سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] الديانات في القرآن الكريم [16] بحوث في الفكر الإسلامي [17] التناقض في التوراة والإنجيل [18] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [19] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [20] عقائد العرب في الجاهلية[21]فلسفة المعلقات العشر[22] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [23] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [24] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [25]مشكلات الحضارة الأمريكية [26]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[27] سيناميس (الساكنة في عيوني)[28] خواطر في زمن السراب [29] فلسفة المتنبي الشعرية [30] أشباح الميناء المهجور (رواية)[31]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

11‏/10‏/2025

وصف الطبيعة بين أحمد شوقي وروبرت فروست

 

وصف الطبيعة بين أحمد شوقي وروبرت فروست

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

................

     يُعْتَبَرُ الشاعرُ المِصْري أحمد شوقي ( 1868 _ 1932 ) أشهرَ شُعراءِ اللغةِ العربية في العَصْرِ الحديثِ. لُقِّبَ بـِ أمير الشُّعراء .

     حَرَصَ على وَصْفِ الطبيعةِ في أشعارِه ، وإظهارِ الجَمَالِ الرُّوحِيِّ والإلهيِّ ، وَحَثَّ على التَّأمُّلِ في إبداعِ الخالقِ،وَضَرورةِ التَّفَكُّرِ في رَوائعِ الآياتِ والآثارِ في لَوْحَاتِ الوُجودِ الجميلةِ، والمناظرِ الخَلَّابة . وفي قَصَائِدِه، تَتَجَسَّدُ الطبيعةُ كَبَحْرٍ واسعٍ مِنَ الجَمَالِ والجَلالِ والكَمَالِ والبَهَاءِ .

     وقَدْ صَوَّرَ الطبيعةَ تَصويرًا فَنِّيًّا بديعًا بأُسلوبٍ حِسِّي ، يَدُلُّ عَلى الحَياةِ والحَيَوِيَّة ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ وَصْفُهُ للطبيعةِ عَلى المَشَاهِدِ الكُبرى ، بَلْ تَطَرَّقَ إلى التفاصيلِ الدَّقيقةِ ، والجَوانبِ العميقة ، وحاولَ اكتشافَ الرُّوحِ الإنسانيَّةِ في الطبيعةِ ، والتَّغَنِّي بِجَمَالِها ، وتَجَلِّيها كَفَنٍّ بَصَرِيٍّ ، كما أنَّه مَنَحَ الطبيعةَ نَفَسًا ، وَشَخَّصَهَا إنسانيًّا ولُغَوِيًّا ، وَجَعَلَ مِنْها مِرْآةً تَعْكِسُ الجَمَالَ والصَّفَاءَ والرَّمْزَ للحَيَاةِ والخُلودِ . أي إنَّهُ كانَ يَمِيلُ إلى تَجسيدِ الطبيعةِ وَتَشخيصِها ، فَيَجْعلها تَتَكَلَّمُ ، وَتُغنِّي ، وَتَحْزَن ، وَتَفْرَح ، وبذلك يَكُون قَدْ مَنَحَهَا رُوحًا إنسانيَّة .

     تَعَامَلَ معَ الطبيعةِ باعتبارِها لَوْحَةً فَنِّيةً نابضةً بالحَياة ، وَعَالَمًا مِنَ الجَمَالِ المُتَنَاسِقِ ، وَوَصَفَ الأزهارَ والأنهارَ والطُّيورَ والنُّجومَ بألفاظٍ مُوسيقية ، وألوانٍ زاهية ، تَجْعَل القارئَ كأنَّه يُشَاهِد المَشْهَدَ أمامَه . وَهَذا الوَصْفُ يَجْمَعُ بَيْنَ دِقَّةِ الرَّسَّامِ وَوِجْدَانِ الشاعرِ .

     والطبيعةُ مَصْدَرُ إلهامٍ وَحِكْمَةٍ ، تُعلِّم الإنسانَ ، وَتَبُثُّ فِيهِ دُروسَ الصَّبْرِ والتَّجَدُّدِ والنِّظَامِ ، ولا يَنْبغي الاكتفاء بِجَمالِ الطبيعةِ الخارجيِّ ، بَلْ يَجِبُ استخراجُ العِبَرِ مِنْهَا . فَنُضُوجُ الثِّمارِ تُعلِّم مَعْنى الصَّبْرِ ، وَدَوْرَةُ الحَياةِ تُعْطي دَرْسًا في الأملِ والخُلودِ ، وانتظامُ الفُصولِ يُوضِّح مَعْنى النِّظَامِ .

      كَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الطبيعةِ القِيَمُ الأخلاقيةُ والرُّوحية ، وَهِيَ مَلْجَأ رُوحيٌّ ، يَلْجَأ إلَيْهِ الإنسانُ لِيَسْتَمِدَّ مِنْه الطُّمَأنينة. والطبيعةُ رَمْزٌ للوطنِ والحَياةِ ، وكثيرًا مَا اسْتَخْدَمَ عَناصرَ الطبيعةِ رَمْزًا لِوَطَنِهِ مِصْر،أوْ للتَّعبيرِ عَنْ حَنينِه إلَيْهَا في مَنْفَاه بالأنْدَلُسِ، فالنِّيلُ عِنْدَه لَيْسَ مُجَرَّد نَهْر ، بَلْ رُوح الأُمَّة ، والشَّمْسُ رَمْزُ الأملِ والنَّهضةِ . وَتَفَتُّحُ الأزهارِ دَلالةٌ عَلى التَّجَدُّدِ ، وَتَغْرِيدُ الطُّيورِ مُوسيقى الفَرَحِ .

     وَوَصْفُهُ للطبيعةِ يَمْتاز بِعُذوبةِ الإيقاعِ وَغِنى الصُّوَرِ ، مِمَّا يَعْكِسُ تَأثُّرَه بالشِّعْرِ العربيِّ القديمِ معَ تَجْديدٍ في الأُسلوبِ والمَضمونِ. كما أنَّ وَصْفَه للطبيعةِ قائمٌ عَلى الشَّاعِرية الفَنِّية التي تَجْمَعُ بَيْنَ الخَيَالِ والمُوسيقى والعاطفةِ ، وهَكذا أصبحت الطبيعةُ كائنًا حَيًّا يُشَارِكُ الإنسانَ مَشاعرَه وأحلامَه .

     وَيُعْتَبَرُ الشاعرُ الأمريكيُّ روبرت فروست ( 1874 _ 1963 ) واحدًا مِنْ أهَمِّ شُعَراءِ اللغةِ الإنجليزية . اشْتُهِرَ بِتَصويرِه الواقعيِّ للحَياةِ الرِّيفية ، وَوَصْفِ مَناظرِ الطبيعةِ في الأماكنِ التي عاشَ فيها .

     وَصَفَ الطبيعةَ باعتبارِها انعكاسًا للحالةِ الإنسانيَّة ، وَلَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفية جميلة ، واستخدمَ عَناصرَ الطبيعةِ مِثْلَ الثلجِ والأشجارِ والغاباتِ للتَّعبيرِ عَنْ مَوضوعاتِ تَتَعَلَّقُ بالعُزلةِ ، والحُزْنِ ، والتفاؤلِ، والتناقضاتِ في التَّجْرِبَةِ البشرية. وَرَبَطَ العَالَمَ الطبيعيَّ بالرُّوحِيَّةِ مِنْ خِلالِ الصُّوَرِ الرَّمزية .

     لَمْ يَرَ في الطبيعةِ مُجرَّد مَصْدَرٍ للجَمَالِ والسَّكِينةِ ، بَلْ جَعَلَهَا مِرْآةً تَعْكِسُ صِراعاتِ الإنسانِ الداخليَّة ، ومَعَاني الحَياةِ والمَوْتِ ، والعَلاقةَ بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ . والطبيعةُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ هُروبًا مِنَ الواقعِ ، بَلْ وسيلة لِفَهْمِه .

     وَقَدْ تَمَيَّزَ عَن الشُّعَراءِ الرُّومانسيين بأنَّه لَمْ يَنْظُرْ إلى الطبيعةِ نَظْرَةً حالمةً أوْ مِثالية ، بَلْ كانَ يَرَاها جُزْءًا مِنَ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ في الرِّيفِ الأمريكيِّ ، وَمِرْآةً للنَّفْسِ الإنسانية .

     وَتَتَغَيَّرُ صُورةُ الطبيعةِ في شِعْرِه بِحَسَبِ الحالةِ النَّفْسِيَّةِ للمُتَكَلِّمِ ، فإذا كانَ في صَفَاءٍ وطُمَأنينة ، بَدَت الطبيعةُ هادئةً مُضيئةً . وإذا شَعَرَ بالحَيْرَةِ أو الوَحْدةِ ، ظَهَرَت الطبيعةُ غامضةً أوْ قاسية ، وهَذا يَعْني أنَّ الطبيعة عِنده انعكاسٌ لحالةِ الإنسانِ النَّفْسِيَّة ، وَلَيْسَتْ مُجرَّد ديكور خارجي .

     والطبيعةُ رَمْزٌ للصِّراعِ والتَّحَدِّي ، وَهِيَ لَيْسَتْ دَوْمًا رحيمةً أوْ لطيفة ، فَهِيَ قَدْ تَكُون قاسيةً ، وجامدةً، وغَيْرَ مُكْتَرِثَةٍ بِمُعاناةِ الإنسانِ . فالثُّلوجُ تُغطِّي الأرضَ بِلا رحمة ، والغاباتُ يُمْكِنُ أنْ تُضِلَّ الإنسانَ عَنْ طريقه ، والليلُ في الرِّيفِ مُظْلِمٌ وَمُخِيف . وَمِنْ خِلال هذه الصُّوَرِ ، يُظْهِرُ صِراعَ الإنسانِ معَ قُوى الطبيعةِ والحياةِ ، في مُحاولة لفهمِ مَكَانِه في هَذا الكَوْنِ الواسع .

     وَيَظْهَرُ البُعْدُ الفلسفيُّ في وَصْفِ الطبيعةِ ، وَمِنْ خِلالِها تَتَّضِح قضايا إنسانيَّة كُبرى ، مِثْل : الحُرِّية والمسؤولية ، والاختيار والمصير ، والوَحْدة والمَوْت ، ومَعْنى الحياة .

     وَلُغَتُهُ في وَصْفِ الطبيعةِ بسيطةٌ ، وَسَلِسَة ، وقريبة مِنْ حَديثِ الناسِ في الرِّيفِ ، لكنَّها تُخْفي وَراءَها عُمْقًا فِكريًّا وإنسانيًّا كبيرًا . فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الوُضوحِ في الصُّورةِ ، والغُموضِ في المَعْنى ، مِمَّا يَجْعَل قصائدَه تَبْدُو سَهلةً ظاهريًّا ، لكنَّها تَحْمِلُ أبعادًا رمزية وفلسفية عميقة .

إنَّ الطبيعة عَالَمٌ يَعْكِسُ عَلاقةَ الإنسانِ بالواقعِ والحَياةِ والمصير ، وَهِيَ مَزِيجٌ مِنَ الجَمَالِ والقَسْوَةِ ، والصَّفَاءِ والغُموضِ ، والسُّكونِ والحركة . وَمِنْ خِلالِ وَصْفِهِ للطبيعة ، استطاعَ أنْ يُصَوِّرَ الإنسانَ الحديث في بَحْثِهِ الدائم عَن المَعْنى واليقين في عَالَمٍ مُتغيِّر وغامض . وَقَدْ جَعَلَ مِنَ الطبيعةِ لُغَةً للفلسفةِ والإنسانيةِ مَعًا .

03‏/10‏/2025

إسهامات فلاسفة الغرب في علم المنطق

 

إسهامات فلاسفة الغرب في علم المنطق

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.....................


عِلْمُ المَنْطِقِ هُوَ عِلْمٌ يَبْحَثُ في القواعدِ والأُسُسِ التي تُنظِّم التفكيرَ الصحيح ، وتُميِّز بَيْنَ الاستدلالِ السليمِ والاستدلالِ الخاطئ . وَهَذا العِلْمُ آلةٌ قانونية تَحْمِي الذِّهْنَ مِنَ الخَطأ في الفِكْرِ .

يُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ اليوناني أَرِسْطُو طاليس ( 384 ق. م _ 322 ق.م ) مُؤسِّسَ عِلْمِ المَنْطِقِ . وَهُوَ أوَّلُ فَيلسوف قامَ بتحليل العملية التي بِمُوجِبها يُمْكِن مَنطقيًّا استنتاج أنَّ أيَّة قضية مِنَ المُمْكِن أن تكون صحيحة استنادًا إلى صِحَّة قضايا أُخْرَى ، وقد كان اعتقادُه أنَّ عملية الاستدلال المَنطقي تَقُوم عَلى أساس شكل من أشكال البُرهان سَمَّاه القِياس . وفي حالة القِياس ، يُمْكِن البَرْهَنَة أو الاستدلال مَنطقيًّا على صِحَّةِ قضية مُعيَّنة ، إذا كانت هُناك قَضِيَّتَان أُخْرَيَان صحيحتان .

والفَيلسوفُ الإيطالي توما الأكويني ( 1225 _ 1274 ) تَمَسَّكَ بِمَنْطِقِ أَرِسْطُو ، واتَّخَذَ مِنَ المَنهجِ الأَرِسْطِيِّ أساسًا لأبحاثِه ، فَبَدَأ أوَّلًا بِتَحديدِ المُشكلة ، ثُمَّ حَصْر أوْجُهِ الخِلاف فِيها ، باستعراض شَتَّى المُشكلات والشُّكوك التي تُثَار حَوْلَها ، والعمل على الإجابة عنها بالأدلة المَنْطِقِيَّة المُقْنِعَة . وكانَ دَوْرُهُ مُهِمًّا مِنْ ناحيةِ الشَّرْحِ والدَّمْجِ بَيْنَ الفلسفةِ الأَرِسْطِيَّةِ والعَقيدةِ المَسِيحِيَّةِ .

والفَيلسوفُ الألماني جوتلوب فريجه ( 1848_ 1925 ) يُعَدُّ أشهرَ مَن اهْتَمَّ بالفلسفةِ التَّحليليةِ ، وَمَنْطِقِ الرِّياضياتِ الحديثة . وَهُوَ أحَدُ مُؤسِّسي المَنْطِقِ الحديث ، وأحد أكبر فلاسفة المَنْطِقِ بَعْدَ أَرِسْطُو . وقد ابتكرَ فريجه لُغةً اصطناعية بواسطة الرموز المَنْطِقِيَّة ، وساهمَ في تطوير جُزْء كبير من أبحاث المَنْطِقِ الرِّياضي ، وكانَ مِنْ دُعَاةِ مَا يُعْرَف بالمَذهَبِ المَنْطِقِيِّ ، وَهُوَ اتِّجاه يَدْعُو إلى رَدِّ التَّصَوُّراتِ الرِّياضيَّة الأساسيَّة إلى تَصَوُّرَاتٍ مَنْطِقِيَّة خالصة .

والفَيلسوفُ الألماني إدموند هُوسِّرل ( 1859_ 1938 ) طَوَّرَ عِلْمَ المَنْطِقِ ، وساهمَ في كَشْفِ الجَوانبِ المَعْرفيةِ والفَلسفيةِ للمَنْطِقِ . وَنَفَى أنْ تَكُون العَلاقاتُ المَنْطِقِيَّةُ خاضعةً للتأثيراتِ النَّفْسِيَّة ، واعتبرَ العَلاقاتِ المَنْطِقِيَّة تَنْتمي إلى عَالَمٍ خاص ( المَاهِيَّات ) المُستقلة عَن العَقْلِ البَشَرِيِّ . وهذه المَاهِيَّاتُ بِمَثابةِ حقائق ثابتة تَجْعَل الأفرادَ يَتَّفقون حَوْلَها ، فَيُصْدِرُون أحكامَهم وقَرَاراتهم .

والفَيلسوفُ الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد ( 1861_ 1947 ) ساعدَ في نقلِ المَنْطِقِ مِنْ كَوْنِهِ فَرْعًا فَلسفيًّا إلى عِلْمٍ دقيق قائم على الرُّموز والقواعد ، مِثْل عِلْم الجَبْر ، وَساهمَ في بِناءِ الرِّياضيات انطلاقًا مِنْ مَبادئ مَنْطِقِيَّة بَحْتَة ، وَتَوحيدِ المَنْطِقِ والرِّياضياتِ في نِظامٍ واحد قائم على الرُّموزِ والقواعدِ الدقيقة ، مِمَّا أدَّى إلى تأسيسِ المَنْطِقِ الرَّمزي .

والفَيلسوفُ الإنجليزي بِرتراند راسل ( 1872_ 1970 ) قَدَّمَ أعظمَ إسهاماته للفلسفة والرياضيات في مَطْلَعِ القَرْنِ العِشرين ، وأرادَ أنْ يَسْتمد جميعَ الرِّياضيات مِنَ المَنْطِق ، وبذلك أرساها على أساسٍ متين ، وسعى إلى إظهار أنَّ جميع الرياضيات البَحْتَة تَتَوَالَد مِنْ مُسلَّمات مَنطقية تمامًا ، وأنَّها لا تَسْتخدم سِوى المَفاهيم التي يُمْكِن تعريفها بِمُصطلحات مَنطقية بَحْتَة . وَرَغْمَ أنَّ أفكاره نُقِّحَتْ وطُوِّرَتْ على أيدي علماء الرياضيات مِنْ بَعْدِه ، إلا أنَّ أفكاره كانتْ المُنْطَلَقَ لكثير من الإنجازات الحديثة في عِلْمِ المَنْطِقِ وقَواعدِ الرِّياضيات .

والفَيلسوفُ الألماني موريس شليك ( 1882 _ 1936 ) هُوَ مُؤسِّس الوَضْعِيَّةِ المَنْطِقِيَّة ، وَتُعْرَف أيضًا بالتَّجْريبية الوَضْعانية أو الوَضْعانية الجديدة ، وهي حركة فلسفية ظهرتْ في النمسا وألمانيا في العَقْد الثاني مِنَ القرن العِشرين. وَتُعنَى هذه الحركة الفلسفية بالتحليل المنطقي للمعرفة العِلْمِيَّة ، حيث تُؤكِّد أن المقولات المِيتافيزيقيَّة، أو الدِّينيَّة، أو القِيَمِيَّة، فارغة من أي معنى إدراكي، بالتالي، لا تَعْدُو عن كَوْنها تعبيرًا عن مشاعر أوْ رَغَبَات . وَوَحْدَها المَقُولات الرِّياضية المنطقية والطبيعية هي ذات معنى مُحَدَّد. ومِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الوَضْعِيَّة المَنْطِقِيَّة ، فإنَّ كُلَّ المَقولات ذات المَعْنى يُمْكِن تقسيمُها إلى صِنْفَيْن: الأول _ يَتَضَمَّن مَقولات قد تكون صحيحة أو خاطئة اعتمادًا على أشكالها المَنْطقية أوْ مَعْناها ( تُسمَّى هذه المَقولات تَحْلِيلِيَّة قَبْلِيَّة )، والثاني _ يَتَضَمَّن مَقولات يُمْكِن التَّحَقُّق مِنْ صِحَّتها أوْ خَطَئِها فقط مِنْ خِلال التَّجْرِبَة ( تُسمَّى تَركيبية بَعْدِيَّة ) .

والفَيلسوفُ النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين ( 1889_ 1951 ) حَصَرَ وظيفةَ الفلسفة في تحليل اللغة فقط، ورأى أنَّ اللغة تَخْضَع لِجُملة مِن القواعد المنطقية ، وأنَّ اللغة إذا صِيغَتْ بنظام منطقي كامل، فَمِنَ المُمْكِنِ تَجَنُّبُ الوُقوعِ في غُموضِ التَّعبيرِ والخَلْطِ والإبهامِ ، وأنَّ مشكلة الفلسفة ناتجة عن سُوء فهم مَنْطِق اللغة . وَاعْتَبَرَ أنَّ المَنْطِقَ يُفْهَمُ باعتباره البُنْيَة المُشتركة بَيْنَ اللغةِ والعَالَمِ ، وأنَّ العَالَمَ يَتَكَوَّن مِنْ وقائع ، وَلَيْسَ أشياء، وهذه الوقائعُ يُمْكِن تحليلُها مَنْطِقِيًّا ، وبشكلٍ عام ، إنَّ تحليلَ اللغةِ والمَنْطِقِ يَتِمُّ مِنْ خِلال البُنْيَةِ المَنطقيةِ للعَالَمِ .

والفَيلسوفُ الألماني رودولف كارناب ( 1891_ 1970 ) يُعتبَر أحد أبرز زُعماء الفلسفة التجريبية المنطقية أو الوَضْعِيَّة المنطقية . وَيُمْكِن تَمْييز مَرْحَلَتَيْن أسَاسِيَّتَيْن في تَطُّورِ فِكْرِه في طبيعة المَنهج المَنطقي : الأُولَى _ هِيَ مَرحلة الاهتمام بالبِناء اللفظي ، حَيْثُ الاهتمام بالبناء اللفظي المَنطقي لِلُغَةِ العِلْمِ ، والثانية _ هِيَ مَرحلة الاهتمام بالمَدلول اللفظي ، حَيْثُ يَهْتَمُّ مَنْطِقُ لُغَةِ العِلْمِ بالمَعنى والمَدلول .

26‏/09‏/2025

طبيعة بناء المسرحيات بين إبسن وبريخت

 

طبيعة بناء المسرحيات بين إبسن وبريخت

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     يُعْتَبَرُ الكاتبُ النرويجي هنريك إبسن ( 1828 _ 1906 ) مِنْ أهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ عَلى مَرِّ التاريخ ، ويُعْرَف بـِ " أبو المَسْرَحِ الحديث " . تَمتازُ نَظَرْتُهُ إلى الحَياةِ بالعُمْقِ والشُّمُولِ ، وَيَمْتاز مَسْرَحُهُ بِدِقَّةِ المِعمارِ والاقتصادِ معَ تَعبيرٍ شاعريٍّ دقيق .

     وَصَفَ النُّقَّادُ كُلَّ مَسرحية مِنْ مَسرحيات إبسن بالقُنبلة المَوقوتة ، فَكُلٌّ مِنها تُفَجِّر قضيةً مَا ، وتُثير رُدودَ فِعْلٍ عنيفة ، فقد اختار إبسن تَمزيقَ الأقنعةِ كُلِّهَا ، وكَشْفَ الزَّيْفِ الاجتماعيِّ ، داعيًا إلى الاعتدالِ والوسطية بعيدًا عن التَّطَرُّف .

     انتهج إبسن المُنْعَطَفَ الواقعيَّ في أعماله ، فَقَدْ تَطَرَّقَ إلى قضايا واقعية وخطيرة يُعاني مِنها المُجتمع الأوروبي، كما تَنَاوَلَ قضايا إنسانيَّة خالدة تُشْغِلُ الإنسانَ عَبْرَ العُصور،مِثْل: قَضِيَّة مَاهِيَّة الحقيقة، والفارق بَين الحَقيقةِ والواقع ، أو الصِّرَاع بَين الواقعِ والمِثال، وقضية النِّفَاقِ الاجتماعيِّ، وغَيْرها مِن القضايا التي تُثيرها أعمال إبسن المَسرحية ، والتي لَيْسَ بالضَّرورة أن تَضَعَ لَهَا حُلُولًا .

     تَتَّسِمُ مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بالواقعيَّةِ الدِّرَامِيَّة ، وَتَناولِ القضايا الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ المَحْظورة ، مِثْل مَكَانَةِ المَرْأةِ ، والزَّواجِ ، والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّة ، والفَسادِ السِّياسيِّ والاقتصاديِّ ، والنِّزاعِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمع . بالإضافة إلى الاهتمام العميق بالشخصيات وتطويرها النَّفْسِي والفِكْري .

     اتَّبَعَ إبسن في مَسْرَحِهِ أُسلوبًا دِراميًّا مُمَيَّزًا عُرِفَ بالمَنهجِ الانقلابيِّ ، بمعنى أن تبدأ المسرحية بموقف في الحاضر، ثُمَّ تتوالى أحداثٌ مِنَ الماضي في العَودةِ ، لِتَنْسِجَ النِّهايةَ المَأساويَّة لأبطال المسرحية . أي إنَّ الأحداثَ الماضية تَتَكَشَّفُ تدريجيًّا لبناءِ النِّهايةِ المأساويَّة والكارثية للشَّخْصِيَّات .

     تَمتاز مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بِمُمَيِّزات واضحة ، هي :

     1_ المَسْرَحِيَّاتُ التاريخية مِنها تبدأ بدايةً عاصفة ، أمَّا المَسْرَحِيَّاتُ الاجتماعية فتبدأ هادئةً مُشَوِّقة مُعتمِدة على الحِوار الدقيق .

     2_ الالتزام بِوَحْدَةِ الزمان والمكان ، كما وضعها اليونانيون .

     3_ بِناؤُها المَسْرَحِيُّ مُحْكَمٌ إحكامًا دقيقًا لا يُجَاريه فيه مُؤلِّف آخَر .

     4_ الحَبْكَةُ فِيها تبدأ بالقُرب مِن نُقْطة الزمان ، مِمَّا يُساعد على إخضاع عناصر المسرحية الثلاثة : الزمان والمكان والكلام .

     5_ شخصياتها من النماذج الإنسانيَّة العالميَّة الطبيعيَّة .

     وَيُعْتَبَرُ الكاتبُ الألمانيُّ بِرتولت بريخت ( 1898 _ 1956 ) مِنْ أَهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ العالميِّ في القَرْنِ العِشرين . ويُعْرَف بـِ " مُؤسِّس المَسْرَحِ المَلْحَمِيِّ " ، وهَذا النَّوْعُ المَسرحيُّ الفريدُ يَهْدِفُ إلى دَفْعِ الجُمهورِ للتَّفكيرِ النَّقْدِيِّ في القَضَايا الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ بَدَلًا مِنْ إثارةِ المَشَاعِرِ وَالانغماسِ العاطفيِّ في الأحداثِ .

     والمَسْرَحُ المَلْحَمِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ نَوْعَيْن أدَبِيَّيْن هُما : الدِّراما والمَلْحَمَة ، أي إنَّه يَتَضَمَّنُ شَكْلَي الأدبِ المَسْرَحِيِّ والسَّرْدِيِّ . والهَدَفُ مِنْهُ هُوَ الابتعادُ عَن تَصويرِ المَصائرِ الفرديةِ المأساويةِ المَعهودةِ مِنْ مَرحلةِ الخَيَالِ الكلاسيكيِّ وواقعِها الظاهريِّ ، وتَصويرُ الصِّرَاعاتِ الاجتماعيةِ الكُبرى مِثْل الحربِ والثَّورةِ والاقتصادِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، وَتَحويلُ المَسْرَحِ إلى أداةٍ لجعلِ هَذه الصِّراعات شَفَّافَةً ، وَدَفْعُ الجُمهورِ لِتَغييرِ المُجتمعِ إلى الأفضلِ .

     يَقُوم مَذهَبُ بريخت في المَسْرَحِ عَلى فِكْرَة أنَّ المُشَاهِدَ هُوَ العُنْصُرُ الأهَمُّ في تَكوينِ العَمَلِ المَسرحيِّ ، فَمِنْ أجْلِه تُكْتَبُ المَسرحية حَتَّى تُثير لَدَيْه التَّأمُّلَ والتَّفكيرَ في الواقع، واتِّخاذ مَوْقِفٍ وَرَأيٍ مِن القَضِيَّة المُتناوَلة في العَمَلِ المَسْرَحِيِّ .

     مِنْ أهَمِّ أساليبِ بريخت في كتابة المسرحيات :

     1_ هدم الجِدار الرابع : يُقْصَد بِه جَعْل المُشَاهِد مُشَارِكًا في العَمَلِ المَسْرحي، واعتباره العُنْصُر الأهم في كتابة المسرحية . والجِدَارُ الرابع معناه أنَّ خَشَبَةَ المسرح التي يقف عليها المُمَثِّلُون ، ويقومون بأدوارهم ، تُشْبِه غُرفة مِن ثلاثة جُدران ، والجِدَارُ الرابع هو جِدَار وَهْمِي ، وهو الذي يُقَابِل الجُمهور .

     2 _ التَّغْريب : يُقْصَد به تغريب الأحداث اليومية العادية، أي جَعْلها غريبة ومُثيرة للدَّهْشَة ، وباعثة على التَّأمُّل والتَّفكير ، مِثْل استخدام أُغْنِيَات بَيْنَ المَشَاهِد ، وذلك كَنَوْعٍ مِنَ المَزْجِ بَين التَّحْريضِ والتَّسْلية ، أوْ خُروج المُمَثِّلِ عَنْ دَوْرِه ، لإبقاءِ الجُمهورِ في حالةٍ مِنَ الوَعْي بأنَّ مَا يُشاهده هُوَ عَرْض مَسْرحي ، وَلَيْسَ واقعًا مُبَاشِرًا ، مِمَّا يُشجِّع عَلى التَّحليلِ النَّقْدِيِّ .

     3_ المَزْج بَين الوَعْظِ والتَّسْلية ، أوْ بَين التَّحريض السِّياسي والسُّخْرية الكوميدية .

     4_ استخدام مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة. بَعْضُ مَسرحياته تَتَكَوَّن مِنْ مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة ، تَقَع أحداثُها في أزمنة مُختلفة ، ولا يَرْبط بَيْنَها غَيْرُ الخَيْطِ العام للمَسرحية .

     إنَّ إبسن وبريخت اثنان مِنْ أعْمِدَةِ المَسْرَحِ في الغرب ، اشْتُهِرَ كُلٌّ مِنهما بابتكاراتِه في المَسْرَحِ الواقعيِّ والمُلْتَزِم ، ويَربطهما في كثير مِنَ الأحيانِ الاهتمامُ بِمَآسِي الرَّأسماليَّةِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، خاصَّةً في أعمالِهما التي تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى قَضَايا المَرْأةِ ، والظُّلْمِ المُمَارَسِ ضِدَّهَا .

     وَقَدْ أسهمَ إبسن وبريخت في تَطويرِ المَسْرَحِ، حَيْثُ قَدَّمَ الأوَّلُ الواقعيةَ التي كَشَفَت الحقائقَ الاجتماعية ، وَقَدَّمَ الثاني المَسْرَحَ المَلْحَمِيَّ الذي يَدْعُو إلى التَّغييرِ الاجتماعيِّ والفِكْرِيِّ .