سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/07‏/2012

هل يقدر الرئيس مرسي على إقالة المشير طنطاوي ؟

هل يقدر الرئيس مرسي على إقالة المشير طنطاوي ؟


للكاتب/ إبراهيم أبو عواد


جريدة القدس العربي اللندنية 27/7/2012



     لم يعد خافياً على أحد أن العسكر ممسكون بزمام السُّلطة في مصر ، ومتشبثون بمفاصل الدولة بأظافرهم وأسنانهم . ومن الواضح أن الواقع المصري الذي تمت عسكرته لم يكن وليد الصدفة أو اللحظة الآنية ، بل هو امتداد لثورة يوليو 1952م _ بإيجابياتها وسلبياتها _ ، والتي أحضرت العسكر إلى سدة الحكم ، وحَوَّلت مصر إلى دولة بوليسية . ولا يظهر في الحالة المصرية الراهنة أي مؤشر على استعداد العسكر للتنحي أو العودة إلى الثكنات بالمعنى الفعلي . وهذا الواقع المعاش ينبغي التكيف معه والوصول إلى نقطة ما في منتصف الطريق لئلا تنقطع العلاقة بين السَّاسة والعسكر . فمن غير المنطقي العيش في رومانسية الثورة ، وأن الأوضاع ستتغير للأفضل في ليلة وضحاها ، وأن الرئيس يملك عصا سحرية ليجعل مصر مثل بريطانيا أو فرنسا . فالفعل الحضاري فعل تراكمي تمارسه أجيال متتابعة وفق خطة مدروسة وواضحة لا ارتجال فيها ولا تضارب .
     وإن نقطة انطلاق الجمهورية المصرية الثانية نحو التقدم والازدهار ينبغي أن تتجذر في النفوس لإصلاح النوايا واعتبار الشعب المصري بكل أطيافه السياسية وطبقاته الاجتماعية كتلةً متماسكة في مركب واحد . فالإسلاميون لم يهبطوا على كرسي الحُكم بالبراشوت ولم يأتوا على ظهور الدبابات الأمريكية ، كما أن العسكر لم يأتوا من كوكب آخر . فالجميعُ قد نبعوا من الشعب المصري ، ورضعوا حليب هذه الأرض . فلا فائدة من اختراع ثنائيات وهمية مثل : " الدولة الدينية والدولة المدنية " ، أو " الإخوان والعسكر " ، أو " الإسلاميون والعلمانيون "، أو " الثوار والفلول ". فكل هذه الثنائيات سوف تستنزف مصر، وتثير لغطاً هائلاً بين الجماهير، وتقضي على وحدة الصف ، وتحوِّل المجتمع إلى جُزر معزولة متناحرة ، غارقة في الجعجعة دون طحن ، ودون تحقيق أي إنجاز على الأرض ، وفي النهاية سوف يخسر الجميع .
     وينبغي الإيمان بأن ثورة 25 يناير قد نجحت _ بالمعنى الإجمالي _ بغض النظر عن اعتبارها ثورة كاملة أو نصف ثورة . وقد حان الوقت لتنقية هذه الثورة المجيدة من الشوائب والانطلاق نحو المستقبل بما يتوفر من موارد بشرية ومادية . ولا يمكن للقطار المصري أن يتحرك إلا بالتعاون الحقيقي بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكري بحُكم الأمر الواقع . فالإخوانُ الآن في الحُكم ، كما أن المجلس العسكري يسيطر على مفاصل الدولة مستنداً إلى تاريخ الجيش المصري في ممارسة السياسة وخوض الحروب . فلا مصلحة لأحد في إحداث صِدام بين الإخوان والعسكر ، فكلا الطرفين لا يمكن إقصاؤهما . فعلى الرئيس مرسي والمشير طنطاوي أن يَكُفَّا عن استعراض العضلات لأنهما زائلان وسيبقى الشعب المصري ، والتاريخُ سيحكم على الجميع بما لهم وما عليهم .
     والإشكاليةُ الكبرى في الحياة السياسية المصرية وجود جهات متنفذة تخشى على مصالحها من حُكم "الإخوان " مثل المجلس العسكري وغيره . وهذه الجهات لا تتورع عن وضع العصيِّ في الدواليب لمنع التحرك والانطلاق في محاولة لإفشال الرئيس مرسي وتصويره كرَجل عاجز لا يصلح للقيادة ، وتصوير " الإخوان " كمجموعة غير قادرة على إدارة دولة وقيادتها إلى بر الأمان . وهذه الإجراءات التعقيدية تتجلى في الانفلات الأمني المتعمَّد والمخطَّط له مسبقاً . فلا يُعقَل أن مئات آلاف رجال الأمن في مصر غير قادرين على ضبط الأوضاع. فهذه القبضة الأمنية المتراخية لا يمكن أن تتكرس كمنهجية دون أوامر عليا . والدليلُ على ذلك أن الانتخابات المصرية جرت بكل سلاسة وانضباط رغم تحرك ملايين المصريين المنتشرين في البلاد في وقت واحد. فالقادرُ على توفير الأمن لهذه الجماهير العريضة قادرٌ على ضبط الأوضاع ، وإنهاء أعمال البلطجة وقطع الطرقات والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة . لكن المجلس العسكري يضبط الوضعَ الأمني متى يريد ويُفلته متى يريد لتحقيق مصالح شخصية . وأيضاً من هذه الإجراءات التعقيدية تسييس القضاء ، وإقحامه في الخصومات السياسية ، واستخدامه كورقة ضغط على الرئيس مرسي ، وذلك من أجل قص  أجنحته ومحاصرته في زاوية ضيقة .   
     وقد يفرح البعضُ بهذه الإجراءات ، ويرى فيها تحجيماً للتيار الإسلامي ، وحشره في دائرة الإخفاق والعجز . وهذه نظرة قاصرة تماماً ، لأن عسكرة السياسة لن تستثنيَ أحداً ، وسوف يأتي الدور على الجميع . فالاستبدادُ العسكري أعمى لا يُميِّز بين إسلامي وغير إسلامي . وإذا رجعنا إلى التاريخ المصري في النصف الثاني من القرن العشرين رأينا أن التعذيب في السجون كان شاملاً للإسلاميين واليساريين وغيرهم دون تفرقة ، وأن الإقصاء والتهميش كان شاملاً للمعارِضين بغض النظر عن انتمائهم الفكري .
     والجدير بالذِّكر أن الرئيس مرسي إذا فشل في قيادة مصر فهذا فشلٌ للشعب المصري بكل أطيافه، وتحطيم لصورة مصر في العالم، وتدمير لهذه الحضارة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ . لذلك ينبغي منح الرئيس كامل سُلطاته من أجل تحقيق مشروعه بكل سلاسة ، وإذا أخفق في ذلك فليتم إسقاطه في الانتخابات المقبلة . أمَّا وضع العربة أمام الحصان بذريعة كراهية " الإخوان " وحماية الدولة المدنية، فهذه مقامرة بمستقبل مصر وشعبها، وليست إيقافاً للمد الإسلامي ( الإخوان والسلفيين ) _كما يتخيل البعض _ .
     وعسكرةُ الدولة والمجتمع هي سمة بارزة في العالم الثالث ، فهذا العالَم المتخلف عن ركب الحضارة لا توجد فيه دول حقيقية ، بل كيانات سياسية تجميعية تعيش على المساعدات الخارجية . وهذه الدول الوهمية لا توجد فيها مؤسسات متماسكة سوى الجيش . فالأنظمةُ الاستبدادية المنتشرة في العالم الثالث تعتني بجيوشها من أجل حماية مصالح النخبة الحاكمة وقمع الشعوب. فهذه الأنظمة البدائية لا تثق بالشعب ، وإنما تعتبره حفنة من العبيد العاجزين عن إدارة شؤونهم ، لذلك تَحجر عليهم ، وتتكلم باسمهم ، وهم آخر من يعلم .
     وبعبارة أخرى ، إن جيوش العالم الثالث موجودة لتثبيت العروش لا حماية الوطن والمواطن . كما أن الديمقراطية والعقلية العسكرية ضدان لا يجتمعان . وإذا أخفقت أية دولة في امتحان الديمقراطية فهذا يعني أن أجهزة الأمن هي التي تدير الدولة بكل مفاصلها .
     وإذا أراد الساسة المصريون إرجاع العسكر إلى الثكنات وإبعادهم عن الحياة السياسية ، فعليهم الاستفادة من التجربة التركية التي قادها حزب العدالة والتنمية . وهذا الأمر لن ينجح إلا بإعلان الحرب على الفقر والجهل في المجتمع المصري ، ورفع مستوى المعيشة للأفراد ، وزيادة الدخل القومي . فإذا تم هذا الأمر فإن الشعب سوف يلتف حول القيادة المصرية ، ويساندها في أي قرار تتخذه . فالطريق إلى قلب الشعب يمر عبر الاقتصاد . وقد رأينا في تركيا كيف نجح رجب طيب أردوغان _ عندما كان رئيس بلدية إسطنبول _ في تحويل هذه المدينة المتواضعة إلى مدينة عالمية بكل المقاييس . ويكفي أن نعلم أن إسطنبول تأتي في المرتبة الرابعة بين مدن العالم من حيث عدد الأثرياء . وهذا النجاح الباهر هو الذي أقنع الشعب التركي بانتخاب حزب العدالة والتنمية أكثر من مرة . فلا بد للقيادة المصرية من إحداث تغيير إيجابي على أرض الواقع يلمسه المواطن بكل حواسه ، مع ضرورة مراعاة التدرج وعدم الدخول في معارك جانبية تستهلك الطاقات ، وتبعثر الجهود .
     وفي واقع الأمر ، إن الكثيرين يعتبرون أن الإخوان والعسكر قد اختطفوا الثورة المصرية من أصحابها ، وأن الثوار الحقيقيين خرجوا " من المولد بلا حمص " . وهذا كلام غير دقيق ، لأن الذي قاد الثورة المصرية هم الشعب ، وكرسي الحُكم لا يتسع لكل هذه الجماهير . كما أن ثورة 25 يناير كانت بلا زعيم ، فهي جسم بلا رأس ، بعكس ثورة أحمد عرابي ، أو ثورة 1919م بقيادة سعد زغلول ، أو ثورة 1952م بقيادة الضباط الأحرار. وعليه كان لا بد من الاحتكام إلى صناديق الاقتراع للحصول على رئيس واعتباره رأساً لجسم الثورة. وهذا أمر ليس غريباً ، فالفعلُ الثوري يختلف جذرياً عن الفعل السياسي . فالثوارُ ليسوا _ بالضرورة _ أن يكونوا سياسيين ناجحين . ولنتذكر أن رئيس الوزراء البريطاني الراحل تشرشل قد قاد بريطانيا إلى الانتصار في الحرب العالمية الثانية ، ورغم هذا فإن الشعب البريطاني قد أسقطه في الانتخابات . فلكل مقامٍ مقال . فقانونُ مجلس الشعب يختلف عن قانون ميدان التحرير ، وعقليةُ الشاب الثائر تختلف عن عقلية السياسي .
     وسيظل السؤال الجدلي الذي سيرسم مستقبل مصر هو : هل يقدر الرئيس مرسي على إقالة المشير طنطاوي ؟ . أو : هل سيقدر الرئيس المصري على إقالة وزير الدفاع _ بغض النظر عن الشخوص لأن مرسي وطنطاوي زائلان _ ؟ . وإن الإجابة هي التي ستحدد ملامح مصر إلى الأبد .

28‏/07‏/2012

الحرب الشعرية على الوهم


الحرب الشعرية على الوهم


للمفكر/ إبراهيم أبو عواد


جريدة العرب اللندنية 27/7/2012



     كل الأفكار الاجتماعية هي نتاج لمركزية الفعل اللغوي، وموقعه الراسخ على خريطة المعنى ، وهذا الحقيقة المعرفية تساهم في إدراك الطبيعة التاريخية للمجتمع ، وتوفِّر الشرعيةَ الأخلاقية لحرب القصيدة ضد الأوهام المتكاثرة . ولا يمكن للمجتمع الإنساني أن يتحرك بحرية وإبداع إلا إذا أعلن الحرب على القيم السلبية. وهذا الجو الثوري غير الفوضوي يُحوِّل القصيدةَ إلى جبهة قتال متقدمة وخندق أمامي في مواجهة الخرافة بكل أقنعتها. وهذا لا يعني بحال من الأحوال قتل الإنسان ، وتدمير المجتمع ، وسحق المنجزات الحضارية ، ونشر العنف الدامي . فالحربُ التي تشنها القصيدةُ على الوهم المتشظي إنما ترمي إلى تطهير النسق الاجتماعي من الفكر الدموي الاستئصالي على الصعيدَيْن الذهني والتطبيقي . فالشِّعرُ يقتل الشر في الإنسان ولا يقتل الإنسان ، ويعيد للذاكرة الإنسانية صيغةَ الحلم الذي كان مندثراً .
     وهكذا فإن تصادم الشِّعر مع الأنساق الاجتماعية السلبية أمر حتمي لا مفر منه . فالواقعُ الإنساني الهش لا يمكن تغييره بالمجاملات أو الهروب منه . وإنما يتم تغييره بمواجهته عبر تحويل الفكر إلى تطبيقات عملية، وإخراج الأبعاد الشعرية من دائرة الذهنية إلى امتدادات الحياة المعاشة.
     والقصيدةُ التي تتحدى الحياة الركيكة للفرد والجماعة ، ليست تياراً لغوياً لقيطاً أو دخيلاً . إنها منظومة لغوية متكاملة معجونة بالقضايا الاجتماعية، جاءت من صميم الحياة الإنسانية ، ونبعت من انتصارات الشعب وانكساراته . وعليه فإن أجزاء النص الشعري هي كائنات حية مندمجة بالكامل مع أحلام الإنسان ، ومتحدة معه بشكل عضوي لا انفصال فيه .     
     وقد كانت الصيغة القصائدية حركة تاريخية دائرية مغلقة ، إلا أن تبني الفكر الشعري للهموم الاجتماعية وقضايا المصير الإنساني المشترك ساهم في فك عزلة الخيال عن الواقعية. فلم تعد القضية صراعاً بين الشِّعر والنثر، بل أضحت صراعاً بين الحقيقة والوهم. ولم يعد الفكر القصائدي محصوراً في الأوزان الشعرية، بل امتد إلى الأوزان الاجتماعية والفلسفية ( القضايا المصيرية ). فلا فائدة من قصيدة تقدِّس الأوزان الشعرية ولا تقيم وزناً للإنسان وأحلامه . وإن القصيدة لا تنال شرعيتها من تقسيمات لغوية _ رغم احترامنا للأوزان الشعرية _ ، وإنما تنال شرعيتها من اندماجها بالإنسان ، والقدرة على التعبير عن نقاط قوته وضعفه .   

26‏/07‏/2012

أهواء الناس وعقائدهم

أهواء الناس وعقائدهم


للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .



     إن الهوى ذو تأثير قاتل في العقيدة لأنه يحيل المنظومة العقائدية إلى مصلحة شخصية ، وخليطٍ من الحق والباطل ، وشكوكٍ منثورة بين الثوابت والمتغيرات ضمن فوضى من شأنها قتل الروح الإنسانية وإحالتها إلى كومة متناقضات ذات أثر سلبي في حياة الفرد التي تصير جحيماً من الاضطراب النفسي ، والانكسارِ الجسماني .
     وأصحابُ العقائد الزائغة لهم مذاهب شتى في اتباع الهوى وخطواتِ الشيطان . حيث إنهم يستندون إلى حجج واهية يزيِّنونها لأنفسهم ، ويسيرون وفقها على غير هدى . فكل طائفة منحرفة لها مذهبها في اتباع الهوى والفوضى العقائدية .
     قال الله تعالى عن بعض الشواذ عقائدياً : (( يخادِعون اللهَ والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللهُ مرضاً ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلِحون ( 11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناسُ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) )) [ البقرة] .
     وهذه الآياتُ الكريمات تتضمن فضحاً لعقائد المبطِلين من المنافقين ومن سار على منوالهم ، وتفنيداً لها بالحُجة الدامغة . ولا شك أن اللهَ تعالى لا يمكن خداعه أو التحايل عليه ، (( فإنه العالِم بالسرائر والضمائر ، ولكن المنافقين لجهلهم ، وقلة علمهم وعقلهم ، يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس ، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً ، فكذلك يكون حُكْمُهم عند الله يوم القيامة ، وأن أمرهم يروج عنده ، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده ، كما قال تعالى : [ يوم يبعثهم اللهُ جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ] [ المجادِلة : 18] )) . [تفسير ابن كثير ( 1/ 755 ) ].
     فهؤلاء المنافقون يُظهرون الإيمانَ ويبطنون الكفرَ ، وهم يعتقدون أن حيلتهم سوف تنطلي على الله تعالى ، لكن لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم ، ويلقون بأيديهم إلى التهلكة ، والجحيم السرمدي، حيث لا توجد فرصة للتعويض مطلقاً .
     ومن صفات المنافقين كما وضحها ابن كثير في تفسيره ( 1/ 76 ) : (( خنع الأخلاق ، يصدق بلسانه ، وينكر بقلبه ، ويخالف بعمله ، ويصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفؤ السفينة ، كلما هبت ريحٌ هب معها )) اهـ .
     والنفاقُ هو المرض المستشري في قلوبهم الذي يحرق دواخلَهم ، ويقودهم إلى الهاوية . والمنافقُ يعتقد نفسَه ذكياً وقادراً على التلاعب بالمواقف لصالحه ، والضحكِ على الآخرين باستخدام أساليب التحايل . لكنه لا يدرك أنه يلعب بمصيره ، ويقضي على تاريخه ، ويحشر نفسَه في الوهم والتعاسة وضياع الأمل . فهو يضحك على نفسه ولا يَنظر إلى عواقب الأمور ، تماماً كالشخص الذي يبتلع السُّمَّ ويقضي وقتَه مُفكِّراً في مذاقه ، وينسى أن حياته ستنتهي عما قليل . لذا فالمنافقُ محصورٌ في اللحظة الآنية ، ومُحاصَرٌ بالأوهام العمياء التي تزيده حيرة وضياعاً .
     وفي تفسير القرطبي ( 1/ 244 ): (( قال ابن فارس اللغوي : المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من عِلة ، أو نفاق ، أو تقصير في أمر )) اهـ .
     وقد زادهم اللهُ مرضاً ، أي زادهم كفراً ونفاقاً وتكذيباً عقوبةً لهم على سوء أفعالهم . فهم غارقون في أمراضهم الأخلاقية وعِللهم الروحية ، وكلما خرجوا من متاهة دخلوا في متاهة أخرى. وهذا النفقُ الذي يقتحمونه غير مبالين سيكون وبالاً عليهم ومقبرةً لهم، لأنه بدون ضوء في آخره . فهم كالفَرَاش الذي يرقص حول النار سعيداً مختالاً ، لكنه لا يدرك أنه سيحترق بالنار ، وتكون نهايته المؤلمة ، حيث تختفي فرص التعويض والعودة .
     وعادةُ المنحرِفين في كل زمان ومكان أنهم يَدعون العلمَ والإصلاح والتنوير ، وذلك لكي يخفوا فسادَ أفكارهم وأفعالهم . فهؤلاء المنافقون إذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض زعموا أنهم مصلِحون يريدون إصلاح الأمور ، وبث الألفة والتوفيق ، لكنهم لا يشعرون بفسادهم بسبب جهلهم المريع ، والنفاقِ المستوطن في دواخلهم المحترقة . فهم كالذي يَرُشُّ على الموت السُّكَّر ، إذ إنهم يحاولون تزيين أفكارهم المتعفنة بالمكياج الخادع والزينة الظاهرية الزائلة ، تماماً مثل شخص يُحاول تزيين الجثث بالورود والأزهار الفواحة .
     وقد رأينا عبر العصور الكثير من هؤلاء الذين يُغلِّفون أفكارهم الشاذة وعقائدهم المنحرفة ومواقفهم المخزية بالنظريات العلمية وهالةِ التنوير والمعاني البراقة . فهم يستندون إلى منهجية دس السم في الدسم . حيث إنهم إذا حاولوا تقديم أفكارهم الموبوءة سافرةً فإنهم سيُجابَهون بالرفض والإقصاء والطرد، ويُفضَح أمرهم، لذلك يلجأون إلى التحايل ومحاولة الدخول من الباب الخلفي ، ووضع السموم في إطار براق جميل مُحبب إلى النفوس لكي يسهل اختراقها وتمرير باطلهم . إنهم غارقون في فكرة " حصان طروادة " .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 80 ) : (( يقول تعالى : وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس ، أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار ، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه ، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر ، [ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ] ، يعنون _ لعنهم الله _ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم _ رضي الله عنهم _ )) اهـ.
     وهذا طبعُ المنافقين والكافرين في كل العصور . فهم ينعتون المؤمنين بالظلامية والرجعية والسفاهة والتطرف في محاولة يائسة لتشويه صورتهم أمام الرأي العام ، وصرفِ الناس عن الحق عبر التشويش على دعاة الإيمان .
     فالقاعدة الأساسية التي يتبعها أصحاب العقائد المنحرفة _ على الدوام _ هي محاولة هدم الفكرة عن طريق تدمير من يحملونها، إذ إن إسقاط الأشخاص من شأنه إسقاط العقائد التي يرفعون لواءها .
     وأهواءُ الناس وعقائدهم الزائغة لها جوانب كثيرة ، وهي ظلماتٌ بعضها فوق بعض ، ضمن خليط فوضوي عابث لا يوصل إلى اليقين ، بل يقود إلى الغرق المتزايد في مستنقع الشك والكفر والفوضى الروحية ، والاضطرابِ الإنساني الحرج .
     وإنك لتجد في القرآن الكريم لفظة " النور " بالمفرد ، ولا توجد لفظة " الأنوار " ، لأن الحق واحد لا يتعدد . في حين أن القرآن الكريم مليء بلفظة " الظلمات " لأن الباطل يتعدد ، وذو مذاهب شتى ، وأهواء متباينة .
     قال الله تعالى : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله )) [ البقرة : 165].
[في تفسير القرطبي ( 14/ 265 ) عن معنى " أنداداً " : (( أي أشباهاً وأمثالاً ونظراء ))].     وهؤلاء الذين يُثبِتون لله تعالى أنداداً ويُسقِطون عليهم صفات الألوهية والحاكمية إنما يقومون بذلك العمل السيئ اعتماداً على قلوب مريضة مليئة بأوهام الشك ، وفوض العقائد الكفرية المحتوية على الجهل والعناد والأساطير . والأندادُ المعبودون من دون الله تعالى يتغيرون باختلاف الزمان والمكان ، مثل الأصنام والحكام الطغاة ، وسادة القوم ... إلخ .
     فاتخاذُ الأنداد يرمي إلى نيل الحظوة لدى الناس ، وتحقيق مكاسب مادية ذاتية ، وصعود سُلم السلطة بالطرق غير الشرعية . إنهم يطمحون إلى تكوين سُلطات زائفة عبر المتاجرة بالحقائق المطلقة . فالحق _ بالنسبة إليهم _ أداةٌ لتحقيق مآرب شخصية . والمعاني الجميلةُ تصبح جسراً يدوسون عليه في عبورهم نحو المجد الوهمي المستند إلى المكر، والنفوذِ المتهاوي المعتمد على الخداع. فهم يُحوِّلون القيمَ السامية إلى مَطِيةٍ لتحقيق أهدافهم الخبيثة المضادة للحق والحقيقة .  
     قال الله تعالى : (( ومن الناس من يعجبكَ قولُه في الحياة الدنيا ويُشهِد اللهَ على ما في قلبه وهو ألد الخِصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسِد فيها ويُهلِك الحرثَ والنسلَ واللهُ لا يحب الفسادَ (205) وإذا قيل له اتقِ اللهَ أخذتْهُ العِزةُ بالإثم فحسبُه جهنم ولبئس المهاد ( 206) )) [ البقرة ] .
     وهذه الصفاتُ تشير إلى غبش عقائدي مريع ، وانحراف عن الصراط المستقيم ، مرجعه إلى عوامل شتى كالهوى والشيطان والمنفعة الذاتية الوقتية .
     فالاعتمادُ على الكلام المعسول لترويج الباطل يُعتبَر سلاحاً من وجهة نظر هؤلاء المنافقين . فهم يعتقدون أن كلامهم البراق قادر على إخفاء حقيقتهم السوداء ، وضمان سلامتهم ، وتمرير أفكارهم الخبيثة المسبقة . فكلامُهم لا ينبع من قلوب صادقة وصدورٍ صافية . بل ينبع من خبثٍ مُبَيت ذي أغراض محددة سلفاً . وهؤلاء لا يتورعون عن إشهاد الله تعالى على ما في قلوبهم ظناً منهم أنهم _ بذلك _ يكونون أصحاب حُجة قوية تُفحِم الآخرين ، وموقفٍ راسخ ينطلي عليهم . لكنهم _ في واقع الأمر _ قلوبهم تغلي بالحقد والاستهزاء بالحق والجدال بالباطل . ويسعون بكل قوتهم إلى بث الفساد في الأرض .  
     قال الطبري في تفسيره ( 2/ 324 ) : (( وهذا نعتٌ من الله _ تبارك وتعالى _ للمنافقين . يقول _ جل ثناؤه _ : ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهر قوله وعلانيته ، ويستشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألد الخصام ، جدل بالباطل . ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في الأخنس بن شريق ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعم أنه يريد الإسلام ، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك ، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال المسلمين )) اهـ .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 332 ) : (( وعن ابن عباس : أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قُتلوا بالرجيع وعابوهم فأنزل الله في ذم المنافقين ... وقيل : بل ذلك عام في المنافقين كلهم ... وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس ، وغير واحد ، وهو الصحيح )) اهـ .
     وهذا طبعُ المنافقين الذي يظهرون عكس ما يبطنون . فتراهم يظهرون بثياب الحملان وهم ذئاب شرسة . وهم يستعملون الكلماتِ الناعمة الجميلة لخداع الآخرين وتطبيقِ مشاريعهم الفاسدة . ويحلفون بالله تعالى إنهم صالحون لكي ينالوا القبولَ والتصديق عند الناس ، وهم _ في واقع الأمر _ معجونون بالكذب والخديعة والغدر .
     وهذا المنافق إذا قيل له اتقِ اللهَ، وارجع عن انحرافكَ ، تمردَ ، وأخذتْه الحمية بالإثم ، والإصرار على الباطل . فجزاؤه جهنم لقاء عناده وغروره وتكبره على الحق . فرفضُه الرجوع للحق نابع من غروره واعتداده بنفسه بالباطل ، لذلك يكون تقبلُ الحق ثقيلاً على قلبه ، فيرفضه لأنه نفسه المتعاظمة المزهوة تقف حاجزاً دون تقبل الحق والإذعان له . فحسبُه جهنم ، فهي مصيره المستحق.
     قال الله تعالى : (( ومنهم مَن يقول ائذَن لي ولا تفتِني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين )) [ التوبة : 49] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 476 ) : (( يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك : يا محمد [ ائذَن لي ] في القعود [ ولا تفتِني ] بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم ... قد سقطوا في الفتنة بقولهم )) اهـ .
     فالمنافِق يخترع الأعذارَ من بنات أفكاره لكي يهرب من التحديات الجسيمة ، والخطوبِ الجليلة . وهذا دَيْدَن المنافقين الذين يفتقدون إلى الشجاعة والحزم ورباطة الجأس وقوةِ الكلمة . فهم يعيشون كالطفيليات على المصائب ، والهروبِ من الأزمات ، والذوبان في المجتمع ونشر الإشاعات والأكاذيب لتفتيت وحدة الصف ، والنجاة بأرواحهم لحرصهم على حياتهم المفتقدة إلى قيم الشرف والفروسية والأخلاق الرفيعة والكلامِ الصادق .
     فالمنافقُ أراد الهروبَ من المعركة وملاقاةِ العدو فلم يجد وسيلةً للتملص من هذا الاستحقاق المصيري سوى ربطه بالجواري من الرُّوم . فزعم أن هؤلاء الجواري فتنةٌ له يضعف أمامهن ، ولا يطيق صبراً عليهن ، فالحل _ من وجهة نظره _ أن يتخلف عن الجهاد لئلا يُفتتن بهؤلاء النساء الجميلات . وهذا الأسلوب البائس الرامي إلى الهروب من الجهاد يعكس منظومةَ الانهيار العقلي والانكسار الأخلاقي واختراع الأعذار الواهية التي يرتع فيها المنافقون . 
     وتتوالى الضبابية في العقائد الزائغة والسلوكياتِ السيئة المفتقدة إلى إيمان راسخ . فالخللُ في بنية العقيدة يتضح في التعاملات الاجتماعية بين الناس خصوصاً التعاملات المالية ، لأن المال هو المحك الرئيسي الذي يكشف عن معادن الرجال .
     قال الله تعالى : (( ومنهم مَن يلمزكَ في الصدقات فإن أُعطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوْا منها إذا هم يَسْخطون )) [ التوبة : 58] .
     أي يعيب تصرفَكَ ، ويطعن عليكَ في الصدقات . فإن أُعطوا منها رضوا ، وإذا لم يُعطَوا انقلبوا ساخطين رافضين . وهؤلاء مُسَيْطَر عليهم من قبل مصالحهم الشخصية . إذ إن حب المال أعماهم ، وجعلهم رافضين لحُكم النبي صلى الله عليه وسلم غير راضين به لأن الإيمان لم يتجذر في قلوبهم ، فهم يميلون مع أهوائهم دون تحكيم الشريعة في أفعالهم . فقد أصبح المالُ عندهم هو الفيصل والحاكم على الشريعة وليس العكس ، لذا فإنهم يُطَوِّعون عقائدهم لتتماشى مع المكسب المادي ، فقد أصبح دينُهم تابعاً للدرهم والدينار ، يدور معهما حيث دارا .
     وفي صحيح البخاري ( 6/ 2540 ) : عن أبي سعيد قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يَقسم ، جاء عبد الله ابن ذي الخويصرة التميمي ، فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : (( وَيْحك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ )) .... قال فنزلت فيه : [ ومنهم مَن يلمزكَ في الصدقات ] .
     فالبعضُ يرمي الكلامَ السيئ ولا يُدرِك أبعادَ ما يقول . فمطالبةُ النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل وقاحةٌ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو مؤسس العدل على الأرض التي كان فيها القوي يأكل الضعيفَ، والغني يسرق الفقيرَ. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ظالماً_ حاشاه _، فهذا يعني موت العدل على الأرض ، ولا يوجد أحدٌ سيَعدل.
     لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذو الصدر الواسع ، والصابر على الأذى وجهل الآخرين ، لا يمكن استفزازه بهذه الأقوال القبيحة ، أو إخراجه عن قيم العدالة والحق ، لذلك رسّخ مفهومَ العدل في النفوس ، ونَبّه إلى أنه الإمام العادل ، وأن لا أحد سيَعدل إذا لم يعدل هو صلى الله عليه وسلم .
     وقال الله تعالى : (( ومن الأعراب مَن يتخذ ما يُنفِق مَغْرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوْء واللهُ سميع عليم )) [ التوبة : 98] .
     فمن الأعراب من يعتبر إنفاقه وتقديمه المال خسارةً كبرى ومشروعاً فاشلاً لا يعود عليه بالربح، وذلك لأنه عقله محصور في الأرباح المادية ومنطق الربح والخسارة من منظور شكلي لا ينطلق من إيمان راسخ بأن الله تعالى رزاق يُثيب المنفِقين ، ويرزقهم السعادة والرضا والمكاسب الروحية والمادية في الدنيا، ويُعد لهم نعيماً أُخروياً لا ينفد جزاءَ ما قَدّموه من مال في سبيل الدعوة.  
     قال الطبري في تفسيره ( 6/ 451 ) : (( يقول تعالى ذِكره : ومن الأعراب من يعد نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك ، أو في معونة مسلم ، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده [ مَغْرماً ] يعني : غرماً لزمه لا يرجو له ثواباً ، ولا يدفع به عن نفسه عقاباً )) اهـ .
     وهؤلاء المنافِقون ينتظرون حدوث المصائب في صفوف المسلمين ، مما يدل على خبثهم وفساد بواطنهم . لكن المصائب ترتد عليهم . وعليهم تقع دائرة السّوْء . فسلوكُهم ينطلق من حقد دفين على الدعوة الإسلامية ، لذلك يحاولون الاصطياد في الماء العكر بكل قوتهم ، ولا يدخرون في ذلك جهداً. كما أن يترقبون نزول المصائب على المسلمين وغرقهم في الكوارث لكي تضعف قوتهم ، ويخسروا نفوذهم ، وتُستأصل شأفتهم ، ويُقضَى على وجودهم . الأمرُ الذي يُفسِح المجالَ لقوى الظلام بأن تنتشر ، وتبث باطلها ، وتعيد الناس إلى الضلال من أجل استغلالهم لصالح طبقة الفاسدين والمفسِدين . لكنّ الله تعالى حافظٌ دِينه ، وناشرٌ شريعته ، شاء من شاء وأبى من أبى . ولا يمكن لأحد أن يوقف نورَ الشمس ، مهما امتلك من الوسائل والإمكانيات الهائلة .
     قال الله تعالى : (( وإذا ما أُنزِلت سورةٌ نظر بعضُهم إلى بعض هل يراكم مِن أَحدٍ ثم انصرفوا صرف اللهُ قلوبَهم بأنهم قومٌ لا يفقهون )) [ التوبة : 127] .
     وفي هذا إشارة بالغة إلى تصرفات المنافقين المستندة إلى الخداع ، والرياء ، وتنفيذِ مخططاتهم الشريرة دون وازع ديني أو رقابة ذاتية ، لأن أمانيهم محصورة في الحياة الدنيا دون التفكر في الحساب بعد الموت . فالتخندقُ في المصلحة الذاتية الآنية الزائلة يجعلهم لا ينظرون إلى ما وراء الأحداث بعينٍ إيمانية ، وهذا أدى إلى وجود البصر في اصطياد الأزمات مع غياب تام للبصيرة .
     فإذا أُنزلت سورةٌ فإن قلوبهم تضطرب وتشمئز رافضةً لنور الحق ، فهم ينظرون إلى بعضهم البعض متلفِّتين مستعدين للهروب من الحقيقة ، فلا يريدون الاستماع إلى القرآن الكريم ، لذلك يفرون منه وينصرفون عنه لأن الخفافيش لا تطيق ضوءَ النهار . ولو استقر الإيمانُ في قلوبهم لاحتضنت كلامَ الله تعالى وتَدَبّرَتْه ، ولكنّ القرآنَ لا يمكن أن يستقر في قلب نجس غير نظيف . فالأزهارُ لا تنبت في مزبلة .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 530 ) : (( هذا أيضاً إخبار عن المنافقين ، أنهم إذا أُنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ نظر بعضُهم إلى بعض ] أي تلفّتوا [ هل يراكم مِن أَحدٍ ثم انصرفوا ] أي تولوا عن الحق ، وانصرفوا عنه . وهذا حالهم في الدِّين ، لا يثبتون عند الحق ، ولا يقبلونه ، ولا يفهمونه )) اهـ .
     قال الله تعالى: [ ومن الناس مَن يقول آمنا بالله فإذا أُوذِيَ في الله جعل فتنةَ الناس كعذاب الله ] [ العنكبوت : 10] .
     وهذه صفة لازمة للمنافقين الذين يزعمون الإيمان الصادق بالله تعالى ، فإذا أُوذيَ وناله العذاب والشدة من الناس ، جعل أذى الناس كعذاب الله تعالى في الآخرة ، فارتد عن الإيمان ، ونكص على عقبَيْه. مما يدل على عدم تغلغل الإيمان في قلبه، إذ إن إسلامه ظاهري لا يجاوز لسانَه .
     فالفتنُ حصاد المنافقين تحرقهم بنارها ، وتلغي وجودهم ، وتنقلهم من طمأنينة الإيمان إلى متاهة الشك والكفر . فالإيمانُ إذا كان ضعيفاً فإنه سينهار في وجه الفتن . تماماً كالشجرة المهزوزة غير الثابتة في الأرض والتي تفتقد إلى جذور راسخة ، فإن أدنى عاصفة سوف تقتلعها وتقضي على وجودها تماماً . فالفتنُ شديدة الخطورة على القلب الضعيف الذي لم يستقر فيه الإيمان ويسيطر على الجوارح. وسوف تكونُ تلك الفتن بمثابة الضربة القاضية التي تقصم مصيرَ الفرد . إذ إن خسارة الإيمان لا يمكن تعويضها ، وإذا أُصيب العمود الفقري للإنسان فإن شللاً لا يُرجى شفاؤه سوف يسيطر عليه حتى نهاية حياته . والدِّينُ هو عمودُ الحياة ، فإذا زال وانهار أمام عواصف الفتن فإن البناء الإنساني سوف ينهار ، وتصبح الحضارةُ خاويةً على عروشها جحيماً لا يطاق .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال  :  كان ناس من أهل مكة قد أسلموا ، وكانوا مُسْتَخْفين بالإسلام ، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم مُكْرَهين ، فأصيب بعضهم يوم بدر مع المشركين ، فقال المسلمون : أصحابنا هؤلاء مسلمون ، أَخْرَجوهم مُكْرَهين فاستغفروا لهم ، فاستغفروا لهم. فنزلت هذه الآية : (( إن الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسهم )) [ النساء : 97] . فكتب المسلمون إلى من بقي منهم بمكة بهذه الآية ، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ظهر عليهم المشركون وعلى خروجهم ، فلحقوهم فردوهم فرجعوا معهم ، فنزلت هذه الآية : (( ومن الناس مَن يقول آمنا بالله فإذا أُوذِيَ في الله جعل فتنةَ الناس كعذاب الله )).
[قال الهيثمي في مجمع الزوائد( 7/ 68 ) : (( رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح غير محمد ابن شريك وهو ثقة )) . ].
     فهؤلاء الذين رجعوا مع المشركين لم يصمدوا في وجه هذا التحدي ، ولم يحاولوا المقاومة أو الدفاع عن دينهم بسبب ضعفهم الذاتي وعدم تمكن الإيمان من قلوبهم ، لذلك انهاروا عند أول تجربة ، وسقطوا في أول امتحان . فهذه الفتنةُ قد اجتاحتهم وجرفتهم ، فخسروا الدنيا والآخرة .
     قال الله تعالى : (( وإنا إذا أذقْنا الإنسانَ منا رحمةً فرح بها وإن تُصبهم سيئةٌ بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور )) [ الشورى : 48] .
     أي إذا أصاب الإنسانَ رخاءٌ فرح وشعر بالسعادة الغامرة ، يكاد يطير من شدة الفرح . وإذا أصابته شدة أو بلاء فإنه كفور ، أي جاحد للنعم الكثيرة . فعلى الإنسان أن يثبِّت نفسَه في السراء والضراء ، ويظل دائمَ التوجه إلى خالقه تعالى ، سواءٌ أعطاه أم منعه ، لأن العطاء والمنع اختباران إلهيان لكي يرى اللهُ تعالى من ينجح ومن يفشل . فالمؤمنُ الحقيقي لا يُخضِع إيمانَه للرخاء والشدة في الحياة الدنيا ، فالإيمانُ أسمى من الدنيا بكل ما فيها . كما أن الدنيا وعاء للسراء والضراء ، وهذا الوعاء يحتوي الناسَ كلهم على اختلاف عقائدهم وأجناسهم .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2295 ) : عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سَراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )) .
     ومن أخطر العقائد الباطلة المستندة إلى اتباع الهوى الفاسد إنكار البعث بعد الموت . وهذا الإنكار مرجعه إلى تعلق النفس البشرية بالدنيا دون النظر إلى عالم الغيب بعين البصيرة والتفكر .
     قال الله تعالى : (( وقالوا إن هِيَ إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين )) [ الأنعام : 29] .
     إنهم محصورون في الحياة الدنيا ، ولا ينظرون إلى ما ورائها بعد الموت . وبالطبع فقد وَقعوا في فخ السِّحر الدنيوي المزيّف فاعتقدوا أن الدنيا هي البداية والنهاية . فعقيدةُ البعث غائبةٌ تماماً عن عقولهم، لذلك فأعمالهم تجيء بدافع الرياء والسّمعة والحميّة والعصبيات المختلفة بعيداً عن منهجية الثواب والعقاب يوم القيامة ، لأن الموت _ بالنسبة إليهم _ هو نهاية المطاف ، مع أنه هو نقطة البداية .
     قال الطبري في تفسيره ( 5/ 176) : (( يخبر عنهم أنهم ينكرون أن الله يُحيي خلقه بعد أن يميتهم ويقولون : لا حياة بعد الممات ، ولا بعث ، ولا نشور بعد الفناء . فهم بجحودهم ذلك وإنكارهم ثواب الله وعقابه في الدار الآخرة لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية ، لأنهم لا يرجون ثواباً على إيمان بالله ، وتصديق برسوله ، وعمل صالح بعد موت ، ولا يخافون عقاباً على كفرهم بالله وبرسوله )) اهـ .
     وإنكار الحياة الأخروية له تأثير مدمِّر على الفرد والمجتمع ، لأنه يلغي في النفوس جزاءَ العمل ، فيصبح الإنسان لا ينتظر ثواباً ولا يخشى عقاباً . فهو _ كالأنعام _ يعيش ويأكل ويتمتع ويموت دون وجود غاية سامية يسعى إليها ، أو هدف راقٍ يتوِّج مسيرةَ حياته . مما يؤدي إلى تدمير البنية النفسية للفرد ، والقضاءِ على تماسك المجتمع ، وتفتيته إلى كيانات مصلحية آنية تفتقد إلى الوازع الإيماني الداخلي . فتصبح الحياةُ فوضى ميكانيكية قاتلة للروح والجسد ، ويتحول الفرد إلى آلة صماء تعمل بدون روح ، وحينما تعجز عن العمل تُرمَى في المهملات . فغيابُ النظر إلى ما وراء الموت يجعل من حياة الفرد موتاً متكرراً . كما أن الركون إلى الدنيا وبهرجها الزائل يورث في النفس قلقاً هائلاً. فعدمُ الإيمان بالبعث لا يعني الاستراحة من التفكير بالثواب والعقاب يوم القيامة، بل يعني مزيداً من الانكسار الروحي ، وتحايل المرء على ذاته ، وإغراق حياته في الخداع ، وعدم الاستعداد لنيل الخلود الأبدي والحصولِ على الخلاص .
     وعن ابن عيينة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إن الدهر هو الذي يهلكنا ، هو الذي يميتنا ويحيينا ، فرد اللهُ عليهم قولهم . قال الزهري : عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يقول الله _ عز وجل _ : يؤذيني ابن آدم ، يَسُب الدهْرَ ، و أنا الدهر ، أُقلب ليله ونهاره ، فإذا شئتُ قبضتُهما )) . وتلا سفيان _ ابن عيينة _ هذه الآية : [ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ] [ الجاثية : 24]  .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 491 ) برقم ( 3690 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .].
     فأهلُ الجاهلية قد حشروا أنفسهم في حياة روتينية مملة بدون هدف راقٍ ( الأكل والشراب / النوم / الزواج / الموت ). وهذه الحياة القاتلة لمعنى الحياة تخلو من القيم السامية، وصناعةِ التاريخ، والإخلاصِ لله تعالى ، ونيل جنّته الخالدة . لذا فإن جنة المشركين هي في حياتهم الدنيا المحشورة في زاوية الضيق والضنك وغياب الطمأنينة النفسية . وهم ينسبون الموتَ إلى الدهر ، وأنه مرحلة طبيعية خاضعة للمبادئ الزمنية والقواعدِ الحسابية الخاصة بالشهور والسنوات .
     وفي فتح الباري ( 8/ 575 ) : (( قال القرطبي : معناه يخاطبني من القول بما يتأذى من يجوز في حقه التأذي ، والله مُنَزّه عن أن يصل إليه الأذى ، وإنما هذا من التوسع في الكلام . والمراد أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله . قوله : وأنا الدهر . قال الخطابي : معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر ، فمن سبّ الدهرَ من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سَبُّه إلى ربه الذي هو فاعلها ، وإنما الدهر زمان جُعل ظرفاً لمواقع الأمور ، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر ، فقالوا بؤساً للدهر وتَبّاً للدهر )) اهـ .
     وهكذا نجد أن العقائد الزائغة المبنية على اتباع الهوى قد أوصلت الكثيرين إلى الهاوية عبر انتهاج طريق خاطئة محتوية على مخالفات جمة . لكن تصحيح هذه السلوكيات السيئة دائماً يأتي في النصوص الشرعية لانتشال الناس من مستنقع الجهل والكفر الذي يتخبطون فيه .
     ويظل الإيمانُ باليوم الآخر أساساً لتنظيم السلوك البشري وفق مراد الله تعالى . فالفردُ حينما يؤمن بوجود الثواب والعقاب بعد الموت ، فإنه سوف يسير في حياته الدنيا وفق الدرب المستقيم ، ويحسب أفعالَه بدقة لعلمه أن مُحاسَب عليها .
     أما الذين أنكروا يومَ البعث فهم يعتقدون أن بوسعهم الهروب من النهار الساطع ، لكنّ الحقيقة أن لا أحد يستطيع الهروب من ضوء الشمس أو الاختباء وراء أصبعه. فقد اتبعوا أهواءهم بغير علم ، وغرتهم الحياة الدنيا التي جعلوها البدايةَ والنهاية في مسارهم الوجودي ، مما قادهم إلى الضياع الحتمي على كافة المستويات . فالاضطراب الروحي والانكسارُ الجسماني نتيجتان طبيعيتان لغياب المعنى عن الحياة البشرية في المجتمعات التي لا تؤمن بالله واليومِ الآخِر .

24‏/07‏/2012

أمريكا وإشكالية اقتصاد السياسة وسياسة الاقتصاد



أمريكا وإشكالية اقتصاد السياسة وسياسة الاقتصاد

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد 

     إن الأداء السوسيولوجي الخالي من نطاق التفكير الحر ، والمحصورَ في الشهوانية الاستهلاكية، ساهم بشكل كبير في تحمل دافعي الضرائب عبء الأخطاء السياسية الفادحة للإدارات الأمريكية المتعاقبة .
     وقد استغلت التنظيمات المعادية لأمريكا كل أخطاء إدارات البيت الأبيض ، وقامت باستخدام أخطاء أمريكا لتبرير ضربها ، كما حصل في الملابسات المرافقة لأحداث 11/9 . فتنظيم القاعدة استند إلى كثير من الدوافع، وقام بتوظيف خطايا الإدارات الأمريكية من أجل شَرْعنة قتل المدنيين ، واستهداف الأبرياء .
     [ تفجير بُرْجي مركز التجارة هو عمل آثم ومحرَّم مُدان قبل كل شيء ، لأنه استهداف للأبرياء . ولكن ينبغي دراسة الذرائع التي اعتمدها تنظيم القاعدة من أجل استئصال الإرهاب الذي يمارسه بعض أتباع الديانات في العالم بأسره . فقد اعتمد تنظيم القاعدة على الدعم الأمريكي المطلق لِ " إسرائيل " لتبرير ضرب أمريكا في عقر دارها . لذلك ينبغي علاج مشكلة ما يسمى بالإرهاب من جذورها ، وعدم الاكتفاء ببعض مؤتمرات حوار الحضارات . فينبغي الوصول إلى عمق الأزمة بين الشرق والغرب للوصول إلى علاج فعال. أما التهرب من المسؤوليات فسوف يخفي النار تحت الرماد، ولا يقود إلى الأخوة البشرية. وقد تتابعت الأحداث بعد 11/9 . فصارت نسبة كبيرة من الناس _ في الشرق والغرب_ تسعى إلى معرفة الإسلام والقراءة عنه، فصار الإسلام في قلب كل بيت في أنحاء العالَم ، وصارت اللغة العربية متواجدة في أكبر جامعات العالم ، ويطمح الكثيرون إلى تعلمها من أجل فهم الحضارة العربية الإسلامية ، والطبيعةِ الاجتماعية للمسلمين . وصار الساسة الغربيون والطلاب في أكبر جامعات العالَم ، والباحثون في مراكز البحث الكبرى على الصعيد العالمي ، يسعون لتعلم العربية واعتمادها في دراساتهم . وصرنا نشاهد مسؤولين أجانب يتحدثون العربيةَ في وسائل الإعلام . فصار العربي والمسلم في الغرب محط الأنظار مثل الماركة المسجلة ، وتلاحقه عدسات التصوير من مكان إلى مكان . لكننا نعرف أن هذه الملابسات مستندة إلى الإسلاموفوبيا . وشيء مؤسف أن يُنظَر للعربي أو المسلم على إنه إرهابي. لكن الإسلام بما يملكه من مقوِّمات قادر على تصحيح صورته في أذهان الآخرين التي شوَّهها قِلَّةٌ من المسلمين ، وليس أدل على هذا من كَوْن الإسلام هو الدين الأسرع انتشاراً على كوكب الأرض رغم كل الهجمات ضده والتضييق عليه ، والعمليات المنهجية لتشويه صورته المشرقة. وهذه معجزة إلهية بحد ذاتها تستحق التأمل. ففي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 477) وصحَّحه ووافقه الذهبي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ليبلغن هذا الأمر _ الإسلام _ مبلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدِّينَ بعز عزيز أو بذل ذليل )) .
     وعبر تعميق إمكانيات التبعيض التشريحي في نطاق جزيئات الانهيار الحضاري التي هي عبارة عن ظل باهت لأزمة المعنى الإنساني الحادة ، سوف نجد أن تقاطعات العناصر المنبوذة في معرفية المجتمع تكوِّن تياراً مضاداً لحقوق الإنسان من خلال زراعة الكائن الحي في بؤرة أحادية متقاطعة مع الوهم الذي يأخذ مساراً حالماً بغد مشرق . لكن الفرد لا يمكن أن يقطف الورودَ من انهيار المعنى . كما أن ترحيل الأزمات المصيرية عبارة عن دفن النار تحت الرماد لا إطفائها . وهذه العملية مغامرة خطرة من شأنها تفجير الأوضاع الاجتماعية ، وصناعة الفوضى بكل أبعادها ، ووضع مستقبل الأجيال في الزاوية الحرجة .
     وفي ضوء هذا الانهيار الفكري الذي يرسم مجتمعاً مثالياً في الذهن التجريدي الخالي من الامتداد الواقعي ، تقوم التنظيمات المعادية لأمريكا مثل " القاعدة " بتثبيت أفكارها وفق الحرب الاستباقية ، ويمكننا تأطير فهم أبعاد فلسفة تنظيم القاعدة في حروبه الفكرية والعسكرية ضمن عدة مستويات عامة :
     1) تأسيس الوعي السياسي الهجومي في مواجهة أمريكا ، عبر الوصول إلى ذروة الحدث المندفع انطلاقاً من نقطة الصفر في مدة زمنية قصيرة للغاية لا تسمح للخصم باتخاذ إجراءات دفاعية . والمعنى التطبيقي لهذا المبدأ هو الوصول إلى رأس القطب الأمريكي الأحادي داخل النظام العالمي الجديد بشكل مباشر ومُوَجَّه .
     والوصول إلى ذروة الفاعلية القطبية الشاملة يستلزم تسليط مبدأ الهجوم في الداخل الأمريكي عن طريق استهداف الناس،والمرافقِ الحيوية، دون أي تمييز للأهداف المدنية أو العسكرية. وهذا يعني أن تنظيم القاعدة _ عبر إيمانه بالحرب الاستباقية _ سينقل المواجهة مع أمريكا في عقر دارها كي تفقد توازنَها في محيطاتها الاجتماعية الذاتية . وهذا بالقطع ينسف جغرافيةَ الامتداد الأمريكي الكلاسيكي ، ويمنع كلَّ الروافد التي تغذِّيه .
     2) حشر النظامِ الأمريكي في زاوية السقوط العناصري الشامل بحيث يتم استئصال احتمالات الطفرة الناهضة ، ومنعُ مشاريع عودة القطار المنحرف إلى السكة. وهذا يتطلب إبعاد القطار عن السكة أو إبعاد السكة عن القطار. والوسيلة الأكثر نجاعة_ حسب معتقدات تنظيم القاعدة_ في تشريح جسد الدولة الأمريكية، هي إقامة حاجز معنوي مادي هائل يقف سداً منيعاً بين قطار الأمركة كنظام سياسي ذي استعارات ضاغطة على محيطات الأنسنة ، وبين سكة التواجد الحقيقي العالمي .
     وتنظيمُ القاعدة يرمي من وراء هذه العملية إلى إتمام عملية فصل أمريكا عن العالَم ، لكي تفقد هذه الإمبراطورية قدرتها على الامتداد والإمداد ، فتتآكل ، فتسقط نهائياً لأن الهواء والماء قد قُطِع عنها معرفياً . وإذا سقط العقلُ المدبِّر سقط الجسدُ نهائياً ، حتى لو كان منقوعاً في الطعام والشراب والثروة. وهذه _ بالضبط_ فلسفةُ تنظيم القاعدة في تنويع عملياته داخل أمريكا وخارجها ، حيث يهدف إلى حصر الأداء الأيديولوجي للسياسة الأمريكية في خانة رد الفعل لا الفعل ، وهذا هو الفخ الشمولي الذي تنصبه " القاعدة " من أجل تحقيق حلم السيطرة والنفوذ .
     كما أن أعداء أمريكا في الشرق والغرب سيعملون _ بكل طاقة _ على إدخال النظام الرأسمالي الأمريكي في فوضى العقلية الذاتية ، مما سيؤدي حتماً إلى شروخ هائلة في الجسد الأمريكي الذي يبدو أمام وسائل الإعلام متماسكاً ، لكنه _ في الحقيقة _ يعاني من احتراق داخلي في مدار مغلق .
     3) تأسيس البؤر الفكرية المحيطة برمزية الدلالة الصاعقة ، من أجل ضرب الحصار الشامل على العقيدة الأمريكية التفكيكية . فنظام الذهنية الهادفة إلى تعرية النظام الرأسمالي من رمزية الوعي الكلي ، سيُنْشِئ تياراً رافضاً لمشروع الأمركة     ( العولمة ) ، مما يؤدي إلى انتكاسة في المشروع الخارجي لصالح التقوقع الذاتي حول الداخل .
     وإذا استمر تنظيم القاعدة في نقل المعركة إلى الداخل البؤري الأمريكي ، سيتكرس المشهد الواعي الضاغط على سوسيولوجيا الأداء السياسي الركيك، الأمر الذي يدفع باتجاه تقليص حركة الإدارة الأمريكية على مستوى سياساتها . ومع استمرار عملية الضغط المنهجي على صورة أمريكا ، ستتدفق فضاءات متعددة ضد عسكرة السياسة .
     إن صورة أمريكا ركيكة في أنحاء العالم . فإيران مثلاً تصف أمريكا بالشيطان الأكبر الذي يغوي الآخرين ويوقعهم في الهاوية . وابن لادن زعيم تنظيم القاعدة كان يسمِّيها هُبَل العصر ، وهو الصَّنم الأكبر المعبود في الجاهلية ، ويتوجه الناس إليه لنيل حاجاتهم. والزعيمُ الشيوعي ماوتسي أطلق على أمريكا وصف نمر من ورق . أمَّا المتدينون النصارى في الغرب فيسمُّون أمريكا يهوذا الإسخريوطي الذي خان السيد المسيح صلى الله عليه وسلم ، وأدار ظهره لتعاليمه عبر بيع الإيمان بثمن بخس، وفق ما جاء في الأناجيل . وهناك حركاتٌ إسلامية معادية لأمريكا تسمِّيها الأعور الدجال الذي يملك قدراتٍ عجيبة يستعملها من أجل تأليه ذاته من دون الله تعالى .
     4) محاصرة الإدارة الأمريكية في مناطق نفوذها من العالَم بكل الطرق المدنية والعسكرية ، وهذا يقطع الخطوطَ المتوازية التي تعتمد عليها الرأسمالية في لعبة العصا والجزرة على الصعيدين : ميكانيكا السياسة العسكرية ، وانكسار الرؤى الإنسانية الأخلاقية لقيمة الحرب .
     فالفعل الحضاري السلبي الذي يجتاح العالَمَ ، ويدمر قيمَ الحلم البشري ، ويقضي على البيئة والمناخ ، ويُؤدلِج محيطاتِ الشعور الكينوني للمجتمعات في أنطقة زوايا التوحش والتمدد الانتكاسي ( تحول الروح إلى مادة ) ، هو فعل منهار يتم توظيفه من قبل الجهات المتحارِبة ضمن ثنائية الفعل ورد الفعل .
     وإذا أرادت البشرية تفعيل منهجية العيش المشترك على كوكب الأرض ، فلا بد من إيقاظ كيان الإنسان الاستقلالي المندفع الحر كقيمة رفض ثابتة لا مفر من تكريسها ، وذلك من أجل القضاء تماماً على التكريس الأسطوري لإشكالية الوهم المتراكب .
     وعبر تأسيسات المناحي النَّفسية لتداعيات السقوط الحضاري في مساحات الزمكان الافتراضي ، تتجذر قيمة التثوير الرامي إلى تعرية الفعل الحضاري السلبي من المصداقية المزعومة ، فتظهر الميكانيكا الفوقية المجتمعية للتصدي للبنية التحتية ضمن طبقات الإمبراطورية الواحدة . فالتأسيس الخيالي لواقعية الماديات الذاهبة في المعنى المشكوك فيه ، إنما هو إطار عمومي يخنق الهستيريا العسكرية الفوضوية في مهدها . لذا فإن تحرير المعنى السلبي من السالبية يُعد خطوةً أساسية في طريق بناء الفعل الإنساني الكَوْني الحقيقي الذي لا يختبئ وراء أقنعة الحضارة .
     لكن أشكال البناء الذاتي لمشاريع عسكرة السياسة تتمحور حول  شخصانية انكسارها . فالطاقة الخارجة من الجسد الهزيل لا يمكن تعويضها . والمشكلة الأساسية في الفعل الدبلوماسي الأمريكي أن إدارات البيت الأبيض المتعاقبة بعثرت طاقتها في العالَم يمنةً ويسرة . كما أنها قامت بشن حروب مفتوحة لم تعرف كيفية إغلاقها ، مما استنزف طاقتها المالية والبشرية . ومهما استولت على النفط ، فإنه لن يغطيَ خسائرها الفادحة . كما أن أمريكا كرَّست تشتيت قواتها وقواعدها العسكرية في كل أصقاع العالَم دون تنظيم ، وكل هذه العوامل امتصت طاقة الدولة الإمبراطورية المريضة . ولأن الجسم هزيل ، لم يعد قادراً على إنتاج طاقة ذاتية تقوم بسد حجم المخرَجات ، أي إن عدم قدرتها على تأسيس مدخَلات تكافئ أو تتجاوز المخرجاتِ سيجعل منها مثل البناية الضخمة التي يتم إسقاطها عن طريق تفريغها من الهواء ، فيصير الضغطُ الخارجي أكبر من الداخلي، فتنطبق الجدران على بعضها ، وتهوي البناية الضخمة.
     فالأزمة المالية التي تضرب كالإعصار هي قطرة الماء التي أفاضت الكأسَ ، ووضعت النظامَ الأمريكي على سلم العد التنازلي كأداء غير منضبط ، لكن الكأس ما زالت مليئة بالمفاجآت غير السارة بسبب غياب الرقابة الحكومية على الأنساق الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية المتحررة من التماسك القِيَمي . فالمسار التاريخي المنطقي يُثبِت تداولَ الحضارات كنظام تم التحقق من صحته على مدار العصور ، ولا يُعرَف له معارِض أو حالة خاصة استثنائية .

22‏/07‏/2012

وجود الله ووحدانيته وربوبيته

وجود الله ووحدانيته وربوبيته


للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .



     إن وجود الله ثابتٌ عقلاً ونقلاً. فالدلائلُ الماثلة في الكون تشير _ بلا ريب _ إلى وجود خالق مبدِع. وكل هذه المصنوعات من حولنا، والتي تسير وفق دقة متناهية ، ونظامٍ لا يعتريه اضطراب ، تدل على وجود صانعٍ لها . فلا يُعقَل أن تكون الطبيعةُ هي العقل المسيِّر لكل هذه الموجودات ، إذ إنها بحاجة إلى من يُسيِّرها . كما أن الصدفة عاجزة تماماً عن اختراع أنظمة كَوْنية دقيقة وبالغة التركيب .
     كما أن الفطرة الإنسانية السوية مجبولة على التوجه إلى اللهِ خالقها . فالنقصُ الإنساني والحاجة البشرية يسير باتجاه الإيمان بالله تعالى صاحب القوة العظمى المسيطرة على كل شيء . لكن الكفرَ عناد . فهؤلاء الملاحدة هم _ في واقع الأمر_ يقمعون فطرتَهم ، ويتحايلون على أنفسهم عبر خداعها وإقناعها بالإلحاد . لكنهم _ في قرارة أنفسهم _ يؤمنون بوجود الله تعالى . لكن المصالح الشخصية الآنية ، وضغطَ الشهوات البشرية ، والنفسَ الأمارة بالسوء ، وحبائلَ الشيطان ، كلها تؤدي إلى إنكار وجود الله تعالى .
     وكما قال أحدهم : البعرةُ تدل على البعير ، وأثرُ الأقدام على المسير . أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير ؟! .
فيا عجباً كيف يُعْصَى الإِلهُ          
أم  كيف  يَجْحَدُه  الجاحدُ
وفي  كـلِّ  شيءٍ  له  آيةٌ         
 تدلُّ  على  أنه  واحــدُ
     وقد قدم القرآنُ الكريم دلائل واضحة على وجود الله تعالى ، وأظهر الحججَ ، ولفتَ انتباهَ الناس إلى المظاهر الكَوْنية لكي يتفكروا فيها ، ويدركوا أنها ما كانت لتأتيَ عبثاً . كما حثهم على التدبر في السُّنن الكونية، والإشاراتِ الطبيعية المنتشرة بكثافة في كل مكان، وأمام أعين الناس كلهم . وفي هذا تحريك للعقل البشري كيف يفكِّر في القوة المحرِّكة للظواهر الكَوْنية المختلفة ، فالعقلُ هو مناط التكليف ، والقادر على معرفة الله تعالى ، إذا كان عقلاً طاهراً يسعى إلى معرفة الحق بدون أهواء مسترشداً بالهداية الربانية .
     قال الله تعالى : (( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يُحييكم ثم إليه تُرجَعون )) [ البقرة : 28] .
     إن اللهَ تعالى قد وضح مسألة الإحياء والإماتة لكي يتفكر الناسُ فيها ، ويستدلوا على عظيم القدرة الإلهية في الإحياء والإماتة . فالحياةُ والموت مشهدان ماثلان أمام العيان ينبغي للفرد أن يتفكر بهما وبما وراءهما ، وبالقوةِ القادرة على منح الحياة وسلبها دون صعوبة أو تناقض .
     قال الطبري في تفسيره ( 1/ 222 ) : (( ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك ، وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة . فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم لبعث القيامة ... وقد كنتم نطفاً أمواتاً في أصلاب آبائكم ، فأنشأكم خلقاً سوياً ، وجعلكم أحياء ثم أماتكم بعد إنشائكم . فقد علمتم أن من فعل ذلك بقدرته غير معجزه بالقدرة التي فعل ذلك بكم إحياؤكم بعد إماتتكم، وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم )) اهـ .
     لقد وجه اللهُ تعالى فكرَ الناس إلى مشاهدات حسية من صميم حياتهم . فالنطفةُ كيانٌ ميت لا وزن له . وحينما تخرج من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ثم تحدث الولادة ، فإن هذه النطفة تصير كائناً حياً ذا لحم ودم وقلب ودماغ وأعضاء متكاملة وأجهزة بالغة التعقيد والدقة منتظمة في عملها بلا تضاد . فهذه العمليةُ الباهرة التي تشتمل على الخروج من الموت إلى الحياة تشير إلى قدرة الخالق تعالى غير المحصورة . وبعد انتهاء فترة الحياة المقدرة فإن الإنسان ينتقل إلى الموت . وبالطبع فالإنسان لا يختار ميلاده ولا وفاته . وهذا يشير إلى وجود قوة قاهرة للإنسان الخاضع _ بإرادته ورغم أنفه_. وبالتأكيد فهذه القوة هي قوة الله تعالى الذي لا يعجزه الإحياء ولا الإماتة.
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 114 ) : (( أي : كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، كل أحد يعلمها من نفسه، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وُجِد ، وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات ، لأنه بمثابته ، فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه ، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء )) اهـ .
     وكلُّ إنسان _ بغض النظر عن عقيدته _ مقتنع تماماً بأنه لم يكن موجوداً ثم وُجِد ، وأنه سائر إلى الموت . والعجيبُ أنك ترى الملاحدة ينكرون وجودَ الله تعالى لكنهم لا ينكرون الموتَ . ولو أنهم أعملوا عقولَهم لأدركوا أن الموتَ خاضع لقوة عليا تتحكم فيه ، وتحدد موعدَه ، وهذه قوة الله خالقِ الحياة والموت .  
     قال الله تعالى : (( وهو الذي خلق من الماء بَشراً فجعله نَسَباً وصِهْراً وكان ربكَ قديراً )) [ الفُرْقان : 54] .
     وتتجلى قدرةُ الله تعالى في إيجاد الإنسان ذي الأجهزة بالغة التعقيد من ماء مهين ( المني ) ، ثم يتدرج الإنسان في مراحل النمو المختلفة بكل تراكيبها المتطورة . وكل ذلك من نطفة بالغة الصغر.  
     فهذا الكائنُ البشري الذي يصبح نسباً وصِهراً مرجعه إلى أصل بسيط ( حيوان منوي ) . وهنا تتجلى القدرةُ الإلهية اللامحدودة التي تجعل من اللاشيء شيئاً ذا قيمة . فعلى المرء أن يتساءل عن مصدر القلب والعقل وهذه الأعضاء البشرية المتناسقة ، من أين انبثقت ؟ . وكيف صدرت عن هذا الماء ( المني ) ؟ . لكن العَظَمةَ لا تكمن في طبيعة الماء ، بل في القدرة التي جعلت من الماء كائناً حياً يُفكِّر ويتحرك ويمارس نشاطاته الحياتية بكل يُسر اعتماداً على أجهزته العضوية المتكاملة.
     قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 429 ) : (( أي : خلق الإنسانَ من نطفة ضعيفة ، فسواه وعَدَله وجعله كامل الخِلقة ذكراً وأنثى كما يشاء ... فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهراً ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات وكل ذلك من ماء مهين )) اهـ .
     وهذه العلاقات الاجتماعية المختلطة والمنصهرة من علامات وجود الله تعالى ووحدانيته وربوبيته . فقد أوجد اللهُ تعالى الإنسانَ من نطفة لا وزن لها ، وهيأ لها رَحِماً حاضنة لها ، ثم يولد الإنسان ، ويكبر ، ويتزوج . وهذه المنظومة المتكاملة لم تتشكل وفق عبقرية الإنسان ومواهبه . فالإنسانُ عاجز عن خلق أصغر عضو في جسمه ، بل هو عاجز عن معرفة أسراره جسده وحقيقة روحه وطريقة عمل أعضائه المعقدة . فهذه المنظومةُ البشرية خاضعة لنظام إلهي مُحكَم لحفظ النسل، وإعمار الأرض . إنها النظامُ الاجتماعي المتماسك : النَّسَب والصِّهْر .
[في تفسير القرطبي ( 13/ 60 ) : (( قال ابن العربي : النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقاً مطلقاً ، ولم يكن نسباً محققاً )) اهـ . وفي فتح القدير للشوكاني ( 4/ 118 ) : (( قال الفراء والزجاج : واشتقاق الصهر من صهرت الشيء : إذا خلطته . وسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها . وقيل : الصهر قرابة النكاح . فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء والأصهار )) اهـ. وفي فتح الباري ( 9/ 132 ) : (( قال الفراء : النسب من لا يحل نكاحه ، والصهر من يحل نكاحه )) ].
     وتتوالى الإشارات الإلهية التي تدفع الإنسانَ إلى التفكر في الظواهر الطبيعية من حوله ، ليدرك عظمةَ الخالق الذي يسيطر عليها ويتحكم فيها .
     فقال تعالى : (( وآيةٌ لهم الأرضُ الميْتة أحيَيْناها وأخرجنا منها حَباً فمنه يأكلون )) [ يس : 33] .
     إن القرآن يُسلِّط الضوءَ على الظواهر الطبيعية المشاهَدة والملموسة . لكنَّ الإنسان من فَرْط رؤيته للأشياء لم يعد يرى الأشياء ويتفكر فيها ، ويدرك عَظَمةَ القدرة التي تُحرِّكها . فالأرضُ الميتة التي تكون كالجثة الهامدة ، تراها تعود إلى الحياة ، ويخرج منها الْحَبُّ ، فيأكل الناس . فعمليةُ الإحياء هذه دليل مادي واقعي يجريه اللهُ تعالى أمام عيون كل الناس لكي يتفكروا في حياتهم وموتهم وبعثهم ، وأن الذي أحيا الأرضَ بعد موتها وأخرج منها الحَب ، قادرٌ على إحياء الأموات وإخراجهم من التراب . والقرآنُ _ بذلك _ يُرَسِّخ في النفوس المعاني المشاهَدة بأم العيون لكي يؤمن الناسُ بالمعاني الغَيْبِية التي تُرى بالقلوب لا الأبصار . وهذه الدلائل الباهرة الواضحة للعيان تثير في النفس الإنسانية الأسئلة العميقة التي تقود إلى الإيمان بوجود الله تعالى وقدرته اللامحدودة . فمشهد الأرض الميتة كيف تعود إلى الحياة ، ويخرج منها الحبُّ ليأكل الناس يدل على مشهد انبعاث الناس من قبورهم يوم البعث والنشور . فالقادرُ على إحياء الأرض الميتة لن يعجز عن إحياء الموتى . والقادرُ على إخراج الحب من قلب الأرض الميتة قادرٌ على إخراج الموتى من جوف قبورهم . فالمشاهِدُ المحسوسةُ في عالم الشهادة تتجذر في النفس الإنسانية لكي يتجذر الإيمانُ بالمشاهِد في عالم الغيب التي يُسمَع عنها ولم تُرَ رأي العين .
     قال القرطبي ( 15/ 26 ) : (( نبههم اللهُ تعالى بهذا على إحياء الموتى ، وذكرهم توحيده ، وكمال قدرته . وهي الأرض الميتة أحياها بالنبات وإخراج الحب منها ، فمنه _ أي : من الحب _ يأكلون وبه يتغذون )) اهـ .
     وتنتقل الصورُ من الأرض الموات إلى الفضاء الرحب . فكل الأكوان يسيطر عليها اللهُ تعالى ، فهو موجدها من العدم ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
     قال الله تعالى : (( وهو الذي خلق الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ كُل في فَلَكٍ يَسْبحون )) [ الأنبياء : 33] .
     إن هذه المظاهر الكَوْنية الهائلة لا تأتي عبثاً أو بمحض الصدفة . فالليلُ وُجد لكي ترتاح فيه الخلائقُ من التعب ، وتأخذ قسطاً من الراحة ، حيث تستعيد نشاطها وحيويتها لمواصلة أعمالها الحياتية الرامية إلى الإعمار والتعمير . والنهارُ هو وقت النشاط والاندفاع والانطلاق في مسالك الأرض. والشمسُ تبعث الطاقة في الأرض وتنشر النور على البشر لكي تستمر الحياة دون عوائق، أما القمرُ فيمارس وظيفته في الإنارة . كما أن الشمس والقمر يُعتمَد عليهما في إجراءات العمليات الحسابية الخاصة بالشهور والسنوات .
     قال القرطبي ( 11/ 251 ) : (( ذكرهم نعمة أخرى : جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيها لمعايشهم ... وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل ، لتعلم الشهور والسنون والحساب.كل ( يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار ) في فلك يسبحون، أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء )) اهـ .
     فهذه الظواهر ذات تماس مباشر مع حياة الإنسان . لكن كثرة المشاهدة قد تجعل الإنسانَ غارقاً في الاعتيادية ، حيث يتعود على وجود الشمس والقمر والنهار والليل ... إلخ ، دون التفكر في هذا النظام البديع ، فتصبح النجوم والكواكب وتعاقب الليل والنهار _ في عيون البعض _ مظهراً عادياً خاضعاً لقوانين الفيزياء والكيمياء دون النظر بالبصيرة لإدراك عظمة خالق التراكيب السماوية الباهرة .
     فينبغي للعاقل أن ينظر إلى ما وراء الأشياء، ويتفكر في أنظمة عملها وضوابطها ، والإشاراتِ التي تحملها، وأن لا يغرق في الاعتيادية والتعود على رؤية الأشياء دون تحليلها وإيجادِ روابط بينها. فلا يوجد شيء في الكون وُجِد بشكل عبثي أو بالصدفة . إذ إن كل عنصر موجود لأداء وظيفة محددة خلقها اللهُ تعالى ، ووضح معالمها وحدودَها بكل دقة وانتظام. لكن المشكلة تكمن في العيون الميتة التي تُبصِر بلا بصيرة.  
     قال الله تعالى : (( خلق السماواتِ بغير عَمَدٍ تَرَوْنها وألقى في الأرض رواسيَ أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كل زَوْجٍ كريم (10) هذا خلقُ الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11) )) [ لقمان ] .
     فاللهُ تعالى خلق السماوات بغير أعمدة ، وهذا واضح أمام كل ناظر . وفي ذلك تتجلى طلاقة القدرة الإلهية وعدم محدوديتها . وهذه الصورُ الكَوْنية الباهرة من شأنها هداية العقل البشري إلى الإيمان بالله تعالى والامتثال لأوامره ، وإخلاص العبادة له ، وتوحيده الخالص الذي لا تشوبه أية شِركيات صغيرة أو كبيرة . فالسماواتُ العظيمة محمولةٌ بلطف الله تعالى ومقهورةٌ في قبضته . واللهُ غني عن الأسباب ، فلا يحتاج _ سبحانه _ إلى أعمدة لكي تحمل سماواته .
     قال ابن كثير ( 2/ 656 ) : (( يخبر الله تعالى عن كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمد ، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تُنال ولا تدرك مداها . فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض ، وما حولها من الماء والهواء ، من جميع نواحيها وجهاتها )) اهـ .
     وألقى اللهُ تعالى في الأرض جبالاً راسيات تحافظ على توازن الأرض وثباتها . فهذه الجبال بمثابة الأوتاد للخيمة. وهذا مظهر من مظاهر رحمته بخلقه، وتفرده بالحكم والأمر، مما يدل على وحدانيته وربوبيته . فهو يعتني بعباده ، ويحافظ على حياتهم ، ولا يتركهم يدبِّرون لأنفسهم فهم لا يحسنون التدبير ، وليس لهم القدرة على التحكم في الأنظمة الكَوْنية الأرضية والسماوية .
     وقد ذرأ اللهُ تعالى في الأرض من أنواع الحيوانات على اختلاف حجومها وأشكالها وقوتها ، ونشرها في الأرض . وكل دابة تعرف وظيفتها بدقة ، وتؤدي عملَها في هذا النظام البيئي البديع . فاللهُ تعالى لم ينسَ الدواب ، وحاشاه أن ينسى . فهو رب جميع الخلائق بلا استثناء ، يعتني بهم ، ويزوِّدهم بالأجهزة العضوية والتركيبِ الجسماني لكي تسهل حياتهم في البيئات المختلفة .
     قال الله تعالى : (( واللهُ خلق كل دابةٍ من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رِجلَيْن ومنهم من يمشي على أربع )) [ النور : 45] .
     فهذا التنوعُ في طبيعة الخلق ، وتعدد الأشكال والمظاهر في نظام بيئي لا اضطراب فيه ولا تعارض ، يشير إلى القدرة الإلهية والحكمةِ الربانية . فاللهُ تعالى لم يخلق مخلوقاته لكي يَحشرهم في الزاوية ويقضيَ عليهم ويضطرهم إلى أضيق المسالك . بل فتح لهم طريقَ اليُسر . فهو _ سبحانه _ خلق الدواب وفق أشكال مختلفة ، وزودها بأعضاء متباينة ، لكي تتأقلم مع بيئتها . فالكائناتُ الصحراوية بحاجة إلى أسلوب حياة يختلف عن أسلوب الكائنات العائشة في الأماكن الباردة . ومن هنا اختلفت طبيعة خلق الأجسام الحيوانية . وهكذا تتجلى الحكمةُ الإلهية في توفير سُبل العيش الهانئ للدواب على اختلاف بيئاتها . والذي يرزق الدواب ولا ينساها ، وهي كائنات غير عاقلة ، فكيف ينسى عبادَه الذين شَرفهم بالعقل وكَلفهم بإعمار الأرض ؟!.
     قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 398 ) : [ يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد (( فمنهم من يمشي على بطنه )) كالحية وما شاكلها (( ومنهم من يمشي على رِجلَيْن )) كالإنسان والطير (( ومنهم من يمشي على أربع )) كالأنعام وسائر الحيوانات ]  اهـ .
     واللهُ تعالى أنزل من السماء ماءً فأخرج النباتَ حسن المنظر . وفي هذا النبات فائدة للإنسان والحيوان والبيئة . ولو اجتمعت الخلائق على إنزال الماء من السماء لعجزت عن ذلك . كما أن جميع علماء الأرصاد الجوية لا يقدرون على تحديد ساعة نزول المطر ، لكنهم يدرسون الأحداث الجوية الظاهرة للعيان ، ثم يبنون حساباتهم على التقريب والاحتمالات .
     وكل المشاهَدات الكَوْنية مكشوفة للعيون البشرية ، فليست من عالم الغيب ، وليست من خيالات الشعراء وصورهم الفنية ، وما هي بالمجاز اللغوي المعتمد على قوة المخيلة . بل هي صور واقعية يراها المؤمن والكافر على السواء ، وموجودة عبر كل أطوار التاريخ ، وفي كل البيئات .
     وقد تحدى اللهُ تعالى عبادَه وهو يعلم عجزَهم . فقال تعالى : (( فأروني ماذا خلق الذين من دونه )) ، أي الأصنام والأنداد المعبودون من دون الله تعالى . وبالطبع فلا خالق إلا الله تعالى . ولا معبود بحق إلا الله تعالى .
     فكلُّ شخص يعبد غيرَ الله تعالى عليه أن يُقدِّم أسماءَ مخلوقات إلهه . فالنصارى الذين يَعبدون المسيحَ صلى الله عليه وسلم عليهم أن يُخبرونا ما هي مخلوقات المسيح التي أوجدها . واليهودُ الذين عَبدوا العجلَ ينبغي أن يقولوا لنا ماذا خلق العجلُ . والهندوسُ الذين يُقدِّسون البقر عليهم أن يُقدِّموا قائمة بالمخلوقات التي أوجدها البقرُ . وعبدةُ الأصنام المقتنعون بآلهتهم من دون الله ، ينبغي أن يخبرونا عن قدرة الأصنام على الخلق والإبداع ... إلخ . وحينما يتذكر الفردُ هذا المنظور الفكري المعتمد على المنطق والحجة ، سيدرك أن الله تعالى هو الخالق وحده . وكل ما سوى الله تعالى هو عبدٌ لله تعالى ومخلوقٌ ضعيف فقير إلى سَيده الخالقِ العظيم سبحانه .  وكما قال الشاعر :  ألا كل شيء ما خلا الله باطل .