1
الروابطُ الإنسانية لا تتشكَّل اعتمادًا على
بُنيةِ الهَيمنة الاجتماعية ، ومنهجيةِ القَهْر الحَيَاتي ، ومنطقِ القُوَّة
التاريخية ، وأسلوب القَمْعِ الروحي ، ونمطِ الكَبْتِ الجسدي . وإنَّما تتشكَّل
اعتمادًا على الوَعْي المُستمد من تفاصيل الحياة اليومية ، التي تَبْني جِسْمًا
ثقافيًّا مُستمرًّا لا يتنكَّر لأحلام الفرد ، وتُؤَسِّس جُغرافيا معرفيةً مُتجددةً
لا تتعارض مع طُموحات الجماعة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكريسِ النَّزعات الإنسانية
في كِيَان الحضارة ، وتخليصِها مِن قِيَم التَّوَحُّش . وهذا مِن شأنه ترسيخُ
علاقة مُتوازنة بين الحرية الفردية وسُلطة المجتمع ، وتشييدُ البناء الاجتماعي على
التجارب الروحية والخبرات المادية ، مِمَّا يَكشِف نِقَاطَ الاتصال والانفصال في
أنساق الفكر ومراحل التاريخ . والمنظومةُ الثنائية المُتكوِّنة مِن النسق الفكري
والمرحلة التاريخية ، تُمثِّل إطارًا زمنيًّا يُحدِّد مظاهرَ القُوَّة في المعرفة
، ويُعيد تشكيلَ المعرفة بحيث تُصبح تَرَاكُمًا واعيًا للشُّعور والأحلام والذكريات،
وليس تجميعًا ميكانيكيًّا لِرُكَام النظريات والفرضيات . وهذا التَّرَاكُمُ الواعي
يُنتج تاريخَه الخاص الذي يتقدَّم إلى الأمام ، وذلك بإعادة ترتيب الأحداث اليومية
وفق منطق اللغة التحليلي ، من أجل تفسير الماضي والحاضر باعتبارهما وجهًا واحدًا
للمُستقبل الذي لا يَقْبَل الأقنعةَ .
2
إذا أرادَ الفردُ إيجادَ مكان له في
المُستقبل ، فلا بُدَّ أن يُوحِّد عناصرَ الزمان في ذِهنه وجسده ، بحيث يَصِير الحَرَاكُ
الاجتماعي تَزَاوُجًا بين الماضي والحاضر ، فَهُمَا مُتكاملان مَعْنًى ومَبْنًى.
وإذا شَعَرَ الفردُ بأنَّ الماضي والحاضر نقيضان لا يَجتمعان ، أوْ ضِدَّان لا
يَلتقيان ، فقد سَقَطَ في الفَخ القاتل ضِمن مَتَاهة الحضارة الاستهلاكية . وهذا
السُّقُوطُ بمثابة حَاجِز نَفْسِي بين الأحداث اليومية وطُرُق تفسيرها ، وبالتالي يَعْجِز
الفردُ عن ابتكار نظام فلسفي للأشياء والعناصر. والفلسفةُ القائمة على الشُّعور
المنطقي والإدراك المادي ، لا تَحرِص على الجديد باعتباره مُوضة فكرية وبَلاغة
خَطابية ، وإنَّما تَحرِص على إعادةِ تفسير الأشياء البسيطة ، وإعادةِ تأويل
الأمُور العادية . وأكبرُ تهديد للفلسفة هو التَّعَوُّد على الأشياء ، لأنَّه
يَمنع رؤيةَ الأشياء على حقيقتها ، ويَسْلُب قِيمَتَهَا وجَمَالَهَا . ولا يُمكن
للمُجتمع أن يُؤَسِّس منظومته الحضارية إلا باستنباط فلسفة غير عاديَّة مِن
الأشياء العاديَّة . والأشياءُ البسيطة تَحتوي على أفكار إبداعية مُذهِلة ، كما أن
التُّرَاب يَحتوي على الذهب . وبشكل عام، إنَّ الفلسفة الحقيقية هي منظومة الدوافع
الخَفِيَّة التي تَكمُن وَرَاءَ الأشياء، وتختبئ خَلْفَ العناصر.
3