الإخلاص في الدين
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
الإخلاص هو أساس الدين ، ويعني التوجه الكامل
نحو الله تعالى، بحيث يكون قصدُ كل أعمال الإنسان هو وجه الله وَحْدَه . وبدونه لا
تُقبَل العبادات . والإخلاصُ هو القوة الروحية الهائلة التي تنعكس على سلوك المرء
وطبيعة تفكيره ونظرته إلى الأفعال الحياتية على كافة الصُّعد . كما أن الإخلاص
يُحرِّر الفردَ من شوائب العلاقات الدنيوية الوضيعة ، ويجعل تَوجُّهه نحو الخالق
العظيم بلا شريك. وبذلك يتجذر شرفُ العبادة في أسمى معانيها في الذات الإنسانية
المتحررة من قيود المصالح الدنيوية ونيلِ الحظوة عند الناس . فالناسُ لا يملكون من
أمرهم شيئاً . والأمرُ كله بيد الله تعالى . وإذا استقرت هذه العقيدة في النفس
فإنها تُورِث المرءَ أماناً وسعادة ولذةً في أداء العبادات مع إدارة الظهر لكل
أوهام الدنيا وإغراءاتها الشكلية . ولا يمكن للمرء أن يتوجه إلى سَيِّدَيْن ، لذلك
على الإنسان أن يُسقِط الناسَ من حساباته ، ولا يُعير بالاً لأحكامهم عليه ، بل
يتوجه بالكلية إلى الخالق تعالى ، فهو _ وَحْدَه _ الذي يَحكم له أو عليه .
قال الله
تعالى : (( فاعبدِ اللهَ مخلِصاً له الدين )) [ الزمر : 2] .
قال الطبري
في تفسيره ( 10/ 610 ) : (( يقول تعالى ذِكره : فاخشع لله يا محمد بالطاعة ، وأخلص
له الأُلوهة ، وأفرده بالعبادة ، ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكاً ، كما فعلت عبدة
الأوثان )) اهـ .
إن وظيفة
النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الناس إلى عبادة الله وحده الذي لا ند له ، ولا
شريك له . فلا خالق إلا الله تعالى ، وعلى الخلق أن يتوجهوا إليه وفق طريق التوحيد
المستقيم بلا شوائب شِركية مهما كانت صغيرة أو خفية .
وفي الواقع
فإن العربي كان غارقاً في الشِّركيات بفعل علاقته مع الأصنام المنتشرة في البيئة
الجاهلية . وقد اخترع أهلُ الأوثان علاقاتٍ بين الأصنام والله تعالى ، فزعموا أنها
تُقرِّبهم إلى الله تعالى . مما يشير إلى تغلغل الجاهليِّ في هذه العقلية البدائية
الوهمية . وقد جاء الإخلاصُ لانتشال الفرد من عبودية الأشياء ، وتوجيه كل الطاقات
البشرية للخضوع لله تعالى بلا شريك . فالإنسانُ لا يكون إلا عبداً . فمن ليس عبداً
لله الإلهِ الحق فهو عبدٌ لإله معبود بغير حق. وبالتالي فالإخلاصُ إنقاذٌ للبشر من
الوقوع في مستنقع الباطل ، ومسارٌ مضيء لاعتناق الحق ورفض الباطل . وهكذا يلتقي
الإنسان بإنسانيته ، ويعرف خالقَه تعالى الذي أوجده من العَدَم وسيُعيده إلى
التراب .
وقال الله
تعالى : (( فإذا ركبوا في الفُلْك دَعَوُا اللهَ مخلِصِين له الدين فلما نجاهم إلى
البَر إذا هم يشركون )) [ العنكبوت : 65] .
وهذا يشير
إلى أن الإنسان في الشدائد يعود إلى الأصل الثابت الكامن في نفسه وهو توحيد الله
تعالى . فحينما يوقن الفردُ بالهلاك يتوجه _ بكل جوارحه _ إلى خالقه وحده . لكنه
حينما يشعر بالأمان يعود إلى طبعه الأول وهو الشرك بالله تعالى افتراءً عليه .
فالفِطرةُ الإنسانية خاضعة لإلهٍ واحد لا شريك له ، لكن المصالح الشخصية وغياب
الهداية وتزيين الشيطان تؤدي إلى الشِّرك .
قال
الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 301 ) : (( إذا انقطع رجاؤهم من الحياة ، وخافوا الغرق،
رجعوا إلى الفِطرة فدعوا اللهَ وحده ، كائنين على صورة المخلِصين له الدين بصدق نياتهم
، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام ، لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم
غير الله _ سبحانه _ )) اهـ .
والإخلاصُ
والتوحيد يشيران إلى خطورة الشِّرك الأكبر ( المخرج من الملة )، والشركِ الأصغر (
غير المخرج من الملة ) . فالمقارنةُ بين الأضداد تقود إلى فهم أكثر تماسكاً .
فعن شداد بن
أوس _ رضي الله عنه_ قال : (( كنا نَعُد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
الرياء الشرك الأصغر )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 365 ) برقم ( 7937 ) وصححه
، ووافقه الذهبي ].
والرياءُ أن
لا يُقصَد بالعمل وجه الله تعالى ، وهذا محبط للعمل وفق درجات متفاوتة . كما أنه
أمر بالغ الخطورة ، لأنه يُفقد العباداتِ معناها الحقيقي عبر توجيهها إلى غير الله
تعالى ، كما يُفقد الإنسانَ متعة الإخلاص وحسن أداء الشعائر الدينية ، ويُعرِّض
الإنسان لغضب الله في الدارَيْن .
فينبغي أن
تُترَك ملاحظة العمل لا العمل . فعلى المرء أن يسعى بكل جوارحه إلى عبادة الله
تعالى دون النظر إلى تعليقات الناس ، أو التوقف عن رأيهم . أي إنه يُقبِل على
العمل ويُهمِل ملاحظة العمل التي قد تنشأ في كلام الناس ورؤيتهم له . فمن يَعرف
طريقَه لا يلتف أثناءَ سَيْره . فالعابدُ لا يهتم بالأحكام البشرية ، نفياً أو
إثباتاً ، سلباً أو إيجاباً ، لأنه لا يرى إلا الله تعالى .
وفي صحيح
مسلم ( 3/ 1513) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : (( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه
رَجل استشهد، فأُتِيَ به فعرفه نعمه فعرفها. قال : فما عملت فيها ؟، قال : قاتلتُ فيكَ
حتى استشهدتُ . قال : كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال جريء فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب
على وجهه حتى أُلقيَ في النار . ورجلٌ تعلم العلمَ وعلمه وقرأ القرآنَ فأُتِيَ به فعرفه
نعمه فعرفها ، قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال : تعلمتُ العلمَ وعلمْتُه وقرأتُ فيك القرآن.
قال : كذبتَ ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالِم، وقرأتَ القرآنَ ليقال هو قارئ فقد قيل
، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار . ورَجلٌ وسع اللهُ عليه وأعطاه من
أصناف المال كله ، فأُتِيَ به فعرفه نعمه فعرفها . قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال :
ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك . قال : كذبتَ ولكنك فعلتَ
ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقيَ في النار )) .
وهكذا نرى خطورة الرياء ، وانعدامِ الإخلاص
لله تعالى . فالمرائي شخصٌ يريد بعمله أن ينال ثناءَ الناس والحظوةَ عندهم . وقد
تم مدحه والإطراء عليه ووصفه بالجرأة والعلم والكرم ، لكنه قد أخذ نصيبَه في
الدنيا ، وما له في الآخرة من خَلاق .
فالمقاتِلُ الذي مارس فعل القتال في المعركة
بكل بسالة وإقدام كان يقصد نيل مديح الآخرين ، والإعجاب به ، والثناء عليه بأنه
شجاعٌ مِقدام ، وجريء لا يخاف الموتَ . فهذا القصدُ الوضيع كان الدافع لعمله ، فلم
يُقاتِل لتكون كلمةُ الله هي العليا ، إذ إن هَمَّه محصور في لفت أنظار الناس
والحصول على الإطراء منهم .
ونحن نرى كثيراً من القادة العسكريين الذين
يتبخترون أمام وسائل الإعلام مع أنهم لم يُحرِّروا ذبابةً . نراهم وقد امتلأوا
فخراً زائفاً ، وبريقاً وهمياً . ويُحبون أن يُحمَدوا بما لم يَفعلوا . وحتى لو
قاتلوا فإنهم يُقاتِلون دفاعاً عن الحاكم الفلاني ، أو تعصباً لقومية معينة أو
عِرْق محدد أو مذهب سياسي منحرف . وهؤلاء أبعد ما يكونون عن الإخلاص ومعرفةِ القصد
الحقيقي وراء التضحية بالنفس التي هي أغلى ما يملكه الإنسان .
فقبل أن يُضحِّيَ الفرد بنفسه ، عليه أن
يسأل ذاته عن سبب التضحية . فإن كان يُقاتِل من أجل الله تعالى فليتقدم واثقاً
بالموعود الإلهي ، إما النصر أو الشهادة . أما إن كانت نيته غير ذلك ، فينبغي أن
يعيد تقييم الموقف . فالتضحيةُ بالنفس ذهابٌ بلا عودة ، ولا توجد فرصة للتعويض .
فلا بد أن يكون هدف التضحية سامياً . ولا يوجد أسمى من الإخلاص لله تعالى كهدف
وحيد .
والذي تعلَّم العلمَ ، وزاحم العلماء في
مجالسهم . وقام بقضاء الليالي في الدراسة ، وأعطى الدروس للطلاب ، ونشر العلمَ في
كل الاتجاهات . كلُّ ذلك لا فائدة منه إذا كانت النيةُ غير خالصة لله تعالى .
فكثيرٌ من طلبة العلم إنما يهدفون لنيل مكانة اجتماعية مرموقة ، وأن يُوَسَّع لهم
في المجالس ، ويُوصفوا بالعلماء . فترى الواحد منهم يقضي حياته طالباً للعلم من
أجل شهادة ورقية تزيد راتبَه الشهري أو تضمن له ترقية جامعية ، أو منزلة سامية بين
أقرانه . فصار العلمُ للأسف من أجل إضافة حرف " د " إلى بداية الاسم .
فصار الواحدُ يطلب العلمَ لكي يُوصف بالدكتور أو البروفسور أو العلامة ، فيتصدر
المجالس ، ويقتحم عالم اللقاءات التلفزيونية ، ويجلس مع عِلية القوم من السياسيين
ورجال الأعمال لتحقيق منافع شخصية لا تمتُّ للحياة العلمية بصلة . وهؤلاء خاب
مسعاهم ، ولم يذوقوا حلاوة الإخلاص في طلب العلم ، لأنهم غرقوا في الألقاب العلمية
، فشُغلوا بها عن القيمة الشريفة للعلم . وصدق القائل :
ولم أَقضِ حَق العلم إن
كان كُلما
بدا طَمعٌ صَيرْتُه لِي
سُلمـــا
أما الذي تصدق بأمواله رياءً وسمعة ، وأنفق
في دروب الخير ليُقال إنه جواد ومحسن . فإنفاقُه سيكون وبالاً عليه ، لأنه لم يقصد
وجهَ الله تعالى، ولم يعرف حقَّ خالقه الرزاق الذي منحه الأموال فأنفقها للفت
انتباه الناس ، والحصول على إعجابهم وتقديرهم ، وكَيْل المديح له . وبالتالي فإن
نيته الفاسدة سوف تورده المهالك لأنه حصر هَمَّه في أغراض دنيوية بائسة وزائلة ،
ولم ينظر إلى النعيم المقيم ، لذلك فقد أخذ نصيبه من الدنيا ، مديحاً زائلاً
وإعجاباً مؤقتاً وإطراءاً لا يدوم . وفي الآخرة سيأتي صفر اليدين مأزوراً لا
مأجوراً .
فعلى الإنسان أن يُسقط الناسَ من حساباته ،
ليس بمعنى احتقارهم . بل بمعنى الإيمان بأنهم لا يملكون من أمورهم شيئاً ، وليس
بيدهم الضر أو النفع . وبالتالي يركِّز جهودَه على تنقية عبادته من أية شائبة رياء
معتصماً بالإخلاص في أدق التفاصيل، لأن مديح الناس سرعان ما يذهب أدراج الرياح ،
إذ إن إرضاءهم غاية لا تُدرَك . وكما قال أحدهم : (( نظرتُ إلى الناس فرأيتُهم
موتى فكبرتُ عليهم أربع تكبيرات )) .http://www.facebook.com/abuawwad1982