العقائد الدينية في شعر المعلقات / الجزء الثاني
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
www.facebook.com/abuawwad1982
......................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
www.facebook.com/abuawwad1982
......................
إن عِلْمَ الله شاملٌ لكل شيء ، ومحيطٌ بالجزئيات والكليات . وهذه الحقيقةُ
تَظهر في قول الشاعر الحارث بن حِلِّزة :
وَفَعَلْنا بِهِم كما عَلِمَ اللهُ ومَا إنْ للحائنين دِمـاءُ
إنه يَفتخر بقومه الذين سَحقوا أعداءهم ، وفَعلوا بهم فعلاً بليغاً لا
يُحيط به عِلماً إلا الله تعالى. فالبشرُ لا يمكنهم تصوُّر هذا الفِعل العظيم،
والإحاطة به . وَحْدَه الله هو القادر على الإحاطة به ، لأن عِلمه شاملٌ وغير
محدود . والشاعرُ في هذا السياق يُبيِّن أمرَيْن أساسيَّيْن : الأول _ تعظيم فِعل
قَوْمه ، وإعلاء شأنهم ، وبسط نفوذهم ، وصناعة هالة إعلامية حول أمجاد القبيلة .
والثاني _ إظهار سَعة عِلم الله ، فهذا العِلمُ لا بداية له ولا نهاية. وعِلمُ
البشر المحدود عاجزٌ عن الإحاطة بفعل قَوْمه بسبب عَظَمته. واللهُ هو الذي يُحيط
به عِلماً لأنه الخالق الكامل الذي لا يَطرأ عليه نقصٌ ، ولا يُصيبه نسيان أو ضعف
.
ويواصل الشاعرُ تعظيمَ
قَوْمه ، والحط من شأن أعدائهم . حيث يقول إنه لا دماء للمتعرِّضين للهلاك أو
الهالكين . وبعبارة أخرى ، لم يُطالب أحدٌ بثأرهم ودمائهم . لقد ذَهبت دماؤهم
هدراً ، ولم يأخذ أحدٌ بثأرهم ، بل لم يُطالِب أحدٌ _ أصلاً _ بثأرهم . وهو
يُصوِّرهم في هذا النسق كبشر تافهين لا تاريخ لهم ، ولا قبيلة تَسندهم ، ولا أحد
يسأل عنهم ، أو تهمُّه أخبارهم . إنهم مجرد جِيَف وضيعة . دماؤهم ذَهبت أدراجَ
الرياح . وقد قُتلوا مجاناً ، فَهُم مخذولون لم يَنصرهم أحدٌ في حياتهم، ولم
يُطلَب بثأرهم بعد قَتلهم. عاشوا وماتوا وكأنهم أرقام، مجرد أرقام ذَهبت إلى
النسيان .
والشاعرُ يَهدف إلى
تصويرهم كأصحاب منزلة اجتماعية وضيعة، لا اسم لهم،ولا تاريخ لهم . ولو كانوا من
أصلٍ كريم شريف ، ويَنتمون إلى قبيلة قوية، لتمَّت المطالبة بدمائهم والأخذ بثأرهم
_ على أقل تقدير _. وبما أن هذا الأمر لم يَحدث ، إذن .. فهُم أشخاص بلا أي وزن ،
عاشوا وماتوا دون أن يَسأل عنهم أحدٌ ، وهذا منتهى الذل والخزي والعار .
وفي هذا السياق تَظهر
فلسفةُ الشِّعر الجاهلي في زمن الحروب والنزاعات . حيث يتم إعلاءُ شأن القبيلة
وتلميع اسمها ، ورسم هالة مقدَّسة حَوْلها ، ووصفها بكل الصفات الحسنة ذات التأثير
الإيجابي في النفوس. وفي المقابل يتم تدمير صورة القبيلة المعادِية ، والحط من
شأنها، وتلطيخ اسمها ، والتفتيش عن عيوبها ، أو اختراع عيوب لها ، ولصق كل الصفات
القبيحة بها، والتي تَجعل الناسَ يَنفرون منها ، ويُصابون بالقرف عندما يَسْمعون
باسمها . إنها حربٌ إعلامية شَعواء تَجري على قَدَم وساق يقودها الشعراءُ.
فالشاعرُ هو وزيرُ إعلام القبيلة المنافِح عن أمجادها، والهادم لأمجاد أعدائها.
إن الصراع بين القبائل
يَحمل صبغةً هستيرية قاسية ، فلا توجد ضوابط لهذا الصراع الدموي، ولا توجد حدود
للحروب القَبَلية . فكلُّ شيء مسموح في هذه الحروب الطاحنة ، والغايةُ تبرِّر
الوسيلةَ. والمهمُّ أن تَعلوَ كلمةُ القبيلة ، ولا تَسقط مهما حَصَلَ . فالقبيلةُ
هي حَجَرُ الزاوية ، وهي رأس الأمر في الجاهلية . وكلُّ القدرات مُسخَّرة لحفظ
مكانتها ، وإعلاء شأنها بين القبائل .
يقول الحارثُ بن حِلِّزة :
فَهَداهم بالأسْوَدَينِ وأمرُ اللهِ بِلْغٌ تَشْقَى بهِ الأشقيــاءُ
يُعطي الشاعرُ وصفاً سريعاً للعسكر. فقادَ هذا
العسكر ، وزادهم التمر والماء ( الأَسْودان )، أي إنهم جهَّزوا أنفسهم بالتمر
والماء ، وذلك لكي يَحصلوا على القوة، ويَستطيعوا الوقوفَ في وجه الأعداء . وكلُّ
قوةٍ عسكرية بحاجة إلى تموين وتغذية جيدة كي تَقْدر على أداء دورها بشكل فعَّال .
والتمرُ والماءُ هما مَصدرا الطاقة للعسكر والجيوش .
ويُبرِز الشاعرُ عقيدته
في الله تعالى ، فهو يَعتقد أن أمرَ الله بالغٌ مَبالغهِ يَشقى به الأشقياء في
حُكمه وقضائه . ولا شيء يَقف في طريق الأمر الإلهي . فأمرُ اللهِ نافذٌ لا محالة ،
لا يُوقفه شيء . ومَن كُتب عليه الشقاءُ فسوفَ يَكون من الأشقياء ، ولا فرصة أمامه
للهرب .
والشاعرُ يُصوِّر
الأعداءَ كأشقياء خاضعين لأمر الله تعالى ، ولا مجال أمامهم للخروج من دائرة
الشقاء . وهكذا نرى الشاعرُ قَد وَضعهم في القائمة السوداء معتمداً على فهمه للأمر
الإلهي . وهو بذلك يُحاول جعلَ أمر الله في صَفِّه وصَفِّ قَوْمه _ إن جاز التعبير
_ ، وضد الأعداء . وهنا تبرز قضية غاية في الخطورة ، وهي توظيفُ العقيدة الدينية
لصالح العَصَبية القَبَلية . وكأن الشاعرَ يَهدف إلى " احتكار أمر الله
" لصالحه وصالحِ قَوْمه. فَمَن عادى قَوْمه فقد أدخل نَفْسَه في دائرة الشقاء
الأبدي ، لأن اللهَ غالبٌ على أمره ، وأمرَه سَيَبْلغ مَبالغه ، ولا توجد قوة
قادرة على مواجهته . وهكذا يَظهر لنا قضية توظيف الدِّين لخدمة الدنيا ، واستخدام
العقيدة لتحقيق أغراض شخصية ، ومصالح قَوْمية .
ومن الجدير بالذِّكر أن
الشاعر لم يُعْطِ تعليلاً لسبب شقاء الأعداء . ولكنْ من الواضح ، أن سبب شقائهم _
حَسْبَ منظور الشاعر _ هو وقوفهم ضد قَوْمه . ومَن وَقفَ ضد قَوْمه فكأنما وَقف ضد
الله تعالى الذي لا يمكن مواجهته ، ولا يمكن إيقاف أمره النافذ .
وإذا انتقلنا إلى الشاعر النابغة الذبياني
نجده معنياً بكلام الله لأنبيائه . وكلامُ الله هو صفةُ اللهِ القديمةُ، فالكلامُ
صِفةُ المتكلِّم . كما أن النُّبوة مَظهرٌ لتجليات الرحمة الإلهية على البشر .
واللهُ تعالى كان قادراً على تَرك البشرية تَهوي في الضلال ، لكنه _ سبحانه
_ اختارَ أن يُرشدَ الخلائقَ إليه ، ويُنقذهم من الضلال ، ويَمنحهم السعادة في
الدنيا والآخرة ، لذلك أرسلَ إليهم الأنبياء الذين كانوا أفضلَ المعلِّمين
والمصلِحين . والشاعرُ مُهتم بالتوجيه الإلهي لأنبيائه ، وإبراز التعاليم السماوية
وعلاقتها بمقام النُّبوة ،_ وكل ذلك طبعاً حَسْبَ اعتقاده وتصوُّره _ .
يقول النابغة الذبياني :
إلا سُليمان إذ قال الإلهُ لـهُ قُم في البَرِيَّة فاحددها عن الفنَدِ
وهنا تتَّضح عقيدةُ الشاعر ، فهو مؤمنٌ بالله تعالى ، والوحي الإلهي ،
والنُّبوة . وقد أوردَ اسمَ النبي سليمان_عليه الصلاة والسلام_. ويقول الشاعرُ إن
الإلهَ قال لسليمان الحكيم: قُم في البَرِيَّة، فاحبسها عن الخطأ في الرأي والقول
، وامنعها من الظلم .
وهذا يُشير إلى إيمان الشاعر بالكلام الإلهي ،
والوحي السماوي ، وكَوْن تعاليم السماء تَحمل رسالةَ الخير والحق والفضيلة ، ونشر
العدل بين الخلائق ، ومنعها من الظلم أو الخطأ . وهنا تَظهر قناعةُ الشاعر بأهمية
اتصال الأرض بالسماء ، وأهمية التوجيهات السماوية العُليا لصلاح العالَم السُّفلي
( الأرض ) .
وينتقل النابغة الذبياني إلى تمجيد الله تعالى ، وإظهار قوته ، وقدرته على
حماية مخلوقاته ، وإحاطتهم بالأمن والأمان ، فيقول :
والمؤمنِ
العائذاتِ الطيرَ تمسحها رُكبانُ
مكة بين الغِيْل والسَّعدِ
والمؤمِن هو الله تعالى
الذي آمَنَ عائذاتِ الطير وأجارها وحماها . وهي التي عاذت بالْحَرَم ، أي التجأت
إليه فوَجدت الأمانَ والحمايةَ ، تلَمسها أو تزورها رُكبانُ مكة بين الغيل والسعد
، وهما أجمتان بين مكة ومِنى .
إن اللهَ يُجِيرُ ولا
يُجار عليه. وهذه الحقيقة آمن بها النابغة الذبياني، وسطَّرها في شِعره، ووضعها في
صورة فنية. فالطيرُ في الْحَرَم آمنٌ على نَفْسه ، لا أحد يتعرض له بسوء ، وما كان
هذا لِيَحْدث لولا أن الله آمنَ الطيرَ من الخوف ، وحماه من كل مكروه .
فاللهُ هو المؤمِن الذي
يَرْجع إليه الأمنُ والأمانُ، ولا أحد يَقْدر على منحهما سواه. فهو واهبُ الأمن .
والأمنُ عكس الخوف. ولا يَخفى أن المؤمِن هُوَ اسم من أسماء الله الحسنى. وهذه
المعاني أشارَ إليها الشاعرُ ، فلا بد أنها كانت راسخةً في قلبه وعقله .
والشاعر عُبَيْد بن
الأبرَص يُمجِّد اللهَ تعالى في شِعره، ويُورِد بعض المعاني الهامة . فهو يشير إلى
أن سائلَ الله لا يَخيب ، فمن يُقبِل على الله تعالى سوفَ يُقبَل ، ولن يُرَدَّ
خائباً . وهنا تبرز أهميةُ الاستعفاف، وقطعِ علائق الخضوع للناس. وتتضحُ ضرورة
التوجه إلى الله بالكُلِّية، لأنه_ سبحانه_ لا يُخيِّب مَن دعاه ، ولا يَحْرم
سائلَه .
يقول عُبيد بن الأبرص :
مَن يَسأل الناسَ يَحْرِموه
وسَائلُ اللهِ لا يَخيــبُ
فالذي يَسأل الناسَ ويتوجه إليهم سيحرمونه، ويردونه خائباً. فالناسُ غارقون
في نظام مادي ، وبعيدون كل البعد عن المشاعر الإنسانية ، كما أن حرصهم على الدنيا
، وتكالبهم عليها ، والإمساك بالشهوات بالأظافر والأسنان ، كل هذه العوامل تجعل
الناس يُديرون ظهورهم لمن يسألهم، ويَحرمونه من كل خير. أمَّا الذي يَسأل اللهَ
تعالى ، فإنه سيفوز بمراده ولن يَخيب. فاللهُ لا يَطرد من يأتيه،فهو الكريم الذي
لا تنفد خزائنه، ولا يخاف من الفقر ، ولا يخشى تقلباتِ الزمان . والشاعرُ قد
عَرَفَ الناسَ وعجنهم وخبزهم ، فوجدهم أصحاب صفات سيئة ، حريصين على مصالحهم
الذاتية ، ولا يُفكِّرون في مساعدة الآخرين . لقد غسل يده من الناس، وتوجَّه إلى
الله تعالى، فهو المتَّصف بالكمال والكَرَم ، ولا يَرُد من يسأله . والمخلوقُ لا
يستحي أن يرد أخاه خائباً مكسوراً ، أمَّا اللهُ العظيمُ فيستحي من عبده الضعيف
إذا بَسط إليه يديه أن يرده خائباً . وهنا يتضح الفرق بين صفات الخالق الكاملة
وصفات المخلوقين الناقصة .
ويقول عُبَيْد بن
الأبرَص :
باللهِ يُدْرَكُ كلُّ خَيْــرٍ والقَوْلُ في بَعْضِه تَلْغيبُ
لا سبيل للوصول إلى الخير بدون التوفيق الإلهي. وإذا استعانَ الشخصُ بالله
تعالى، فإنه سَيُدْرِك كلَّ خير. أمَّا إذا اعتمد على نَفْسه ومواهبه الذاتية
فسوفَ يضل الطريقَ ، لأن الإنسان عاجزٌ ، وخاضعٌ لقوة أعلى منه ، إنها قوة الله
تعالى . كما أن الإنسان _ بِحُكْم ضَعفه
_ لا يَقْدر على جلب الخير أو دفع الشر اعتماداً على ذاته . فالعاجزُ لا يمكن أن
يَصدر عنه الكمالُ . لذلك يقرِّر الشاعرُ أن كلَّ خير إنما يُدرَك بالله . فاللهُ
هُوَ الكاملُ ، ولا يَصْدر عن الكامل إلا الخير والكمال .
ويشيرُ الشاعرُ إلى
أهمية الكلام ، وضرورة اختياره بعناية فائقة . فالإنسانُ قد يَقول قَوْلاً بلا
تدبر ولا تفكير، فيكونُ منه ما لا خير فيه. ففي بَعض القول تلغيبٌ ، أي : ضعف أو
إتعاب لقائله. وهذا الكلامُ غير المحسوب قد يجرُّ شراً على صاحبه ، ويكون سبباً في
هلاكه . وكَم مِن شخص سَقط ضحيةَ لسانه ، وكَم مِن إنسان قتله لسانُه . لذلك قيل :
لسانُ العاقلِ مِن وراء قلبه ، وقلبُ الجاهل
مِن وراء لسانه . يعني أن
العاقلَ يفكِّر بالكلام قبل أن يَنطق به ، فإن كان خيراً نطقَ به ، وإن كان شراً
لم يَنطق به. أمَّا الجاهلُ فيُلقي الكلامَ دون تفكير، وبعد ذلك تبدأ رحلةُ
الندم _ حين لا يَنفع الندم _. والكلمةُ كالرصاصة إذا انطلقتْ فلا يمكن
إرجاعها ، ولا بد أن تُصيب شيئاً ما . كما أن الإنسان هو مالِكُ كلامِه ما دامَ
كلامُه في صدره ، فإذا خرجَ الكلامُ صار الإنسانُ أسيراً لكلامه .
ويقول عُبَيْد بن الأبرَص :
واللهُ لَيْسَ لهُ شَـريكٌ
عَلَّامُ ما أَخْفت القلوبُ
إنه إقرارٌ بوحدانية الله تعالى . وهذا الإقرارُ يجيء من قلب البيئة
العربية الوثنية التي تعتمد الشِّركَ بالله رأساً للعقائد، ومَصْدراً للتشريع
الدِّيني والاجتماعي بكل إفرازاته . لقد استمع الشاعرُ لنداء الفِطرة التي تقرِّر
وحدانيةَ الله تعالى ، وخالفَ عقائدَ الآباء ، وعارضَ الموروثَ الديني في بيئته
الغارقة في تقديس الأصنام وعبادتها تقرُّباً لله تعالى .
فها هو يقرِّر أن الله
واحدٌ في ذاته ، وواحدٌ في صفاته ، ليس له شريكٌ أرضي ولا سماوي . ومِن صفاته
تعالى أنه عَلَّام ما أَخفت القلوبُ ، مُطَّلع على السرائر ، لا تخفى عليه خافية .
والذي يَعرف خبايا القلوب الباطنة ، يَعرف أعمالَ الإنسان الظاهرة . والمنطقُ يقول
إن معرفةَ الظاهر أَهْونُ من معرفة الباطن . وعند اللهِ ، كلُّ شيء هَيِّن ، لا
يُعجزه شيء ، ولا يَصعب عليه شيء .