سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/08‏/2017

الأساس الفكري للحزن

الأساس الفكري للحزن

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 28/8/2017

................

    هل نعشق الحزن أو نَكرهه ؟ . كلنا نهرب من الإجابة كما نهرب من الماضي . الماضي لا ينام ولا يموت . الماضي هو الحاضرُ والمستقبلُ . هل الحزن شعور أو موقف فلسفي ؟. ينبغي أن نُحدِّد المفاهيم قبل أن نطرحها للنقاش . الحزن غابةٌ بِكر غير مُكْتَشَفَة ، وعلينا اكتشافها . رُبَّما نُنقِّب عن الحزن لنعرف معنى الفرح .
     يُعلِّمنا الحزن أن نُغيِّر زاوية الرؤية باستمرار ، ولا نطمئن إلى الأفكار التي تُصبَغ بهالة القداسة. كثيرٌ من الحقائق والمسلَّمات في الماضي ، صارت أوهاماً وخُرافاتٍ في الحاضر ، لأنَّ الإنسانَ كائنٌ محصور في نظام استهلاكي وحشي . وهذا النظامُ الاستهلاكي القاتل يَجعل الإنسانَ ضَيِّق الأفق ، وقصير النظر . لقد تحوَّل الإنسانُ إلى قاتل أو مقتول. وهذا سبب منطقي لاندلاع الحزن في تاريخ الحضارة الإنسانية. والحضارة الإنسانية هي منظومة يَضع الأقوياء قوانينها .
     الحزنُ بُركان خامد ، قد يثور في أيَّة لحظة . ونحن نجهل ساعة ثورانه ، لأننا نجهل أنفسنا . كان علينا أن نُنقِّب في ذواتنا لاستخراج الحزن القديم، ونفض الغبار عنه ، كي يُضيء طريقنا إلى أرواحنا . الأرواحُ مُشقَّقة ، والدول تتساقط كطلاء أظافر العرائس . نحتاج إلى صدمة الحزن كي نستيقظ من سُباتنا الطويل . لا فائدة من الجمال إذا كان قائماً على المكياج، لأن المكياج عَرَض زائل ، وقناع سيسقط عاجلاً أو آجلاً . الجمالُ الحقيقي هو الجوهر ، ونحن نحتاج إلى مشاعر الحزن كي نكتشف هذا الجوهر .
     نحن في سباق مع الزمن لاكتشاف ذواتنا. نحن في سباق مع أحزاننا للتنقيب عن قلوبنا داخل أنقاض قلوبنا. ولكن ما الفائدة من اكتشاف الإنسان لذاته ؟. ما فائدةُ أن يكتشف الطاغية أنه طاغية ؟ . ما فائدة أن يكتشف اللص أنه لص ؟ . ما فائدة أن تكتشف الزوجة الخائنة أنها زوجة خائنة ؟ . لا بد من معرفة الذات في الطريق إلى المرايا . سنمشي إلى الضوء في نهاية النفق . وقد يكون هذا الضوء هو لمعان شاهد القبر . لا شيء مضموناً في مدن السراب . لا تاريخ للمرايا سوى سقوط الأقنعة . إن المرآة هي الاختراع الأشد خطورة في تاريخ الوجود الإنساني .
     قد يَكون الحبُّ هو الطعنة المسمومة ، وقد تكون زجاجة العطر هي قارورة السُّم . وقد يأتي الموت من أزهار الربيع . وقد تحرق قلوبُنا الأخضرَ واليابسَ ، وتحترق في ذكريات الخريف . لا شَيء مضموناً في ممالك الضباب .
     هل الحزن عنصر أصيل في الكيان الإنساني أو عنصر دخيل ؟ . هل يستطيع الأغراب تحديد العناصر الأصيلة والدخيلة ؟ . نخاف أن ننظر إلى المرايا ، وإذا نظرنا نكتشف كَم نحن أغراب عن ذواتنا ، وغُرباء في تاريخنا . نهرب من الماضي ، لكنَّ الماضي هو الحاضر والمستقبل . الماضي لا ينام ولا يموت . نحن نحاصر أنفسنا بأنفسنا ، ونمشي إلى الهاوية ضاحكين ، كأننا تحت تأثير التنويم المغناطيسي .
     الحزنُ فلسفةٌ متكاملة، ونظام فلسفيٌّ يُولد فِينا لِيُطهِّرنا، ونُولَد فِيها كي نرى وجوهنا خارج سُلطة الأقنعة. وهذا النظامُ الفلسفيُّ يصنع فلسفةَ الألم . والألَمُ ضروري للتطهر والتطهير ، وإذا تكرَّسَ الألَمُ واقعاً ملموساً ، سيتحول إلى ندمٍ ، والندمُ هو الرُّكن الأعظم في التَّوبة .
     كيف يُولَد الحزن ؟ . إنها كامنٌ فِينا . إنه الذهب بين التراب في المناجم الواقعة تحت الأرض .  ونحن العمال الفقراء الذين نُنقِّب في المناجم . نعيش تحت الأرض ، ونموت تحت الأرض . للأغراب الثروة والمجد . ولا أحدَ يَسأل عَنَّا في حياتنا ، ولا أحدَ يتذكر وجوهنا بعد موتنا.
     نذهب إلى المعارك ، وقد لا نَعود . وإذا عُدْنا ، لن نَعود كما كُنَّا . كل شيء فِينا يتغيَّر . خلعنا وجوهنا ، وارتدينا الأقنعة . الأقنعةُ تريحنا ، لأنها تُخفي حقيقتنا . الحقيقة دائماً صادمةٌ ومُرَّة . نَحْنُ الوهمُ ، نُقاتل عَدُوَّاً وهمياً ، ونفرح بالانتصار عَلَيه . وفي الحقيقة ، إن الوهم انتصر علينا ، فصارَ الخيال واقعاً جديداً لنا . أجدادُنا صنعوا الانتصارات ، ونحن أبناء الهزائم . لذلك لا تاريخ لنا إلا الماضي . ولا إنجازات لنا إلا ما حققه أجدادنا . نحن مهزومون ، وأعلامنا مُنكَّسة ، لذلك نحن نرفع عظام أجدادنا أعلاماً .
     كُلُّ شعور إنساني إذا تَحَوَّل إلى موقف فكري صارَ فلسفةً . والحزنُ إذا انتقلَ مِن طَور الشُّعور إلى طَور المعنى صَارَ فلسفةً. أنا ضِد الحزن حِين يَتحوَّل إلى مَحرقة ، فعندئذٍ، سنقضي وقتنا في البحث عن كبش المحرقة . فليكن الحزنُ هو الماءَ المقطَّر . قد لا نستسيغ مذاقَه ، لكنَّ وجوده ضروري في حياتنا . وليكن الحزن سلاحنا في مُواجهة الوحوش الساكنة في قلوبنا . وليكن الحزن خُطةً لإحياء ما ماتَ فِينا . هكذا ، يَتحوَّل الحزن مِن الوهم إلى المعنى ، ومن ردة الفعل إلى الفعل. وينبغي تحويل الحزن إلى قوة دافعة للإبداع ، كما أن الموت ينبغي أن يَدفعنا إلى استثمار كل لحظة في الحياة .
     الحزنُ هو المعنى التكويني الذي يَصنع إرادةَ القويِّ. والقوي قوي بذاته، يصنع ظروفه بنفسه . لا ينتظر الآخرين كي يضعفوا أو ينهاروا ، ويبني مجده على انكسارهم ، وإنما يكون عملاقاً قاهراً للعمالقة، وليس عملاقاً بين أقزام . القوي لا ينتظر أحداً كي يساعده ويمد له يد العون، ولا يتوقع شيئاً من أحد، ولا يُعوِّل على أحد . يمشي في طريقه ولا يلتفت لأنه يعرف مساره بدقة . إنه يعرف نقطة البداية ونقطة النهاية .

     قد يكون الإنسانُ حزيناً ، ولا يَعرِف أنه حزين . هنا تتجلى مُتعة الاكتشاف ، وتتَّضح أهمية العثور على المدهِش في العناصر اليومية الميتة . كيف نعثر على معنى النظام في فوضى الاستهلاك وجنون العناصر المادية العمياء ؟ . ينبغي التَّسلح بالحزن الذي يشعُّ في ظُلمات قلوبنا . الحزنُ هو الفأسُ الذي يُعيد ترتيب أشجارَ المقبرة . وكما تنبعث طاقة هائلة من انشطار الذَّرَّة الصغيرة ، سينبعث معنى الحياة من انشطار قلوبنا الصغيرة . هذا القلبُ الصغيرُ الذي يضخُّ الدم في أنحاء الجسد، يَمتلئ بالحزن والموت، لكنَّه يبثُّ الفرحَ والحياة في الجسد . والجسدُ هو العالَمُ الصغير الذي يُلخِّص تفاصيلَ العالَم الكبير ، الذي نعيش فيه ، ونموت فِيه . 

17‏/08‏/2017

قوانين العشيرة في شعر المعلقات

قوانين العشيرة في شِعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/8/2017

..................

     تُعْتَبَر العَشيرةُ ( القبيلةُ ) هي مركز التشريع في المجتمع الجاهلي ، ومَنْبع القِيَم الروحية والمادية ، والحَكَم على أفكار الأفراد وسلوكهم الاجتماعي . وبالتالي ، فليس غريباً أن تتكرس هذه الوَحدة الاجتماعية الأساسية ( العشيرة ) كنسقٍ شِعري وسياسي واجتماعي .
     وبما أن الشِّعرَ انعكاسٌ للواقع ، وثورةٌ على الواقع ، وصناعةٌ لواقعٍ جديد ، كان من الطبيعي أن تَظْهر قيمة العشيرة في شِعر المعلَّقات . فبرزت سُلطةُ العشيرة وهيمنتها على سلوك الأفراد وقُدرتها على عقاب الخارجين على قانون العشيرة .
     وعلى الجانب الآخر ، ظَهرت قضيةُ إنقاذ الأفراد للعشيرة ، وتضحيتهم بالغالي والنفيس من أجل رَفْع شأنها بين العشائر، وصيانة شرفها ، وتقديمها في أجمل صُورة. وهذه القِيَم مرتبطة بشكل وثيق بالدفاع عن العشيرة ، وحمايتها من كل الأخطار والتحديات الداخلية والخارجية. وبالطبع ، فحمايةُ العشيرة لَيْست شِعاراً في الهواء. إنها منظومة مُكوَّنة من القَوْل الصادق والفِعل التطبيقي على أرض الواقع ، يَحْملها فُرسان العشيرة الذين هُم العَيْن الساهرة على حماية العشيرة وأفرادها وإنجازاتها ، وهُم السُّور العالي الذي يَرْدع الأعداءَ الطامعين ، ويَرُدُّهم خائبين مكسورين .
     وتتَّضح فِكرةُ تماسك العشيرة ، وترابطها الاجتماعي ، وبُروزها كمنظومة مُوحَّدة خاضعة لكلمة واحدة ، فلا تناقض بين مُكوِّنات هَرم السُّلطة القَبَلية ، فالتناسقُ الدقيقُ هو السِّمة التي تَصْبغ هذا الهرم من القاعدة حتى الرأس .
     ولا يمكن تجاهل قِيمة الفخر بالآباء، والتمسكِ بتقاليدهم،والسَّيْر على خطاهم، فهُم القادة المؤسِّسون لتراث القبيلة ، والصانعون لتاريخها. والافتخارُ بهم هو افتخارٌ بالقَبيلة ومُنجَزاتها . كما لا يمكن تجاهل الصراع بين القبائل الذي هو عنوان أساسي في المجتمع الجاهلي ، حيث الاحتكام لمنطق السيف ، وتكريس الغزو والغزو المضاد.
1_ سُلطة العَشيرة :

     تتجلى سُلطة العشيرة في قُدرتها على مُكافأةِ المحسِن ومُعاقبةِ المسيء . ويمكن القول إن المنظومة السُّلطوية العشائرية هي منظومة الإمساك بالعصا والجَزَرة ، والسيطرة على المال والسيف . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

إلى أَنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها          وَأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ

     إن السلوكَ المنحرِف للشاعر قد سَبَّب له المتاعب ، وجعله غارقاً في الهموم والتحديات . وهذا السلوكُ العبثي قد جَلب غَضَبَ العشيرة ونِقمتها . فكانَ من الطبيعي أن تتم مُعَاقَبة الشاعر ، وذلك من أجل إعادته إلى الحظيرة العشائرية . وقد اختار رِجالُ العشيرة أسلوب المقاطَعة والحصار وفرض العُزلة . وبالطبع ، فهذا إجراء ذو تأثير قوي في النَّفْس البشرية لأنه يُشعِرها بأنها معزولة ومرفوضة ومنبوذة. وبالتالي ، فهناك فرصة كبيرة لمراجعة الإنسان نَفْسه ، والعودة إلى حِضن العشيرة   ( الأُم الكبيرة ). وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، ففي المجتمع القَبَلي البدائي القاسي ، من الصعب على المرء أن يتحرك بدون عَشيرة تَحْميه ، وتسانده ، وتُوفِّر له الرعاية والأمن ، وتمنحه التاريخَ ، وتُحيطه بمآثر الآباء والأجداد .
     لقد تأثَّر الشاعرُ بالعُزلة التي فَرَضَتْها عليه عشيرته ، فهو يَعترف_ بكل أسى _ أن عشيرته قد تَحَامَتْهُ ( تَجَنَّبَتْهُ وَاعْتَزَلَتْهُ ) . ولا بد أن هذا القرار المصيري قد اعتمده شيخُ العشيرة ، فصارَ قراراً جَماعياً ساري المفعول على الكبير والصغير ، لأن العَشيرةَ بأكملها قد تَجنَّبت الشاعرَ ، وهذا الفِعلُ الجماعي لا يمكن أن يتكرس بدون معرفة شيخ العشيرة ورِجالاتها الكِبار وجميع أفرادها . وبعبارة أخرى ، إن طبقاتِ الهرم الاجتماعي كلها قد صَادقت على هذا القرار المصيري . فلم يأتِ الأمرُ كَنزوة أو حركة عفوية أو فِعل جزئي. إنهُ فِعْلٌ جماعي لا يَمْلك أحدٌ أن يخالفه.
     يحسُّ الشاعرُ بألم كبير، وحَسرةٍ عارمة . فعائلته الكبيرة ( العشيرة ) قد قاطعته، فصارَ وحيداً معزولاً ، يُقاتِل نَفْسَه بِنَفْسه . كأنه غُصنٌ مقطوع من الشجرة ، أو عُضو فاسد مبتور من الجِسم .
     اسْتَوْلَت عليه مشاعرُ الحزن والأسى ، وَوَصَلَ إلى الحضيض ، واستقر في مكانة دُونية تُشبِه مكانةَ الحيوان ( البعير ) . لقد تَجنَّبته عشيرته كما يُتجنَّب البعير المعبَّد  ( المطلي بالقَطِران ) ، وأَفْرَدَتْهُ ( عَزَلَتْهُ ) بسبب سلوكه المتهور ، وأفعاله الطائشة ، فهو مستمر في إضاعة المال، والاشتغالِ بالشهوات واللذاتِ،وعدم تحمُّل المسؤولية.
     صارَ الشاعرُ فَرْداً معزولاً كالبعير ( الجَمَل ) الذي طُلِيَ بالقَطِران لِيُصبح ذليلاً خاضعاً مستسلماً لمصيره ، وهذه غاية الامتهان . وبشكل عام ، إن البعير يُطلَى بالقطران إذا أُصيب بالجرب ، وذلك كوسيلة علاج .
     والحالةُ المزْرية التي وَصَلَ إليها الشاعرُ بسبب سُوء أفعاله ، تعكس سَطْوةَ العشيرة وقُدرتها على معاقبة الخارجين على قانونها، والمنحرفين عن النظام الاجتماعي القَبَلي. وما إحساسُ الشاعرِ بأنه بعير مُعبَّد إلا مؤشر واضح على حُزنه، ويَأْسه ، واحتقاره لنفْسه، والمرارة الكبيرة التي يَشعر بها .

2_ إنقاذ الأفراد للعشيرة :

     كلُّ عَشيرة تنتظر من أبنائها أن يُقدِّموا لها الدعم والمساندة ، وأن يُساهموا في حمايتها ، ورفع رايتها بين العشائر ، وصناعة تاريخ مشرق لها . وهذه الحقيقةُ كانت واضحةً في أذهان الأفراد ، لذلك أَخذوا على عاتقهم أن يَرْتقوا بعشائرهم ، ويَصونوها من كل الأخطار .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وَقَدْ قُلتما إن نُدرِك السِّلمَ واسعاً          بمالٍ ومَعروفٍ مِن القَوْلِ نَسْلـمِ

     القائلان هُما اثنان من سادات العرب ( هَرِم بن سنان والحارث بن عوف ) .
     وهذان الرَّجلان أَخذا على عاتقهما وقف القتال الدموي بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان ، وقد ساهما بشكل فعَّال في حماية العشائر من الفناء. وهنا يتجلى دورُ الأفراد المركزي في حماية العشيرة من كل المخاطر ، وعلى رأسها القتل ( قتل الرجال ) . فإذا قُتل الرِّجالُ فقد انقرضت العشيرةُ ، وزالت القبيلةُ من الوجود .
     وهذان السِّيدان الكبيران قد قالا : إن أَدْرَكْنا السِّلمَ ( الصُّلحَ ) واسعاً بتقديم المال ونشر الخير ( المعروف ) سَلِمْنا من تفاني العشائر .
     لقد سَيْطَرَ حُبُّ الخير على تفكير هذين الرَّجُلَيْن ، وقد كان بإمكانهما أن يَبتعدا عن هاتَيْن القبيلتَيْن المتناحرتَيْن ، ولا يتدخَّلا في شؤونهما . ولكنَّ النَّخْوةَ العربيةَ والسِّيادةَ القَبَليةَ والمكانةَ الاجتماعية،قادتهما إلى اتخاذ موقف إيجابي فِعْلي لا شعاراتي.
     إِن استطاعا إتمامَ الصُّلحِ والمصالَحةِ بين القبيلتين بتقديم المال(الدِّيَات وغيرها)، ونشرِ ثقافة التسامح ، وبذلِ المعروف ، وتعميقِ القيم الإيجابية ، فقد أَوْقَفا قَتْلَ الرجال، وحَفِظا العشائرَ من الموت والفناء والنهاية الأليمة، وعندئذ يَعُمُّ السلامُ في المجتمع، وتتكرس قيمُ الأمن والأمان .
     وقد نجحا في هذا المسْعى بسبب النِّية الصادقة، ووجود برنامج تطبيقي ذِهني تَمَّ تَنْزيله على أرض الواقع . وبالطبع ، فهذا الصُّلح لَيْس مجانياً . فالأمرُ قد احتاجَ تنازلاتٍ حقيقية من طَرَفَي النِّزاع ( قَبيلة عَبْس وقَبيلة ذُبيان ) ، كما احتاجَ أموالاً هائلة لدفع دِيَات القتلى الكثيرين ، وتسكينِ جِراح ذَويهم ، وإطفاء نار قلوبهم .
     ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

ولقدْ حَمَيْتُ الحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتي          فُرُطٌ وِشاحي إذ غَدَوْتُ لجامُها

     لقد حَمَى الشاعرُ الحيَّ ( القبيلة ) بكل بسالة ، ودافع عن وجود عشيرته بكل قُوَّة . وقد كان مستعداً للتضحية بالغالي والنفيس من أجل تاريخه وتاريخِ القبيلة .
     يحرص الشاعرُ على إحاطة نفْسه بهالة الفروسية والإقدام والتضحية في سبيل رِفعة القبيلةِ ومجدِ أبنائها. فقد ذَكَرَ دَوْرَه المركزي في حماية قبيلته من كل الأخطار ، وأشادَ بهذا الدَّوْر ، ومدحَ نفْسَه بشكل واضح ، ورسمَ صورةً بطولية لتضحياته الهائلة من أجل حماية القبيلة ( المنظومة الاجتماعية الأساسية ) .
     ثم أَخْبَرَنَا عن حقيقتَيْن تتعلقان بأجواء الحرب والقتال والفروسية . الحقيقة الأُولى : إن فَرَساً سريعةً خفيفةً ( فُرُطاً ) تَحْمل شِكَّتَه ( سِلاحه ). والحقيقةُ الثانية : إن لِجامَ الفَرَس هو وِشاح الشاعر .
     وهاتان الصورتان تهدفان إلى تقديم الشاعر كفارس مغوار ، وتصويره كنجم في عالَم الحروب والقتال. وهكذا تصبح الصُّوَرُ الشِّعريةُ الحربيةُ وسيلةً إعلامية لصناعة نجومية الشاعر ، وتاريخِه الشخصي ، وأمجادِ قبيلته . فكلُّ مجدٍ شخصي لا بد أن يتحوَّل _ في المجتمع العربي القَبَلي _ إلى مجد للقبيلة بأسْرها ، والعكس صحيح .
     والصورةُ الشِّعريةُ الأُولى تشير إلى فروسية الشاعر وشِدَّةِ بأسه . فهو يَضَعُ سِلاحَه على فَرَس سريعة، وذلك لكي يُقاتِل بكل كفاءة وسُرعة، وأيضاً لكي يَكون على أُهبة الاستعداد لأي طارئ ، وفي أعلى درجاتِ الحِيطة والحَذَر . إنهُ المحارِبُ الأبدي الواثق بنفْسه ، والجاهز في كل الأحوال . ففي احتدام القتال يَبْرز بكامل قُوَّته ، يُقاتِل بشراسة وسُرعة . وفي حالة عدم القتال ، يَكون مستعداً وجاهزاً لكل الاحتمالات لئلا يُباغِته الأعداء . وهكذا ، لا يَترك أيَّة فرصة للصُّدفة أو المفاجأة ، فكلُّ الاحتمالاتِ تحت السيطرة .
     والصورةُ الشِّعريةُ الثانية تشير إلى صلابته الذهنية ، وقُوَّته البدنية ، فهو يُلقِي لِجامَ الفَرَس على عاتقه فيكون بمثابة الوِشاح. وهو يتوشَّح باللجام ليكون على أُهبة الاستعداد ، فإذا حدثَ أمرٌ ما ، ألجمَ الفَرَسَ وركبه بُسرعة دون إبطاء . وهكذا ، تتَّضح فُروسيةُ الشاعر، فهو يَعتبر لِجامَ الفَرَس المصنوع من الحديد وكأنه وِشاح من القُماش الناعم الذي يُغطِّي الوجهَ . إنهُ يتوشَّح بالحديد القاسي مثلما يتوشَّح الناسُ بالقماش الناعم ، وهنا يَظْهر الفرقُ الجوهري بين الشاعر الفارس وغيره من الناس ، فهو متفوِّق عليهم ، ولا يَقْدرون على الوصول إلى مكانته السامية في عالَم الشجاعةِ والإقدامِ والحروبِ. كما أن قَوْلَه " إذ غَدَوْتُ " تدل على انطلاقه في الصباح ، وهذا يدل على نشاطه ، وحيويته ، وتَمَتُّعه بروح المبادَرة .
 
3_ الدفاعُ عن أبناء العشيرة :

     تُعْتَبَر نُصرة القريب _ظالماً أو مظلوماً_ مِن أُسس المجتمع القَبَلي . إذ إن فلسفةَ العشيرة تقوم على أساس تضافر الجهود الفردية ، وتعزيز منظومة الدفاع المشترك ، وذلك من أجل الوقوف في وجه باقي العشائر كوَحدةٍ متماسكةٍ ، وقوةٍ رادعةٍ .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإنْ أُدْعَ للجُلَّى أَكُنْ مِن حُماتها          وإنْ يَأْتِكَ الأعداءُ بالجَهْدِ أَجْهَدِ

     يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ اعتماده كناصرٍ للقبيلة ، وصانعٍ لأمجاد العشيرة ، ومُدافِعٍ عن أبنائها. وها هُوَ يتعهد بالدفاع عن قريبه إذا تعرَّض لأي خطر أو أذى ، فالدفاعُ عن القريب دفاعٌ عن الذات، والدفاعُ عن الذات دفاعٌ عن شرف العشيرة .
     يقولُ : وإن دَعَوْتني للجُلَّى ( الأمر العظيم ) أَكُن مِن حُماةِ حياتكَ وشَرفكَ .
     يتعهد بِحماية حياة قريبه ( ابن العشيرة )، ونُصرته ، وصَوْنِ عِرْضِه ، والوقوفِ ضد أعدائه بكل ما أُوتيَ مِن قُوة . فالتعدي على أحد أفراد العشيرة ، هو تَعَدٍّ على العشيرة بِرُمَّتها . وهذا الأمرُ لا مجال للتهاون فيه ، فأيُّ تهاون سَيُؤَدِّي _ حتماً _ تدمير اسم العشيرة ، وجعلها فريسةً سهلة لباقي العشائر ، وعندئذ سَيَطْمع بها الجميع . فلا بد _ في السياسة الاجتماعية القَبَلية _ مِن توليد نظام رَدْع يُخيف الآخرين،وذلك لكي تظل العشيرةُ مرهوبةَ الجانب، ومحافظةً على وَزْنها بين العشائر.
     ويستمرُّ الشاعرُ في توضيح موقفه من نُصرة قريبه والانتصارِ لعشيرته ، فيقول : وإن يَأتكَ الأعداءُ لقتالكَ أَجهد في حمايتك ومقاومتهم غاية الجهد .
     سَوْفَ يَبذل كلَّ ما بوسْعه لحماية ابن العشيرة ، وقتالِ أعدائه ، والتصدي لهم بكل حَزم . سيتفانى في صيانة شرف العشيرة ، وحفظِ عِرْضِ قريبه من كل أذى . إنهُ مستعد للقتال دفاعاً عن رابطة الدم ، ومن أجل إعلاء راية العشيرة . وهكذا يُقدِّم الشاعرُ نفْسه كمواطن صالح يتحلى بروح الانتماء للقبيلة ، والولاءِ للعشيرة.
     ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإن يَقذِفوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهم          بِكأسِ حِياضِ الموتِ قَبْلَ التَّهـددِ

     يُبَرْهِن الشاعرُ على وَلائه المطْلق لعشيرته ، ومساندته الكاملة لأبنائها ، ويضعُ كافةَ إمكانياته في خِدمة أبناء العشيرة ، والدفاع عنهم ، وحراسة اسم العشيرة .
     يُصرِّح بالفم الملآن بأنه سَيُواجِه الأعداء ويقضي عليهم إذا تعرَّضوا لقريبه بالكلام السَّيئ . فيقول : وإن أهانكَ الأعداءُ بالكلام الجارح ، وقَذَفوا عِرْضَكَ بالقَذْع ( الفُحْش ) ، جَعَلْتُهم يَشْربون مِن حِياض الموت قبل تهديدهم .
     إن أيَّةَ إساءة إلى العشيرة أو أحد أبنائها ، لا يمكن تبريرها ، أو تجاهلها ، ولا بد من التصدي لها بكل حَزْم . لذلك فقد كَشَّرَ الشاعرُ عن أنيابه ، وتوعَّد كُلَّ مَن تُسوِّل له نَفْسُه الإساءة إلى قريبه بالهلاك الحتمي والنهايةِ الأليمة .
     فإذا قامَ الأعداءُ بالإساءة الكلامية إلى قريب الشاعر ( ابن العشيرة )، ولَطَّخوا عِرْضَه بالفُحش والبذاءة ، فإن الشاعرَ سَيَسْقيهم كأسَ الموتِ المرَّةَ . سَيُورِدُهم حِياضَ الموت فَيَشْربون مِنها رَغْمَ أُنوفهم . والحِياضُ جَمْعُ حَوْض . سَوْفَ يُبيد الأعداءَ قبل أن يُهدِّدهم ، فلن يُضيِّع وَقْتَه في تهديدهم ، واختيارِ الألفاظ القاسية لمهاجمتهم، وإخبارهم بأن الهلاك يَنْتظرهم، وإنما سَيَقْضي عليهم مباشرةً بلا مُقدِّمات. وهذا يدل على غياب المنطق العقلاني بشكل كامل، ورفضِ لغة الحوار بصورة تامة. فهناك خيار وحيد ، وهو الاحتكام إلى السيف ، ولا شيء غَيْره .
4_ فُرسان العشيرة :

     كلُّ عشيرةٍ إنما تَقوم على كاهل فُرسانها ، فهُم الذين يُدافعون عن وجودها ، ويَحْملون تاريخَها ، ويَصنعون حاضرَها ومستقبلَها . وهؤلاء الصَّفْوةُ يَكونون محط الأنظار ، ويَكون التعويلُ عليهم في كل المحافل بسبب إمكانياتهم الهائلة المتميِّزة .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

هُمُ السُّعاةُ إذا العَشيرةُ أُفْظِعَتْ          وهُمُ فَوَارِسُها وَهُم حُكَّامُهـا

     هذه العَشيرةُ لَيْست ورقةً في مَهَبِّ الريح، أو شيئاً مُهمَلاً بلا وزن . إنها منظومةٌ اجتماعية ذات تاريخ عريق ، وحاضر مُشرِق . تمتلئ بالرجال الأشداء الذين يتحمَّلون المسؤوليةَ في أصعب الظروف ، ويَكونون على قلبِ رَجلٍ واحدٍ في وقت الشِدَّة ، ولا يتهرَّبون من التحديات المصيرية. إنهم السُّعاة الذي يَسْعَوْن إلى حماية العشيرة إذا أُصيبت بأمرٍ فظيع ( أُفظِعت ) .
     فإذا تعرَّضت العشيرةُ لأي خطر ، أو أصابها أمرٌ عظيم سَعَى هؤلاء الرِّجالُ الأبطالُ إلى إزالته بكل قُوَّتهم ، وسَخَّروا كلَّ قدراتهم لكشف المكروه عن عشيرتهم، وتفريجِ كُربتها ، وإنقاذِ أبنائها . وهذا غير مستغرَب ، فهؤلاء الرِّجال هُم فرسان العشيرة ( فوارسها ) في المعارك، وهُم القادة الشُّجعان عند القِتال، كما أنهم الحُكَّامُ أصحابُ الكلمةِ المسموعةِ في مواطن النِّزاع ، وهُم رؤوس القَوْم الذين يُفزَع إليهم عند التخاصم .
     والشاعرُ يَهدف _ مِن وراء هذا المدح _ إلى تصوير أقاربه وعائلته الضَّيقة كسادةٍ للناس، وزعماء للعشيرة . فهؤلاء الفُرسان الحُكَّام الذين يَحْملون تراثَ العشيرة بكل اقتدار ، ويُدافِعون عنه بكل تفانٍ ، هُم أقارب الشاعر ، والدائرة الأُسرية المحيطة به . وكأن الشاعرَ يقول إن عائلتي هي رأس العَشيرة .
5_ تماسك العشيرة :

     إذا كانت العشيرةُ متماسكةً ، فلا يمكن اختراقها مِن أيَّة جِهة . وإذا كانت الجبهةُ الداخليةُ مُحصَّنةً ، فإن تأثير العدو الخارجي يَنعدم _ مهما بَلَغَت قُوَّته _ . ولا يمكن للمنظومة الاجتماعية أن تَسْقط ، إلا إذا سَقَطت من الداخل . كما أن الإنسان لا يمكن أن ينهار ، إلا إذا انهارت معنوياته ( الجبهة الداخلية ) . لذلك فإن تماسك العشيرة ، وتعاون أبنائها ، والتحام قاعدة الهرم الاجتماعي مع الرأس، أمورٌ في غاية الأهمية ، لأنها تساهم بشكل فعَّال في توحيد كلمة العشيرة ، وحفظِ وجودها ، وضمانِ تواجدها على الساحة. يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وهُم العَشيرةُ أن يُبَطِّئَ حَاسِدٌ          أوْ أنْ يَميلَ مَعَ العَدُوِّ لِئَامُها

     استخدمَ الشاعرُ لفظَ " العشيرة " لِيُشير إلى تماسك الأفراد في وجه التحديات المختلفة ، وأنهم وَحدةٌ اجتماعية مترابطة ، وكلمةٌ واحدة . فهُم مُتوافِقون لا مكان للنِّزاع بينهم ، وهُم متعاونون لا يَعْرفون الفُرقةَ والشِّقاقَ . إنهم عشيرةٌ متماسكةٌ حريصةٌ على التعاون لئلا يُبَطِّئَ حاسدٌ بَعْضَهم عن نَصْرِ بَعْضٍ ، وكراهية أن يميل لئامُ العشيرة ( الطابور الخامس ) مع العدو .
     إن تعاونَ أبناءِ العشيرة وتلاحمهم ضرورةٌ حتمية، ومصلحةٌ عليا . فهذا التعاون يَقطع الطريقَ على الأعداء المتربِّصين بالعشيرة، ويُحاصرهم، ويمنعهم من الانقضاض على العشيرة وتدميرها ، وبالتالي يَعْجزون عن تحقيق أهدافهم الخبيثة .
     وإذا كانت العشيرةُ متماسكةً فلن يَقْدر الحُسَّادُ على تشتيت كلمة الأفراد ، وتثبيط بعضهم عن نَجْدةِ بعضٍ ، وبثِّ التقاعس والفُرقة بين الصفوف . وأيضاً ، لن يَقْدر الخوَنةُ من أبناء العشيرة على مساندة العدو ضد أبناء جِلْدتهم، فَوَحْدةُ العشيرةِ تشلُّ حركةَ الطابور الخامس، وعندئذٍ لا يستطيع لئامُ العشيرة أن يَنصروا الأعداءَ على الأقاربِ . وهذا يَعكس الأهميةُ القُصوى لتماسك العشيرة ، فالأمرُ ليس رفاهيةً أو تحصيلَ حاصلٍ . إنهُ أمرٌ مهم للغاية لأنه متعلق بالأمن القَوْمي للعشيرة، وأيُّ تقصيرٍ في هذا المجال سيؤدي إلى عواقب وخيمة ذات تأثير مُدمِّر على الكيان العشائري ، ووجودِه ، وحياةِ أبنائه .

6_ الافتخار بالآباء والسَّيْر على خُطاهم :

     الآباءُ _ في المجتمع القَبَلي _ يُمثِّلون الركيزةَ الأساسية في التاريخ العائلي ، فَهُم مَنْبعُ الشرعية الأُسرية، ومركزُ التُّراث، وحقيقةُ السُّلالة. ولا يمكن تجاوزهم إطلاقاً.
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

مِن مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم          ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمامُهــا

     تتَّضح قيمةُ الافتخار بالآباء، وتَبْرز أفعالهم السَّامية. وليس أمام الأبناء مِن خيار سوى السَّيْر على خطى أسلافهم الذين شَقُّوا طريقَ المجد ، وصنعوا البطولاتِ .
     إنهم مِن مَعْشَر ( قَوْم ) سَنَّ لهم آباؤهم اكتسابَ الفضائل ، والمسارَعةَ إلى المجد، والتحلِّي بِعُلُوِّ الهِمَّة، واقتناصَ البطولاتِ، والفوزَ بالمعالي. ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ (طريقة )، وإمام يُؤتم به فيها . وهذا أمرٌ طبيعي ، فكلُّ قَوْمٍ لهم فلسفةٌ في الحياة، وطريقةٌ في فهم الوجود. ولكلِّ شيخٍ طريقةٌ وأُسلوب. وأيضاً ، كُلُّ طريقةٍ تتطلب وجود إمام ( رأس ) يَسير الناسُ وراءه ، ويَقتفون آثارَه ، ويَحْملون أفكارَه ، ويَنْشرونها في كل الأماكن . ولا توجد فِكرةٌ تُولَد من العَدَم ، أو تأتي من الفراغ . فكلُّ فكرةٍ لها صاحبٌ ، ولها مُؤيِّدون مؤمنون بها . وكما أنه لا يُوجد طفلٌ بلا أب ، فأيضاً لا توجد فِكرة بلا أب . ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وَرِثْتُ مُهَلْهِلاً والخيرَ مِنه          زُهَيْراً نِعْمَ ذُخرُ الذَّاخِرينا
     يتجلى موضوعُ الافتخار بالآباء بصورةٍ واضحة ومُباشِرة . وكأن الشِّعرَ قد تحوَّل _ في هذا السياق_ إلى إعلانٍ عشائري، أو خطابٍ للمديح، أو شَجَرةِ نَسَب.
     يقول الشاعرُ بكل فخر : وَرِثْتُ مَجْدَ مُهَلْهِل ، وحَملتُ رايته ، وصار شرفُه شرفاً لي . وأيضاً ، وَرِثْتُ مَجْدَ الرَّجل الذي يتفوق على مُهَلْهِل ، وهو خيرٌ مِنه ، وهو زُهَيْر . إنهُ رَجلٌ شريفٌ كريمٌ ، وكَنْزٌ ثمين ، فَأَنْعِمْ بِه وَأَكْرِمْ . فمجدُه وشرفُه صارا مَضْرب المَثَل ، يُفْتَخَر بهما في كل زمانٍ ومكان .

7_ السَّطْوة العشائرية :

     إن المجتمعَ العربي القديم خاضعٌ للسُّلطة القَبَلية ، ومحكومٌ بالسَّطْوةِ العشائرية . كما أن قيمَ المجد والنفوذ والقوة تعتمد على حَجم العشيرة، ومكانتها بين العشائر .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

ونَشْربُ إن وَرَدْنا الماءَ صَفْواً           وَيَشْربُ غَيْرُنا كَدِراً وَطِينـا

     يَرسم الشاعرُ هالةً لامعةً حول عشيرته ، ويَحرص على تصويرها كرأسٍ لباقي للعشائر . فهُم الذين يتقدَّمون الناسَ ويَقُودونهم ، فيشربون الماءَ صافياً لأنهم أوَّل مَن يَشْرب ، أمَّا غَيْرهم فيشرب الماءَ مُلوَّثاً بسبب كثرة الأيادي التي عَبَثت به .
     والقضيةُ لَيْست قضيةَ " الماء والشُّرب "، فهذه الصورةُ الشِّعرية رمزيةٌ وشديدةُ التكثيف، وهي تَرْمز إلى سيادة عشيرة الشاعر على باقي العشائر . فهُم يأخذون مِن كُل شيء أحسن ما فيه ، ويَتركون لغيرهم الشوائبَ والأوساخَ . مما يدل على أنهم السادة والقادة ، وغَيْرُهم أتباع لهم .
     وهذا المعنى مهمٌ جِدَّاً في المجتمع القَبَلي المحكوم بِقِيَم السيادة والبطولة والزعامة. فكلُّ شيخ قبيلة يَحرص على تصوير نفْسه كقائد للقبائل ، وزعيم للعَرَب . وكلُّ قبيلة تُسمِّي نفْسها سَيِّدةً للقبائل . وهذا الصراعُ المحموم على المستوى الفردي والجماعي يَعكس ثقافةَ السيادة والقيادة المتجذرة في العقل العربي .
     ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

 إذا بَلَغَ الفِطامَ لنا صَبِيٌّ          تَخِرُّ لهُ الجبابِرُ ساجِدينا

     يَرسم الشاعرُ صورةً أسطوريةً لقوة عشيرته ، وتتجذر الهالةُ الجنونية المحيطة بالقبيلة . لا مكان هنا للمنطق . لا وقت لصوت العقل . القوةُ أوَّلاً ، والقوةُ أخيراً.
     يقولُ : إذا بَلَغَ صِبياننا وقتَ الفِطام سَجدتْ لهم الجبابرة من القبائل الأخرى .
     لا شَكَّ أن هذه الصورة الممتلئة بالتحدي والفخر والسُّؤدد ، تكشف ماهيةَ الصراع العشائري، وتُبرِز طبيعةَ البيئة العربية الصحراوية القاسية، حيث القبيلة القوية تَسْحق القبيلةَ الضعيفة . وهؤلاء الصِّبيان _ الذين ليس لهم ناقة ولا جَمل في الصراعات القَبَلية_ يتم إقحامهم في عالَم شديد الخطورة ، وغير متصالح مع نفْسه . وبمجرَّد بلوغهم وقت الفِطام تتكرَّس زعامتهم وسِيادتهم على باقي القبائل ، حيث يَسْجد لهم الجبابرةُ والفُرسانُ الأشداء والأشراف .
     والشاعرُ يَرمي إلى إبراز مكانة عشيرته وسِيادتها على باقي القبائل . وإذا كان الصِّبيان في عشيرة الشاعر قد بَسطوا نفوذَهم على جبابرة القبائل ، فما بالك بالشجعان والرِّجال الأشداء في عشيرة الشاعر؟!.وما بالك بالصِّبيان عندما يَكْبرون ويُصبِحون رِجالاً ؟!. لقد أثارَ الشاعرُ هذه الأفكار ضِمنياً، وأحاطَ عشيرته بهالة القداسة والسِّيادة ، مُؤمناً بأن منطق القوة هو المنطق الوحيد في هذه البيئة القاسية.    

8_ الافتخار بالنَّسَب والحَسَب :

     النَّسَب والحَسَب هما الرِّئتان اللتان يتنفس من خلالهما الفردُ في البيئة الجاهلية . فهذا الفردُ لا يَمْلك غير أسماء آبائه وتاريخهم وأمجادهم ، والتغني بها. وهكذا يصبح الماضي منجمَ ذهب ، وإطاراً شرعياً للوجود ، وذاكرة للحياة بكل تفاصيلها .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِــني          إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الشَّريفِ المُصَمَّدِ

     إذا اجتمع الناسُ للافتخار، وذِكر مناقب الآباء والقبائل ، وتعظيمِ البطولات العشائرية، وتكريسِ الانتصارات القَبَلية، وتمجيدِ الأنساب والأحساب. فإن الشاعرَ سيتفوق عليهم جميعاً ، فهو ينتمي إلى ذِروة البيت الشريف المُصَمَّد ( المقصود ) .
إنهُ ينتمي إلى قِمَّة الشرف ، ويعيش في أعلى المجد ، وقد وَرِثَ السُّؤددَ كَابِراً عن كَابِر . وهذه السُّلالةُ الذهبيةُ من الصعب أن تتكرر . لقد أحاطَ الشاعرُ بالشرف من جميع الجهات ، وحازَ المجدَ من جميع أطرافه . وهذا المكانةُ الساميةُ لم يصل إليها أحدٌ من  أبناءُ الحَي ، وهذا يعني أن الشاعر هو الأوفر حظاً في الحَسَب ، والأعلى رُتبةً في عالَم الأنساب، فهو صاحبُ النَّسَب الشريف ، والحَسَب الكريم ، والمنْزلة الرفيعة . ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وَيَوْمَ حَبستُ النَّفْسَ عِندَ عِراكه         حِفاظاً على عَوْراته والتَّهــدُّدِ

     تتجلى فروسيةُ الشاعر ، وتتَّضح مكانته العظيمة . فقد حَبَسَ نَفْسَه عن القتال ( العِراك ) والمناوَشاتِ وتهدُّدِ الأقران، وذلك من أجل المحافظة على حَسَبه الكريم ، ونَسَبه الشريف .
     والشاعرُ لم يَتْرك القتالَ احتراماً للنَّفْس البشرية ، أو رحمةً بالبشر ، أو حقناً للدماء ، أو حِفاظاً على المنجزات الإنسانية . وإنما تَرَكَ القتالَ حِفاظاً على نَسَبِه الكريم ، ودفاعاً عن شرفه المقدَّس . إنهُ غير مَعْنيٍّ بخصمه ، ولا يُقيم وزناً لحياته أو مَوْته . فدماءُ الخصوم لا معنى لها في قاموس الشاعر . المهم هو أن يُحافِظ الشاعرُ على طهارة نَسَبه ، فلا يُجرَح بِقَوْلٍ أو فِعْلٍ ، وأن يُحافِظَ على قَداسةِ حَسَبه ، فلا يُلوَّث ، ولا يتم التطاول عليه .

12‏/08‏/2017

الموت في شعر المعلقات

الموت في شعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 12/8/2017

................. 

     إن الموتَ يُمثِّل قيمةً أساسية في الحياة. ولا نُبالِغ إذا قُلنا إن الموت هو الحياة الحقيقية . ولا يوجد إنسان لا يؤمن بالموت ، أو لا يُفكِّر به . والإنسانُ قد تنهار عقيدته فَيَجْحد وجودَ الله تعالى، ولكنْ لا يمكنه أن يَجحد وجودَ الموت . إذن ، فالموتُ هو حَجر الزاوية في البناء البشري. والحديثُ عن الموت هو الفلسفة النهائية الحاسمة ، ومختصر الخبرات الحياتية برمتها .
     والشعراءُ _ باعتبارهم أكثر المخلوقات حساسيةً والتقاطاً لعناصر الطبيعة _ لا يَقدرون على الإفلات من " إغراء الموت " حتى لو أرادوا ذلك . وهذا يُفسِّر ذِكرَ الموت في أشعارهم ، وجعل الفلسفات والمناهج الفكرية تَدور حَوْله . فالموتُ مجالٌ خصب للتأمل في النهاية ، والأحزان ، والفِراق ، ... إلخ .
     والمعلَّقاتُ اعتنت بموضوع الموت ، واستمدَّت منه فلسفةً للحياة ، ومنهجاً فكرياً للإنسانية . وقد عبَّر أصحابُ المعلَّقات عن فكرة الفناء ، وعدم الخلود في الدنيا ، وأن الموت شامل لكل الأحياء، ولا مفر منه ، واستحالة العودة من الموت ، وأنه مُقدَّر . وفي الجهة المقابِلة ، نجد أفكاراً تتحدث عن ضرورة الذهاب إلى الموت وعدم انتظاره . فهو قادمٌ _ لا محالة _ فينبغي أخذ المبادَرة . وتبرز_ أيضاً _ فكرةُ عدم المبالاة بالموت، ولا بد للإنسان أن يعيش حياته بالطُّول والعَرْض ، وأن يَستمتع قَدْر المستطاع لأنه لن يَعيش إلا مرة واحدة فقط . وتَظهر فكرة " الموت صُدفة " ، وأنه حالة عبثية تأتي بشكل أعمى ، وغير مُسَيْطَر عليه . وهذه العقيدةُ متأثرة بالنسق الفكري الوثني الذي لا يؤمن بالحياة بعد الموت ( الحياة الآخِرة ) .
     إننا أمام حالة شِعرية متفردة تتحدث عن الموت ، وتورده في سياق فني فلسفي يَعكس طبيعةَ عقائد أصحاب المعلَّقات ، والماهياتِ الفكرية الكامنة في ذواتهم ، والأحداث التاريخية المصاحِبة للشاعر وفلسفته في الموت والحياة على السواء ، لأن الأشياء تُعرَف بأضدادها .

1_ لا خلود في الدنيا :

     الدنيا دارٌ زائلة لا يمكن أن تَمنح الخلودَ للعناصر . ففاقدُ الشيء لا يُعطيه . وبما أن الدنيا ذاتها غير خالدة ، إذن فلا خلود فيها . إنها فانيةٌ هِيَ ومحتوياتها. والناسُ يَرون الموت والأموات كلَّ يومٍ رأي العَيْن ، فلا مجال للتكذيب أو الشك . وكلُّ إنسان مهما تطاول عُمُرُه ، لا بد أن يُحمَل يوماً ما إلى المقبرة . وهذا الأمرُ من كثرة ما اعتاد عليه الناسُ ، صار أمراً عادياً لا يُحرِّك المشاعرَ ، ولا يُثير مكنوناتِ الصدور. فالاعتياديةُ تَجعل الإنسانَ أعمى، وعاجزاً عن رؤية الأشياء بعين البصيرة ، وغارقاً في نظام حياتي روتيني مغلَق .
     ونحن نجد الشاعر طَرَفة بن العبد يشير إلى قضية " اللاخلود " فيقول :

ألا أيُّهذا اللائمي أَشْهَدُ الوَغَــى          وأن أنهلَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

     يقول: ألا أيها الإنسان الذي يُلومني على حضور الحرب، وحضورِ الملذات، هل تخلِّدني إن كففتُ عنها ؟ .
     إن الشاعرَ يُؤْمن بعدم الخلود في الدنيا . وسواءٌ شاركَ الإنسانُ في الحرب أم نام في بَيْته ، ففي كلا الحالتين لن يَنعم بالخلود . لذلك فهو يُريد أن يَعيش حياته على هواه بلا ضوابط ، أن يعيش بالطُّول والعَرْض ، ويَستمتع بكل لحظة ، ويَفعل ما يَحلو له. ففي كل الحالات ، هُو غير خالد ، والموتُ قادمٌ لا محالة ، والمسألةُ مسألةُ وقتٍ لا أكثر ولا أقل. وهذه القناعةُ لم تُكسِب الشاعرَ إحساساً بالمسؤولية ، بل على العكس ، أغرقته في اللامبالاة واللاجَدْوى ، وأكسبته شعوراً بالعَدَم والضياع . وبما أن الموتَ قادمٌ ، والخلود متعذِّر ، فلماذا لا يستمتع بحياته ويشارك في الحرب ويصنع مجدَه الشخصي ومجدَ قبيلته ويَنهل من اللذات قبل أن يداهمه الموت ؟! . إنها رُوحٌ جاهلية وثنية تَعتبر الموتَ نقطة النهاية ، ولا شيء بعدها. وبالتالي ، لا بد من استغلال الحياة الدنيا في الاستمتاع ، وتحقيق رغائب النَّفس كاملةً غير منقوصة . ومن الواضح أن سلوكَ الشاعرِ العابثَ قد سَبَّبَ له المتاعبَ ، وجلبَ له الانتقاداتِ والعتابَ . وبالطبع ، فإن الشخص الذي يَرى التصرفاتِ الطائشة للشاعر لا بد أن يَلومه . وهذا اللومُ يَنبع من تطبيقات العقل الجمعي ، ويَنطلق من فلسفة اجتماعية سائدة تتطلب التوازنَ في أداء الأعمال، وتحمُّلَ المسؤولية، واحترامَ قيمة الحياة، وعدم تضييعها في اللذات الوقتية ، والسلوكياتِ غير المحسوبة .

2_ الذهاب إلى الموت وعدم انتظاره :

     من الواضح أن الشاعر طَرَفة بن العبد يؤسس فلسفته الخاصة بالموت وملابساته ، وما يُرافقه من أحداث فكرية أو مادية واقعية . وها هُوَ يقول :

فإنْ كُنتَ لا تسطيعُ دَفْعَ مَنِيَّتي          فَدَعْني أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي

     إن الشاعر يَبني فلسفته الذاتية حول فكرة " استحالة دفع الموت " ، لكنه يُحيط هذه الفكرة الصحيحة بسلوكيات خاطئة وتطبيقاتٍ سلبية. فالشاعرُ يرى ضرورةَ الغرق في الملذات والشهوات بلا حساب ، لأن الموت قادمٌ بشكل مؤكَّد لا شك فيه . فبدلاً من أن يصبح الموت باعثاً على الزهد والاستقامة ، يصبح باعثاً على اللامبالاة والعبث والتبذير . وهذه هي فلسفة طَرَفة بن العبد التي بثَّها في أشعاره .
     يقول طَرَفة : فإن كنتَ لا تستطيع أن تدفع مَوْتي ، فدعني أُبادر الموتَ بإنفاق أملاكي .
     إنه في سِباق مع الموت ، ويُريد أن يُسابق الموتَ قبل أن يُباغته . وهكذا تتجلى روحُ المبادَرة ، مُبادَرة الموت واقتحام عالَمه ، وذلك بإضاعة الممتلكات ، وتبذير الأموال، والاستمتاع بالملذات إلى الدرجة القُصوى. فالموتُ سيتلفُ أملاكَ الشاعر، ولن يُبقيَ له شيئاً . لذلك يَحاول الشاعرُ أن يَسبق الموتَ ، ويأخذ على عاتقه إتلاف أمواله بنَفْسه ، وعدم منح الموت هذه الفرصة .
     والمنهجيةُ الفلسفيةُ المسيطرة على الشاعر في هذا السياق هي أن الموت لا بد منه ، فلا معنى للبخل ، وتركِ الملذات ، وإدارةِ الظَّهر للشهوات . فعلى المرء أن يَستمتع بالحياة ولذاتها بكل الوسائل المتاحة ، فالغايةُ تبرِّر الوسيلةَ ، والإنسانُ لن يَعيش مرةً أُخرى ، فعليه اغتنام هذه الفرصة قبل فواتها. فالمتعةُ إذا ذَهبت لن تَعود . وهكذا يُصبح الموتُ حافزاً على الغرق في الشهوات بلا ضوابط ، وليس حافزاً على العمل المثمر ، وسلوكِ الطريق القويم .
     ومن الملاحَظ أن فلسفةَ طَرَفة بن العبد تنطوي على ردة فعل عكسية . فالمفروضُ أن يَقطعَ الموتُ لذاتِ النفوس ورغباتها ، ويدفعَ إلى الصلاح والخير ، باعتباره هادمَ اللذات ، ومُفرِّق الجماعات ، ومُيتِّم البنين والبنات . أمَّا في حالة طَرَفة ، فقد تحوَّلت صدمةُ الموت إلى مزيد من الشهوانية والعبث واللاجَدْوى. ففي بعض الأحيان، يؤدي النُّورُ الباهر إلى العَمى لا قوة الإبصار . كما أن كَثرة الشَّد يُرخي . وهذا ما نراه جلياً في فلسفة طَرَفة المتعلقة بالموت، وتطبيقاتها الشعرية .

3_ عدم المبالاة بالموت :

     يواصل الشاعرُ طَرَفة بن العبد سياسته تجاه الموت ، حيث إنه لا يُبالي به ، ولا يُقيم له وزناً . هذه هي القاعدة الأساسية في فلسفته حول الموت . أمَّا الاستثناءُ فهو ما عبَّر عنه في قَوْله :

وَلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ مِن عِيشَةِ الفَتى          وَجَدِّكَ لم أحفِلْ متى قامَ عُوَّدي

     يقول طَرَفة : فَلَوْلا حُبِّي ثلاث خِصال هُنَّ من لذة الفتى الكريم لم أبالِ متى أقام عُوَّدي من عندي آيسين من حياتي . أي لم أُبالِ متى مِتُّ .
     وهذا البيتُ يَحمل تشويقاً كبيراً ، ويشدُّ انتباهَ السامع . فالشاعرُ يَنظر إلى الموت على أنه نهاية المطاف ، وأن الحياة مهزلةٌ كبرى. وهو لا يُبالي بالموت ولا الحياة على حَدٍّ سَواء . لكنَّ هناك ثلاث خصال تَجعله حريصاً على حياته، ومُبالياً بالموت إلى حَد بعيد . وهذه الخِصالُ هي : شرب الخمر، وإغاثة اللهفان ، والاستمتاع بالنساء .
     وما يهمنا هنا هو ارتباط الموت بالمتعة . فالشاعرُ يعتنق " عدم المبالاة بالموت " كعقيدة ثابتة لا محيص عنها . والقضيةُ عنده محسومة بشكل نهائي ، والمسألةُ مسألةُ مبدأ .
     لكنَّ هذه العقيدة تنهار وتصبح لاغيةً ، عندما ترتبط حياةُ الشاعر بثلاثة أمور : الأول _ شرب الخمر الذي يُشكِّل قضيةً أساسية في المجتمع الجاهلي . والثاني _ إغاثة اللهفان ، وهو أمرٌ ثابت في التقاليد العربية القَبَلية ولا مساومة عليه . والثالث_ الاستمتاع بالنساء ، وهذه قضية مركزية في الثقافة الجاهلية الشهوانية .
     إذن ، هذه القضايا الثلاث تَمنح الشاعرَ شرعيةَ وجوده ، وتَمنح حياته المعنى والجدوى . وبدونها تصبح حياته كعدمها ، ويصبح الموتُ مرحَّباً به لأنه الحَل الأكثر نجاعةً . كما أن هذه الخِصال تم لصقُها بالفتى الكريم تحديداً،وكأنها مميِّزاتُ هويةِ الفتى الكريم الشريف، وأركانُ وجوده.

4_ الموت شامل لكل الأحياء :

     الموتُ لا يُفرِّق بين الناس على أساس الدِّين أو اللون أو العِرْق . إنه حصادٌ شامل لا يَستثني أحداً . فالموتُ هو حَجرُ الرَّحى الذي يَطحن كلَّ شيء بلا تمييز ، ولا يتوقف عن الطحن أبداً .
     وقد أشار الشاعر طَرَفة بن العبد إلى أن الموتَ شاملٌ للجميع بلا محاباة ولا تفرقة ، فقال :

أرى الموتَ يَعتامُ الكرامَ وَيَصْطفي          عَقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَــدِّدِ

     فالموتُ يعمُّ الأجوادَ ، ويختارهم ، ويُنهي وجودَهم ، ويَصطفي الكرامَ وكرائمَ أموال البخلاء . فلا الكريمُ نجا من الموت ولا البخيلُ ( الفاحش ). وهذان الصنفان ( الكِرام / البخلاء ) لم يستطيعا الإفلاتَ من قبضة الموت .
     إذن ، فالموتُ شاملٌ للجميع ، ومسيطرٌ على الأضداد . وكلُّ شخصٍ سوفَ يَموت ، سواءٌ كان كريماً أم بخيلاً، غنياً أم فقيراً، شريفاً أم حقيراً، صالحاً أم طالحاً ، عالِماً أم جاهلاً ، قوياً أم ضعيفاً .. إلخ. لقد ساوى الموتُ بين الأضداد، وألغى التناقضاتِ ، وسَوَّى بين الجميع ، فلم يُحابِ أحداً على حساب أحد، ولم يُفرِّق بين الناس. فالموتُ لا يَعرف التمييزَ العنصري ، أو الدبلوماسية ، أو المحاباة .
     والصفاتُ السلبية لم تَعُد بخير على أصحابها ، ولم تَجلب لهم نفعاً ، ولم تَحرسهم من الموت . والشاعرُ ركَّز على موضوع البُخل. فالبخيلُ الذي قَضى حياته عبداً للمال وحارساً له ، لم ينجُ من الموت . وفي نهاية المطاف ، وَقَعَ عليه اختيارُ الموت ، كما وَقع على الكريم . وقد مات الاثنان ، لكنَّ الفرق الجوهري أن الكريم تركَ ذِكرى طيبة وسيرةً عطرة ، أمَّا البخيل فعاشَ مذموماً وماتَ مذموماً ، وسُمعته في الحضيض . ومِن هنا تبرز أهميةُ التحلي بالصفات الحميدة لأنها مَنبع الذكرى العطرة الباقية بعد الموت .

5_ الطريق إلى الفناء :

     ولادةُ الإنسان هي بدء العد التنازلي لوجوده. ومُذ وُجد على هذه الأرض ، وهو يَسير إلى نهايته الحتمية . فالبدايةُ هي جَرس إنذار للنهاية . والحياةُ تتناقص بشكل تدريجي . والإنسانُ مثل أوراق التقويم، كلما سَقطت ورقةٌ ذهبَ بعضُه . وكذلك الإنسان كلما مَرَّ عليه يومٌ ذهبَ بعضُه.
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

أرى العيشَ كنزاً ناقِصاً كلَّ ليلةٍ          وَما تَنْقُصِ الأيامُ والدَّهرُ يَنفَـدِ

     فالعيشُ _ حَسْب رؤية الشاعر _ هو كنز يَنقص كلَّ ليلةٍ . إنه يتناقص باستمرار ، ولا يوجد شيءٌ يُعوِّض هذا النقصَ . وكلُّ شيء يَنقص فإن مصيرَه إلى النفاد ، والوصول إلى نقطة النهاية . وما تَنقصه الأيامُ والدهرُ يَنفد ويَنتهي مهما كان كثيراً أو كبيراً . وكذلك العيشُ صائر إلى النفاد والانتهاء لا محالة . 
     والعيشُ مثل البحيرة التي تجف شيئاً فشيئاً، ويتبخر ماؤها، دون وجود روافد تغذِّيها. وسوفَ يأتي يومٌ تجفُّ تماماً، وتصبح أثراً إِثر عَيْن. وهذا الانتهاءُ آتٍ حتماً ، وكلُّ آتٍ قريبٌ . وما بَقِيَ من الدنيا أقل مما مَضى . إنه شعورٌ بالنهاية الأكيدة ، واستشعارُ قُرب الفناء الحتمي .
     والشاعرُ يُشبِّه العيشَ بالكنز ، وهو المال المدفون تحت الأرض أو ما يُحرَز في المال . كما أن مفهوم الكنز يشتمل على معنى الجمع والادخار . وهذا يدل على مركزية العيش باعتباره تجميعاً للسنوات والأحلام والذكريات . فالعيشُ كتلةٌ من الأضداد والتناقضات ، تتجمعُ فيه الأفراحُ والأحزانُ، والنجاح والفشل ، والحياة والموت . وكلُّ هذه العناصر تتناقص تدريجياً ، فالإيجابياتُ تتلاشى والسلبياتُ تتلاشى . والعيشُ بكافة محتوياته مآله إلى النفاد. إنها رحلةُ العد التنازلي ، لا تتوقف حتى تصل إلى ساعة الصفر ( النفاد / الانتهاء / النهاية ) .

6_ لا مفر من الموت :

     الإنسانُ واقعٌ في قَبضة الموت _ رغمَ أنفه _ . وعندما تَحين ساعته ستشتدُّ قبضةُ الموت على روحه ، فَيَسْقط . ومهما ضَرَبَ الإنسانُ في الأرض ، وشَرَّقَ وغَرَّبَ ، فلا بد أن يَعود إلى الموت بِقَدَمَيْه مثلما يَعودُ الطفلُ إلى حِضن أُمِّه . وكلُّ حركاتِ الإنسان وعنفوانه وإشراقه إنما تتم في دائرة الموت التي تَضيق شيئاً فشيئاً . فالخناقُ يشتدُّ على الإنسان بشكل تدريجي . والحياةُ الإنسانية لا تتحرك بمنأى عن الموت ، بل تتحرك تحت ظلال الموت . وهذه الفُسحة المتاحة للإنسان( الحياة ) محصورة في زنزانة ضيقة، تقترب جُدرانها من الإنسان ( السجين ) يوماً بعد يوم. ولا يمكن الهرب من الموت بأية وسيلة ، فلا مفر منه ، ولا يمكن التخلص من الموت إلا بالموت . يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

لَعَمْرُكَ إنَّ الموْتَ ما أخطأَ الفتى          لكالطِّوَلِ المُرْخَى وَثِنْياهُ باليَـدِ

     إن الشاعرَ يُقسِم أن الموت في مدة إخطائه الفتى ، أي مجاوزته إياه ، بمنزلة حبل طول للدابة ترعى فيه وطرفاه بيد صاحبه .
     والموتُ لا يُخطِئ الفتى، ومعنى الإخطاء هو المجاوزة . أي إن الفُسحة التي يتحرك فيها الإنسانُ كالفُسحة التي تتحرك فيها الدابة المربوطة بحبل طرفاه في قبضة مالكها . ومهما اقتربت الدابةُ أو ابتعدتْ فستظل تحت هيمنة صاحبها، لأنه يسيطر عليها بواسطة الحبل الذي لا تَقْدر على الإفلات منه . وكما أن الدابة لا تَقْدر على التخلص من قَيْدها ، فكذلك الإنسان لا يَقْدر على التخلص من قَيْده . والموتُ بمنزلة صاحب الدابة التي أرخى لها الحبلَ .
     وَحَسْبَ منظور الشاعر ، فإن حياة الإنسان إنما هي وقتٌ مُسْتَقْطَع سَمَحَ به الموتُ . والإنسانُ يتحرك تحت عَيْن الموت الذي يُراقب تحركاتِ البشر ، بعد أن أعطى الإذنَ بممارستها . وبالتالي ، فالحياة الإنسانية برمتها تتحرك في ظلال الموت ، ولا يمكن الإفلاتُ من ساعة النهاية إذا حانت .
     والشاعرُ يُعطي للموت مشيئةً ذاتية ، ويَجعله سيداً على الحياة ، وفاعلاً لا مفعولاً به . وهذه العقيدةُ نابعة _ بصورة غير مباشرة_ من عدم إيمان الشاعر باليوم الآخِر. فقلبُ الشاعرِ يَخلو تماماً من الإيمان بمَلَكِ الموت ، وأنه مُوَكَّل بقبض الأرواح ، وأن الموت مفعول به وليس فاعلاً .
     فالموتُ _ في فلسفة الشاعر _ حالةٌ مستقلة قائمة بذاتها ذات سياق منفصل تماماً عن الإيمان بالغيب ، ومتى شاء الموتُ قاد الإنسانَ إلى نهايته الحاسمة ، لأن الإنسان واقع في شِباك الموت ، وقضيةُ النهايةِ قضيةُ وقتٍ _ لا أكثر ولا أقل _ ، وهذا الوقتُ يحدِّده الموتُ بأن يشدَّ الحبلَ .
     وفي هذا السياقِ يَظهر عجزُ الإنسانِ المطْلقُ ، وتمركزه في أشد لحظات ضَعفه وانكساره . وأنه مجرد ردة فعل بلا حَوْلٍ ولا قوة ، يَستجيب _ رغم أنفه _ للفعل الأعلى ( الموت ) . وهذا الموتُ يمتلك السُّلطةَ المطْلقة على الحياة الإنسانية ، لأنه القوة المهيمنة ، والفعل القاهر الذي لا يَصمد أمامه شيء. ويَظهر _ أيضاً _ من سياق الفكر الشِّعري عند طَرَفة أن الحياة الإنسانية مجرد منحة من الموت الذي أرخى الحبلَ لكي تدور عَجلةُ الحياة . وبعبارة أخرى ، إن الموت له اليد الطولى في هذا الوجود ، لأنه أذنَ للحياة بالحركة والدوران ، وسمحَ للإنسان بالتحرك ، ولو بشكل مؤقَّت .
     ويؤكد الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى استحالةَ الفرار من الموت ، وعدمَ إمكانية الهروب منه . ولكن الشاعر يُقدِّم منظورَه الخاص ، ويَطرح فلسفته الذاتية في الموضوع ، ويؤسس منظومةً شِعرية ذات علاقة وثيقة بالموت ، وعدم القدرة على الإفلات منه . يقول زُهير بن أبي سُلمى :

ومَن هَابَ أسبابَ المنـايا يَنَلْنَهُ          وإنْ يَرْقَ أسبابَ السماءِ بِسُلَّمِ

     الخوفُ من الموت شعورٌ إنساني طبيعي وغريزي . فالفِطرةُ الإنسانية متعلقة بالحياة وزينتها ، وتَنفر من النهاية القاصمة التي تتجلى في الموت ( النقطة على آخر سطر الوجود الإنساني ) . لكنَّ الخوفَ من الموت لا يُجدي نفعاً ، وليس له أي تأثير في مقاومة الموت أو منعه أو تأجيله . ولا يمكن لأحدٍ أن يتحصن من الموت . ولو أمعنَ الإنسانُ النظرَ في قضية الموت لآمنَ أنه ذاهبٌ إلى الموت بقدميه من حيث لا يَدري .
     واللافت في الموضوع أن الخوفَ من الموت يصير موتاً بحد ذاته ، وهذا هو الموت في الحياة . وهناك أمواتٌ كثيرون يتحركون في الحياة ، قضوا حياتهم أمواتاً منتظرين المِيتة الكبرى النهائية الحاسمة . وفي أحيان كثيرة تكون الإجراءاتُ التي يتخذها الإنسانُ لحمايته من الموت هي سبب هلاكه . وكما قيل : مِن مَأمنه يُؤتى الحَذِرُ. 
     ومَن خافَ أسباب المنايا نالته ، ولا فائدة من خوفه وهيبته إياها ، ولو رامَ الصعود إلى السماء فراراً منها . وبعبارة أخرى ، مَن هابَ طرقَ المنايا أن يَسلكها تأتيه المنايا . إذن ، فالموتُ واقعٌ لا محالة ، تعدَّدت أشكالُه لكن المضمون واحد .
     والإنسانُ محاصَرٌ بالموت من كل الجهات ، يَهرب من الموت إلى الموت. ولو قرَّر أن يَصعد إلى السماء بسُلَّم هروباً من الموت لأدركه الموتُ . وهذا أعظم حصار في تاريخ الوجود الإنساني . إنه الحصار الذي يَفرضه الموتُ على الإنسان الذي يَقف عاجزاً أمامه بلا حِيلة ولا وسيلة .
     ويؤكد الشاعر لَبيد بن أبي ربيعة أن الموت لا يمكن الفرار منه ، وجميعَ المخلوقات تقف أمامه عاجزةً لا حَوْلَ لها ولا قوة ، فيقول :

صَادَفْنَ مِنْها غِرَّةً فَأَصبنَهـا         إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُهـا

     والشاعرُ يتحدث عن عالَم الحيوانات، ويصف في صدر البيت عملية الافتراس الأساسية في مملكة الحيوان . فهو يقول : صَادفت الكلابُ أو الذئابُ غفلةً من البقر فأصبنَ تلك الغفلة أو تلك البقرة بافتراس ولدها ، أي وجدتها غافلة عن ولدها فاصطادته . إنها الغفلة القاتلة التي أدَّت إلى القتل والنهاية. وهذا هو قانون الغاب ، حيث القويُّ يَقتل الضعيفَ ، وكلُّ مخلوقٍ يتربص بالآخر ويراقب نقاطَ ضعفه ، والكُلُّ ضد الكُل . إنه الصراعُ المأساوي في عالَم الحيوانات المنطلقة من الغريزة لا العقلِ .
     ثم يؤسس الشاعرُ في عجز البيت فلسفةَ الموت . والموتُ لا يوجد في عالَم الإنسان فَحَسْب ، بل أيضاً موجود بكثافة في عالَم الحيوان ، ويملك حضوراً طاغياً بسبب الاحتكام إلى الغريزة ، والفِطرة المتوحشة ، دون وجود أي أثر للعقل أو المنطق .
     وها هُوَ يؤكد الحقيقة الساطعة التي يَخضع لها كلُّ المخلوقات" إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُهـا " . فلا مفر من الموت ، لأن الموتَ لا يُخطِئ هدفَه . وسِهامُ المنايا لا تَطيش ، أي لا تُخطِئ . ولفظُ "السِّهام " يشير إلى قسوة الموت وخشونته ودقة إصابته ، فهذه السهام تَعرف طريقَها جيداً ، ولا تَحيد عنه . إن مسارَها مرسومٌ بدقة منذ نقطة الانطلاق حتى نقطة الوصول ( الإصابة ) ، وهي تخترق أجسادَ المخلوقات التي تقف عاجزةً تماماً أمام هجوم الموت الذي لا يَستسلم ولا يَتراجع .

7_ نشر خبر الوفاة :

     إن العقليةَ الجاهلية محصورة في قيم الشرف ، والمجد ، وانتشار الصِّيت ، ونيل ثناء الناس وإشادتهم . فهي عقليةٌ دنيوية غارقة في الرياء والشُّهرة والسُّمعة، ولا يوجد في قاموسها الوثني قيمُ الإخلاص لله تعالى ، أو العمل ابتغاء وجهه الكريم . فهذه المعاني غائبة تماماً عن الفكر العربي في الجاهلية . وقد كانت نيةُ العربيِّ الباعثة على العمل ، هي صناعة تاريخه الشخصي ، وتاريخ قبيلته ، وتحقيق المكاسب الروحية والمادية في الحياة الدنيا _ لا أكثر ولا أقل _ . ووفق المنظور الجاهلي لا توجد حياةٌ بعد الموت ، ولا يوجد ثواب أو عقاب . إذن ، فالدنيا هي البداية والنهاية، وهي أكبر الْهَم ، ومَبْلغ العِلم ، ومنتهى الآمال والآجال. ومن هنا نفهم فلسفةَ الحرص على نشر خبر الوفاة، وإشاعته بين الناس .
     يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فإنْ مُتُّ فانعيني بما أنا أَهْلُــهُ          وَشُقِّي عَليَّ الجَيْبَ يا ابنةَ معبَدِ

     لا يُريد الشاعرُ أن يموت مجهولاً ، وهو يَرفض أن يكون نكرةً في هذه الحياة . لذلك يوصي ابنةَ أخيه ( معبد ) أن تنشر خبر وفاته مع الإطراء والتبجيل . إنه حريصٌ على خلود ذِكْره بين الناس بعد رحيله ، وحريصٌ أيضاً أن تُطبِّق شهرته الآفاق بعد موته. يريدُ إشاعةَ خبر هلاكه. وقد وكَّل ابنةَ أخيه بهذه المهمة بعد مماته . يوصيها أن تنعاه بما يستحقه من الثناء. والنعي هو إشاعةُ خبر الموت. ومن خلال هذا الرؤية ، يتضح حرصُ الشاعر على تلميع صورته بعد وفاته ، وترسيخها في الأذهان لكي تظل عصيةً على النسيان أو التجاهل . إنه في سباق مع الزمن ، ويحاول الاستثمار في التاريخ . يحاول صناعة تاريخه الشخصي ، والحصول على الخلود في كل الأزمنة ، والبقاء حياً بين الناس رغم رحيله جسدياً .
     يقول لها : إذا هلكتُ فأشيعي خبرَ هلاكي بمدحي الذي أستحقه وأستوجبه . كما يوصيها أيضاً بشق الجيب حزناً عليه. ولا يَخفى أن حزن المرأة ممزوج بالبكاء .
     والجيبُ ما يُفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس ، والمراد بشقِّه إكمال فتحه إلى آخره ، وهو أحد أشكال النياحة، ومن علامات السخط، ورفض القضاء والقَدَر ، وعدم التسليم بالأمر الواقع.
     إن الشاعرَ يحس أن عمره قصير ، ويستشعر قُربَ رحيله . وقد كان إحساسُ الشاعر صادقاً ، فقد ماتَ طَرَفة بن العبد وهو في السادسة والعشرين من العُمر . وهذا ليس غريباً ، فالشاعرُ قد عاشَ حياته بشكل عابث متهور ، وأقحمَ نَفْسَه في مشكلات كثيرة ، وصنعَ له أعداء كثيرين .
     وهذا الشعورُ بدنوِّ الأجل ملتصقٌ بالحنين إلى دفء الأنثى ، والحاجة إلى حنانها وعطفها ورعايتها . فالشاعرُ عندما يَسبح في مدار الموت ، يكون مكسوراً وعاجزاً وغارقاً في لحظة ضَعفه ، وربما تكون هذه أفضل لحظة لتذكر الدفء الأنثوي ، لذلك نراه في لحظة الضعف هذه ، يخاطب ابنةَ أخيه، ويبدو أنها كانت قريبةً من عَمِّها الشاعر، وتكنُّ له مشاعر الحب والاحترام . ولو كانت غير ذلك لَمَا ذَكَرَها في هذا الموقف الحرج . إنه يَستعين بها لكي تُكمِل مسيرته نحو المجد بعد مماته ، وهذا يتجلى في نَعْيه ومدحه والثناء عليه وترسيخ صورته " المثالية " في أذهان الناس . ولا يوجد أفضل من النساء في ندب الموتى ، والحزنِ على الأموات .
     وهكذا يتضح الدورُ العبثي للمرأة الجاهلية . فهي مجرد بُوق لإيصال رسائل الجزع والسخط . وضعها المجتمعُ في هذه المهنة الدونية، وهي ارتضتها بلا أدنى اعتراض . فصار شَقُّ الجيوب أو اللطمُ أو النياحة من الصفات الملازِمة للمرأة العربية. وهذه الخِصالُ القبيحة صارت ماركة مُسجَّلة باسم المرأة، وصارت المرأةُ والسَّخط وجهَيْن لعملة واحدة صَكَّها المجتمعُ الجاهلي البدائي .

8_ " الموت صُدفة" :

     يمثِّل الموتُ صدمةً فكرية في المجتمع الجاهلي الوثني . والكثيرون لا يَقدرون على تحمُّل هذه الصدمة الشديدة ، وهذا قادهم إلى اعتبار الموت مجرد عملية عبثية ، ولعبة صبيانية ، لا طائل من ورائها . وهذه نظرةٌ نابعة من صميم العقيدة الوثنية التي لا تؤمن بالحياة بعد الموت . وأصحابُ هذه العقيدة الفاسدة يَضعون وجودَهم تحت شعار" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع ". فالموتُ_ عندهم _ هو نهاية المطاف ولا شيء بعده . يقول الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

رَأيتُ المنايا خَبطَ عَشواء مَن تُصِبْ           تُمِتْه وَمَنْ تُخطئْ يُعَمَّر فيهـــرَمِ

     إنه يَعتبر الموتَ مقامرةً غير محسوبة، متأرجحةً بين النجاح والفشل . والموتُ   _ في نظر الشاعر _ سهمٌ قد يُصيب الهدفَ ، وقد يُخطئه . وهو بذلك لا يَرى أيةَ قوة محرِّكة للموت ومسيطرة عليه . وإنما يَنظر إليه باعتباره فِعلاً ميكانيكياً غامضاً ونابعاً من ذاته ، ومتذبذباً بين إصابة الهدف وعدم إصابته . والموتُ في منظور الشاعر كالقطار الذي قد يَلتزم بالسكة فيصل إلى وجهته، وقد يَنحرف عنها فلا يصل إلى المحطة المقصودة .
     والشاعرُ عاشَ لمدة طويلة ، وامتدَّت به الحياة حتى قاربَ المئة أو كاد . وقد سئمَ من حياته الطويلة ، واشتاقَ إلى الموت لأنه اعتبره راحةً من الملل والسآمة والروتين . ولم يَجد تفسيراً لطول عُمره وبلوغه مرحلة الهرم إلا اعتقاد أن الموتَ أخطأه ، وأن سهمَه طاشَ هذه المرة . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار القرف الذي وصلَ إليه الشاعرُ ، وجعله يستعجل الموتَ ، ويتمنى قدومَه بأسرع وقت .
     ولا شك أن زُهيراً_ بسبب طول عُمره _ قد رأى الكثيرين من الأقارب والأصدقاء والأعداء قد ماتوا. إنهم يَتساقطون واحداً تلو الآخر على مرأى منه ومسمع . لذلك عندما يقول : (( رَأيتُ المنايا )) ، فهذا يدل على خبرة تراكمية . ولكنَّ هذه الخبرة لم تزده إلا انحرافاً وضلالاً وسآمةً . فهو يَعتبر أن المنايا تصيب الناس على غير نسق وترتيب وبصيرة كما أن الناقة تطأ على غير بصيرة. والعشواءُ هي الناقة التي لا تُبصِر ليلاً . ثم قال : من أصابته المنايا أَهْلَكَتْهُ وَمَن أخطأته أبقته فبلغ الهرم . إذن ، فالموت _ وفق هذه الرؤية _ نسقٌ عابث ، وعملية عشوائية تفتقد إلى البصيرة، ولا تتمتع بدقة الإصابة. ولا قوةٌ مسيطرة على الموت ، ولا منطقٌ يَحْكمه . والعمليةُ برمتها تُشبه لعبة القِمار ، قد يفوز فيها الشخصُ وقد يَخسر .

9_ لا أحد يَعود من الموت :

     يُشكِّل الموتُ رحلةً بلا عودة. ذهابٌ بلا إياب. وكلُّ شخصٍ غابَ سَيَرْجع يوماً ما، إلا غائب الموت فإنه لا يَرجع. وهذه المفارَقةُ الصادمة تعكس عَظَمةَ الموت، وضآلةَ الإنسان الضعيف الذي سَيَرْحل رغمَ أنفه ، ولا أمل في عودته . فالموتُ هو السَّفرُ النهائي ، والرحلةُ الأخيرة .
     يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

وكلُّ ذي غَيْبةٍ يَـؤوبُ          وغائبُ الموْتِ لا يَؤوبُ

     يُقسِّم الشاعرُ الغَيْبةَ إلى قِسْمَيْن: غَيبة يؤوب منها الإنسانُ ، أي يَرْجع . وغَيبة لا يؤوب منها.
     والغَيبةُ الأولى يمكن أن تكون سَفَراً أو هجرةً أو رحلةً عادية .. إلخ . وهذه الأمورُ ليست نهاية المطاف ، ولا تُعَدُّ نقطة النهاية لحياة الإنسان . وكلُّ غَيْبةٍ من هذا النوع يَرجع منها الإنسان ، لأنها غَيبة وقتية زائلة سُرعان ما تنتهي ، ولا تشكِّل تهديداً لوجود الإنسان . 
     أمَّا الغَيبةُ الثانية ، فهي غَيبةُ الموت التي لا يمكن الرجوع منها إطلاقاً . فغائبُ الموتِ ذهبَ ولن يَعود . وهذا الأمرُ بديهي ، ويُعتبَر مُسلَّمة لا تَقبل النقاش عند جميع العقلاء _مهما كانت عقائدهم وأجناسهم _ .
     وهذا البيتُ قد يَبدو للوهلة الأولى عادياً وتقريرياً ومباشِراً ، ولا شِعرية فيه . إلا أن المتأمل فيه يجد الشِّعرية كامنة في عملية المقارنة التي تحمل معاني الأضداد والتنافر والتعاكس . والمفارَقةُ الواضحة في البيت ( يَؤوب / لا يَؤوب ) هي فلسفة الخلاصة الشِّعرية . والمقارنةُ بين هاتين الغَيْبَتَيْن تُبْرِز معنى الموت وخصائصه بصورة شديدة الوضوح ، وبضدِّها تتبيَّن الأشياءُ .

10_ الموت مُقدَّر :

     إن التفكر في الموت يؤدي إلى إدراك حقيقة أنه مُقدَّر، وخاضعٌ لقوة عُليا هي قوة الخالق تعالى. ولا يمكن أن يكون الموتُ عبثاً أو لعبةً عمياء . فلكلِّ مخلوقٍ أجلٌ محدَّد ، لم يمكن تقديمه ولا تأخيره.
     يقول الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وإنَّا سَوْفَ تُدرِكنا المنايا          مُقَدَّرَةً لنا وَمُقدَّرينــا

     ومن هذا المنطلق الشعري، تبرز المعادَلةُ الوجودية الحاسمة : (( الموتُ خُلق للإنسان، والإنسانُ خُلق للموت/الموتُ مُقدَّر للإنسان، والإنسانُ مُقدَّر للموت )). وهذه التبادلية واضحةٌ في فلسفة الشاعر. فهو يقول: سَوْفَ تُدركنا مقاديرُ موتنا ، وقد قُدِّرت تلك المقادير لنا ، وقُدِّرنا لها .
     إذن ، فالقضيةُ محسومةٌ منذ الأزل ، ودقيقة إلى حَد العِصمة من الخطأ . فالموتُ لا يُخطِئ هدفَه أبداً . فالموتُ سوفَ يُدرِك الناسَ أينما كانوا ، وهو مُقدَّر لهم ، كما أن الناسَ مُقدَّرون له . وهذا يشير إلى أهميةِ اللقاء بين الإنسان والموت ، وحتميةِ المواجَهةِ غير المتكافئة . واعتماداً على هذا المبدأ الأساسي يمكن القول إن الإنسانَ والموتَ وجهان لعُملة واحدة ، لا يَقْدر أيٌّ منهما على الهرب من الآخر. ومُنذ ولادة الإنسان ارتبطَ مصيرُه بالموت، فالولادةُ هي بدء العَد التنازلي ، وهي نقطة الانطلاق نحو لقاء الموت .
     ولا يَخفى أن فِعلَ التقدير ( تقدير المنايا للناس، وتقدير الناس للمنايا ) لا يمكن أن يقوم بذاته، بل هو خاضعٌ للفاعل المسيطر على هذه العملية ، والفاعلُ هو اللهُ المقدِّرُ الذي وَضع كلَّ شيء في نِصابه الصحيح ، وقَدَّر أقواتَ الخلائق ومقاديرَ الموت منذ الأزل . ولن تَموت نَفْسٌ حتى تستوفيَ أجلَها كاملاً غير منقوص .