إدموند هوسِّرل ومتاهة الظاهراتية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 19/10/2017
..................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 19/10/2017
..................
لقد ارتبطَ اسم الفيلسوف الألماني إدموند
هوسِّرل ( 1859_ 1938) بالفينومينولوجيا ، والتي تُعرَف بالظاهراتية أو الظاهريات
. وكلما ذُكر اسم هذا الفيلسوف ذُكرت معه هذه الفلسفة التي قام بتأسيسها، وقضاءِ
حياته في تثبيت دعائمها، والانتصار لها، وحشد البراهين لشَرعنتها ، وإيجاد مشروعية
لها داخل الفكر الفلسفي ، والبحث عن حاضنة اجتماعية لها . فصار الفيلسوف وفلسفته
وجهين لعملة واحدة ، لا انفصال بينهما . يُوجدان معًا ، ويَغيبان معًا .
وُلد هُوسِّرل في مُورافيا لأبوين يهوديين ، لكنه تنصَّر في عام 1886 ( على
المذهب البروتستانتي ) مثل الكثيرين من اليهود . واليهودُ الألمان كانوا يُعتبَرون
عناصر شاذة في المجتمع ، يُنظَر إلَيهم بِعَين الرِّيبة، ويتم تصنيفهم كطابور خامس
. لذلك كان الكثيرون منهم يَتنصَّرون للحصول على مصالح شخصية ، ومزايا وظيفية. ومن
أجل إبعاد المشكلات عن حياتهم ، وتقديم أنفسهم كمواطنين صالحين يعيشون في قلب
المجتمع ، ولا يَعيشون على هامشه .
درس هُوسِّرل الرياضيات في فيينا ، وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1883.
ثُمَّ درس الفلسفة على يد فرانز برنتانو . قام بالتدريس في جامعة هاله ( 1887_
1901) ، ثُمَّ في جامعتَي جوتنجن
وفرايبورج (1906 _ 1916) ، حتى تقاعد عام 1929. والجديرُ بالذِّكر أن هوسِّرل هو أستاذ
مارتن هايدغر . وفي عام 1933 قام النظام النازي بتجريده من مكانته العلمية ومزاياه
الأكاديمية. وبعد معاناة مع المرض ، تُوُفِّيَ في فرايبورج عام 1938 .
مِن أبرز مؤلفاته : فلسفة علم الحساب ( 1891) . بحوث منطقية ( 1900_ 1901)
. أفكار : مقدمة عامة لفلسفة ظاهرية خالصة ( 1913) . المنطق الصوري
والمتعالي ( 1929) . تأملات ديكارتية
( 1932) . أزمة العلوم الأوروبية والظاهريات المتعالية ( 1936) . التجربة والحكم (
1939) .
إن حياة هوسِّرل الفكرية
مرَّت بمرحلتين : الأولى _ التأثر بالاتجاه النَّفسي ( السَّيكولوجي ) في الفلسفة
. والذي يَعني النظر إلى مضامين المعرفة وحقائق الواقع باعتبارها كيانات ذاتية فقط
، لا وجود لها إلا باعتبارها ظواهر نفسية . والثانية _ الاتجاه إلى المعاني
والماهيات ، والإيمان بأن التجربة هي مصدر جميع المعارف . ففي كتابه ( بحوث
منطقية ) ، نفى أن تكون العلاقات المنطقية خاضعة للتأثيرات النَّفسية ، واعتبرَ
العلاقاتِ المنطقية تنتمي إلى عالَم خاص ( الماهيات ) المستقلة عن العقل البشري .
وهذه الماهيات بمثابة حقائق ثابتة تجعل الأفرادَ يتَّفقون حَوْلها ، فيُصدرون
أحكامهم الصالحة لكل زمان ومكان ، مثل : 1+1= 2 . وهذه الماهيات ( الحقائق الثابتة
) لَيس نتيجةً للشُّعور ، وإنما يتَّجه إلَيها ويَقصدها . وهنا تبرز فكرة "
القَصْدية " التي تُعتبَر النواة المركزية في الظاهراتية . وتُعرَّف القصدية
بأنها " خاصية كُلِّ شعور أن يكون شعورًا بشيء " ، ولَم يحصرها هوسِّرل
في دائرة الأحكام المنطقية ، بَل جعلها فكرةً عامةً لتشمل العواطفَ والقِيمَ
والانفعالات .
ومعَ أنَّه بدأ حياته متأثرًا بالاتِّجاه النَّفسي ( السَّيكولوجي ) ، إِلا
أنه انقلبَ عليه سريعًا . وهذا الانقلاب الجذري يُشير إلى قلقه الذهني ، وتفكيره
المستمر ، وعدم رُكونه إلى أفكار محددة أو مُسلَّمات جامدة. فهو يُغيِّر رَأْيَه
إذا ظهرت له قناعة أخرى ، ويَنقلب على نفْسه وأفكاره إذا آمنَ بعدم صِحَّتها. وهذا
التغير الفكري نتيجة طبيعية للعصف الذهني .
لقد أدركَ هوسِّرل مُبكِّرًا أن الفلسفة والرياضيات عِلْمان مترابطان
ومُتشابهان . وهذا لَيس غريباً . فهذان العِلْمان يَعتمدان على فكرة واحدة ، وهي
التفكير المنطقي المتسلسل . وهوسِّرل _
بالأساس _ عالِم رياضيات ، وهذا أفاده كثيرًا في حياته التي كرَّسها بالكامل
لتشييد فلسفته الخاصة ( الظاهراتية ) ، وتقديمها كَعِلْمٍ متكامل قائم بذاته ،
يهدف إلى الدقة والصدق في وصف الظواهر ، وتنسيقها بشكل تراتبي مُحكَم ، وشرح
المعاني الإنسانية في العلوم .
لقد اعتبر هوسِّرل الفلسفةَ منهجًا جديدًا للبحث
عن الحقيقة . ووفق هذا المنظور ، قامَ بوضع مبدأين رئيسَيْن : الأول _ رفض كُل رأي
سابق إلا إذا كان مُبَرْهَنًا وقائمًا على دليل واضح . والثاني _ النظر إلى
الأشياء بذاتها كما هي في الشعور ، وهذه العملية تُسمَّى " الرجوع إلى
الذات" التي تعني الرجوعَ إلى الوعي، مِمَّا يُنتِج وَعيًا خاصًّا (حَدْسًا )
بظواهر العالَم وماهياته . وعندئذٍ ، يَبدو العالَم ظاهرةً للشعور الخالص ،
ويُواجِه الشعورُ الحقائقَ الداخلية والخارجية . وهذه هي فكرة قَصْدية الشعور عند
هوسِّرل . فالشعورُ قائم على فكرة القَصْد ( الاتجاه ) . وبالتالي ، فإِن المعرفة
_ عند هوسِّرل _ هي دراسة المواضيع ( الماهيات / الظواهر ) كما تبدو ظاهرةً في
الشعور . وفي هذا السياق تبرز مهمة " الفينومينولوجيا " كوصف بنية
الشعور في علاقته بمواضيع العالَم ، واستنباطِ معنى الظواهر / الماهيات ، بإعادتها
إلى البنية المقابلة لها في الشعور . وحَسَبَ هذه الرؤية، يتحدَّد معنى الفلسفة :
" العِلْم الشمولي القائم على المعرفة بالماهيات وخصائصها الثابتة " .
ويمكن تلخيص فلسفة هوسِّرل في أمرَيْن : 1_ التشديد على الترابط بين الذات والموضوع.
2_ اعتبار الشعور شيئًا مُركَّبًا من الشعور الإنساني والشيء ذاته ، وليس عواطف
وانفعالات.