الوردة التي لا تدوسها الأقدام
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 14/6/2017
....................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 14/6/2017
....................
(1) كُن وَردةً تَنشر عِطْرَها ، ولا يُمكن
سَحْقُها تَحْتَ الأقدام .
التَّسامحُ لا يَعْني الضَّعفَ والخضوعَ .
فالتسامحُ قوةٌ وانتصار . والقيمُ النبيلة لا تَصْدرُ من الضُّعفاء ، بل تَصْدر من
الأقوياء . فالضعيفُ يتحرك رَغْمَ أنفه لأنه مُضْطر وخاضع لقوى خارجية، أمَّا
القويُّ فيتحرك انطلاقاً من الوازع الداخلي بدون ضغوطات خارجية . والضعيفُ يَعتبر
الخيرَ سِلاحاً دفاعياً ، أمَّا القويُّ فَيَعتبر الخيرَ سلاحاً هجومياً .
والضعيفُ يَنظر إلى الخير بِوَصْفه نسقاً حياتياً، أمَّا القويُّ فَيَنظر إلى
الخير بوصفه حياةً قائمة بذاتها. القويُّ يُسامِح الآخرين ، ولا يَسْمحُ لأحدٍ
بالتطاول عليه أو كَسْره. المحبةُ تُحيطه بهالةٍ واقية وسِياجٍ مُكَهْرَبٍ .
وللأسف الشديد، فقد ارتبطَ الاحترامُ بالسَّذاجة ، وارتبطَ التسامح بالضَّعف ، وارتبطَ
الإجرامُ بالقوة .
(2) الدَّمارُ أَحدُ أركانِ الحضارةِ .
" لَوْ " لا مَعْنَى لها في سياق
الانكسارِ الإنسانِيِّ والانهيار الحضاريِّ . لَوْ فَعَلَ الإنسانُ كَذا لَمَا مات
. لَوْ فَعَلْنا كذا لَمَا قَامَت الحربُ . لَوْ عَمِلْنا كَذا لَمَا انهارت
الحضارةُ . الإنسانُ يَمشي إلى الهاويةِ بِرِجْلَيْهِ ، والحضارةُ تَسيرُ إلى
الخرابِ عَلى قَدَمَيْها. تَمُرُّ الحضارةُ بِنَفْسِ الأطوارِ التي يَمُرُّ بِها
الإنسانُ : الولادة ، الطفولة ، الشباب ، الكُهولة ، الشَّيخوخةِ ، الموت .
والمسافةُ بَيْنَ الانبعاثِ والانطفاءِ هي الفُسحة الزَّمنية لصناعةِ الأحلامِ أوْ
إضاعتها . والدَّمارُ واقعٌ عمليٌّ ، لأنَّ الإنسانَ كائنٌ ناقصٌ . ومَهْما بَلَغَ
مِنَ الذكاءِ والعَبقرِيَّةِ سيظلُّ عَقْلُه محدوداً . والبشريةُ لن تتعلم من
التاريخ حتى لو حفظت التاريخَ عن ظَهْر قلب . لَم تَستفِد البشريةُ مِن أخطائها ،
لأنَّ كُلَّ فَرْدٍ يعتقد أنَّه استثناء ، وَكُلَّ حضارةٍ تعتقد أنها استثناء .
إنَّ الدمارَ لا يُفَرِّق بين القاعدة والاستثناء . التاريخُ يُعيد نَفْسَه بأدوات
العَصْرِ الْمُعاش، والحضارةُ الإنسانيةُ مَحكومة بالفناء ، وتَتحرَّك في دائرة
مُغلَقة. سَوْفَ تُكرِّر البشريةُ نَفْسَ الأخطاء ، كما يُكرِّر السياسيون نَفْسَ
الأخطاء ، وَيَقُودون بلادهم إلى الدمار، لأن الإنسان والحضارة لا يتحركان
بمفردهما في هذا الوجود . هناك عوامل خارجة عن إرادة الإنسان، وهناك ظروف مفروضة
على الحضارة ، لا شأن للحضارة بها . لذلك ، تصبح رَدَّةُ الفِعل في أحيان كثيرة هي
فِعلاً قائماً بذاته. ومهما كان حارسُ المرمى واثقاً مِن نفْسه ومن قدراته ، فلا
بد أن تدخل الأهداف في مرماه ، لأنه لا يملك القدرة على صد كُل الكرات. إن الدمار
والحضارة وجهان لعملة واحدة لا يمكن فصلهما . وكل حضارة تشتمل على عوامل انهيارها
في داخلها ، كما أن الذبول جزء لا يتجزأ من حياة الوردة . والعبقريةُ لا تَستطيع
مَنْعَ الدمارِ ، لكنها تَستطيع إدارة الدمار ، والتقليل مِن آثاره وأضراره .
(3) هُناكَ أشخاصٌ يَبْحَثُونَ عَن
الكَرَاهِيَةِ لِيَتَمَسَّكُوا بالْحُبِّ .
بِضِدِّها تتبيَّن الأشياءُ . كأننا نبحث عن
ضوء الحب في الليل المظلم . ندرس الأمراض كي نتجنبها . دِرهم وِقاية خَيرٌ مِن
قِنطار علاج . نعرف حدود الْحُفَر لئلا نسقط فيها . لن نعرف قيمة الشمس إلا عندما
نرى القمر ، ولن نعرف قيمة القمر إلا عندما نرى الشمس . لا بد من التوازن بين
العناصر . لا بد من الوقوف بين الأضداد مُتَأمِّلين ، وخاشعين لِعَظَمَةِ اللهِ .
ولَن تَعْرِفَ التأمُّلَ الحقيقيَّ إلا عِندَما تَمشي في الليلِ وَحيداً . وهذا
سَيَقُودُكَ إلى مَعرفةِ عَظَمَةِ الخالق تعالى . مَن أرادَ أن يُصْبِحَ
فَيْلَسُوفاً فَلْيَمْشِ في الليل وَحيداً . سَيَتَّحِدُ بالأشجارِ ، وَيُعيدُ
اكتشافَ ذاته ، ويَرى عَناصرَ الطبيعةِ بِقَلْبه . يُعيد بناءَ العالَم . سَيَرى
الكَوْنَ الذي لا يُرَى . سَيَمْشي الأمواتُ مَعَهُ . يُعيدُ رُؤيةَ حياته كَشريطٍ
سينمائيٍّ . يَعيشُ مَعَ الأمواتِ ، ويُولَد مِن جَديد . والْمُبْدِعُ هُوَ الذي
يَرَى ما لا يُرى .