احذر أن تموت قبل الموت
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 5/4/2019
......................
1
النسيانُ هو لغةُ الذكرياتِ السِّريةِ التي
يطمسها الزمنُ، كما يطمس القبورَ في المدافن القديمة. والنسيانُ هُدنة بين الذاكرة
والذكريات . إنه استراحة المُحارِب في مدن السراب . ومهما كان المُحارِب قويًّا
وشجاعًا ، لا بُد أن يَشعر بالتعب والإرهاق . وفترةُ الاستراحة تُعطي المُحارِب
فرصةً ذهبية لإعادة حساباته، وتقييم مواقفه، وبناء تصوُّراته. وبما أن التناقضات
تدل على بعضها البعض، وبِضِدِّها تتبيَّن الأشياء ، كان النسيانُ فرصةً لإعادة
البناء من الذاكرة ، كما أن استراحة المُحارب فرصة لإعادة التخطيط للحرب .
2
لا
يُمكن أن يجد الإنسانُ نَفْسَه إلا إذا استطاعَ أن يتحرَّر مِن سَطوة الزمان
وأسْرِ المكان . وهذا يستلزم بالضرورة التخلص من تاريخ الوهم ، والانعتاق مِن
جُغرافيا الخديعة . وتحرُّر الإنسان من سيطرة العناصر المحيطة به ، يعني حصوله على
الحرية المادية . وهذه خطوة أولية ضرورية للحصول على الحرية المعنوية ، أي تحرُّر عقله مِن
المُسلَّمات الثابتة بِحُكم الاعتيادية والأمر الواقع، ولا تقوم على الدليل
والحُجَّة والبُرهان. وأكبرُ إهانة للعقل البشري أن يقبل شيئًا بلا دليل .
3
ينبغي أن تكون حياةُ الإنسان رحلةً مستمرة
إلى عوالمه الداخلية . وكلما سافرَ إلى قلبه اكتشفَ ماهيةَ الأشياء . وكلما هاجرَ
في ذِكرياته ، أدركَ أبعادَ الزمان . وكلما رَحل إلى أقاصي مشاعره عرفَ قيمة
الوجود . والماءُ الراكد يُصبح آسِنًا ، والدراجةُ إذا توقَّفت عن الحركة سَقطتْ.
وهذا يدل على أهمية الحركة المستمرة في كل الاتجاهات . حركة مُنظَّمة وفعَّالة
تقوم على الوعي والتخطيط والتطبيق والوصول إلى أبعد نُقطة ، ولَيْسَتْ حركة
ارتجالية فوضوية ، لأن الحراثة في البحر تَحطيم للوقت ، وإضاعة للجُهد .
4
إن صفاء الذهن ونقاء الجسد هُما الرُّكنان
اللذان تقوم عليهما السُّلطة الإنسانية المعرفية . وهذه السُّلطة هي التي تُعذِّي
المشاعرَ وتمدُّها بالوعي المنطقي والبناء الذاتي . والإنسانُ العاجز عن بناء
نفْسه بنفْسه ، يجب عليه أن يُعيد حساباته ، ويُفتِّش عن نقاط قُوَّته ونقاط ضعفه
، ويبتكر منظومة فلسفية متوازنة بين الفِعل ورد الفِعل. ولا فائدة مِن انتظار
مساعدة الآخرين، ولا جَدوى مِن البحث عن حُلول خارجية. وكُل إنسان عليه أن يقتلع
شَوكه بِيَدَيْه، لأنه سيمشي في طريقه وحيدًا .
5
كُل شعب يخاف من الحرب الأهلية . وكُل إنسان
يخشى مِن القتل والإبادة . ولكن الإنسان لا يُفكِّر في الحرب الأهلية التي تحدث
بينه وبين نفْسه ، والصراع المرير بين أعصابه وذِكرياته ، ولا يُعطي أيَّة أهمية
للمذابح التي تحدث في داخله.كَم مَرَّةً ذُبِحَ قلبه؟.كَم مَرَّةً جُرِحت مشاعره؟.
كَم عدد الأشياء التي ماتت فيه ؟ . إن الموت قادمٌ لا مَحالة ، ولكنَّ هناك
مَوْتًا قبل الموت، وهناك مَوت في الحياة. وكثير مِن الأموات يسيرون بيننا ،
ويتحرَّكون في كل الاتجاهات. وهؤلاء أمامهم خياران لا ثالث لهما : إمَّا أن يجدوا
شخصًا يُعيدهم إلى الحياة ، ويُشعِل قلوبهم التي انطفأت وضاعت في زحام الأحداث
وضجيج الأيام ، ويُعيد الأشياءَ التي ماتت فيهم إلى الحياة والإشراق ، أو يجدوا
شخصًا يَدفنهم في الأحزان القديمة ، والذكريات التي ذَهبتْ ولن تعود . ولا تُوجد
منطقة وُسطى بين الحياة والموت ، ولا معنى للحلول الوسط بين الوجود والعدم.