سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] الديانات في القرآن الكريم [16] بحوث في الفكر الإسلامي [17] التناقض في التوراة والإنجيل [18] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [19] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [20] عقائد العرب في الجاهلية[21]فلسفة المعلقات العشر[22] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [23] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [24] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [25]مشكلات الحضارة الأمريكية [26]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[27] سيناميس (الساكنة في عيوني)[28] خواطر في زمن السراب [29] فلسفة المتنبي الشعرية [30] أشباح الميناء المهجور (رواية)[31]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

07‏/11‏/2025

وصف الخمر بين أبي نواس وبودلير

 

وصف الخمر بين أبي نواس وبودلير

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................

     الحسن بن هانئ المَعروف بأبي نُوَاس ( 145 _ 198 ه / 762_ 813 م ) ، شاعر عربي مِنْ أشهرِ شُعَراءِ العصرِ العَبَّاسِي ، وَمِنْ كِبار شُعَراءِ الثَّورةِ التجديدية . أحدثَ انقلابًا في مَضمونِ الشِّعْرِ العربيِّ وأُسلوبِه ، فَقَدْ تجاوزَ الأغراضَ التقليدية كالمَدْحِ والفَخْرِ ، واتَّجَهَ إلى مَواضيع جديدة تُعبِّر عَن التَّرَفِ والتَّحَرُّرِ . وكانَ وَصْفُ الخَمْرِ أبرزَ هذه المواضيع التي ارتبطَ اسْمُه بِها ، وَقَدْ قَدَّمَ رُؤيةً فِكريةً مُتكاملة جعلتْ مِنَ الخمر رمزًا للحياةِ والحُرِّيةِ والتَّمَرُّد .

     تَجَلَّى أُسلوبُه الفَنِّي في طريقته في رَسْمِ صُورةِ الخَمْر ، إذ اتَّسَمَتْ بالدِّقَّةِ والتفصيلِ والحيوية ، فَقَد استعارَ مِنْ مُعْجَمِ الضَّوْءِ واللونِ والحركةِ مَا يُضْفي على الصُّورةِ طَابَعًا بَصَريًّا يَكَاد يُحوِّل المَشْهَدَ إلى لَوْحَةٍ فَنِّية ، كما لجأ إلى الأساليبِ البَلاغيَّة مِنْ تَشْبيهٍ واستعارةٍ وكِناية ، لِيَمنحَ الخَمْرَ صِفَاتٍ إنسانيَّة تَجْعلها شَخصيةً حَيَّةً تَتفاعل معَ الشاعر. ولا يَكْتفي بوصفِ مَظْهَرِها أوْ طَعْمِها ، بَلْ يَربِط بَيْنَ لَوْنِها ورائحتها وتأثيرِها النَّفْسِيِّ ، فَيَصْنَع لَوْحَةً حِسِّية مُتكاملة تَتجاوز الماديِّ إلى الجَمَاليِّ .

     تُمثِّل الخَمْرُ في شِعْرِهِ رمزًا للحَياةِ والمُتعةِ ، والتَّمَرُّدِ على القِيَمِ التقليدية ، والتَّحَرُّرِ مِنَ القُيودِ الاجتماعيةِ والدِّينية ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب ، بَلْ وسيلة للتَّحَرُّرِ مِنْ سُلطةِ الدِّينِ والمُجتمعِ ، والهُروبِ مِنَ الواقعِ القاسي ، والتقاليدِ الصارمةِ التي كَبَّلَت الإنسانَ ، وتَجسيد لفلسفةِ اللذةِ والاحتفاءِ بالجسدِ واللحظةِ الآنِيَّة .

     بِهَذا المَعنى ، تَتَحَوَّلُ الخَمْرُ إلى رمزٍ للبحثِ عَن الذاتِ ، والتصالحِ معَ الرَّغَبَاتِ الإنسانية المَكبوتة. وَتَجْرِبَتُهُ مَعَ الخَمْرِ حِسِّية في ظاهرِها،لكنَّها تَنْطوي على نَزْعة فِكرية تُمجِّد الحُرِّيةَ الفردية ، وتَحْتفي بالإنسانِ في طَبيعته الأوَّلِيَّةِ البِدَائية الغريزية الشَّهْوانية . وَالخَمْرُ لَدَيْهِ رَمْزٌ دُنيوي ، مُرتبط بالمُتعةِ والمَجالسِ واللهوِ والعبثِ ، وإنْ كانتْ تُخْفي وَراءها احتجاجًا على النِّفَاقِ الاجتماعيِّ والقُيودِ الأخلاقية .

     وَتَعْكِسُ قصائدُه صِرَاعًا داخليًّا بَيْنَ اللذةِ والذَّنْبِ ، وَبَيْنَ النَّزْعةِ الحِسِّيةِ والنَّزْعةِ الأخلاقية، وَهُوَ مَا يُضْفي على تَجرِبته عُمْقًا إنسانيًّا يَتجاوز حُدودَ اللهوِ والمُجُونِ الظاهريِّ .

     لَمْ تَكُن الخَمْرُ عِندَه مُجرَّد شَرابٍ يَسْقي الأجسامَ ، بَلْ كانتْ رمزًا فلسفيًّا يَعكِس مَوْقِفَه مِنَ الحَياةِ والوُجودِ والحُرِّية . وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ خَلاصًا مِنَ الزَّيْفِ والنِّفَاقِ ، وعَوْدَةً إلى الصِّدْقِ الطبيعيِّ في الإنسانِ . وَمِنْ خِلال هذا الرَّمْزِ ، أعلنَ تَمَرُّدَه على الزُّهْدِ المُصْطَنَعِ ، وَدَعَا إلى فَلسفةٍ جديدة تَحْتفي بالحياةِ ولَذَّاتِها ، وَتُؤْمِن بأنَّ المُتعةَ الصادقةَ وَجْهٌ آخَر للحقيقة .

     والشاعرُ الفرنسيُّ شارل بودلير ( 1821 م _ 1867 م ) مِنْ أبرزِ شُعراءِ القرنِ التاسع عَشَر في فرنسا ، وَيُعْتَبَرُ رائد الحَداثة الشِّعْرية الأُوروبية . وَقَدْ شَكَّلَت الخَمْرُ في تَجرِبته الشِّعْريةِ رمزًا مَركزيًّا يُجسِّد الصِّراعَ بَيْنَ الجسدِ والرُّوحِ ، بَيْنَ الواقعِ والمِثال ، فَهِيَ عِنده لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب ، بَلْ حالة وُجودية يَسْعى مِنْ خِلالِها إلى تَجاوزِ بُؤْسِ الواقعِ ، والارتقاءِ إلى عَالَمٍ مِنَ الجَمالِ والنَّشْوةِ الفَنِّية .

     تَتَّخِذُ الخَمْرُ عِندَه بُعْدًا رمزيًّا عميقًا ، فَهِيَ تُمثِّل وَسيلةً للتَّحَرُّرِ مِنْ قُيودِ الواقعِ الماديِّ ، والانفلاتِ مِنْ ثِقَلِ الزَّمَنِ والمَلَلِ ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد أداة للسُّكْرِ أو المُتعةِ الحِسِّية ، بَلْ هِيَ رمزٌ للتَّحليقِ في فَضاءِ الإبداعِ ، والانعتاقِ مِنَ الواقعِ المُبْتَذَلِ نَحْوَ عَالَمٍ أكثر صَفَاءً وَنَقَاءً . كَما تَرتبط الخَمْرُ في شِعْرِه بِفِكرةِ التَّمَرُّدِ على النِّظامِ الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ ، إذْ يَرى فيها وسيلةً للانفصالِ عَن المُجتمعِ البُرْجُوازيِّ الذي يَرفُض قِيَمَه المادية والسَّطْحية .

     في فلسفته الشِّعْريةِ ، تُمثِّل الخَمْرُ طريقًا نَحْوَ المُطْلَقِ الفَنِّي والرُّوحي ، فَهُوَ يَرى أنَّ الإنسان يعيش في عَالَمٍ ناقصٍ وَمَلِيء بالبُؤْسِ والشَّقَاءِ والتَّعَاسةِ، وأنَّ الخَمْرَ تَمْنحه لَحْظَةً مُؤقَّتة مِنَ الكَمالِ والانسجامِ معَ الكَوْن. إنَّها رِحْلة آنِيَّة نَحْوَ السُّمُوِّ ، يَستطيع الشاعرُ مِنْ خِلالِها أنْ يَقْترب مِنَ الجَمالِ المِثاليِّ الذي لا يَبْلُغُه في الواقع . وهَكذا ، تَتحوَّل الخَمْرُ إلى رمزٍ للفَنِّ ذاتِه ، لأنَّهما يَمْنحان الإنسانَ لَحْظةً مِنَ الخَلاصِ مِنْ عُبوديَّةِ الواقعِ .

     يَرتبط وَصْفُ الخَمْرِ عِندَه بحالته النَّفْسِيَّةِ المُضْطَرِبَة ، فَهُوَ يَعيشُ صِراعًا دائمًا بَيْنَ رَغْبته في الصُّعودِ الرُّوحيِّ وَسُقوطِهِ في عَبَثِ الواقع ، وتُمثِّل الخَمْرُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه حَلًّا مُؤقَّتًا للقلقِ الوُجوديِّ الذي يُعانيه ، إذْ تَمْنحه شُعورًا زائفًا بالطُّمَأنينة ، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه تُذكِّره بِزَيْفِ تِلْك الطُّمَأنينةِ وَزَوالِها السريع .

     وَمِنْ هَذا المَنظورِ ، تَظهَر الخَمْرُ كَمِرْآةٍ لِتَمَزُّقِ ذاتِ الشاعرِ بَيْنَ الحُلْمِ والهاوية ، بَيْنَ النَّشْوَةِ واليأسِ ، في صُورةٍ فَنِّية تُعبِّر عَن التناقضِ الإنسانيِّ العميق . وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ تَجْسيدًا لحالةِ الشاعرِ ذَاتِه ، فَكَمَا يَسْكَر الإنسانُ بالخَمْرِ لِيَهْرُبَ مِنْ واقعِه ، يَسْكَر الشاعرُ بالشِّعْرِ لِيَتَحَرَّرَ مِنَ العَالَمِ العاديِّ ، وَيَصْنَعَ عَالَمَه الخاص .

     تُشكِّل الخَمْرُ في الشِّعْرِ العربيِّ والغَربيِّ رمزًا مُركَّبًا تَتداخل فيه اللذةُ والتَّمَرُّدُ والبحثُ عَن الخَلاص . وإذا كانَ أبو نُوَاس جَعَلَ مِنَ الخَمْرِ أداةً للتَّمَرُّدِ على القِيَمِ الدِّينية والاجتماعيةِ في العَصْرِ العَبَّاسِيِّ ، فإنَّ بودلير جَعَلَ مِنها وسيلةً للهُروبِ مِنْ عَبثيةِ الواقعِ والاغترابِ الوُجوديِّ .

     رَغْمَ المَسافةِ الزمنيةِ والثقافية ، يَشترك أبو نُوَاس وبودلير في جَعْلِ الخَمْرِ أداةً للحُرِّيةِ والتَّحَرُّرِ، الأوَّل مِنْ سُلْطَةِ الدِّينِ والمُجتمعِ ، والثاني مِنْ ثِقَلِ الوُجودِ والزمنِ . لكنَّ الاختلافَ الجَوهريَّ أنَّ خَمْرَ أبي نُوَاس احتفالٌ بالحَياة ، بَيْنَما خَمْر بودلير هُروب مِنَ الحَياة .

01‏/11‏/2025

الطبقة الكادحة بين نجيب محفوظ وجون شتاينبك

 

الطبقة الكادحة بين نجيب محفوظ وجون شتاينبك

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     يُعْتَبَرُ الكاتبُ المِصْري نجيب محفوظ ( 1911 _ 2006 / نوبل 1988 ) أعظمَ روائي في الأدبِ العربي على الإطلاقِ . تُعَدُّ أعمالهُ سِجِلًّا حَيًّا للتَّحَوُّلات الاجتماعية في مِصْر .

     كَتَبَ في فَترةِ التَّحَوُّلاتِ السِّياسية والاجتماعية العَميقة في المُجتمعِ المِصْرِيِّ ، مِنَ الاحتلالِ البريطاني إلى ثَورة 1919 ثُمَّ ثَورة يوليو 1952 ، ومَا تَبِعَها مِنْ تَغْييرات في البُنْيَةِ الطَّبَقِيَّة . وانطلقَ مِنْ واقعٍ اجتماعي مُضطرِب ، فَجَعَلَ مِنَ الأدبِ وسيلةً لكشفِ أزَمَاتِ العَدالةِ الاجتماعية ، وعاشَ مَراحلَ الصِّراعِ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ الاجتماعية ، حَيْثُ كانت الطَّبَقَةُ الكادحة ( العُمَّال ، الفُقَراء ، صِغَار المُوظَّفين ، سُكَّان الحَارَاتِ الشَّعْبية ) في مُواجَهةِ الفَقْرِ والسُّلطةِ والبيروقراطية . وَقَدْ كانتْ مِصْر تَمُرُّ بِمَرحلةِ انتقالٍ مِنَ الإقطاع إلى نَوْعٍ مِنَ الاشتراكية ، فانعكسَ ذلك في أدبِه كَصِرَاعٍ بَيْنَ القَديمِ والجديد، وصارَ مَادَّةً خِصْبَةً في كِتَاباته التي رَصَدَتْ حَركةَ المُجتمعِ بَيْنَ القَهْرِ والأملِ .

     قَدَّمَ تَصويرًا دقيقًا لِعَالَمِ الكادحين في الحَارَاتِ الشَّعْبية ، حَيْثُ يَتجسَّد الفَقْرُ لَيْسَ كحالةٍ ماديَّةٍ فَقَط، بَلْ أيضًا كَمُعَاناةٍ وُجوديةٍ وإنسانية. وكانَ يَرى أنَّ الفَقْرَ لَيْسَ عَيْبًا فرديًّا، بَلْ نتيجة لعوامل اجتماعية وتاريخية مُعقَّدة ، إلا أنَّه يُعالجه بِمَنظورٍ إنسانيٍّ أكثر مِنْ كَوْنِه سِياسيًّا . فالكادحُ عِندَه هُوَ إنسان يَسْعَى إلى حِفْظِ كَرامته رَغْمَ انكسارِه ، وَيَظَلُّ قادرًا على الحُلْمِ والمُقاوَمة .

     شَخصياتُه غالبًا مِنَ الحَارَةِ الشَّعْبية : الحَلَّاق ، البائع ، البَوَّاب ، الفتاة الفقيرة . يُصورِّهم بَيْنَ مِطْرقةِ الفَقْرِ وَسِنْدَانِ السُّلطة ، لكنَّهم يَحْتفظون بِكَرامتهم وإنسانيتهم . والكِفَاحُ عِندَه لَيْسَ اقتصاديًّا فَحَسْب ، بَلْ هُوَ أيضًا وُجودي وأخلاقي ، وَبَحْثٌ عَنْ مَعْنى الحَياةِ والعَدْلِ والكَرامة .

     تَتجلَّى الطَّبَقَةُ الكادحةُ بِوُضوحٍ في أعمالِه الواقعية ، فَهُوَ يَرسُم لَوْحةً مُتكاملة للحَياةِ الشَّعْبية في أحياءِ القاهرةِ القديمة ، حَيْثُ تتقاطع طُموحاتُ الفُقَراءِ معَ قَسْوَةِ الواقعِ ، وَيَتجسَّد حُلْمُ الإنسانِ بالتَّحَرُّرِ مِنَ الفَقْرِ، وأحيانًا يَسْقَط في بَراثِنِ الاستغلالِ ، فَيَتَحَوَّل الحُلْمُ إلى مَأساةٍ .

     وَقَدْ قَدَّمَ في أعمالِه مَأساةَ الأُسْرَةِ المِصْرِيَّة الفقيرة التي تُكافِح مِنْ أجْلِ البَقاءِ بعد وَفاةِ عائلها، فَيَتَحَوَّل الفَقْرُ إلى قَدَرٍ يَخْتبر القِيَمَ والأخلاقَ والمَبادئ . وفي بعضِ أعمالِه ، تَتَحَوَّلُ الحَارَةُ إلى نَمُوذج مُصغَّر للمُجتمعِ الإنسانيِّ ، حَيْثُ يَتوارث الناسُ الصِّراعَ بَيْنَ العَدْلِ والطُّغيان ، وَيَظَلُّ " الفُتُوَّة " رمزًا للسُّلطةِ التي يَسعى الكادحون لِتَقْويمها أوْ مُواجهتها . وَهُوَ يَرى في الطَّبَقَةِ الكادحةِ الضَّميرَ الأخلاقيَّ للأُمَّة ، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه ضَحِيَّةٌ لِبُنْيةٍ اجتماعية ظالمة . خَلاصُها يَتحقَّق بالوَعْي والنَّزْعةِ الأخلاقية النابعة مِنَ الداخل .

     والرِّوائيُّ الأمريكيُّ جون شتاينبك ( 1902 _ 1968 / نوبل 1962 ) مِنْ أبرزِ الأُدباءِ الذينَ عَالَجُوا مَوضوعَ الطَّبَقَةِ الكادحة . كَتَبَ في ظِلِّ فَترةِ الكَسَادِ العظيم ( 1929_ 1939 ) حِينَ انهارَ الاقتصادُ الأمريكي، وَخَسِرَ مَلايين الناسِ أراضيهم وأعمالَهم ، وَتَحَوَّلوا إلى مُشرَّدين يَبْحثون عن العملِ في الحُقولِ والمَصانع .

     تعاملَ معَ الطَّبَقَةِ الكادحة بِرُؤيةٍ إنسانيَّة احتجاجيَّة ، فَهُوَ لا يَكْتفي بِوَصْفِ مُعاناتهم ، بَلْ يُدِينُ النظامَ الاقتصاديَّ الذي أنتجها ، ويُبْرِز القِيَمَ الإنسانية مِثْلَ التَّضَامُنِ ، والحُبِّ ، والإخلاصِ ، باعتبارِها السِّلاح الوحيد في مُواجهةِ القَسوةِ الاجتماعية . كما يَتميَّز أُسلوبُه بالواقعية المَمْزوجة بالرَّمْز ، إذْ يَتحوَّل العملُ وَالأرضُ وَالأُسْرَةُ إلى رُموز كُبْرى للكَرامةِ الإنسانيَّة .

     شَخصياتُه مِنَ العُمَّالِ الزِّراعيين والمُهاجِرين الفُقَراء ، يُصارِعون الجُوعَ والاستغلال . والكِفَاحُ عِندَه ماديٌّ ومَعْنويٌّ في آنٍ معًا : الجُوع ، والقَهْر الاجتماعي ، وَضَياع الحُلْمِ الأمريكيِّ . لكنَّه يُغلِّف مُعَاناتهم بإحساسٍ عميق بالتضامُنِ الإنسانيِّ ، والكَرامةِ ، والأملِ بالعَدالةِ الاجتماعية .

     جَعَلَ مِنَ الكادحين الأمريكيين رَمْزًا للمُعَاناةِ الكَوْنِيَّة ، فالفَقْرُ عِندَه لَيْسَ حالةً اقتصادية فَحَسْب، بَلْ أيضًا مأساة وُجودية تَنْبُع مِن انعدامِ العَدالة . وَهُوَ يُؤْمِنُ بِقُدْرتهم على التضامنِ والتَّمَرُّدِ ، والوِلادةِ الجديدةِ مِنْ رَحِمِ المُعاناة .

     وَنَقَلَ في أعمالِه مَأساتهم بِلُغَةٍ تَمْتزج فيها الشاعريةُ بالغضب . والأرضُ عِندَه لَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفِيَّة للأحداث ، بَلْ هِيَ مُعَادِلٌ رُوحيٌّ للإنسانِ ، حِينَ تُغْتَصَبُ الأرضُ ، وَيُغْتَصَبُ الوُجودُ الإنساني .

     وَجَعَلَ مِنَ الحَقْلِ الأمريكيِّ مِنْبَرًا للعَدالةِ والتَّمَرُّدِ . وَهُوَ لا يَكْتُب عَن الفَقْرِ كَقَدَرٍ ، بَلْ كَجَريمة. الأرضُ التي يُطرَد مِنها الفلاحون تَتحوَّل إلى كائنٍ جريح ، والإنسانُ الذي يُسحَق تحت عَجَلاتِ الرأسمالية يَتحوَّل إلى رَمْزٍ للمُقاوَمةِ الصامتة . وَقَدْ صَوَّرَ الحُلْمَ الأمريكيَّ وَهُوَ يَتفتَّت بين أصابع العاملين في المَزارع ، حِينَ يُصْبح الحُلْمُ نَفْسُه سِلْعَةً لا يَقْدِرُون على شِرائها .

     كَتَبَ بلسانِ الجماعة لا الفَرْدِ، بِصَوْتِ الغضبِ الجَمْعِيِّ الذي يُشبِه صَفِيرَ الرِّيحِ في الحُقولِ الخالية . لُغَتُهُ مُشْبَعَةٌ برائحةِ التُّرابِ ، وَعَرَقِ الأجسادِ ، وَدُموعِ الأُمَّهات . والكادحون لا يَسْكُنون عَالَمَ الهزيمةِ ، بَلْ عَالَم النُّهوضِ مِنَ الرُّكام ، حَيْث الحُلْم آخِر مَا يُنْتَزَع مِنَ الإنسان .

     لَقَدْ رَكَّزَ محفوظ على الداخلِ المِصْرِيِّ ، حَيْث الصِّراع بَيْنَ القِيَمِ والتقاليدِ والحَداثة ، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للبَقَاءِ والكَرامة ، أمَّا شتاينبك ، فَقَدْ رَكَّزَ على الإنسانِ العالميِّ في مُواجهةِ النِّظامِ الرأسماليِّ القاسي ، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للأملِ والمُقاوَمة .

25‏/10‏/2025

ضياع الشباب بين طرفة بن العبد وجون كيتس

 

ضياع الشباب بين طرفة بن العبد وجون كيتس

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

........................


     يُعْتَبَرُ طَرَفَة بن العَبْد ( تقريبًا 543 م _ 569 م ) مِنْ أبرزِ شُعراءِ الجاهليَّة . عاشَ في بيئةٍ بَدَوِيَّةٍ صَحْراوية قاسية ، تَنْتشر فيها الصِّرَاعاتُ القَبَلِيَّة ، والمَوْتُ مَوجودٌ في كُلِّ لَحظة ، وَلَهُ حُضُورٌ دائم في الوَعْي الجَمْعِيِّ ، والحياة قصيرة ، فانعكسَ هَذا عَلى رُؤيته للحَياةِ والشَّبَابِ . وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّباب مَرحلة عابرة لا تَسْتحق التَّقَشُّفَ أو الادِّخار ، وَيَدْعُو إلى استغلالِها في المُتعةِ واللذةِ قَبْلَ أنْ يُداهِم المَوْتُ الإنسانَ، وفي هَذا إشارةٌ إلى نِهايةِ الإنسانِ ، وحَتميةِ المَوْتِ، وضَياعِ الشَّبابِ . لذلك كانتْ نَزْعَتُهُ شَهْوَانِيَّةً لَذائذيَّة ، ورُؤيته العَامَّة عبثية وماديَّة ومُتمردة ، تَدْعُو إلى اغتنامِ المُتعةِ واللذة، لأنَّ الحياةَ قصيرة ، والشَّباب لا يَدُوم ، والمَوْت لا مَفَر مِنْه ، خاصَّةً في ظِلِّ شُعوره بِقِصَرِ عُمْرِه ، حَيْثُ قُتِلَ في رَيْعَانِ شبابه .

     نَظَرَ إلى الشَّبَابِ باعتباره مرحلةً قصيرة ، يَنْبغي أنْ تَقُومَ على الاستمتاعِ والتَّمَرُّد ، وَرَفْضِ الانصياعِ للمُجتمعِ أو القُيودِ الاجتماعية ، فَهِيَ فُرصة وحيدة لِتَذَوُّقِ اللذةِ قَبْلَ الفَنَاءِ السريع الذي يُمثِّله المَوْتُ . وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضائعٌ بالضَّرُورة ، فلا جَدوى مِنَ الخَوْفِ ، ولا فائدة مِنَ القَلَقِ ، بَلْ يَجِبُ الانغماسُ في مَلَذَّاتِ الحياة ، وَهُوَ بذلك يُعبِّر عَنْ فَلسفةٍ حَياتية تَمِيلُ إلى العبثِ ، والاحتفالِ بالجسدِ، وتَعظيمِ الغرائز .

     عَبَّرَ عَنْ إحساسِه بالغُربةِ والضَّيَاعِ ، لَيْسَ فَقَط مِنْ خِلالِ تَمجيدِ الماضي وَبُعْدِه عَنْ مُتَنَاوَلِ اليَدِ ، بَلْ أيضًا مِنْ خِلالِ التَّفَكُّرِ في الفَوضى الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ التي كانتْ تعيشُها قبيلته .

     عاشَ فَتْرَةَ شَبابِه مُتَأرْجِحًا بَيْنَ الحَياةِ والمَوْتِ ، مُوَاجِهًا مَصيرَ الفَناء ، وَهُوَ مَا يَعكِسه شِعْرُه الذي يَجْمَع بَيْنَ استذكارِ جَمالِ الشَّبابِ والتَّعبيرِ عَنْ فِقْدانِ الأملِ في المُستقبَل ، بسببِ تآكُلِ الأحلامِ وَتَبَدُّدِهَا . هَذا التَّأرْجُحُ بَيْنَ اليأسِ والمُقاوَمةِ يَدُلُّ عَلى فلسفةِ الشاعرِ الوُجودية ، ويُشير إلى صِراعٍ دائم بَيْنَ الرَّغبةِ في البَقَاءِ والتَّحَدِّي والمَصيرِ المَحتوم .

     دارَ الشاعرُ في فَلَكِ المَوْتِ، وَهَذا دَفَعَه إلى الشِّعْرِ في مُحاولةٍ للتَّعبيرِ عَنْ حَياته القصيرةِ المَليئةِ بالصِّراعِ والمُعَاناةِ والألَمِ . وكانَ يَرى أنَّ المَوْتَ لا يأتي إلا بعد أنْ يَصِلَ الإنسانُ إلى ذُرْوَةِ شبابِه وأحلامِه . وَقَدْ أظْهَرَ حَسْرَةً مَريرةً عَلى ضَياعِ الشَّبابِ ، وَعَدَمِ التَّمَتُّعِ بِه ، وكأنَّ العُمْرَ انتهى قَبْلَ أنْ تَبدأ الفُرَصُ الحقيقية . كَما أظْهَرَ حُزْنًا شديدًا على الزَّمانِ الذي مَضَى سريعًا دُون أنْ يَتْرُكَ لَهُ الفُرصةَ للاستفادةِ مِنْ طَاقته وحَيويته . بَلْ وَيَظْهَر في شِعْرِه استشرافُه للمَوْتِ المُبَكِّر ، وَهُوَ مَا يَتَمَاهَى مَعَ حَياته القصيرةِ التي انتهتْ بالقتلِ .

     وَيُعْتَبَرُ جون كيتس ( 1795 م _ 1821 م ) مِنْ أبرزِ شُعَراءِ الحركةِ الرومانتيكية الإنجليزية. كانَ مَهْوُوسًا بالجَمالِ والزَّمَنِ والفَنَاءِ، وَمَعروفًا بِحِدِّةِ تأمُّلِهِ في ضَياعِ الشَّبابِ والمَوْتِ المُبكِّر. وَقَدْ تُوُفِّيَ شابًّا بِمَرَضِ السُّلِّ ، وَلَمْ يَحْظَ في حَياته إلا بالتجاهلِ والاحتقارِ مِنْ قِبَلِ النُّقَّادِ والشُّعَراءِ ، وعاشَ مُعَذَّبًا بَيْنَ المَرَضِ والنَّقْدِ .

     كانَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضَحِيَّةُ الزَّمَن ، وأنَّ الجَمَالَ هَشٌّ وعَابِرٌ ، لكنَّه لا يَدعو إلى المُتعةِ الجسدية بِقَدْرِ مَا يَحْتفي بالجَمَالِ الفَنِّي الخالد . وَرُؤيته العَامَّة ذات طبيعة فلسفية ومِثالية ، تَعكِس حُزْنًا عميقًا ، وتأمُّلًا في مَعنى الحَياةِ ، لكنَّها تَسعى إلى الخُلودِ مِنْ خِلالِ الفَنِّ لا المُتعةِ .

     اعتمدَ أُسلوبًا رمزيًّا مُعَقَّدًا ، وَلُغَةً مُوسيقية رقيقة تَعِجُّ بالصُّوَرِ الفَنِّيةِ الرَّمزيةِ والمَجَازِ ، وغالبًا مَا يَسْتدعي عَناصر مِنَ الطبيعةِ والفَنِّ ، وَيَسْتَلْهِم مِنَ الأساطير ، وَيَجْعَل مِنَ الطائرِ أو المَزهريةِ أو الرَّبيع رُموزًا للشَّبابِ العابرِ ، أو الخُلودِ المَنشود . وَقَدْ عَبَّرَ في شِعْرِه عَنْ رَغْبته في الهُروبِ مِنَ الواقعِ عَبْرَ الجَمال ، لأنَّه يُدرِك أنَّ شبابَه وَصِحَّتَه في طَريقهما إلى الزَّوال .

     والشَّبَابُ عِندَه لَيْسَ وَقْتًا للمُتعةِ العابرة ، بَلْ لَحْظة سريعة مِنَ الجَمالِ الباهرِ، يَطْمَح إلى تَخليده عَبْرَ الشِّعْرِ ، لأنَّه يَعْلَم أنَّه لَنْ يَبقى طويلًا لِيَعيشَ هَذا الجَمَالَ بِنَفْسِه ، وَلَنْ يعيشَ طويلًا لِيَشْهَدَ تَحَوُّلاتِ الزَّمَن. لذلك كانَ يُركِّز على التأمُّلِ في الجَمَالِ والفَنَاءِ كَأمْرَيْن مُتَرَابِطَيْن ، فالشَّبابُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه هَدِيَّةٌ مُؤقَّتة ، مِثْل لَحْظَةِ جَمَالٍ في لَوْحَةٍ فَنِّية .

     عَبَّرَ عَنْ رُؤيته للأشياءِ العظيمةِ التي تَحْدُث في الحَياة ، وأيْقَنَ أنَّ وَراءَ كُلِّ شَيْءٍ عظيمٍ هُناك الفَنَاء الذي يَنتظر الجميعَ . وَرَأى في مَوْتِ الشَّبابِ جُزْءًا مِنْ دَوْرَةِ الحَياة . وكانَ يَحْزَنُ على ضَياعِ الفُرَصِ ، وَعَلى فَترةِ الشَّبابِ التي غالبًا مَا تَمُرُّ سريعًا دُون أنْ يُحقِّق الإنسانُ كُلَّ مَا يَرْغُب بِه .

     وَمَفهومُ " ضَيَاع الشَّباب " يَظْهَر عادةً في سِياقِ الحُزْنِ عَلى مُرور وَقْتٍ لا يَعُود ، والتأمُّلِ في تِلْك الفَترةِ الذهبية التي تَتَّسِمُ بالحَيَويةِ والطُّموحِ ، ثُمَّ التلاشي السريع لِهَذه الفَترةِ بَعْدَ مُلاقاةِ الإنسانِ للصُّعوباتِ والمَآسِي. وهَذا المَفهومُ لا يَرتبط بِمُرورِ الزَّمنِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَرتبط بِمَشاعرِ الخَيْبَةِ والنَّدَمِ بسببِ عَدَمِ القُدرةِ على الاستفادةِ الكاملةِ مِنْ هَذه المَرحلة .

     رَغْمَ التَّبَايُنِ الزَّمَنيِّ والثَّقَافيِّ بَيْنَ طَرَفَة بن العَبْد وجون كيتس ، فإنَّهما يَتشاركان الشُّعورَ العميقَ بِضَياعِ الشَّبابِ . كُلٌّ مِنْ زاويته . طَرَفَة يُواجهه باللذةِ ، والتَّمَرُّدِ ، والانغماسِ في المُتعةِ الجسدية ، بَيْنَما يَتأمَّله كيتس بالحُزْنِ ، والألَمِ ، والبحثِ عَن الخُلودِ الفَنِّي ، وتَخليدِ اللحظةِ الجَمَالِيَّة . وَمِنْ خِلالِ شِعْرِهما ، يَتَّضِح أنَّ الشُّعورَ بِضَياعِ الشَّبابِ وَفَنَائِهِ قَضِيَّةٌ إنسانيَّة تَتجاوز الزَّمَانَ والمكان . والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ الشَّاعِرَيْن تُوُفِّيَا وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ السادسةِ والعِشرين مِنَ العُمْر .