الانتحار التدريجي في ممالك الخديعة
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 23/3/2019
..................
1
انتحار المعنى هو الخطر الأكبر على لغة
الإنسان وطبيعته الرمزية . وإذا ماتَ المعنى في حياة الإنسان ، اختفت الألفاظ من
لُغته ، وصارَ ظِلًّا باهتًا للذكريات القديمة والأحاسيس الميتة . ولا يمكن للمعنى
أن يتكرَّس ويتفجَّر وتنبعث شظاياه في آفاق الروح ، إلا إذا نشأ في بيئة معرفية
قائمة على الاتزان العقلي والتوازن الروحي .
2
عندما يتداخل الشك مع مشاعر الإنسان في
حياته اليومية ، تتحوَّل أحلامه إلى أوهام قاتلة ، وتصير حياته كابوسًا ، ويخسر
السلام الروحي الذين ينتشر في تفاصيل وجوده ، ويفقد المصالحة الداخلية في أنحاء
جِسمه ، لأنه سيقضي وقته في السؤال عن موعد إفاقته من هذا الكابوس . وكُل سؤال عن
أمر مستقبلي يحمل معنى الانتظار ، والانتظارُ دائمًا صعب ، لأنه يحرق الأعصاب،
ويتلاعب بعواطف الإنسان وجزئيات حياته . وعندئذٍ ، يُصبح الإنسان كالسنبلة التي
تنتظر موعد الحصاد . وهنا تبرز المُفارَقة المؤلمة ، إذ إن حصاد السنبلة موت لها ،
وحياة للآخرين .
3
الإنسان الذي يختار العُزلة ، ويعيش وحيدًا ،
لا بُد أنه وقع في حب نفْسه ، وسقطَ في غرامها، فتزوَّجها . وحين يتزوَّج الإنسانُ
نَفْسَه ، يخسر ثقته بالآخرين ، ولا يثق إلا بنفْسه . تتغيَّر نظرته إلى الأشياء ،
ويُفكِّر بالكلام بين السطور ، ويُحلِّل الكلام الذي لم يُقَلْ ، ويسبح في تعابير
وجوه الناس كي يَفُكَّ شيفرتها ، ويُترجِم الصمتَ المؤلم إلى أبجدية منطوقة وحالمة
. وهكذا ، تتداخل الأحلام مع الواقع ، ولن يتمكن الإنسان من السيطرة على التَّشظي
والانبعاث ، إلا بإمساك العصا من المنتصف ، وإحداث نوع من التوازن بين المعنوي
والمادي . مِمَّا يعني بالضرورة ولادة حياة جديدة في عقل الإنسان ومشاعره
وتصوُّراته . وهذه الحياةُ الجديدة سوف تسير جنبًا إلى جنب مع حياته الأصلية .
وكُل إنسان له ولادتان ، ولادة مفروضة عليه ، لا شأن له بها ، وولادة هو يصنعها
ويختارها . الولادةُ الأولى هي الولادة البيولوجية المتعلقة بوجود الجسد، والولادة
الثانية هي الولادة الفكرية المتعلقة بانبعاث الحُلم .
4
هل
يُفكِّر حارسُ المقبرة بنوع الأزهار على القبور ؟ . هل هي أزهار طبيعية أم صناعية
؟ . الأزهارُ الطبيعية تحمل معنى الحياة وقيمة الماء الذي سقاها ، والأزهارُ
الصناعية تحمل معنى المادة الخام ومهارة الصانع الذي كوَّنها . ورغم مشاعر الوداع
، وأحاسيس الحزن ، وذكريات الرحيل ، واحتراق القلوب ، إلا أن الموت لا يُفرِّق بين
الأزهار الطبيعية والأزهار الصناعية ، ولا يُميِّز بين القبور الكِلسية والقبور
الرخامية .
5
الحد الفاصل بين القلوب والذكريات هو
مُجرَّد لحظة زمنية، ولقطة عابرة في امتداد المكان. والزمنُ الحقيقي هو امتداد المشاعر
في جسد الإنسان ، وليس حركةً فيزيائية لعقارب الساعة . والمكانُ الحقيقي هو ظِلال
القلوب على أفكار الإنسان ، وليس بُقعةً جغرافية من الحجارة والصخور.
6
في أحيان كثيرة يكون هدوء الإنسان محاولة
للتغطية على العاصفة العنيفة التي تضرب قلبه ، ومحاولة لإخفاء الضجيج المرعب الذي
ينتشر في داخله . وكأن الإنسان في سباق مع الزمن لترميم ذاته المكسورة ، وجمع
شظايا رُوحه ، وتضميد جراح قلبه . إن الإنسان كيان نازف ، يتوارى عن الأنظار في
غابات الذاكرة ، في محاولة مصيرية لإيقاف نزيفه ، فإن نجح في ذلك ، صارَ أقوى
وأكثر صلابة، لأن الضربة التي لا تَقتل الإنسانَ تُحييه وتزيده قوة ، وإن فشل في
ذلك، مات كالفريسة التي أصابها الصَّياد في مَقتل . والأحياءُ وحدهم يقفون أمام
العواصف ، ويَفرضون أسماءهم على التاريخ . أمَّا الأموات فلا مكان لهم تحت الشمس ،
والنسيان سوف يَطويهم ، كما تطوي الزوابعُ أوراقَ الخريف بلا ذاكرة ولا ذكريات .