سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] الديانات في القرآن الكريم [16] بحوث في الفكر الإسلامي [17] التناقض في التوراة والإنجيل [18] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [19] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [20] عقائد العرب في الجاهلية[21]فلسفة المعلقات العشر[22] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [23] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [24] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [25]مشكلات الحضارة الأمريكية [26]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[27] سيناميس (الساكنة في عيوني)[28] خواطر في زمن السراب [29] فلسفة المتنبي الشعرية [30] أشباح الميناء المهجور (رواية)[31]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

11‏/07‏/2025

المعاناة الصحية بين بدر شاكر السياب وألكسندر بوب

 

المعاناة الصحية بين بدر شاكر السياب وألكسندر بوب

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................

     يُعْتَبَر الشاعرُ العِراقيُّ بَدْر شَاكِر السَّيَّاب ( 1926 _ 1964 ) ، مِنْ أبرزِ الشُّعَراءِ العَرَبِ في القَرْنِ العِشرين ، وأحَدَ مُؤسِّسي الشِّعْر الحُر في الأدب العربيِّ .

     وُلِدَ في قَريةِ جيكور بالبَصْرَة. فَقَدَ وَالِدَتَه في سِنِّ السادسة ، وَتَرَكَ ذلك أثرًا عميقًا في حياته ، فذاقَ مَرارةَ اليُتْمِ طِيلة حَياته ، وفي مَرحلةِ طُفولته عانى مِنْ عُقدةِ المَرَضِ وضَعْفِ الجِسْمِ .

     كانَ السَّيَّابُ ضئيلًا ، نَاحِلَ الجِسْم ، قَصِيرَ القَامَةِ ، ذا مَلابس فَضْفاضة . وَصَفَه الدُّكتور إحسان عَبَّاس بِقَوْلِه : (( غُلام ضَاوٍ نَحِيل كأنَّه قَصَبَة ، رُكِّبَ رَأسُه المُستدير كَحَبَّةِ الحَنْظَل ، عَلى عُنُقٍ دقيقة تَمِيل إلى الطُّول، وعلى جَانِبَي الرَّأس أُذُنَان كبيرتان ، وتحت الجبهة المُستعرضة التي تَنْزِل في تَحَدُّبٍ مُتَدَرِّج أَنْفٌ كبير يَصْرِفُكَ عَنْ تأمُّلِه أوْ تأمُّلِ العَيْنَيْنِ الصَّغِيرَتَيْن العَادِيَّتَيْن عَلى جَانِبَيْه فَمٌ وَاسِع ، تَبْرُز الضَّبَّةُ العُلْيا مِنْه وَمِنْ فَوْقِهَا الشَّفَة بُرُوزًا يَجْعَل انطباقَ الشَّفَتَيْن فَوْقَ صَفَّي الأسنان كَأنَّه عَمَلٌ اقتساري، وَتَنْظُر مَرَّةً أُخْرَى إلى هذا الوجه الحِنْطِيِّ، فَتُدْرِك أنَّ هُناك اضطرابًا في التَّنَاسُبِ بَيْنَ الفَكِّ السُّفْلِيِّ الذي يَقِفُ عِند الذَّقْنِ كأنَّه بَقِيَّة عَلامَة استفهام مَبْتُورة، وَبَيْنَ الوَجْنَتَيْن الناتئتَيْن، وكأنَّهما بِدايتان لِعَلامَتَي استفهام أُخْرَيَيْن قَد انْزَلَقَتَا مِنْ مَوْضِعَيْهِمَا الطَّبِيعِيَّيْن )) [ بدر شاكر السياب ، دراسة في حياته وشِعْرِه ، 1969 ، ص 25 ] .

     نَتيجة الفَقْرِ المُدْقِعِ الذي عَاشَه السيابُ في صِغَرِه ، عانى مِنْ فَقْر دَم ناشئ عَنْ سُوءِ التَّغذية ، كما ساهمَ مَرَضُ السُّلِّ الذي أُصِيبَ بِهِ في شَبَابِه في نُحُولِ جَسَدِه .

     في عام 1961 ، بدأتْ صِحَّةُ السياب بالتَّدهور ، حَيْثُ بدأ يَشعُر بِثِقَلٍ في الحَرَكَةِ ـ وأخذَ الألمُ يَزداد في أسفلِ ظَهْرِه ، ثُمَّ ظَهَرَتْ بعد ذلك حالةُ الضُّمور في جَسَدِه وقَدَمَيْه ، وَتَمَّ تَشْخِيصُهُ بمرضِ التَّصَلُّبِ الجانبيِّ الضُّموري ، وظَلَّ يَنْتَقِل بَين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعِلاج بِلا فائدة.

     فَقَدَ السيابُ قُدْرَتَه على الحَرَكَةِ والتَّنَقُّلِ ، وعَانى مِنَ الشَّلَلِ ، مِمَّا جَعَلَه يَشْعُر بالكآبةِ والحُزْنِ العَمِيقِ ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ هَاجِسُ المَوْتِ ، وَظَهَرَتْ آثارُ مُعَاناته مِنَ المَرَضِ في شِعْرِه .

     يَقُول السياب : (( آهِ لَعَلَّ رُوحًا في الرِّياح / هَامَتْ تَمُرُّ على المَرَافِئِ أوْ مَحَطَّاتِ القِطَار / لِتُسَائِلَ الغُرباءَ عَنِّي / عَنْ غَريبٍ أمْسِ راح / يَمْشِي على قَدَمَيْن / وَهُوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انكسار / هِيَ رُوحُ أُمِّي هَزَّهَا الحُبُّ العَمِيق/ حُبُّ الأُمُومَةِ فَهِيَ تَبْكي / آهِ يا وَلَدِي البعيدَ عَن الدِّيار / وَيْلاه! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لا دَلِيلَ ولا رفيق )) [ قصيدة/ الباب تَقْرَعُهُ الرِّياح ، لندن ، 13/3/1963 ].

     انتقلَ السيابُ إلى المُستشفى الأميريِّ في دَولةِ الكويت لِتَلَقِّي العِلاج ، حَيْثُ قامتْ برعايته ، وأنفقتْ عَلَيْه خِلال مُدَّة عِلاجه ، إلا أنَّ المَرَضَ لَمْ يُمْهِلْه ، فَتُوُفِّيَ عام 1964، عَنْ عُمر يُناهز الثامنة والثلاثين . وَنُقِلَ إلى قَريته جيكور ، وَشَيَّعَه عدد قليل مِنْ أهْلِهِ وأبناءِ قَريته ، وَدُفِنَ في مَقبرةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ بالزُّبَيْر في البَصْرَةِ جَنُوب العِراق .

     وَيُعَدُّ الشاعرُ الإنجليزيُّ ألكسندر بوب ( 1688 _ 1744 ) أحدَ أبرز شُعراء القرن الثامن عَشَر في إنجلترا ، وَهُوَ مَعروفٌ بمهاراته في كِتابةِ القصائدِ الساخرة والأعمالِ الفلسفية ، واشْتُهِرَ بأبياته الشِّعْرية البُطولية، وتَرجمته لأعمال الشاعر الإغريقي هوميروس . وَهُوَ ثالث كاتب يَتِمُّ الاقتباس مِنْهُ في قاموس أكسفورد للاقتباسات، بَعْد شكسبير وألفريد تنيسون .

     عانى بوب مِنَ التَّمييز الدِّينيِّ بسبب انتمائه إلى الكاثوليك ، في وقت كان الكاثوليك لا يَزَالون مُضْطَهَدِين في إنجلترا . وَقَدْ تأثَّرَ بقانون العقوبات المعمول به في ذلك الوقت ، والمأخوذ مِنْ كَنيسةِ إنجلترا ، التي حَظَرَتْ على الكاثوليك التدريسَ ودُخولَ الجامعاتِ والوظائفَ العَامَّة .

     وأيضًا ، عانى بوب مِنْ مُشكلات صِحية عديدة في سِنِّ الثانية عَشْرَة ، مِثْل مَرَض " بوت " ، وَهُوَ نَوع مِنَ السُّلِّ يُصيبُ العِظَامَ ، والذي شَوَّهَ بُنيته الجِسمية ، وَجَعَلَه يَتوقَّف عَن النُّمُوِّ ، وتَرَكَه أحْدَب . وَتَسَبَّبَ مَرَضُ السُّلِّ بِمُشكلات صِحية أُخْرَى ، بما في ذلك صُعوبات في التَّنَفُّسِ ، والحُمَّى الشديدة، والتهاب العُيون، وآلام البَطن.وَلَمْ يَتجاوز طُولُه 1.37 مِتْرًا . وَقَدْ عَرَّضَه مَظْهَرُه الجَسَدِيُّ لِسُخريةِ أعدائه . وكانَ مَعزولًا عَن المُجتمع ، لأنَّه كاثوليكي ، وزادتْ صِحته السَّيئة مِنْ عُزلته أكثر ، فَلَمْ يَتَزَوَّجْ ، ولكنْ كانَ لَدَيْهِ الكثير مِنَ الصَّديقات ، وكانَ يَكتب لَهُنَّ رسائل ظريفة .

     أُصِيبَ بوب بإعاقة جسدية دائمة ، وكانَ أحْدَبَ الظَّهْر ، ويَحْتاج إلى رِعاية صِحية يَومية . وغالبًا مَا تُعْزَى طبيعته سريعة الغضب وعدم شَعْبيته في الصِّحَافة إلى ثلاثة عوامل : انتماؤه إلى أقلية دِينية ، وَضَعْف جِسْمِه ، واستبعاده مِنَ التعليم الرَّسمي .

     ساهمَ مَرَضُ بوب في تشاؤمِه ، وسَوْداويةِ مِزَاجِه ، وَوُجودِ النَّغْمَةِ الحَزينة في بعضِ أشعاره ، وقَدْ ثَقَّفَ نَفْسَه إلى حَد كبير ، وظَهَرَتْ بَراعته في النَّظْمِ في وَقْت مُبكِّر في قَصائده الرَّعَوِيَّة ، وَتَعْكِسُ كِتاباتُه رُوحَ عَصْرِهِ الواثقِ بِنَفْسِه وحَضارته وتَمَدُّنه . ويُمكِن مُلاحظة الفرق الكبير بَين أشعاره الأُولَى المُتفائلة، وأشعارِه الأخيرة المُتشائمة. وكانَ شديدَ الاهتمامِ بِجَمَالِ الألفاظِ، ويَنظُر إلى لُغةِ الشِّعْرِ على أنَّها مُتَفَوِّقَة تَسْمُو على لُغةِ العَامَّة ، وَلَوْ أدَّى ذلك إلى جَعْلِها لُغَةً مُتكلِّفة مَليئة بالمُبَالَغَات. وكانَ المُتَحَدِّثَ بلسانِ عَصْرِه ، والناقدَ القاسي لَه ، في آنٍ مَعًا .

04‏/07‏/2025

مفهوم الحضارة بين ابن خلدون وأرنولد توينبي

 

مفهوم الحضارة بين ابن خلدون وأرنولد توينبي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

......................

     يُعْتَبَر ابن خَلْدُون ( 732 ه / 1332 م تونس _ 808 ه / 1406 م مِصْر ) المُؤسِّسَ الفِعْليَّ لِعِلْمِ الاجتماعِ ، والمُنَظِّرَ الأوَّلَ له ، وَهُوَ أوَّل مَنْ حَلَّلَ أسبابَ قِيامِ الحَضاراتِ وسُقوطِها بأُسلوبٍ مَنطقيٍّ قائم على قواعد المَنهجِ العِلْمِيِّ في البَحْثِ ورَبْطِ الأسبابِ بالنتائج ، وَبَيَّنَ أنَّ لِقِيَامِ الحَضَارةِ وانهيارِها أسبابًا مُتداخلة ، سِياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية .

     عَرَّفَ ابْنُ خَلْدُون الحَضَارةَ بأنَّها " تَفَنُّنٌ في التَّرَفِ ، وإحكامُ الصنائعِ المُستعمَلة في وُجوهِه ومَذاهبِه ، مِنَ المَطابخِ والمَلابسِ والمَبَاني والفُرُوشِ والأبنيةِ وسائرِ عَوائدِ المَنزلِ وأحوالِه " . كَما أنَّهُ عَرَّفَ الحَضَارةَ ضِمْنَ الإطارِ الاجتماعيِّ والتاريخيِّ بأنَّها " الوُصولُ إلى قِمَّةِ العُمْران ، والتَّطَوُّرُ الثقافيُّ والشَّخصيُّ للمُجتمع ، والدُّخُولُ للرُّقِيِّ الاجتماعيِّ الثابت " .

     والحَضَارةُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِهِ هِيَ نِهايةُ العُمْرَانِ ، والطبيعةُ الجُغرافية لها دَوْر مُهِم في تَطَوُّرِ العُمْرَانِ ، حَيْث تَختلف الأقاليمُ الحَارَّةِ عَن الباردةِ ، وأيضًا ، عمليةُ التَّحَوُّلِ والانتقال مِنَ البَدَاوَةِ للحَضَرِ ، وكذلك السِّياسة والحاكمية والثَّرْوة والمال الذي يأتي مِنَ العَمَلِ والإنتاج . وَهُوَ يَعتبر أنَّ العَدْلَ عاملٌ مُهِمُّ في تَطَوُّر العُمْرَانِ ، والظُّلْم أحد أسبابِ الانهيارِ ، فَهُوَ مُؤْذِن بِخَرابِ العُمْرَانِ وَسُقوطِ الحَضَارةِ .

     مِنْ أهَمِّ نظريات ابن خَلْدُون في تَكوينِ الحضارةِ نظريةُ العَصَبِيَّة ، وَهِيَ الوَعْيُ الجَمَاعيُّ والتضامنُ والوَلاءُ القَبَلِيُّ أو الوطنيُّ أو الحِسُّ المُجتمعيُّ، وهي التي تَجْعَل مِنْ جَمَاعةٍ مُعيَّنة جَمَاعةً قوية . والعَصَبِيَّةُ هِيَ الركيزةُ الأساسيَّةُ لأيِّ نَشاطٍ سِياسيٍّ واجتماعيٍّ في بِناءِ الحَضَارةِ ، والمُحَرِّكُ الأوَّلُ للمُجتمع . مِثْلَمَا يُعَدُّ الإنسانُ الثَّروةَ الحقيقية لِكُلِّ حَضارةٍ. وَهُوَ يَعتقد أنَّ للحَضَاراتِ أعمارًا كما أنَّ للأشخاصِ أعمارًا ، ومراحلُ قُوَّتِها وضَعْفِها مُشابِهة تَمامًا لِمَراحلِ حَياةِ الإنسان .

     وللدُّوَلِ أعمارٌ لا تَتَعَدَّى مِئة وعِشرين عامًا،وتَمُرُّ بِثَلاثةِ أجيال:الخُشونةُ والبَسالةُ في المَجْدِ، والتَّرَفُ والانكسارُ وَضَعْفُ العَصَبِيَّة ، والتَّرَفُ والعَجْزُ عَن المُدَافَعَةِ وانقراض الدَّولة .

     حَلَّلَ ابنُ خَلْدُون الحَضَارةَ وأزمةَ الإنسانِ ، ورَأى أنَّ انهيارَ الحَضَارةِ مُرتبط بِبُعْدِ الإنسانِ عَن المَبادئِ والقِيَمِ ، لِهَذا وَجَبَ أنْ تُبْنَى الحَضَارةُ على الأخلاقِ ، وأكَّدَ على مَبدأ التفاعلِ بَين الحَضَاراتِ ، حَيْثُ تأخذ كُلُّ حَضَارةٍ إنجازاتِ الحَضَارةِ التي قَبْلَهَا ، عَبْرَ جَدَلِيَّةٍ حَضَارية وَتَفَاعُلٍ بَنَّاء ، يَقُومُ على التَّعَاوُنِ لا الصِّدَامِ . والحَضارةُ مَتَى مَا وَصَلَتْ إلى ذِرْوَةِ النَّعيمِ والتَّرَفِ ، فإنَّ هَذا يُهَدِّد بِسُقوطِها وانحلالِها .

     وَقَدْ شَبَّهَهَا بالكائنِ الحَيِّ في أطوارِ حَيَاتِه ، يَبْدَأ صَغيرًا ، ثُمَّ يَنْمُو ، حَتَّى يَصِيرَ صَبِيًّا فَفَتى يافعًا ، ثُمَّ يَبْلُغ مَرحلةَ الشَّيخوخةِ فالهَرَمِ ، وهُنا تَنْحَلُّ الحَضَارةُ وتَسْقُط .

     وَيُعَدُّ المُؤرِّخُ البريطانيُّ أرنولد توينبي ( 1889 _ 1975 ) أَهَمَّ مُؤرِّخ بَحَثَ في مَسألةِ الحَضَاراتِ بشكل مُفصَّل وشامل ، ولا سِيَّما في موسوعته التاريخية " دراسة للتاريخ " التي تتألف من 12 مُجَلَّدًا ، أنفقَ في تأليفها أكثر مِنْ 40 عامًا . وَهُوَ يَرى ، خِلافًا لِمُعْظَمِ المُؤرِّخين الذين يَعْتبرون الأُمَمَ أو الدُّوَلَ القَوْمِيَّة مَجَالًا لدراسة التاريخ ، أنَّ المُجتمعَات ( أو الحَضَارات ) الأكثر اتِّسَاعًا زمانًا وَمَكانًا، هي المَجالات المعقولة للدراسة التاريخية. ولَمْ يَبْقَ غَيْرُ سَبْعِ حَضَارات، هِيَ: الحَضَارةُ الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية،والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية ، والهندوكية ، والصِّينية ، والكُورية اليابانية ، والسابعة: الحضارة الغربية ، ولا يُعْرَفُ مَصِيرُها حَتَّى الآن .

     يَقُولُ توينبي في تفسير نُشوء الحضارات إنَّ المُجتمعات لَدَى مُواجهتها تحديات بيئية أو بشرية مُعيَّنة ، تستجيب استجاباتٍ مُختلفة ، أي إنها تُواجه ذلك الحافزَ برُدودِ فِعلٍ تختلفُ من جماعةٍ إلى أُخْرَى، بعضها سلبية، وبعضها إيجابية . أمَّا فِيما يَتَعَلَّق بِنُمُوِّ الحَضَارة ، فيُعيدها تُوينبي إلى الدافع الحيويِّ ، وهي الطاقة الكامنة لَدَى الفَرْدِ والمُجتمعِ التي تنطلق بغرض تَحقيقِ الذات . وَهُوَ يَرى أنَّ الحَضَارَات تَحْمِلُ في طَيَّاتِها أسبابَ مَوْتِها وفَنَائِها ، وفَضْلًا عن أسباب وعوامل خارجيَّة تَجْعلها عاجزةً عَن الاستجابةِ للتَحَدِّياتِ البيئية ، فإنَّ مِنْ أهَمِّ عوامل سُقوطِ الحَضَاراتِ ، انهيار قِيَمِها الأخلاقية والدِّينية . وَقَدْ تَأثَّرَ توينبي بِمُقَدِّمَةِ ابنِ خَلْدُون الذي وَصَفَ أسبابًا رئيسية للانهيارِ التَّدريجيِّ للدُّوَلِ والحَضَارات .

     يَعتقد توينبي أنَّ " الحَضَارات تَمُوتُ انتحارًا لا قَتْلًا " ، قاصدًا بذلك تَسليط الضَّوْء على سُلوكياتِ البَشَرِ وأفعالِهم في تَجَاهُلِ إرْثِهم الثقافيِّ ، والتَّخَلِّي عَن قِيَمِهِم الحَضَارية ، وفِقْدَانهم الدافع للتَّقَدُّمِ بعد أنْ تَتَّجِهَ إرادتُهُم تدريجيًّا لتجاهلِ واجبِ السَّعْي ، والفِرَارِ مِنْ دَرْبِ النَّجَاحِ ، والاستغناءِ عَنْ نِعْمَتَي الأمل والعمل . كما أنَّه يَعتقد أنَّ الحَضَارات لَيْسَتْ آلاتٍ غَيْر مَلْموسة أوْ غَيْر قابلة للتَّغيير، بَلْ شَبَكَة مِنَ العَلاقاتِ الاجتماعية داخل حُدودِها، وبالتالي فَهِيَ عُرْضَة لِقَرارات حَكيمة وغَيْر حَكيمة .

     وعلى صَعيدِ سُقوطِ الحَضَارات يَرى توينبي أنَّه يَعُود إلى ثلاثة أسباب :

     1_ ضَعْف القُوَّة المُبْدِعة في القِيادة ، وتَحَوُّلها إلى مُجَرَّد سُلطة تَعَسُّفية .

     2_ تَخَلِّي الأكثرية عَنْ مُوَالاة الأقلية الحاكمة المُسيطرة ، والكف عَنْ تَقْليدِها وَمُحَاكاتها .

     3_ الانشقاق والانقسام الداخلي الذي يُؤَدِّي إلى ضَياع الوَحدة في كِيَانِ المُجتمع ، حَيْث تَقِف الأكثريةُ ضِد الأقلية المُسيطرة .

28‏/06‏/2025

أمبرتو إيكو والجمع بين الفلسفة والرواية

 

أمبرتو إيكو والجمع بين الفلسفة والرواية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

......................

     يُعْتَبَر الفَيلسوفُ والرِّوائيُّ الإيطاليُّ أمبرتو إيكو ( 1932 _ 2016 ) مِنْ أبرزِ الكُتَّابِ العالميين الذينَ جَمَعُوا بَيْنَ الفَلسفةِ والرِّوايةِ،وهَذا يَتَجَلَّى بِوُضوحٍ في روايته الشَّهيرةِ " اسم الوردة " ( 1980 ) ، التي تُصنَّف كواحدةٍ مِنْ أعظمِ الأعمالِ الأدبية في القَرْنِ العِشرين .

     تَدُورُ أحداثُها في دَيْرٍ إيطاليٍّ في القَرْنِ الرابع عَشَر ، حَيْثُ تُرتَكَب سِلسلة مِنَ الجَرائمِ الغامضةِ يَذهَب ضَحِيَّتَهَا عَدَدٌ مِنَ الرُّهْبَانِ . ويَمتزِجُ في الرِّوايةِ التَّشويقُ والفَلسفةُ ، وتَختلِط فِيها عَناصرُ الجَريمةِ ومَبَادئُ التاريخِ وعِلْمُ الرُّمُوزِ ، وُصولًا إلى مُناقشةِ العَلاقةِ بَيْنَ الإيمانِ والعَقْلِ . وهَذا يُؤَكِّد أنَّ الأدبَ يُمكِن أنْ يَكُونَ وَسيلةً فَعَّالةً لطرحِ أسئلةٍ وُجوديةٍ وفِكْرية عميقة .

     عُرِفَ إيكو في بِدايةِ مَسيرته الثقافية بِمُؤلَّفاته النظريةِ في فَلسفةِ اللغةِ وَعِلْمِ الدَّلالةِ في بُنْيَةِ النَّصِّ الأدبيِّ ، ولَمْ يَبْدَأ تجربته الأدبيةَ إلا بَعْدَ أنْ قاربَ الخمسين مِنْ عُمْرِه . ويُوصَف بأنَّه رائدُ عِلْمِ السِّيميائيَّة ، وَهُوَ العِلْمُ الذي يَدْرُسُ الرُّمُوزَ والعَلاماتِ ، ويَهْدِفُ إلى فَهْمِ كَيفيةِ إنشاءِ المَعنى وتَفْسِيرِه في مُختلَف السِّيَاقَاتِ الثقافيةِ والاجتماعية .

     إنَّ الرِّوايةَ بالنِّسبةِ إلى إيكو لَيْسَتْ سَرْدًا للأحداثِ والوَقائعِ فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا عَالَمٌ مِنَ الرُّمُوزِ التي تَدْفَعُ باتِّجاهِ التَّفكيرِ الفَلسفيِّ العَمِيقِ ، وَفَضَاءٌ مِنَ العَلاماتِ التي تُؤَدِّي إلى تَحليلِ الأشياءِ ، وتَفسيرِ الثقافةِ هُوِيَّةً وَسُلطةً ونَظريةً وتَطْبيقًا .

     والرِّوايةُ هِيَ الوِعَاءُ الحَاضِنُ للمَبادئِ الفَلسفيةِ المَنثورةِ في مُؤلَّفات إيكو غَيْرِ الأدبيَّةِ ، التي تَتَنَاوَل تفاصيلَ السِّيميائيَّة ، وَمَواضيعَ القُرونِ الوُسطى ، وأُسُسَ النَّقْدِ الثقافيِّ والاجتماعيِّ . والنَّصُّ السَّرْدِيُّ هُوَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ بَيْنَ الظواهرِ السِّيميائيَّة والظواهرِ الثقافية، حَيْثُ تُصبح الكَلِمَاتُ رُمُوزًا تُشكِّل نِظامًا مَنْطِقِيًّا مَعَ بَعْضِهَا البَعْض ، وتَصِير المَعَاني إشاراتٍ تَدْمُجُ هُوِيَّةَ الفِعْلِ الاجتماعيِّ مَعَ الوَقائعِ التاريخيةِ القائمةِ على الاتِّصَالِ بَيْنَ الثَّقَافَاتِ ، وَالتَّوَاصُلِ مَعَ العَناصرِ المُحيطةِ بالفَرْدِ والجَمَاعَةِ ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ إطارٍ تاريخيٍّ للأفكارِ والأشياءِ ، وتأسيسِ مَرجعيةٍ مَعرفيةٍ تَتَعَامَل مَعَ التَّجَارِبِ الإنسانيَّةِ في المُجتمعِ كأنظمةٍ عَقْلانيَّةٍ وَرُمُوزٍ لُغويَّةٍ وَمَهَارَاتٍ إبداعيَّة .

     إنَّ انتقالَ إيكو مِنَ الفَلسفةِ إلى الرِّوايةِ لَمْ يَكُنْ عَبَثِيًّا أوْ صُدْفَةً أوْ مُفَاجِئًا ، وإنَّمَا كانَ مُحاولةً جَادَّةً لِنَقْلِ الأفكارِ الفلسفيةِ مِنَ الهُلامِيَّةِ إلى الواقعيَّةِ،وَمِنَ التَّجْريدِ إلى التَّطبيقِ، وَمِنَ الحَيِّزِ النَّظَرِيِّ إلى الفَضَاءِ الإنسانيِّ المُشتمِل على المَشاعرِ والأحاسيسِ والأحداثِ اليَوْمِيَّةِ والوقائعِ التاريخيَّة .

     وَلَمْ تَكُنْ رِواياتُ إيكو إلا أنساقًا مَعرفية لإدراكِ الحقائقِ التاريخية الكامنة في الحَياةِ الواقعية ، وأنظمةً فلسفيةً للكشفِ عَن الأشياءِ التي لا يَقُولُهَا النَّصُّ ، حَيْثُ يَتِمُّ الربطُ بَيْنَ الخَيَالِ الأدبيِّ والغُموضِ الفلسفيِّ القائمِ على الأسئلةِ الوُجودية العميقة .

     والنَّصُّ _ باعتبارِه عَمَلًا فَنِّيًّا إبداعيًّا _ يَحْمِلُ في دَاخِلِهِ تَفْسِيراتٍ مُتَعَدِّدَة ، وتأويلاتٍ مُتباينة ، ويَبْتكِر قوانين خَاصَّة به ، ويَخترِع لُغَةً وِجدانيةً جَديدةً ومُدْهِشَةً تُعيدُ تَعريفَ العاطفةِ كَفِعْلٍ اجتماعيٍّ ، وَتُعيدُ صِياغةَ مَرجعيةِ اللغةِ كوظيفةٍ وُجوديَّة مَفتوحة عَلى جَميعِ التَّجَارِبِ والتَّأمُّلاتِ .

     إنَّ عَوَالِمَ السَّرْدِ تَعتمِد عَلى فَلسفةِ اللغةِ، وتَستنِد إلى الأشكالِ التَّعبيرية ، وتَرتكِز عَلى رُوحِ النَّقْدِ الجَذْرِيِّ، وتُحلِّل طَبيعةَ مَسَارِ الإنسانِ، وتُفَسِّر مَاهِيَّةَ مَصيرِه ، مِنْ أجْلِ بُلُوغِ الحَقيقةِ كَقِيمَةٍ مِعْيَارِيَّةٍ ومَنظومةٍ حَيَاتِيَّة . الأمْرُ الذي يَقُودُ إلى الخُروجِ مِنْ هَامِشِ التاريخِ إلى الوَعْي بالتاريخ ، والانفتاحِ عَلى العَالَمِ ، وتَطويرِ مَفاهيمِ الإبداعِ كَمًّا وكَيْفًا .

     ومَا يُميِّز الرِّوايةَ عَن الفَلسفةِ هُوَ أنَّ الرِّواية قادرةٌ على صَهْرِ التَّشويقِ والمُغَامَرَاتِ والحِوَاراتِ والتاريخِ في بَوْتَقَةِ تَغْييرِ الواقعِ، اعتمادًا على اللغةِ والفِكْرِ والمَنْهَجِ ، أمَّا الفَلسفةُ فَهِيَ مَنظومةٌ جَامِدَةٌ ومُتمركزة ، تُنتج خِطَابًا نُخبويًّا مُتعاليًا ، كَمَا أنَّها تَتَحَرَّك في ظِلِّ التَّعريفاتِ الاصطلاحيَّة . لذلك تَشترك الفَلسفةُ والرِّوايةُ في الألفاظِ ، وتَختلفان في المَعَاني ، نَظَرًا إلى اختلافِ المَرْجِعِيَّة ، والأصلُ يُحدِّد طَبيعةَ الفُروعِ ، والمَنْبَعُ يُحدِّد طَبيعةَ الرَّوافدِ .

     لَقَد اعْتَبَرَ إيكو أنَّ الرِّوايةَ هِيَ المَيدانُ العَمَليُّ لأفكارِه النَّظرية ، والتَّطبيقُ الفِعْلِيُّ للخَيَالاتِ التاريخية ، وأنَّ الفَلسفةَ لا يُمكِن أن تَصِلَ إلى شَرائح المُجتمع كَافَّةً إلا مِنْ خِلالِ عَمَلٍ أدبيٍّ مُتكامل فَنِّيًّا وفِكريًّا ، وأنَّ الغَوْصَ في أعماقِ التاريخِ والثقافةِ لا يَنْجَحُ بشكلٍ كامل إلا مِنْ خِلال قِصَّة قائمة على التَّشويقِ وجَذْبِ المُتَلَقِّي . وَمِنْ خِلالِ هَذه القِصَّةِ يَتِمُّ حَقْنُ الأذهانِ والمَشاعرِ بالأسئلةِ الوُجودية الحاسمة ، والأفكارِ الفلسفية العميقة ، والعُثورُ على خَريطةٍ فِكرية للعَالَمِ تُفَكِّك أحداثَ التاريخِ ، وتُفَسِّر وُجودَ الإنسانِ في الأزمنةِ المُختلفةِ والأمكنةِ المُتَعَدِّدَة .

     إنَّ الرِّحلةَ اللغوية مِنَ الفَلسفةِ إلى الرِّوايةِ تُمثِّل بِحَدِّ ذَاتِهَا مَركزيةً مَعرفيةً تُوضِّح الحُدودَ الفاصلةَ بَيْنَ تَفْسيرِ الوَعْي الاجتماعيِّ وتأويلِ النَّصِّ الأدبيِّ . كما تُمثِّل إعادةَ بِناء للتاريخِ الغَامِضِ في المراحلِ الزَّمنية ، والتاريخِ الكامنِ في أعماقِ الإنسانِ السَّحيقةِ. وهَذا يَكْشِفُ العَلاقةَ التبادلية بَيْنَ المُؤلِّفِ والنَّصِّ،وكَيفيةَ التفاعلِ بَيْنَ التاريخِ والأساطيرِ والفَلسفةِ والأدبِ ، وُصُولًا إلى القوانين الضابطة لعمليةِ استنباطِ الأفكارِ مِنَ النَّصِّ ، باعتباره فَضَاءً مَفتوحًا مِنَ الدَّلالاتِ الخَفِيَّةِ اللانهائية .