يُعْتَبَر الفَيلسوفُ والرِّوائيُّ
الإيطاليُّ أمبرتو إيكو ( 1932 _ 2016 ) مِنْ أبرزِ الكُتَّابِ العالميين الذينَ
جَمَعُوا بَيْنَ الفَلسفةِ والرِّوايةِ،وهَذا يَتَجَلَّى بِوُضوحٍ في روايته
الشَّهيرةِ " اسم الوردة " ( 1980 ) ، التي تُصنَّف كواحدةٍ مِنْ أعظمِ
الأعمالِ الأدبية في القَرْنِ العِشرين .
تَدُورُ أحداثُها في دَيْرٍ إيطاليٍّ في
القَرْنِ الرابع عَشَر ، حَيْثُ تُرتَكَب سِلسلة مِنَ الجَرائمِ الغامضةِ يَذهَب
ضَحِيَّتَهَا عَدَدٌ مِنَ الرُّهْبَانِ . ويَمتزِجُ في الرِّوايةِ التَّشويقُ
والفَلسفةُ ، وتَختلِط فِيها عَناصرُ الجَريمةِ ومَبَادئُ التاريخِ وعِلْمُ
الرُّمُوزِ ، وُصولًا إلى مُناقشةِ العَلاقةِ بَيْنَ الإيمانِ والعَقْلِ . وهَذا
يُؤَكِّد أنَّ الأدبَ يُمكِن أنْ يَكُونَ وَسيلةً فَعَّالةً لطرحِ أسئلةٍ وُجوديةٍ
وفِكْرية عميقة .
عُرِفَ إيكو في بِدايةِ مَسيرته الثقافية
بِمُؤلَّفاته النظريةِ في فَلسفةِ اللغةِ وَعِلْمِ الدَّلالةِ في بُنْيَةِ
النَّصِّ الأدبيِّ ، ولَمْ يَبْدَأ تجربته الأدبيةَ إلا بَعْدَ أنْ قاربَ الخمسين
مِنْ عُمْرِه . ويُوصَف بأنَّه رائدُ عِلْمِ السِّيميائيَّة ، وَهُوَ العِلْمُ
الذي يَدْرُسُ الرُّمُوزَ والعَلاماتِ ، ويَهْدِفُ إلى فَهْمِ كَيفيةِ إنشاءِ
المَعنى وتَفْسِيرِه في مُختلَف السِّيَاقَاتِ الثقافيةِ والاجتماعية .
إنَّ الرِّوايةَ بالنِّسبةِ إلى إيكو
لَيْسَتْ سَرْدًا للأحداثِ والوَقائعِ فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا عَالَمٌ مِنَ الرُّمُوزِ
التي تَدْفَعُ باتِّجاهِ التَّفكيرِ الفَلسفيِّ العَمِيقِ ، وَفَضَاءٌ مِنَ
العَلاماتِ التي تُؤَدِّي إلى تَحليلِ الأشياءِ ، وتَفسيرِ الثقافةِ هُوِيَّةً
وَسُلطةً ونَظريةً وتَطْبيقًا .
والرِّوايةُ هِيَ الوِعَاءُ الحَاضِنُ
للمَبادئِ الفَلسفيةِ المَنثورةِ في مُؤلَّفات إيكو غَيْرِ الأدبيَّةِ ، التي
تَتَنَاوَل تفاصيلَ السِّيميائيَّة ، وَمَواضيعَ القُرونِ الوُسطى ، وأُسُسَ
النَّقْدِ الثقافيِّ والاجتماعيِّ . والنَّصُّ السَّرْدِيُّ هُوَ نُقْطَةُ
التَّوَازُنِ بَيْنَ الظواهرِ السِّيميائيَّة والظواهرِ الثقافية، حَيْثُ تُصبح
الكَلِمَاتُ رُمُوزًا تُشكِّل نِظامًا مَنْطِقِيًّا مَعَ بَعْضِهَا البَعْض ،
وتَصِير المَعَاني إشاراتٍ تَدْمُجُ هُوِيَّةَ الفِعْلِ الاجتماعيِّ مَعَ
الوَقائعِ التاريخيةِ القائمةِ على الاتِّصَالِ بَيْنَ الثَّقَافَاتِ ،
وَالتَّوَاصُلِ مَعَ العَناصرِ المُحيطةِ بالفَرْدِ والجَمَاعَةِ ، مِمَّا
يُؤَدِّي إلى تَكوينِ إطارٍ تاريخيٍّ للأفكارِ والأشياءِ ، وتأسيسِ مَرجعيةٍ مَعرفيةٍ
تَتَعَامَل مَعَ التَّجَارِبِ الإنسانيَّةِ في المُجتمعِ كأنظمةٍ عَقْلانيَّةٍ
وَرُمُوزٍ لُغويَّةٍ وَمَهَارَاتٍ إبداعيَّة .
إنَّ انتقالَ إيكو مِنَ الفَلسفةِ إلى
الرِّوايةِ لَمْ يَكُنْ عَبَثِيًّا أوْ صُدْفَةً أوْ مُفَاجِئًا ، وإنَّمَا كانَ
مُحاولةً جَادَّةً لِنَقْلِ الأفكارِ الفلسفيةِ مِنَ الهُلامِيَّةِ إلى
الواقعيَّةِ،وَمِنَ التَّجْريدِ إلى التَّطبيقِ، وَمِنَ الحَيِّزِ النَّظَرِيِّ
إلى الفَضَاءِ الإنسانيِّ المُشتمِل على المَشاعرِ والأحاسيسِ والأحداثِ
اليَوْمِيَّةِ والوقائعِ التاريخيَّة .
وَلَمْ تَكُنْ رِواياتُ إيكو إلا أنساقًا
مَعرفية لإدراكِ الحقائقِ التاريخية الكامنة في الحَياةِ الواقعية ، وأنظمةً
فلسفيةً للكشفِ عَن الأشياءِ التي لا يَقُولُهَا النَّصُّ ، حَيْثُ يَتِمُّ الربطُ
بَيْنَ الخَيَالِ الأدبيِّ والغُموضِ الفلسفيِّ القائمِ على الأسئلةِ الوُجودية
العميقة .
والنَّصُّ _ باعتبارِه عَمَلًا فَنِّيًّا
إبداعيًّا _ يَحْمِلُ في دَاخِلِهِ تَفْسِيراتٍ مُتَعَدِّدَة ، وتأويلاتٍ مُتباينة
، ويَبْتكِر قوانين خَاصَّة به ، ويَخترِع لُغَةً وِجدانيةً جَديدةً ومُدْهِشَةً
تُعيدُ تَعريفَ العاطفةِ كَفِعْلٍ اجتماعيٍّ ، وَتُعيدُ صِياغةَ مَرجعيةِ اللغةِ
كوظيفةٍ وُجوديَّة مَفتوحة عَلى جَميعِ التَّجَارِبِ والتَّأمُّلاتِ .
إنَّ عَوَالِمَ السَّرْدِ تَعتمِد عَلى
فَلسفةِ اللغةِ، وتَستنِد إلى الأشكالِ التَّعبيرية ، وتَرتكِز عَلى رُوحِ
النَّقْدِ الجَذْرِيِّ، وتُحلِّل طَبيعةَ مَسَارِ الإنسانِ، وتُفَسِّر مَاهِيَّةَ
مَصيرِه ، مِنْ أجْلِ بُلُوغِ الحَقيقةِ كَقِيمَةٍ مِعْيَارِيَّةٍ ومَنظومةٍ حَيَاتِيَّة
. الأمْرُ الذي يَقُودُ إلى الخُروجِ مِنْ هَامِشِ التاريخِ إلى الوَعْي بالتاريخ
، والانفتاحِ عَلى العَالَمِ ، وتَطويرِ مَفاهيمِ الإبداعِ كَمًّا وكَيْفًا .
ومَا يُميِّز الرِّوايةَ عَن الفَلسفةِ هُوَ
أنَّ الرِّواية قادرةٌ على صَهْرِ التَّشويقِ والمُغَامَرَاتِ والحِوَاراتِ
والتاريخِ في بَوْتَقَةِ تَغْييرِ الواقعِ، اعتمادًا على اللغةِ والفِكْرِ
والمَنْهَجِ ، أمَّا الفَلسفةُ فَهِيَ مَنظومةٌ جَامِدَةٌ ومُتمركزة ، تُنتج
خِطَابًا نُخبويًّا مُتعاليًا ، كَمَا أنَّها تَتَحَرَّك في ظِلِّ التَّعريفاتِ
الاصطلاحيَّة . لذلك تَشترك الفَلسفةُ والرِّوايةُ في الألفاظِ ، وتَختلفان في
المَعَاني ، نَظَرًا إلى اختلافِ المَرْجِعِيَّة ، والأصلُ يُحدِّد طَبيعةَ
الفُروعِ ، والمَنْبَعُ يُحدِّد طَبيعةَ الرَّوافدِ .
لَقَد اعْتَبَرَ إيكو أنَّ الرِّوايةَ هِيَ
المَيدانُ العَمَليُّ لأفكارِه النَّظرية ، والتَّطبيقُ الفِعْلِيُّ للخَيَالاتِ
التاريخية ، وأنَّ الفَلسفةَ لا يُمكِن أن تَصِلَ إلى شَرائح المُجتمع كَافَّةً
إلا مِنْ خِلالِ عَمَلٍ أدبيٍّ مُتكامل فَنِّيًّا وفِكريًّا ، وأنَّ الغَوْصَ في
أعماقِ التاريخِ والثقافةِ لا يَنْجَحُ بشكلٍ كامل إلا مِنْ خِلال قِصَّة قائمة
على التَّشويقِ وجَذْبِ المُتَلَقِّي . وَمِنْ خِلالِ هَذه القِصَّةِ يَتِمُّ
حَقْنُ الأذهانِ والمَشاعرِ بالأسئلةِ الوُجودية الحاسمة ، والأفكارِ الفلسفية العميقة
، والعُثورُ على خَريطةٍ فِكرية للعَالَمِ تُفَكِّك أحداثَ التاريخِ ، وتُفَسِّر
وُجودَ الإنسانِ في الأزمنةِ المُختلفةِ والأمكنةِ المُتَعَدِّدَة .