30] أشباح الميناء المهجور (رواية)[31]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

29‏/12‏/2025

لماذا اعترفت إسرائيل بدويلة أرض الصومال ؟

 

لماذا اعترفت إسرائيل بدويلة أرض الصومال ؟

المفكر/ إبراهيم أبو عواد

......................

     يُثيرُ الاعترافُ الإسرائيليُّ بِدُوَيْلَةِ " أرض الصومال " ( صوماليلاند ) جدلًا واسعًا في الأوساطِ السِّياسيةِ والإعلامية . فالإقليمُ الذي أعلنَ انفصالَه عَن الصومال عام 1991 ، لا يَحظى حتى اليوم باعترافٍ دَوْلي رَسْمي. كما أنَّ إسرائيل لَمْ تُعلِن _ حتى وقتٍ قريبٍ _ اعترافًا قانونيًّا صريحًا بِه .

     يحتلُّ إقليمُ أرضِ الصومالِ مَوقعًا جُغرافيًّا بالغَ الحساسية على خليجِ عدن ، بالقُربِ مِنْ مَضيقِ بابِ المَنْدِب ، أحد أهم الممرات البحرية العالمية ، هذا الموقع جعله محط اهتمام قوى دَوْلية وإقليمية تَسعى إلى تأمينِ طُرقِ التجارة والطاقة ، ومُراقبةِ التحركات العسكرية في البحر الأحمر ، وبناءِ قواعد لوجستية أو استخباراتية في منطقة تُعاني مِنْ هَشاشة الدَّولة وضعفِ السيطرة المركزية .

     إسرائيل تنظر إلى البحر الأحمر باعتباره امتدادًا لأمنها القومي ، وأيُّ مَوطئ قدم سياسي أو أمني في هذه المنطقة يُعَدُّ مَكسبًا إستراتيجيًّا كبيرًا . ومُنْذُ تأسيسها ، تبنَّت إسرائيل سِياسة تقوم على تفكيك العُزلة الإقليمية ، عبر بناء علاقات مع أطراف غير تقليدية في مُحيط عربي أوْ إسلامي مُعادٍ ، وقد شملَ ذلك تاريخيًّا التحالفَ معَ أطراف غير عربية ( إيران قبل عام 1979 ، وتركيا سابقًا ، وإثيوبيا ) ، ودعم كِيانات انفصالية أوْ أقليات في دُوَل عربية وأفريقية .

     في هذا السياقِ ، يُمكِن فهمُ الاهتمام بأرض الصومال كَجُزْء مِنْ إستراتيجية الأطراف ، إقامة علاقات مع كِيان يَسعى إلى الاعتراف الدَّوْلي ، ومُسْتعد لتقديم تنازلات سِياسية أوْ أمنية مُقابِل دعم دُبلوماسي .

     تُعاني منطقة القرن الأفريقي من نشاط مُكثَّف لجماعات مُسلَّحة،بعضها يرتبط بتنظيمات تُصنِّفها إسرائيل كتهديدات غير مُباشرة ، سواء عبر استهداف المِلاحة أو عبر علاقاتها بِمَحْوَر إقليمي مُعادٍ لتل أبيب . والاعترافُ _ أو حتى التقارب السياسي _ مع أرض الصومال يُتيحُ لإسرائيل تبادلًا إستخباراتيًّا حول تحركات الجماعات المُسلَّحة ، ومُراقبة خُطوط المِلاحة في خليج عدن ، ومُواجهة النفوذ الإيراني في البحر الأحمر وشرق أفريقيا . ومِن هذا المنظور ، لا يَبْدو الاعتراف مسألة رمزية ، بَل أداة أمنية بامتياز .

     أرض الصومال تُعاني مِنْ عُزلة دَوْلية خانقة رغم استقرارها النسبي مُقارنة ببقية الصومال . هذه العُزلة تَجعل قيادتها أكثر استعدادًا لعلاقات مع قوى مثيرة للجدل دَوْليًّا ، مُقابل وعود بالاعتراف والدعم الاقتصادي . وإسرائيل تُدرِك هذه المُعادلة جيدًا ، وسوف تستغل حاجة الإقليم إلى الشرعية عبر تقديم دعم دبلوماسي في المحافل الغربية ، وفتح قنوات اقتصادية وتقنية ، وتسويق نفسها كشريك قادر على تسريع قَبول الإقليم دَوْليًّا . هُنا تتحول إسرائيل من دولة تبحث عن اعتراف إلى دولة تَمنحه _ وَلَوْ جُزئيًّا _ ، مِمَّا يُعزِّز نفوذها السياسي .

     أيَّة خُطوة إسرائيلية تُجاه أرض الصومال تحمل رسائل غير مُباشرة إلى أطراف أُخْرى . إلى الصومال الفيدرالي : الضغط غير المُباشر عبر التعامل مع كِيان انفصالي.إلى الدول العربية المُطلة على البحر الأحمر: إسرائيل لاعب حاضر في أمن الممرات البحرية . إلى القوى الكُبرى: تل أبيب شريك قادر على ملء فراغات النفوذ في مناطق هَشَّة .

26‏/12‏/2025

المنهج النقدي بين إحسان عباس وإريك أورباخ

 

المنهج النقدي بين إحسان عباس وإريك أورباخ

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................


     لَيْسَ النَّقْدُ الأدبيُّ مُجرَّد أدواتٍ إجرائية تُسْقِطُها القِراءةُ على النُّصُوصِ ، بَلْ هُوَ رُؤيةٌ للعَالَمِ ، وَمَوْقِفٌ مِنَ اللغةِ ، وطَريقةٌ في مُساءلةِ التاريخِ والإنسانِ معًا . وَمِنْ هُنا تَتجلَّى أهميةُ المُقارَنةِ بَيْنَ نَاقِدَيْن يَنْتميان إلى فَضَاءَيْن ثقافِيَّيْن مُخْتَلِفَيْن ، لكنَّهما يَلتقيان عِندَ جَوْهَرٍ واحدٍ ، وَهُوَ البَحْثُ عَنْ مَعنى الأدبِ في سِياقِه الإنسانيِّ الواسعِ .

     إحسان عَبَّاس ( 1920_ 2003 ) الناقدُ الفِلَسْطِينيُّ المَوْسُوعيُّ، وإريك أُورباخ ( 1892_ 1957 ) العَالِم اللغوي الألماني الكبير ، يُمثِّلان نَمُوذَجَيْن مُتَكَامِلَيْن لِفَهْمِ النَّصِّ الأدبيِّ عَبْرَ التاريخِ، بَيْنَ خُصوصيةِ التُّراثِ وكَوْنِيَّةِ التَّجْرِبَةِ الإنسانية .

     انبثقتْ تَجْرِبَةُ عَبَّاس مِنْ قلبِ الثفافةِ العربية ، مُتَّكِئَةً على تُراثٍ مُمْتَدٍّ ، ومَشحونةً بأسئلةِ النَّهْضَةِ ، والهُوِيِّةِ، وإشكالاتِ القِراءةِ الحَديثةِ للقَديمِ ، وَقَدْ كانَ ابْنَ المَدرسةِ التُّراثيةِ الصارمةِ في أدواتِها ، الحَديثةِ في أسئلتها . وَجَمَعَ بَيْنَ التَّحقيقِ العِلْمِيِّ للنُّصُوصِ ، والوَعْيِ النَّقْدِيِّ المُتَجَدِّد . أمَّا أورباخ ، فَقَدْ تَشَكَّلَتْ رُؤيته في رَحِمِ الفيلولوجيا ( فِقْه اللغة ) الأوروبية ، حَيْثُ النُّصُوص تُقْرَأ بِوَصْفِها وثائق ثقافية ، تَكشِف عَنْ تَحَوُّلاتِ الوَعْيِ الإنسانيِّ عَبْرَ العُصورِ .

     يَخْتلفُ المُنْطَلَقُ الحَضاريُّ ، لكنَّ القلقَ المَعرفيَّ واحدٌ : كَيْفَ نَفْهَمُ الأدبَ ؟ ، وكَيْفَ نَقرأ النَّصَّ في ضَوْءِ التاريخِ دُون أنْ نَخْتزله في التاريخِ ؟ . يَرى عَبَّاس أنَّ النَّصَّ الأدبيَّ كِيَانٌ لُغَوِيٌّ مُستقِل ، لا يُفْهَمُ إلا عَبْرَ لُغَتِه وبيئته ، لكنَّه في الوَقْتِ نَفْسِه نِتَاجُ سِياقٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ ، لذلكَ كانَ حريصًا على التَّوَازُنِ بَيْنَ التَّحليلِ الداخليِّ للنَّصِّ والوَعْيِ الخارجيِّ بِظُرُوفِ إنتاجِه . وَلَمْ يَكُن التاريخُ عِندَه سُلطةً قاهرةً على النَّصِّ ، بَلْ أُفُقًا يُضِيءَ دَلالاتِه .

     مَنَحَ أورباخ التاريخَ مَكانةً مَركزيةً في فَهْمِ الأدبِ ، لكنَّه لَمْ يَتعاملْ مَعَهُ كَخَلْفيةٍ جامدةٍ ، بَلْ كَقُوَّةٍ دِيناميَّةٍ تَتجسَّد في الأُسلوبِ ، وَطَرائقِ تَمثيلِ الواقعِ . واللغةُ عِندَه لَيْسَتْ أداةً مُحَايِدة ، بَلْ هِيَ سِجِلٌّ لِتَحَوُّلاتِ الرُّؤيةِ الإنسانيةِ . وَمِنْ هُنا جاءتْ تَحليلاتُه العميقةُ للفُروقِ بَيْنَ النُّصُوصِ .

     تَمَيَّزَ مَنْهَجُ عَبَّاس بِصَرامةٍ عِلْميةٍ واضحة، خاصَّةً في مَجالِ التَّحقيقِ والنَّقْدِ التاريخيِّ ، لكنَّه لَمْ يَقَعْ في جُمودِ المَدرسةِ التَّقليدية . كانَ مُنْفَتِحًا على المَناهجِ الحَديثةِ ، دُون أنْ يَستسلمَ لَهَا بشكلٍ أعمى . تَعَامَلَ مَعَهَا بِوَصْفِها أدواتٍ قابلة للتَّطْويع ، لا قَوالِب جاهزة تُفْرَضُ عَلى النَّصِّ فَرْضًا .

     اتَّسَمَ مَنْهَجُ أورباخ بِشُموليةٍ إنسانيةٍ لافتةٍ . لَمْ يَلتزمْ بِمَنهجٍ واحدٍ صارمٍ ، بَلْ بِنَظْرةٍ تَركيبيَّة تَجْمَعُ بَيْنَ التَّحليلِ اللغويِّ والرُّؤيةِ التاريخيةِ والحِسِّ الجَمَاليِّ . كانَ يَقْرَأ النُّصوصَ بِوَصْفِها تَمْثيلات للواقعِ لا مَرايا تَعكِسه حَرْفِيًّا ، وهَذا يَعْني أنَّ النُّصُوصَ أشكالٌ فَنِّية تُعِيدُ تَشكيلَ الواقعِ .

     وَقَفَ عَبَّاس عِندَ مُفْتَرَقِ طُرُقٍ بَيْنَ التُّراثِ والحَداثةِ. لَمْ يَعْتَبِر التُّراثَ مادةً للتَّقديسِ ، ولا عِبْئًا للتَّجَاوُزِ، بَلْ مَجالًا للفَهْمِ النَّقْدِيِّ ، لذلكَ دَعا إلى قِراءةِ التُّراثِ قِراءةً تاريخية واعية ، تُميِّز بَيْنَ مَا هُوَ حَيٌّ وَمَا هُوَ مُنْقَضٍ . ورَأى أنَّ الحداثةَ الحقيقية لا تُبْنَى على القَطيعةِ ، بَلْ على الفَهْمِ العميق .

     أمَّا أورباخ، فكانَ التُّراثُ الغَرْبيُّ أمامَه سِلْسِلَةً مُتَّصِلة مِنَ التَّحَوُّلات، لا انقطاعات حَادَّة فيها. الحَداثةُ عِندَه نَتيجةُ تَرَاكُمٍ تاريخيٍّ ، يَظْهَر في تَطَوُّرِ الأساليبِ والمَوضوعاتِ، لا في إعلانِ القَطيعةِ معَ الماضي.وَمِنْ هُنا جاءتْ نَظْرَتُه المُتصالِحة معَ التاريخِ التي تَرى في الأدبِ مَسارًا إنسانيًّا طَويلًا.

     يَلْتقي الناقدان عِندَ نُقْطَةٍ جَوهرية : مَركزية الإنسانِ . عَبَّاس ، رَغْمَ اشتغالِه الدَّقيقِ بالنُّصُوصِ ، لَمْ يُغْفِل البُعْدَ الإنسانيَّ للأدبِ ، وَرَأى أنَّ القيمة الحقيقية للنَّصِّ تَكْمُنُ في قُدرته على التَّعبيرِ عَنْ تَجْرِبَةٍ إنسانية صادقة. وأورباخ جَعَلَ مِنَ الإنسانِ مِحْوَرِ مَشروعِه النَّقْدِيِّ كُلِّه ، فالأدبُ عِندَه سِجِلٌّ لِتَحَوُّلاتِ الوَعْيِ الإنسانيِّ ، وَتَمثيلٌ لِمُعاناةِ البَشَرِ وأحلامِهِم عَبْرَ الزَّمَنِ .

     قَدْ يَبْدو المَنهجُ النَّقْدِيُّ بَيْنَ عَبَّاس وأورباخ مُختلِفًا في أدواتِه وَمَساراتِه ، لكنَّه يَلْتقي في غايته الكُبْرى ، فَهْم الأدبِ بِوَصْفِهِ فِعْلًا إنسانيًّا مُرَكَّبًا يَتجاوزُ حُدودَ اللغةِ والزَّمَنِ . وكِلاهُما قَدَّمَ دَرْسًا بَالِغَ الأهميةِ، لا نَقْدَ بِلا مَعرفةٍ عَميقةٍ بالنَّصِّ، ولا قِراءة حقيقية دُون وَعْيٍ بالتاريخِ، ولا قِيمة للأدبِ إذا انفصلَ عَن الإنسانِ .

     والمُقَارَنَةُ بَيْنَهما لَيْسَتْ تَرَفًا فِكْريًّا ، بَلْ ضَرورة لِفَهْمِ كَيْفَ يُمكِن للنَّقْدِ أنْ يَكُونَ جِسْرًا بَيْنَ الثقافاتِ ، وَحِوَارًا بَيْنَ التُّراثِ والحَداثةِ ، وَصَوْتًا للعَقْلِ وَهُوَ يُفَتِّشُ بِلا كَلَلٍ عَنْ مَعْنى الجَمالِ والحقيقةِ في الكَلِمَات .

     يُمثِّل عَبَّاس وأورباخ نَمُوذَجَيْن مُتَمَايِزَيْن في النَّقْدِ الأدبيِّ ، يَجْمعهما العُمْقُ المَنهجيُّ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهما السِّياقُ الثقافيُّ وأدواتُ التَّحليلِ . اعتمدَ عَبَّاس مَنهجًا تاريخيًّا تَحْقيقيًّا يَقُومُ على ضَبْطِ النَّصِّ وَتَوْثيقِه ، وَرَبْطِه بِسِيَاقِهِ الثقافيِّ والحَضَاريِّ العَرَبيِّ ، معَ عِنايةٍ صارمةٍ بالمَخطوطاتِ ، وَتَطَوُّرِ الأجناسِ الأدبيةِ ، وَهُوَ مَا يَتجلَّى في أعمالِهِ حَوْلَ الشِّعْرِ العَرَبيِّ والنَّقْدِ التُّراثيِّ . أمَّا أورباخ فَأسَّسَ مَنهجًا أُسلوبيًّا تَمْثيليًّا مُقَارَنًا ، يَدْرُسُ طَرائقَ تَمثيلِ الواقعِ في الأدبِ الغَرْبيِّ عَبْرَ تَحليلٍ دَقيقٍ للأُسلوبِ واللغةِ داخلَ نُصُوصٍ مِفْصَلِيَّةٍ ، معَ مَيْلٍ أقَل إلى التَّحقيقِ النَّصِّي ، وأكثر إلى القِراءةِ التأويلية العابرةِ للعُصور .

20‏/12‏/2025

تفكيك الاستبداد بين عبد الرحمن الكواكبي وجورج أورويل

 

تفكيك الاستبداد بين عبد الرحمن الكواكبي وجورج أورويل

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..................


     لَيْسَ الاستبدادُ حادثةً عابرةً في تاريخِ البَشَرِ ، بَلْ بُنْيَة مُعَقَّدَة تَتكرَّر بأقنعةٍ مُختلفة ، وَتُغَيِّر لُغَتَهَا دُونَ أنْ تُغيِّر جَوْهَرَها . إنَّه مَرَضُ السُّلطةِ حِينَ تنفصلُ عَن الإنسانِ ، وَحِينَ يَتحوَّل الحُكْمُ مِنْ وَظيفةٍ لِخِدمةِ المُجتمعِ إلى آلَةٍ لإخضاعه .

     بَيْنَ عبد الرَّحمن الكواكبي ( 1855 _ 1902 ) المُفكِّر العربي الذي واجهَ الاستبدادَ مِنْ قَلْبِ الشَّرْقِ في أواخرِ القَرْنِ التاسعِ عَشَر ، وَبَيْنَ جورج أورويل ( 1903 _ 1950 ) ، اسْمُه الحقيقي : إريك آرثر بلير ، الروائي الغربي الذي حَذَّرَ مِنْ طُغيانِ الحَداثةِ السِّياسيةِ في القَرْنِ العِشْرين ، تَتشكَّل خَريطةٌ فِكرية واحدة لِمَسارِ القَمْعِ ، وإن اختلفت الجُغرافيا واللغةُ والأُسلوب .

     الكواكبي لَمْ يَكْتُبْ عَن الاستبدادِ بِوَصْفِهِ فِكرة مُجرَّدة ، بَلْ بِوَصْفِه تَجْرِبة مُعاشة . كانَ يَرى الطُّغيانَ مُتَغَلْغِلًا في تفاصيلِ الحَياةِ اليَوميةِ ، في التَّعليمِ الذي يُفَرَّغُ مِنَ النَّقْدِ ، في الثقافةِ حِينَ تُسْتَعْمَل أداةَ تَبريرٍ ، في الاقتصادِ حِينَ يَتحوَّل إلى وسيلةِ إفقارٍ ، في الأخلاقِ حِينَ تَمْدَحُ الطاعةَ العَمْيَاءَ ، وَتَذُمُّ جُرْأةَ النَّقْدِ البَنَّاءِ .

     في كِتاباتِه ، لا يَبدو المُسْتَبِدُّ وَحْشًا أُسْطُورِيًّا ، بَلْ إنسانًا عاديًّا تَضَخَّمَ ظِلُّهُ لأنَّ المُجتمعَ تَراجعَ . الاستبدادُ عِندَه عَلاقةٌ مُخْتَلَّةٌ بَيْنَ حَاكَمٍ يَخافُ شَعْبَه ، وَشَعْبٍ يَخَافُ حَاكِمَه ، والخَوْفُ هُوَ اللغةُ المُشترَكةُ التي تَضْبِطُ الإيقاعَ .

     أورويل اختارَ طَريقَ السَّرْدِ لِيَكْشِفَ المَأساةَ نَفْسَها . في عَالَمِهِ الرِّوائيِّ ، لا يَحتاجُ الطاغيةُ إلى سَوْطٍ دائم ، يَكْفي أنْ يُعيدَ تَشكيلَ اللغةِ والذاكرةِ . السُّلطةُ هُنا لا تَكْتفي بالتَّحَكُّمِ في الحاضرِ ، بَلْ تُعيدُ كِتابةَ الماضي لِتَصْنَعَ مُسْتَقْبَلًا بِلا مُقَاوَمَةٍ . والقَمْعُ يُصْبحُ نِظامًا فِكريًّا مُتَكَامِلًا ، حَيْثُ يُرَاقَبُ الجَسَدُ،وَيُعَاد تَشكيلُ العَقْلِ، وَتُفَرَّغُ الكَلِمَاتُ مِنْ مَعْناها حتى تَفْقِدَ قُدْرَتَهَا على الاعتراضِ. وأورويل لا يَصِفُ الاستبدادَ كَما هُوَ فَقَط ، بَلْ أيضًا كَما يُمكِن أنْ يَصِيرَ إذا تُرِكَ بِلا مُسَاءَلَةٍ .

     الكواكبي وأورويل يَلْتقيان عِندَ نُقْطَةٍ جَوهرية: الاستبدادُ لا يَعيشُ بالقُوَّةِ وَحْدَها ، بَلْ بالتَّوَاطُؤ. الكواكبي يَرى أنَّ الجَهْلَ هُوَ التُّربةُ الخِصْبَةُ للطُّغْيان ، وأنَّ المُسْتَبِدَّ يَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ الواعي . وأورويل يَذهَبُ أبْعَد ، فَيُظْهِر كَيْفَ يُمكِن للوَعْيِ نَفْسِه أنْ يُخْتَرَقَ ، وكَيْفَ يُصْبحُ الإنسانُ شريكًا في قَمْعِ ذَاتِه ، حِينَ يَقْبَلُ الأكاذيبَ المُرِيحةَ ، ويَتخلَّى عَن الأسئلةِ الصَّعْبة . في الحَالَتَيْن ، الاستبدادُ لَيْسَ غَريبًا عَن المُجتمعِ ، بَلْ يَخْرُجُ مِنْ هَشَاشته .

     الكواكبي يَستخدمُ لُغَةً تحليلية مُبَاشِرَة أقرب إلى التَّشريحِ الاجتماعيِّ ، كأنَّه يَضَعُ الاستبدادَ على طاولةِ الفَحْصِ، وَيُشرِّح أعضاءه واحدًا واحدًا : الخَوْف ، الفَسَاد ، تَقْديس الطاغية ، تَحطيم الفَرْد .

     أورويل ، في المُقَابِلِ ، يَتْرُكُ القارئَ يعيشُ التَّجْرِبَةَ ، وَيَخْتنق معَ أبطالِه ، ويَشْعُر بِثِقَلِ الرَّقَابة ، وَيَرى كَيْفَ تَتحوَّل الشِّعاراتُ إلى قُيودٍ . الأوَّلُ يُخَاطِبُ العَقلَ ، والثاني يُخَاطِبُ الوِجْدَانَ، لكنَّ النتيجة واحدة : كَشْف القُبْحِ المُسْتَتِرِ خَلْفَ خِطَابِ نِظَامِ الطاغيةِ .

     في فِكْرِ الكواكبي ، التَّحَرُّرُ يَبْدأ مِنَ الوَعْي ، ويَنمو بالتَّعليم ، ويَكتمِل بِكَسْرِ هَيْبَةِ المُسْتَبِدِّ الوَهْمِيِّةِ، هُوَ لا يَدعو إلى فَوضى، بَلْ إلى إعادةِ التوازنِ بَيْنَ السُّلطةِ والمُجتمعِ. أمَّا أورويل، فَيُقَدِّم تَحذيرًا قاتمًا : إنْ لَمْ يُحْمَ هذا التوازن ، فإنَّ التكنولوجيا والبيروقراطية قادرتان على إنتاج طُغْيان أشد قَسْوَةً مِنْ أيِّ استبدادٍ تَقليديٍّ ، هُنا يُصْبحُ الإنسانُ رَقْمًا ، وَتَتحوَّل الحقيقةُ إلى قَرارٍ إداريٍّ .

     رَغْمَ الفارقِ الزَّمنيِّ والثقافيِّ ، فإنَّ قِراءةَ الكواكبي وأورويل معًا تَكْشِفُ أنَّ الاستبدادَ ظاهرةٌ كَوْنِيَّة ، تتجاوزُ الشَّرْقَ والغَرْبَ . إنَّه يَتكيَّف معَ السِّياقِ ، وَيَسْتعيرُ مِنَ الثقافةِ أدواتِها ، وَمِنَ اللغةِ أقْنِعَتَهَا. مَرَّةً يَتحدَّث بِاسْمِ العاداتِ والتقاليدِ ، وَمَرَّةً بِاسْمِ الأمْنِ والأمَانِ ، وَمَرَّةً بِاسْمِ التَّقَدُّمِ والازدهارِ . لكنَّ جَوْهَرَه ثابتٌ : إلغاء الإنسانِ بِوَصْفِه ذَاتًا حُرَّةً .

     تَفكيكُ الاستبدادِ لَيْسَ مُهِمَّةً سِيَاسِيَّةً فَقَط ، بَلْ هُوَ أيضًا مَشروعٌ ثقافيٌّ طويل ، يَبدأ مِنْ إعادةِ الاعتبارِ للعقلِ النَّقْدِيِّ، وَحِمايةِ اللغةِ مِنَ التَّزْييفِ ، وَتَرميمِ العَلاقةِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمعِ على أساسِ الكَرامةِ لا الخَوْفِ . الكَواكبي يُوضِّح أنَّ الطُّغْيانَ يَنهارُ حِينَ يُسَمَّى بِاسْمِه ، وأورويل يُذكِّر بأنَّ الصَّمْتَ عَن الكَذِبِ هُوَ أوَّلُ أشكالِ الهَزيمةِ .

     بَيْنَ تَحليلِ الكواكبي وَسَرْدِ أورويل ، تَتكوَّن مِرْآةٌ مُزْدَوَجَةٌ يَرى فيها القارئُ وَجْهَ الاستبدادِ بِوُضوحٍ مُخِيفٍ . مِرْآةٌ تَقُولُ إنَّ الحُرِّية لا تُمنَح، بَلْ تُبنَى ، وإنَّ أخطرَ مَا في الطُّغْيانِ أنَّه يُقْنِعُ ضَحَاياه بأنَّه قَدَرٌ لا يُرَدُّ . وفي هذا الوَعْيِ تَحديدًا يَبْدأ التَّفكيكُ ، وتَبْدأ أُولَى خُطُواتِ الخَلاصِ .

     تَفكيكُ الاستبدادِ لَيْسَ حِكْرًا على ثقافةٍ ولا زَمَنٍ، بَلْ هُوَ هَاجِسٌ إنسانيٌّ يَتجدَّد كُلَّما تَغَيَّرَتْ أقنعةُ الطُّغْيانِ. الكواكبي ، وَهُوَ يَكْتُبُ مِنْ قَلْبِ الشَّرْقِ الجَريحِ ، واجهَ الاستبدادَ بِوَصْفِهِ عِلَّةً أخلاقية وفِكرية ، تُفْسِدُ الدِّينَ والعقلَ والمُجتمعَ ، فكانَ خِطَابُهُ مُبَاشِرًا إصلاحيًّا ، يُرَاهِنُ عَلى وَعْيِ الأُمَّةِ واستعادةِ إرادتها. أمَّا أورويل، ابْنُ التَّجْرِبَةِ الغربيةِ الحديثةِ ، فَقَد اختارَ طَريقَ الرَّمْزِ والتَّخْييلِ، كاشفًا كَيْفَ يَتحوَّل الاستبدادُ إلى مَنظومةٍ شاملة تُسَيْطِر على اللغةِ والذاكرةِ والحقيقةِ نَفْسِها ، حَتَّى يَغْدُوَ القَمْعُ غَيْرَ مَرئيٍّ ، لكنَّه أشدُّ فَتْكًا.