مهما حاولنا صياغة نزعة قصائدية ثورية فإن محاولاتنا ستبوء بالفشل إن لم نُوَظِّف الرموز الشعرية الإنسانية في طبقات القصيدة . وذلك لأن قيمة الرمز هي جيناتُ الفعل الشعري ، والطاقةُ الحاملة للمشروع الاجتماعي الحيوي . كما أن الرمز _ باعتباره وحدةً معرفية متكاملة _ هو الأقدر على حمل الموروث الذهني المتدفق للشِّعر وإحالته إلى حياة واقعية. ووفق هذه الصيغة فإن الرمز الشِّعري يحافظ على معنى الوجود الاجتماعي ، ويُنظِّم الأفكار الثورية التي تبدو للوهلة الأولى متنافرة .
وإذا زادت قدرةُ الرمز على الحركة في محيطات القصيدة وإحداث حِراك لغوي حقيقي في أبجدية المجتمع المنظورة وغير المنظورة ، فإن النص الشعري سيغدو سُلطةً منطقية تكسر الأنظمة المجتمعية المغلقة ، وتؤسس مشروعَ الانفتاح على كل العناصر ، حيث ينتقل الفكرُ الإنساني من الخلاص الفردي إلى الخلاص الجماعي . فالقصيدةُ _ قبل أن تكون منظومةً لغوية واجتماعية _ هي عملية استثمار في روح التاريخ وشرعيةِ وجوده ، إذ إن القصيدة _ ذاكرةً وفلسفةً وأبجديةً _ هي مشروع جماعي يشارك في صياغته الجماهير على اختلاف مستوياتها الفكرية .
وهذه المنظومة الجماعية من شأنها إحداث انقلاب جذري في طريقة تفكير الفرد المقموع ، وعندئذ سوف يتضح طريق الحرية ، فينتقل الفردُ من قيود تحصيل لُقمة العيش إلى عوالم الإبداع بشتى أشكاله ، والتحررِ من الصور الاجتماعية السلبية التي تحشر الإنسانَ في زاوية السِّلعة والدوران في حلقة مفرغة . وعلى القصيدة أن تتخذ موقفاً حاسماً ونهائياً من أجل صياغة الحلم الإنساني ، وتأخذ المبادرة لإعادة بناء الكيان الإنساني وفق أُسس متحررة من القيود السياسية والاقتصادية .
والجديرُ بالذِّكر أن حلم تغيير الواقع لا يمكن إنجازه إلا عبر صناعة خيال افتراضي وابتكار رموز معرفية ذهنية تحتضن الحياةَ المنشودة ، ومن ثم يتم إنزال هذه الحياة الجديدة في العالَم المحسوس. فكل ثورة إنما تبدأ في الذهن وتتبلور على شكل نموذج خيالي قبل أن تتكرس على أرض الواقع . تماماً كما تُصنَع السفينة على اليابسة ثم يتم إنزالها إلى البحر .
وهكذا ، نرى أهمية الرموز الذهنية في الفعل الشعري كمرحلة مفصلية ذات تماس مباشر مع الواقع المعاش. فليس الرمز الشِّعري رياضةً ذهنية مُجرَّدة ، أو طَوْراً متماهياً مع العدمية والهلوسة. إنه النواة الشرعية الأساسية للفعل الشعري الطامح إلى خلق أبجديات أدبية متميزة ، وتكوين مجتمعات بشرية جديدة تختار مسارها نحو آفاق لم يتم اكتشافها من قبل .