الكتابة هي أقوى مضادات الاكتئاب
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 23/3/2018
................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 23/3/2018
................
[1] الروائيُّ الْمُتَمَكِّنُ قَادرٌ عَلى رَسْمِ أكبر الأحداث في
الزَّوايا الضَّيقة .
الروائيُّ يَصنعُ
الزمانَ والمكانَ، ويَتحرَّكُ في عُلبة الكِبْريت بِكُلِّ سُهولة . يَعْثُرُ على
زُجاجة العِطْرِ في المزبلة . يَعْثُرُ على الإبرةِ في كَومة القَش . خيالُه
الجبَّارُ يُوَسِّعُ الزوايا الضَّيقةَ بالحِبْرِ، فَتَحتضن هذه الزوايا أكبرَ
الأحداث الإنسانية ، وأعظمَ المشاعر البشرية . والخيالُ قَادرٌ على تَوسيع الواقع
، والانقلابِ على الواقع ، وصناعةِ واقعٍ جديد .
[2] لَيْسَ في الشِّعرِ دُبلوماسِيَّةٌ ولا مُجَامَلاتٌ .
الشِّعرُ عِلاجٌ بالصَّدَماتِ الكهربائية .
والشاعرُ لا يَنتظِرُ سَجَّادةً حَمْراء ، ولا يَبحث عَن مُعْجَبَات . الشاعرُ
رَسولُ الأبجديةِ ، يَبتكِرُ المعاني الْمُدْهِشَة . ولا يَرْتَدي الأقنعةَ ، ولا
يُسَاوِمُ ، لأنَّ الْمُسَاوَمَةَ فَقْرٌ، والشاعرُ غَنَيٌّ بِنَفْسِه عَن نَفْسِه
، وغنيٌّ بِلُغته عَن الآخرين . والغنيُّ هُوَ الْمُستغني . إنَّ الشِّعْرَ
مَنْجَمُ ذَهَبٍ، والشاعر هو مَالِكُ الْمَنْجَمِ . والشاعرُ لا يَكُون شاعرًا إلا
إذا سَمِعَ صَوْتَ حِيطانِ غُرفته ، وصُراخَ قَارورةِ الحِبر ، وضَحِكَاتِ القلم
والورقة . وهذا الأمر يَجعل الشاعرَ هُوَ المتحدِّث الرسمي بِاسْمِ عناصر الطبيعة
.
[3] أطمحُ أن أَكتبَ قَصيدةً يُصْبِحُ فِيها الزمانُ والمكانُ شَيئًا
وَاحدًا .
الزمانُ والمكانُ
عُنصران زائلان . والإنسان سائر في المتاهة ضَاحكًا. سَيُوَحِّدُ البُكاءُ حُروفَ
أبجديةِ الشِّعر . سَيُوَحِّدُ الموتُ الزمانَ والمكانَ . يَلِدُ الإنسانُ نَفْسَه
بنفْسه ، وتَرجع عقاربُ الساعةِ إلى الوراء . حيث وُجوه الأمواتِ وأحزان الطفولة
وذِكريات الفراغ أو العَدَم. سَتُصْبِحُ القَصيدةُ هِيَ الوَطَنَ والمنفَى مَعًا.
اللغةُ هِيَ الزَّمانُ ، والرُّموزُ هِيَ المكان .
[4] تَنتشِرُ فِكْرةٌ غَبِيَّةٌ وَهِيَ أنَّ الفَيْلَسُوفَ لا
يَكُونُ فَيْلَسُوفًا إلا إِذا ارْتَدَى الاكتئابَ .
الاكتئابُ لَيْسَ مِكياجَ الفَيْلسوف . يَنكسِرُ الفَيلسوفُ لأنَّهُ يَعيشُ
في مُجتمع مُتخلِّف ، ولَيْسَ لأنَّهُ يُحِبُّ الانكسارَ أو يَتَزَيَّن بالاكتئاب.الاكتئابُ
حالةٌ عَرَضِيَّةٌ ولَيْسَتْ جَوْهرًا ثابتًا في الفَلسفة. وآلامُ الفَيلسوف ناتجة
عن قُدرته على رُؤية العاصفة التي يَسبقها الهدوء . والشخصُ العاديُّ يَعتبرُ
الهدوءَ بِدايةَ الحياةِ ، لأنَّهُ لا يَرى أبعدَ مِنهُ . أمَّا الفَيلسوفُ
فَيَعتبر الهدوءَ بِدايةَ الموتِ ، لأنَّهُ يَرى العاصفةَ وَرَاءَهُ .
[5] الكتابةُ هِيَ كَومةٌ مِن مُضَادَّاتِ الاكتئابِ .
الكتابةُ هي الفِعْلُ الأكثرُ قُدرةً على الْمُقاوَمة ، لأنَّ الاستثمار في
اللغةِ لا يَضيع . فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزية الحاملة لتراثنا الروحيِّ
ومِيراثِنا الحضاريِّ . والكتابةُ هِيَ عملية تَنقيب عن كُنوز اللغة . وهذا
التَّنقيبُ المستمر يُحرِّر الطاقةَ الكامنةَ في اللغة، ويَكشف أسرارَ الأبجدية ،
فتبدأ رحلةُ الدَّهشة والْمُتعة ، ويتكاثر عُنصر المفاجأة . وهذه الْمُكَوِّناتُ
مُجْتَمِعَةً تَقتل الاكتئابَ والْمَلَلَ .
[6] لا أَقْدِرُ أن أَكُونَ إِلا غَرِيبًا .
الغُربةُ لَيْسَتْ رِحلةً عَبْرَ الزمانِ والمكان . الغُربةُ رِحلة عَبْرَ
شَظايا القلب . الإنسانُ كائنٌ غريبٌ في هذه الأرضِ ، وسَوْفَ يَرحل عَاجِلاً أوْ
آجِلاً . الغُربةُ مُتَأصِّلة في النَّفْسِ الإنسانية . والإنسانُ في كُلِّ
مَراحله العُمرية يُعاني مِن غُربةٍ قاسيةٍ . والإنسانُ حِينَ يَنظر إلى المِرْآة
يَشعر بالغُربةِ ، لأنَّه يَرتدي القِناعَ ، بَعْدَما أضاعَ وَجْهَه في زَحمة
الأقنعة والذكرياتِ . الإنسانُ هُوَ غُربةُ الشُّعورِ ، والْحُلْمُ البَشريُّ هُوَ
ذاكرةُ الغريبِ . ولا بُدَّ مِن بِناء فلسفة الغُربةِ على اللغةِ ، كَي يَتخلَّصَ
الغريبُ مِنَ الشُّعورِ بالغُربة .
[7] كُلَّمَا تَوَغَّلْنا في دِراسةِ النَّفْسِ البَشريةِ
ابْتَعَدْنا عَنها .
الإنسانُ هو المتاهةُ
اللانهائيةُ . كائنٌ شديد التَّعقيد . كُلَّما اقْتَرَبْنا مِنهُ ابْتَعَدْنا
عَنهُ ، لأنَّنا نَقترِبُ مِنَ الصَّدى العميقِ، والصَّدى يَهربُ مِن أصواتِنا .
وحِينَ نَدرسُ الإنسانَ إنَّما نَدرسُ رَجْعَ الصَّدى، لأنَّ الصوتَ بَعيدٌ لا
نَستطيع الوصولَ إلَيه . وعِندَما نُحلِّل تركيبَ النَّفْسِ البشرية ، فَنحنُ في
حقيقة الأمرِ نُحلِّل القُشور لا الجوهرِ ، لأنَّ جوهر الإنسان عَميق . إنَّنا
نُحلِّل حركةَ الأمواجِ السطحية ، لأنَّ قاعَ البحر لا يَصِلُ إلَيه أحَدٌ .
[8] للأسفِ ، لا أَستطيعُ دُخولَ المطاعمِ الْمُخَصَّصَةِ للعَائلات
.
عِشْتُ وَحيدًا ، لأنَّ
قَلبي كانَ وَحيدًا . يَتحرَّكُ الناسُ في الشوارعِ ، وأتحرَّكُ في الذِّكرياتِ .
أمشي مَعَ الناسِ ، لَكِنِّي لا أرى الناسَ ، ولا أرى نَفْسِي ، لأنِّي أعيشُ في
عالَمي الخاص . يَذهبُ الرجالُ معَ زَوْجاتهم إلى مطاعم العائلاتِ، وأظلُّ في
شوارعِ الصَّقيعِ وَحيدًا . أُرافِقُ القِطَطَ الضَّالة، وأُراقب الكلابَ
البُوليسية عِندَ الحواجزِ العسكرية .
[9] سِنُّ التَّقاعدِ خُرافةٌ غَيْر مَوجودة إِلا على الأوراقِ
الرَّسميةِ .
الدُّوَلُ الفاشلةُ
تستمدُّ شرعيتها الوهميةَ مِن قَتل الإنسان داخل الإنسان ، وتَحطيمِ عناصر الطبيعة
. الأحلامُ تنكسرُ كَقِطَعِ الشُّوكولاتة ، والذِّكرياتُ تتساقطُ كحجارة
الدُّومينو . الإنسانُ يَمْلِكُ مَواهب خارقةً ، لَكِنَّنا نَدْفِنُها قبل أن ترى
الشمسَ . حياتُنا سرابٌ لأنَّنا لَم نَستفِدْ من الطاقة الإبداعية للبشر والطبيعةِ
. كُلُّ إنجازاتنا الوهمية تَنظير في الهواء ، وكُلُّ انتصاراتنا في المعارك عبارة
عن أُغنياتٍ وَطنيةٍ وشعارات فارغة .
[10] الفَشَلُ في الْحُبِّ هُوَ الْخُطوةُ الأُولَى في طَريقِ
الفَلسفةِ .
الفلسفةُ هِيَ الماءُ
الْمُقَطَّرُ . إنها نَسَقٌ فكريٌّ يَعتمد على أخذ الدُّروس والعِبَر من مشاعر
الإنسان وحركةِ التاريخ . وصدمةُ الأحزانِ هِيَ وَقُود الفلسفة ، والفشلُ
الاجتماعيُّ هو الْمُحرِّك للمنظومة الفلسفية . والحاجةُ أُمُّ الاختراع .
والإنسانُ يُولَدُ في الصراع بين الأضداد ، وتَبْرُز قُدراته الذهنية في الصِّدام
بين التناقضات .
[11] انتقادُ الأصلِ يَعْني انتقادَ الفُروعِ ، وانتقادُ الفُروعِ
بالكُلِّيةِ يَعني انتقادَ الأصل .
إذا ماتَ القلبُ ،
مَاتتْ أعضاءُ الإنسانِ، لأنَّ القلبَ هو الْمَصْدَر. وإذا سَقَطَ الملِكُ انتهتْ
لُعبةُ الشِّطْرَنج ، ولا فائدة مِن بَقاءِ الجنود. وإذا تَلَوَّثَ مَنبع النهرِ ،
فإنَّ النهرَ سَيُصْبِحُ مُلَوَّثًا بشكل كامل . وإذا كانَ الْمُعَلِّمُ ضَعيفًا ،
فإنَّ تلاميذه ضُعَفاء .
[12] قَدَرُ العُظَماءِ أن
يَعيشوا في مُجْتَمَعَاتٍ مُتَخَلِّفَةٍ .
المريضُ هُوَ الذي
يَحتاجُ إلى علاجٍ ، ولَيْسَ السَّليم . والأطباءُ سَيُصْبِحُون عاطلين عن العمل
إذا لَم يَجِدُوا مَرْضَى . إِذن ، وُجودُ المرضِ حتميٌّ ، وانتشارُ المرضى حقيقةٌ
واقعة . والمجتمعاتُ المريضةُ بالوَهْم والجهل قادرة على إنجاب السَّاسة العباقرة
، والمفكِّرين الأساطين ، تمامًا كما نستخلص الدَّواءَ مِنَ السُّم. وفي هذه
الحالةِ ، فاقدُ الشَّيء يُعطيه ، لأنَّ عُنصر المفاجأة والحاجَة الضرورية قادران
على كَسْر القوانين الاجتماعية ، ولأنَّ الطَّفرات قادرة على تجاوز قوانين الجِينات
. وحَيْثُ يَكُونُ الداءُ يَظهر الدواءُ . وحَيْثُ تَكُون الجِيَفُ تَظهر
النُّسورُ.