الموت من منظور طرفة بن العبد
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
صحيفة قاب قوسين الإلكترونية 13/11/2013
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
صحيفة قاب قوسين الإلكترونية 13/11/2013
إن الموتَ يُمثِّل قيمةً أساسية في الحياة .
ولا نُبالِغ إذا قُلنا إن الموت هو الحياة الحقيقية . ولا يوجد إنسان لا يؤمن
بالموت ، أو لا يُفكِّر به . والإنسانُ قد تنهار عقيدته فَيَجْحد وجودَ الله
تعالى، ولكنْ لا يمكنه أن يَجحد وجودَ الموت . إذن ، فالموتُ هو حَجر الزاوية في
البناء البشري .
والشعراءُ _ باعتبارهم أكثر المخلوقات
حساسيةً والتقاطاً لعناصر الطبيعة _ لا يَقدرون على الإفلات من " إغراء الموت " حتى لو أرادوا ذلك.
وهذا يُفسِّر ذِكرَ الموت في أشعارهم ، وجعل الفلسفات والمناهج الفكرية تَدور
حَوْله . فالموتُ مجالٌ خصب للتأمل في النهاية ، والأحزان ، والفِراق ، ... إلخ .
والشاعرُ طرفة بن العبد_ وهو أحد شعراء
المعلَّقات _ اعتنى بموضوع الموت ، واستمدَّ منه فلسفةً للحياة ، ومنهجاً فكرياً
للإنسانية . وقد عبَّر عن فكرة الفناء ، وعدم الخلود في الدنيا ، وعدم المبالاة
بالموت ، وضرورة أن يَعيش المرءُ حياته بالطُّول والعَرْض ، وأن يَستمتع قَدْر
المستطاع لأنه لن يَعيش إلا مرة واحدة فقط . ولا يَخفى أن آراء الشاعر مستمدة من
خبراته الحياتية ، ومكنوناته النَّفسية .
والدنيا دارٌ زائلة لا يمكن أن تَمنح
الخلودَ للعناصر. ففاقدُ الشيء لا يُعطيه. وبما أن الدنيا ذاتها غير خالدة ، إذن
فلا خلود فيها . إنها فانيةٌ هِيَ ومحتوياتها. والناسُ يَرون الموت والأموات كلَّ
يومٍ رأي العَيْن ، فلا مجال للتكذيب أو الشك. وكلُّ إنسان مهما تطاول عُمرُه ، لا
بد أن يُحمَل يوماً ما إلى المقبرة . وهذا الأمرُ من كثرة ما اعتاد عليه الناسُ،
صار أمراً عادياً لا يُحرِّك المشاعرَ ، ولا يُثير مكنوناتِ الصدور. فالاعتياديةُ
تَجعل الإنسانَ أعمى، وعاجزاً عن رؤية الأشياء بعين البصيرة ، وغارقاً في نظام
حياتي روتيني مغلَق .
ونحن نجد الشاعر طَرفة بن العبد يشير إلى
قضية " اللاخلود " فيقول :
ألا
أيُّهذا اللائمي أَشهد الوَغَــى
وأن أنهلَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
يقول: ألا أيها الإنسان الذي يُلومني على
حضور الحرب، وحضورِ الملذات، هل تخلِّدني إن كففتُ عنها ؟ .
إن الشاعرَ يُؤْمن بعدم الخلود في الدنيا .
وسواءٌ شاركَ الإنسانُ في الحرب أم نام في بَيْته ، ففي كلا الحالتين لن يَنعم
بالخلود . لذلك فهو يُريد أن يَعيش حياته على هواه بلا ضوابط ، ويَستمتع بكل لحظة
، ويَفعل ما يَحلو له. ففي كل الحالات ، هُو غير خالد ، والموتُ قادمٌ لا محالة ،
والمسألةُ مسألةُ وقتٍ لا أكثر ولا أقل . وهذه القناعةُ لم تُكسِب الشاعرَ إحساساً
بالمسؤولية ، بل على العكس ، أغرقته في اللامبالاة واللاجَدْوى ، وأكسبته شعوراً
بالعَدَم والضياع . وبما أن الموتَ قادمٌ ، والخلود متعذِّر ، فلماذا لا يستمتع
بحياته ويشارك في الحرب ويَصنع مجدَه الشخصي ومجدَ قبيلته ويَنهل من اللذات قبل أن
يداهمه الموت ؟! .
إنها رُوحٌ جاهلية وثنية تَعتبر الموتَ نقطة
النهاية ، ولا شيء بعدها. وبالتالي ، لا بد من استغلال الحياة الدنيا في الاستمتاع
، وتحقيق رغائب النَّفس كاملةً غير منقوصة . ومن الواضح أن سلوكَ الشاعرِ العابثَ
قد سَبَّبَ له المتاعبَ ، وجلبَ له الانتقاداتِ والعتابَ . وبالطبع ، فإن الشخص
الذي يَرى التصرفاتِ الطائشة للشاعر لا بد أن يَلومه . وهذا اللومُ يَنبع من
تطبيقات العقل الجمعي ، ويَنطلق من فلسفة اجتماعية سائدة تتطلب التوازنَ في أداء
الأعمال، وتحمُّلَ المسؤولية، واحترامَ قيمة الحياة ، وعدم تضييعها في اللذات الوقتية
، والسلوكياتِ غير المحسوبة .
ومن الواضح أن الشاعر طرفة بن العبد يؤسس
فلسفته الخاصة بالموت وملابساته ، وما يُرافقه من أحداث فكرية أو مادية واقعية .
وها هُوَ يقول :
فإنْ
كُنتَ لا تسطيعُ دَفْعَ مَنِيَّتي
فَدَعْني أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي
إن الشاعر يَبني فلسفته الذاتية حول فكرة
" استحالة دفع الموت " ، لكنه يُحيط هذه الفكرة الصحيحة بسلوكيات خاطئة
وتطبيقاتٍ سلبية. فالشاعرُ يرى ضرورةَ الغرق في الملذات والشهوات بلا حساب ، لأن
الموت قادمٌ بشكل مؤكَّد لا شك فيه . فبدلاً من أن يصبح الموت باعثاً على الزهد
والاستقامة ، يصبح باعثاً على اللامبالاة والعبث والتبذير . وهذه هي فلسفة طرفة بن
العبد التي بثَّها في أشعاره .
يقول طَرفة : فإن كنتَ لا تستطيع أن تدفع
مَوْتي ، فدعني أُبادر الموتَ بإنفاق أملاكي .
إنه في سِباق مع الموت ، ويُريد أن يُسابق
الموتَ قبل أن يُباغته . وهكذا تتجلى روحُ المبادَرة ، مُبادَرة الموت واقتحام
عالَمه ، وذلك بإضاعة الممتلكات ، وتبذير الأموال، والاستمتاع بالملذات إلى الدرجة
القُصوى. فالموتُ سيتلفُ أملاكَ الشاعر ، ولن يُبقيَ له شيئاً . لذلك يَحاول
الشاعرُ أن يَسبق الموتَ ، ويأخذ على عاتقه إتلاف أمواله بنَفْسه ، وعدم منح الموت
هذه الفرصة .
والمنهجيةُ الفلسفيةُ المسيطرة على الشاعر
في هذا السياق هي أن الموت لا بد منه ، فلا معنى للبخل ، وتركِ الملذات ، وإدارةِ
الظَّهر للشهوات . فعلى المرء أن يَستمتع بالحياة ولذاتها بكل الوسائل المتاحة ،
فالغايةُ تبرِّر الوسيلةَ ، والإنسانُ لن يَعيش مرةً أُخرى ، فعليه اغتنام هذه
الفرصة قبل فواتها . فالمتعةُ إذا ذَهبت لن تَعود . وهكذا يُصبح الموتُ حافزاً على
الغرق في الشهوات بلا ضوابط ، وليس حافزاً على العمل المثمر ، وسلوكِ الطريق
القويم .
ومن الملاحَظ أن فلسفةَ طَرفة بن العبد
تنطوي على ردة فعل عكسية . فالمفروضُ أن يَقطعَ الموتُ لذاتِ النفوس ورغباتها ،
ويدفعَ إلى الصلاح والخير ، باعتباره هادمَ اللذات ، ومفرِّق الجماعات ، وميتِّم
البنين والبنات . أمَّا في حالة طَرفة ، فقد تحوَّلت صدمةُ الموت إلى مزيد من
الشهوانية والعبث واللاجَدْوى. ففي بعض الأحيان، يؤدي النُّورُ الباهر إلى العَمى
لا قوة الإبصار. كما أن كَثرة الشَّد يُرخي . وهذا ما نراه جلياً في فلسفة طَرفة
المتعلقة بالموت ، وتطبيقاتها الشعرية .