العقائد الدينية في شعر المعلقات
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 5/8/2017
..................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 5/8/2017
..................
إن العقيدة الدينية حاضرة في شِعر المعلَّقات
على الرغم مِن كَوْن أصحابها وثنيين . وقد وَصلتهم الكثير من العقائد الدينية ،
لكنهم خَلطوها بالشِّرك ، ولم يتمكنوا من جعلها صافيةً . وينبغي ألا ننسى أن العرب
مِن ذُرية إسماعيل بن إبراهيم _ عليهما الصلاة والسلام _ ، وهما نَبِيَّان كريمان
قاما بأداء دورهما في إيصال الرسالة الإلهية إلى الناس . كما أن العرب عاشوا في
بيئة يتواجد فيها اليهود والنصارى . وهذا يعني أن بَعْضاً من تعاليم موسى وعيسى _
عليهما الصلاة والسلام _ قد وَصلتهم . ومن الطبيعي أن يتأثر الجو العربي بعقائد
أهل الكتاب .
ومن المؤسف أن طول المدة
الزمنية بين الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام _ وبين عرب الجاهلية قد أدى إلى حدوث
تلاعب كبير بالعقائد الدينية في البيئة العربية ومزجها بالأصنام والأفكار
الشِّركية دون وجود بصيص أملٍ ، أو ظهور ضوء في آخر النفق . ولا يَخفى أننا نتحدث
عن الفترة الزمنية السابقة لظهور النبي محمد_عليه الصلاة والسلام_،حيث كانت
الجزيرة العربية غارقة في الظلام العَقَدي.
وعلى الرغم من كَوْن عقائد شعراء
المعلَّقات_بشكل عام_ مضطربة ومشوَّشة،ويَختلط فيها الحقُّ بالباطل ، إلا أنها
متفقة على الإيمان بوجود الله تعالى وتعظيمه ، وتعظيم الكعبة التي تُعتبَر القِبلة
المقدَّسة ، ومركز الوجود الديني في الجزيرة العربية . وقد كان عربُ الجاهلية
لا يبنون بنياناً مُربَّعاً ، ويَعتبرون ذلك خطاً أحمر ، وذلك تعظيماً للكعبة ،
لكي تظل متفردة ومميَّزة عن باقي الطُّرز المعمارية .
وهذا الفصلُ سيتناول
عقيدةَ شعراء المعلَّقات الظاهرة في أشعارهم . ولا يَخفى أن أساس كل عقيدة دِينية
هي وجود الله تعالى . كما أن هذا الفصل سيتطرق إلى كشف الظروف الاجتماعية والأبعاد
النفسية ذات الارتباط الوثيق بالعقيدة والقيم الدينية .
1_ العقيدة في الله :
لم يكن شعراءُ المعلَّقات مجموعةً من البدو العائشين في الصحراء بلا تاريخ.
ولم يكونوا أشخاصاً عاديين محصورين في نظام استهلاكي شهواني . بل كانوا فلاسفة
تَشغلهم الأسئلةُ الكبرى حَوْل الإنسان والجماعة والحياة والموت والوجود والمصنوع
والصانع . وكانوا أصحابَ تأملاتٍ حقيقية في هذه الحياة الدنيا ، وهذا لا يتعارض مع
كَوْنهم أبناء بيئتهم الصحراوية البدائية ، وإفرازاتها المادية الفجَّة .
والشاعرُ الجاهليُّ
متعلِّقٌ بالأسباب الدنيوية ، وغارقٌ في العلائق المعيشية في واقعه اليومي المحسوس.
وعندما تُغلَق الأبوابُ في وجهه، فإنه يتذكر خالقَ الأسباب، ويتعلق بالقوة الإلهية
المحرِّكة للعلاقات الدنيوية. وهذا دَيْدن غالبية الناس في كل العصور .
وإننا لنجد الشاعر طَرَفة
بن العبد يعيش حياته بالطُّول والعَرْض دون حساب . وعندما يغرق إلى شحمة أذنيه في
مشكلاته الشخصية ، وأزماته الاجتماعية والاقتصادية ، فإنه يتذكر قدرةَ رَبِّه
اللامحدودة ، فيقول :
فلوْ شاءَ رَبِّي كُنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن
مَرْثَدِ
فحينما اشتد عليه الخِناقُ ، وضاقت عليه
الأرضُ بما رَحُبت ، ووَجد نَفْسه عاجزاً أمام ضغوطات الحياة اليومية ، أخذَ
يفكِّر في قُدرة الله تعالى ، ويَبني عقيدته وفق المشيئة الإلهية .
فهو يقول إن الله لو شاءَ لجعله قيس بن خالد
أو عمرو بن مرثد . وهذان رَجلان من سادات العرب في الجاهلية، مشهوران بكثرة
الأموال ، وذكاءِ الأولاد ، وشرفِ النَّسَب ، وعِظَم الحسَب .
لقد أدركَ طَرَفة حجمَ المأزق الذي يَغرق
فيه، فلم يَعترف بتقصيره، أو بأخطائه، أو سوءِ تصرفه الذي أورده المهالك . بل هربَ
إلى الأمام ، وذلك بالتعلق بالمشيئة الإلهية . وكأنه يقول إنه لا ذَنْب لي في
وصولي إلى هذه الحالة المزرية . فلو شاءَ اللهُ لجعلني سيداً من سادات العرب ،
ولكنه لم يشأ ذلك . إذن ، فالمشيئةُ الإلهية لا يمكن مقاومتها،وأنا لا ذَنْب لي
بالموضوع. وهكذا يتملص_وفق منظوره الشخصي_ من كل مسؤولية ولَوْم .
وهنا يَظهر قصورُ الفهم في موضوع المشيئة
الإلهية ، ويبرز الخلطُ بين مشيئة الله تعالى بمعنى تعلُّق إرادته بوقوع شيء ما ،
وبين مشيئة الله التي رَبطت الأسباب والمسبِّبات . فلا بد من الأخذ بالأسباب
لتحصيل المال ، والحصول على الأولاد . فالسماءُ لا تُمطِر ذهباً ولا فضة . كما أن
الأولاد لا يأتون من الهواء ، وإنما يأتون من العلاقة بين الرَّجل والمرأة .. إلخ.
وهذا المعنى المتكوِّن من السبب والمسبِّب غائبٌ بالكلية عن ذهن الشاعر الذي كان
حريصاً على إيجاد " صَك غُفران " يُريحه من عذاب الضمير ، ويَحميه من
نظرات الناس . فوجدَ في فهمه المغلوط للمشيئة الإلهية خلاصاً له ، ونهايةً لآلامه
، وتبريراً لأخطائه . كما أن فهمه المغلوط يَعكس المرارةَ العميقة التي تتأجج في
ذاته ، واعترافاً ضمنياً بانهياره وسوءِ حاله ، وفقدان الثقة بمن حَوْله . ومن
الملاحَظ أيضاً أن نظرة طرفة _ في هذا السياق _ كانت ماديةً بحتة، فقد اعتبر هذين
الرَّجلَيْن ( قيس بن خالد وعمرو بن مرثد ) مثلاً أعلى، وقُدوةً سامية تَرنو إليها
الأنظار ، وتنتهي إليها الآمال . وهما رَجلان مشهوران بالمال والأولاد، ولَيْسا
مشهورَيْن بالعِلم أو الثقافة أو الشِّعر_على سبيل المثال_. وهذا يشير إلى أن
المال والأولاد كانا الرُّكنين الأساسِيَّيْن في بناء المنظومة الاجتماعية
الجاهلية ذات الصبغة المادية المنبثقة من البيئة الصحراوية القاسية .
إن الفهم المغلوط للمشيئة الإلهية يتماهى مع
الفهم المغلوط للقضاء والقَدَر، حيث إن الكثيرين يَضعون فشلَهم ، وفقرَهم ،
وعجزَهم ، وخطاياهم ، تحت مظلة القضاء والقَدَر لكي يَرتاحوا من تأنيب الضمير ،
ووخزِ الواقع المؤلم ، ولَوْمِ الناس الذي لا يَنتهي . وهذا يدل على وجود ثقافة
تبريرية منتشرة على نطاق واسع ، لا تعترف بالخطأ والخطيئة ، وإنما تظل تَدور
حَوْلهما للإفلات من تأثيرهما . وهذا إن دَلَّ على شيء ، فإنما يدل على وجود ضغط
هائل _ مِن قِبَل عناصر البيئة الاجتماعية_ على الفرد والجماعة . وفي كثير من
الأحيان يكون الوقتُ الذي يستغرقه تبريرُ الأخطاء كافياً لإصلاحها .
والعربُ في الجاهلية _ بشكل عام _ كانوا
يَرفضون الاعتراف بالخطأ ، ويَعتبرونه خطاً أحمر . فهُم يَنظرون إلى "
الاعتراف بالخطأ " على أنه إهانة للفرد ، وتدنيس لرمزية القبيلة ومكانتها،
وتدمير للمنزلة الاجتماعية ، وخضوع للآخرين ، وتسليم بشروطهم . لذلك كان العربُ
يترفعون عن الاعتراف بالخطأ، ويتكبرون على الحق، بدافع العصبية القَبَلية وعوامل
أخرى ذات صبغة شخصية ومجتمعية . وهكذا تتجلى حَمِيَّةُ الجاهلية في أعنف صورها،
وتبرز في المرجعية الذهنية ، وتَظهر في التطبيقات الواقعية .
ونجد الشاعر زُهير بن أبي سُلمى قد وصلَ إلى
حقيقة أن اللهَ محيطٌ بكل شيء ، وأن عِلْمه شامل لكل الأشياء ، ولا يمكن أن يحدَّه
حَد . فاللهُ مُطَّلع على خبايا النفوس. والإنسانُ هو كتابٌ مفتوح أمام خالقه ،
ولا يمكن إخفاء شيء عنه .
يقولُ الشاعرُ زُهَيْر بن أبي سُلمى :
فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم لِيَخفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ
وهذا البيتُ يشتمل على موعظة دينية وأخلاقية في آن معاً . والشاعرُ يُطالِب
بعدم إضمار الغدر ونقض العهد، وتبييتِ نية الخيانة . وهذا الإضمارُ _ إن حَصَلَ_
فإن الله يَعْلمه ، لأنه عالِم بالسرائر ، وكاشفٌ لضمائر العباد . والشاعرُ يُثبِت
صفة العِلم لله . ولا شك أنه وصل إلى هذه العقيدة عن طريق اختلاطه بأهل الكتاب .
ففي الجاهلية ذات الصبغة الوثنية لم يكن الناسُ معنيين بمعرفة الصفات الإلهية، ولم
يهتموا_ بالأساس_ بهذه المباحث. وهي بالتأكيد كانت ضمن عقائد أهل الكتاب التي اطَّلع
عليها الشاعرُ ، واعتنقها ، وبثَّها في شِعره .
ولم يكتفِ زهير بإثبات صفة العِلم لله ، بل
أيضاً نراه يتحدث عن عقائد مرتبطة باليوم الآخر الذي يُعتبَر الإيمانُ به ناسفاً
للعقائد الوثنية في البيئة العربية . فالعربُ يَعتبرون الموتَ هو النهاية التي لا
شيء بعدها ، لذلك لا يؤمنون باليوم الآخر والبعث والنشور والحساب. وشعارُهم في هذه
القضية" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع " ، وانتهى الموضوعُ . أمَّا زُهير بن
أبي سُلمى _ وهو ابن البيئة الجاهلية الوثنية _ فقد خالفَ إفرازاتِ العقلية
العربية ، وخرجَ عن المسار الوثني بشكل كامل ، مخالِفاً تقاليد الآباء المتوارثة .
يقول زُهير :
يُؤَخَّر فيُوضع في كتابٍ فَيُدَّخَر ليَوْمِ الحسابِ أو يُعَجَّل فيُنقَمِ
فهو يؤمن بأن الله يُؤخِّر العِقابَ
ويُؤجِّله ، فهو يُمهِل ولا يُهمِل . والأعمالُ تُوضَع في كتاب ، وتُسجَّل فيه بكل
دقة. ويُدَّخر ليوم الحساب ، أو يتم تعجيل العقوبة في الدنيا ، فَيُنْتَقَم من
المسيء. وهذا معناه أن العقوبة قادمة لا محالة _ آجلاً أو عاجلاً _ ، ولا مهرب
منها . وهذا اعترافٌ واضح من الشاعر بوجود الله ، وعِلْمه بالجزئيات والكليات .
وأيضاً ، الإيمان باليوم الآخر ، والبعث ، والحساب ، وكتابة أعمال العِباد في
الصُّحف .
إن زهيراً يَكشف عقيدته المضادة لتاريخ
قَوْمه ، والمخالِفة للتراث الوثني المنتشر في البيئة العربية التي نشأ فيها،
وعاشَ فيها . ولا يَخفى أنه شاعرٌ جاهلي ماتَ قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية.
فمن أينَ استقى هذه العقائد الغَيْبية التي كانت بعيدةً كلَّ البُعد عن الذهن
العربي ؟. لقد استقاها_حتماً_ من أهل الكتاب المؤمنين بالله واليوم الآخِر والبعث
والحساب. وهذا يشير إلى مخالطته لأهل الكتاب ، والاستماع إليهم، والاطلاع على
عقائدهم . كما يدل على حُب زهير للمعرفة والاطلاع ، وبحثه عن الحقيقة ، وعدم أخذ
عقائد قَوْمه الوثنيين كمسلَّمات . فهو دائمُ البحث للوصول إلى الحق لكي يَحصل على
الطمأنينة ، ويَتخلص من القلق الرهيب الذي كان يتلاعب به ضمن النسق الجاهلي .
فعدمُ الاطمئنان إلى عقائد آبائه وقَوْمه العائشين في بيئته جعله قَلِقاً ، كثيرَ
التفكير . وهذا أدى إلى بحثه عن عقيدة جديدة تشعره بالأمان الروحي ، والسَّكينة
العاطفية ، والراحة الجسدية .
وبالطبع ، لم يَجد أفضلَ من
أهل الكتاب الذين يُقدِّمون أنفسهم كوارثين للإرث النبوي ، إرث موسى وعيسى _
عليهما الصلاة والسلام _ ، وكأصحاب رسالة سماوية تتجلى في التوراة والإنجيل ، وليس
رسالة أرضية وضعية . وبالتأكيد ، لقد نَظر زهير إلى أهل الكتاب باعتبارهم المثل
الأعلى ، والقُدوة السامية ، وحاملي الوحي الإلهي . وهذا جعله ينضم إليهم روحياً
وعَقدياً على الرغم من بقاء جسمه مع أبناء جِلْدته في بيئته العربية الجاهلية .
وها هُوَ الشاعر لَبيد بن أبي ربيعة يُبرِز
أهميةَ الإيمان بما قَسَمه اللهُ تعالى ، وضرورة الرضا بالقِسمة والنصيب . فاللهُ
الخالق هو أعلمُ بالناس من أنفسهم ، وأرحم بهم من أمهاتهم ، وقد قَسَمَ المعايشَ
والخلائق بالعدل ، وما على الإنسان إلا الرضا والتسليم والتزام القناعة .
يقول لَبيد :
فاقْنَع بما قَسَمَ الْمَليكُ فإنما قَسَمَ الخلائِقَ بَيْننا عَلَّامُها
وهنا تَظهر أهميةُ القناعة بالقِسْمة الإلهية . فاللهُ تعالى قَسَمَ لكل
شخص ما يستحقه من غنى أو فقر ، كمال أو نقص ، رِفعة أو ضعة . وهذه الأمورُ لم تجيء
عبثاً أو بمحض الصُّدفة ، لأن قَسَّامَ المعايش هو عَلَّامها الذي يَعلم كلَّ شيء
. وبما أن عِلم الله كاملٌ وشاملٌ، إذن .. فالقِسمة الإلهية ستأتي معصومةً لا
تَقبل التشكيك أو الطعن، ولا خيار للإنسان إلا الاقتناع بها ، وقبولها بكل صدر رحب
.
إن عِلْمَ الله شاملٌ لكل شيء ، ومحيطٌ
بالجزئيات والكليات . وهذه الحقيقةُ تَظهر في قول الشاعر الحارث بن حِلِّزة :
وَفَعَلْنا بِهِم كما عَلِمَ اللهُ ومَا إنْ للحائنين دِمـاءُ
إنه يَفتخر بقومه الذين سَحقوا أعداءهم ،
وفَعلوا بهم فعلاً بليغاً لا يُحيط به عِلماً إلا الله تعالى. فالبشرُ لا يمكنهم
تصوُّر هذا الفِعل العظيم، والإحاطة به . وَحْدَه الله هو القادر على الإحاطة به ،
لأن عِلمه شاملٌ وغير محدود . والشاعرُ في هذا السياق يُبيِّن أمرَيْن أساسيَّيْن
: الأول _ تعظيم فِعل قَوْمه ، وإعلاء شأنهم ، وبسط نفوذهم ، وصناعة هالة إعلامية
حول أمجاد القبيلة . والثاني _ إظهار سَعة عِلم الله ، فهذا العِلمُ لا بداية له
ولا نهاية. وعِلمُ البشر المحدود عاجزٌ عن الإحاطة بفعل قَوْمه بسبب عَظَمته .
واللهُ هو الذي يُحيط به عِلماً لأنه الخالق الكامل الذي لا يَطرأ عليه نقصٌ ، ولا
يُصيبه نسيان أو ضعف .
ويواصل الشاعرُ تعظيمَ قَوْمه ، والحط من
شأن أعدائهم . حيث يقول إنه لا دماء للمتعرِّضين للهلاك أو الهالكين . وبعبارة
أخرى ، لم يُطالب أحدٌ بثأرهم ودمائهم . لقد ذَهبت دماؤهم هدراً ، ولم يأخذ أحدٌ
بثأرهم ، بل لم يُطالِب أحدٌ _ أصلاً _
بثأرهم . وهو يُصوِّرهم في هذا النسق كبشر تافهين لا تاريخ لهم ، ولا قبيلة
تَسندهم ، ولا أحد يسأل عنهم ، أو تهمُّه أخبارهم . إنهم مجرد جِيَف وضيعة .
دماؤهم ذَهبت أدراجَ الرياح . وقد قُتلوا مجاناً ، فَهُم مخذولون لم يَنصرهم أحدٌ
في حياتهم، ولم يُطلَب بثأرهم بعد قَتلهم. عاشوا وماتوا وكأنهم أرقام ، مجرد أرقام
ذَهبت إلى النسيان .
والشاعرُ يَهدف إلى تصويرهم كأصحاب منزلة
اجتماعية وضيعة، لا اسم لهم، ولا تاريخ لهم . ولو كانوا من أصلٍ كريم شريف ،
ويَنتمون إلى قبيلة قوية، لتمَّت المطالبة بدمائهم والأخذ بثأرهم _ على أقل تقدير
_. وبما أن هذا الأمر لم يَحدث ، إذن .. فهُم أشخاص بلا أي وزن ، عاشوا وماتوا دون
أن يَسأل عنهم أحدٌ ، وهذا منتهى الذل والخزي والعار .
وفي هذا السياق تَظهر فلسفةُ الشِّعر الجاهلي
في زمن الحروب والنزاعات . حيث يتم إعلاءُ شأن القبيلة وتلميع اسمها ، ورسم هالة
مقدَّسة حَوْلها ، ووصفها بكل الصفات الحسنة ذات التأثير الإيجابي في النفوس. وفي
المقابل يتم تدمير صورة القبيلة المعادِية ، والحط من شأنها ، وتلطيخ اسمها ،
والتفتيش عن عيوبها ، أو اختراع عيوب لها ، ولصق كل الصفات القبيحة بها ، والتي
تَجعل الناسَ يَنفرون منها ، ويُصابون بالقرف عندما يَسْمعون باسمها . إنها حربٌ
إعلامية شَعواء تَجري على قَدَم وساق يقودها الشعراءُ. فالشاعرُ هو وزيرُ إعلام
القبيلة المنافِح عن أمجادها، والهادم لأمجاد أعدائها.
إن الصراع بين القبائل يَحمل صبغةً هستيرية
قاسية ، فلا توجد ضوابط لهذا الصراع الدموي، ولا توجد حدود للحروب القَبَلية . فكلُّ
شيء مسموح في هذه الحروب الطاحنة ، والغايةُ تبرِّر الوسيلةَ. والمهمُّ أن تَعلوَ
كلمةُ القبيلة ، ولا تَسقط مهما حَصَلَ . فالقبيلةُ هي حَجَرُ الزاوية ، وهي رأس
الأمر في الجاهلية . وكلُّ القدرات مُسخَّرة لحفظ مكانتها ، وإعلاء شأنها بين
القبائل .
يقول الحارثُ بن حِلِّزة :
فَهَداهم بالأسْوَدَينِ وأمرُ اللهِ بِلْغٌ تَشْقَى بهِ الأشقيــاءُ
يُعطي الشاعرُ وصفاً سريعاً للعسكر . فقادَ
هذا العسكر ، وزادهم التمر والماء ( الأَسْودان ) ، أي إنهم جهَّزوا أنفسهم بالتمر
والماء ، وذلك لكي يَحصلوا على القوة ، ويَستطيعوا الوقوفَ في وجه الأعداء . وكلُّ
قوةٍ عسكرية بحاجة إلى تموين وتغذية جيدة كي تَقْدر على أداء دورها بشكل فعَّال .
والتمرُ والماءُ هما مَصدرا الطاقة للعسكر والجيوش .
ويُبرِز الشاعرُ عقيدته في الله تعالى ، فهو
يَعتقد أن أمرَ الله بالغٌ مَبالغهِ يَشقى به الأشقياء في حُكمه وقضائه . ولا شيء
يَقف في طريق الأمر الإلهي . فأمرُ اللهِ نافذٌ لا محالة ، لا يُوقفه شيء . ومَن
كُتب عليه الشقاءُ فسوفَ يَكون من الأشقياء ، ولا فرصة أمامه للهرب .
والشاعرُ يُصوِّر الأعداءَ كأشقياء خاضعين
لأمر الله تعالى ، ولا مجال أمامهم للخروج من دائرة الشقاء . وهكذا نرى الشاعرُ
قَد وَضعهم في القائمة السوداء معتمداً على فهمه للأمر الإلهي . وهو بذلك يُحاول
جعلَ أمر الله في صَفِّه وصَفِّ قَوْمه _ إن جاز التعبير _ ، وضد الأعداء . وهنا
تبرز قضية غاية في الخطورة ، وهي توظيفُ العقيدة الدينية لصالح العَصَبية
القَبَلية . وكأن الشاعرَ يَهدف إلى " احتكار أمر الله " لصالحه وصالحِ
قَوْمه. فَمَن عادى قَوْمه فقد أدخل نَفْسَه في دائرة الشقاء الأبدي ، لأن اللهَ
غالبٌ على أمره ، وأمرَه سَيَبْلغ مَبالغه ، ولا توجد قوة قادرة على مواجهته .
وهكذا يَظهر لنا قضية توظيف الدِّين لخدمة الدنيا ، واستخدام العقيدة لتحقيق أغراض
شخصية ، ومصالح قَوْمية .
ومن الجدير بالذِّكر أن الشاعر لم يُعْطِ
تعليلاً لسبب شقاء الأعداء . ولكنْ من الواضح ، أن سبب شقائهم _ حَسْبَ منظور
الشاعر _ هو وقوفهم ضد قَوْمه . ومَن وَقفَ ضد قَوْمه فكأنما وَقف ضد الله تعالى
الذي لا يمكن مواجهته ، ولا يمكن إيقاف أمره النافذ .
وإذا انتقلنا إلى الشاعر
النابغة الذبياني نجده معنياً بكلام الله لأنبيائه . وكلامُ الله هو صفةُ اللهِ
القديمةُ، فالكلامُ صِفةُ المتكلِّم . كما أن النُّبوة مَظهرٌ لتجليات الرحمة
الإلهية على البشر .
واللهُ تعالى كان قادراً على
تَرك البشرية تَهوي في الضلال ، لكنه _ سبحانه _ اختارَ أن يُرشدَ الخلائقَ إليه ،
ويُنقذهم من الضلال ، ويَمنحهم السعادة في الدنيا والآخرة ، لذلك أرسلَ إليهم
الأنبياء الذين كانوا أفضلَ المعلِّمين والمصلِحين . والشاعرُ مُهتم بالتوجيه
الإلهي لأنبيائه ، وإبراز التعاليم السماوية وعلاقتها بمقام النُّبوة ،_ وكل ذلك
طبعاً حَسْبَ اعتقاده وتصوُّره _ .
يقول النابغة الذبياني :
إلا سُليمان إذ قال الإلهُ لـهُ قُم في البَرِيَّة فاحددها عن الفنَدِ
وهنا تتَّضح عقيدةُ الشاعر ،
فهو مؤمنٌ بالله تعالى ، والوحي الإلهي ، والنُّبوة . وقد أوردَ اسمَ النبي سليمان_عليه
الصلاة والسلام_. ويقول الشاعرُ إن الإلهَ قال لسليمان الحكيم: قُم في البَرِيَّة،
فاحبسها عن الخطأ في الرأي والقول ، وامنعها من الظلم .
وهذا يُشير إلى إيمان الشاعر
بالكلام الإلهي ، والوحي السماوي ، وكَوْن تعاليم السماء تَحمل رسالةَ الخير والحق
والفضيلة ، ونشر العدل بين الخلائق ، ومنعها من الظلم أو الخطأ . وهنا تَظهر
قناعةُ الشاعر بأهمية اتصال الأرض بالسماء ، وأهمية التوجيهات السماوية العُليا
لصلاح العالَم السُّفلي ( الأرض ) .
وينتقل النابغة الذبياني إلى
تمجيد الله تعالى ، وإظهار قوته ، وقدرته على حماية مخلوقاته ، وإحاطتهم بالأمن
والأمان ، فيقول :
والمؤمنِ العائذاتِ الطيرَ تمسحها رُكبانُ مكة بين الغِيْل والسَّعدِ
والمؤمِن هو الله تعالى الذي آمَنَ عائذاتِ
الطير وأجارها وحماها . وهي التي عاذت بالْحَرَم ، أي التجأت إليه فوَجدت الأمانَ
والحمايةَ ، تلَمسها أو تزورها رُكبانُ مكة بين الغيل والسعد ، وهما أجمتان بين
مكة ومِنى .
إن اللهَ يُجِيرُ ولا يُجار عليه. وهذه
الحقيقة آمن بها النابغة الذبياني، وسطَّرها في شِعره، ووضعها في صورة فنية.
فالطيرُ في الْحَرَم آمنٌ على نَفْسه ، لا أحد يتعرض له بسوء ، وما كان هذا
لِيَحْدث لولا أن الله آمنَ الطيرَ من الخوف ، وحماه من كل مكروه .
فاللهُ هو المؤمِن الذي يَرْجع إليه الأمنُ
والأمانُ ، ولا أحد يَقْدر على منحهما سواه . فهو واهبُ الأمن . والأمنُ عكس
الخوف. ولا يَخفى أن المؤمِن هُوَ اسم من أسماء الله الحسنى. وهذه المعاني أشارَ
إليها الشاعرُ ، فلا بد أنها كانت راسخةً في قلبه وعقله .
والشاعر عُبَيْد بن الأبرَص يُمجِّد اللهَ
تعالى في شِعره، ويُورِد بعض المعاني الهامة . فهو يشير إلى أن سائلَ الله لا
يَخيب ، فمن يُقبِل على الله تعالى سوفَ يُقبَل ، ولن يُرَدَّ خائباً . وهنا تبرز
أهميةُ الاستعفاف، وقطعِ علائق الخضوع للناس. وتتضحُ ضرورة التوجه إلى الله
بالكُلِّية، لأنه_ سبحانه_ لا يُخيِّب مَن دعاه ، ولا يَحْرم سائلَه . يقول عُبيد
بن الأبرص :
مَن يَسأل الناسَ يَحْرِموه وسَائلُ اللهِ لا يَخيــبُ
فالذي يَسأل الناسَ ويتوجه إليهم سيحرمونه ،
ويردونه خائباً. فالناسُ غارقون في نظام مادي ، وبعيدون كل البعد عن المشاعر
الإنسانية ، كما أن حرصهم على الدنيا ، وتكالبهم عليها ، والإمساك بالشهوات
بالأظافر والأسنان ، كل هذه العوامل تجعل الناس يُديرون ظهورهم لمن يسألهم ،
ويَحرمونه من كل خير . أمَّا الذي يَسأل اللهَ تعالى ، فإنه سيفوز بمراده ولن
يَخيب . فاللهُ لا يَطرد من يأتيه ، فهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه ، ولا يخاف من
الفقر ، ولا يخشى تقلباتِ الزمان . والشاعرُ قد عَرَفَ الناسَ وعجنهم وخبزهم ،
فوجدهم أصحاب صفات سيئة ، حريصين على مصالحهم الذاتية ، ولا يُفكِّرون في مساعدة
الآخرين . لقد غسل يده من الناس، وتوجَّه إلى الله تعالى، فهو المتَّصف بالكمال
والكَرَم ، ولا يَرُد من يسأله . والمخلوقُ لا يستحي أن يرد أخاه خائباً مكسوراً ،
أمَّا اللهُ العظيمُ فيستحي من عبده الضعيف إذا بَسط إليه يديه أن يرده خائباً .
وهنا يتضح الفرق بين صفات الخالق الكاملة وصفات المخلوقين الناقصة .
ويقول عُبَيْد بن الأبرَص :
باللهِ يُدْرَكُ كلُّ خَيْــرٍ والقَوْلُ في بَعْضِه تَلْغيبُ
لا
سبيل للوصول إلى الخير بدون التوفيق الإلهي. وإذا استعانَ الشخصُ بالله تعالى،
فإنه سَيُدْرِك كلَّ خير . أمَّا إذا اعتمد على نَفْسه ومواهبه الذاتية فسوفَ يضل
الطريقَ ، لأن الإنسان عاجزٌ ، وخاضعٌ لقوة أعلى منه ، إنها قوة الله تعالى. كما
أن الإنسان _ بِحُكْم ضَعفه _ لا يَقْدر على جلب الخير أو دفع الشر اعتماداً على
ذاته . فالعاجزُ لا يمكن أن يَصدر عنه الكمالُ . لذلك يقرِّر الشاعرُ أن كلَّ خير
إنما يُدرَك بالله . فاللهُ هُوَ الكاملُ ، ولا يَصْدر عن الكامل إلا الخير
والكمال .
ويشيرُ الشاعرُ إلى أهمية الكلام ، وضرورة
اختياره بعناية فائقة . فالإنسانُ قد يَقول قَوْلاً بلا تدبر ولا تفكير، فيكونُ
منه ما لا خير فيه. ففي بَعض القول تلغيبٌ ، أي : ضعف أو إتعاب لقائله. وهذا
الكلامُ غير المحسوب قد يجرُّ شراً على صاحبه ، ويكون سبباً في هلاكه . وكَم مِن
شخص سَقط ضحيةَ لسانه ، وكَم مِن إنسان قتله لسانُه . لذلك قيل : لسانُ
العاقلِ مِن وراء قلبه ، وقلبُ الجاهل مِن وراء لسانه . يعني أن العاقلَ يفكِّر بالكلام قبل أن يَنطق به ، فإن كان خيراً
نطقَ به ، وإن كان شراً لم يَنطق به. أمَّا الجاهلُ فيُلقي الكلامَ دون تفكير،
وبعد ذلك تبدأ رحلةُ الندم _ حين لا يَنفع
الندم _.
والكلمةُ كالرصاصة إذا انطلقتْ فلا يمكن إرجاعها ، ولا بد أن تُصيب شيئاً ما . كما
أن الإنسان هو مالِكُ كلامِه ما دامَ كلامُه في صدره ، فإذا خرجَ الكلامُ صار
الإنسانُ أسيراً لكلامه .
ويقول عُبَيْد بن الأبرَص :
واللهُ لَيْسَ لهُ شَـريكٌ عَلَّامُ ما أَخْفت القلوبُ
إنه إقرارٌ بوحدانية الله تعالى . وهذا
الإقرارُ يجيء من قلب البيئة العربية الوثنية التي تعتمد الشِّركَ بالله رأساً
للعقائد، ومَصْدراً للتشريع الدِّيني والاجتماعي بكل إفرازاته . لقد استمع الشاعرُ
لنداء الفِطرة التي تقرِّر وحدانيةَ الله تعالى ، وخالفَ عقائدَ الآباء ، وعارضَ
الموروثَ الديني في بيئته الغارقة في تقديس الأصنام وعبادتها تقرُّباً لله تعالى .
فها هو يقرِّر أن الله واحدٌ في ذاته ،
وواحدٌ في صفاته ، ليس له شريكٌ أرضي ولا سماوي . ومِن صفاته تعالى أنه عَلَّام ما
أَخفت القلوبُ ، مُطَّلع على السرائر ، لا تخفى عليه خافية . والذي يَعرف خبايا
القلوب الباطنة ، يَعرف أعمالَ الإنسان الظاهرة . والمنطقُ يقول إن معرفةَ الظاهر
أَهْونُ من معرفة الباطن . وعند اللهِ ، كلُّ شيء هَيِّن ، لا يُعجزه شيء ، ولا
يَصعب عليه شيء .
2_ الحلفُ بالله :
الحلفُ باللهِ تعظيمٌ لله تعالى، وتعظيمٌ
لمقام الأُلوهية . فالإنسانُ حين يمرُّ في موقفٍ صعب ، وتُحيط به الأزمات، فإنه
يلجأ إلى خالقه تعالى، وتختفي أمامه قوة الكائنات الحية، وقوة الجمادات ، فلا يعود
يرى إلا القوة العُليا السَّامية ، قوة الله تعالى ، فيلجأ إليها . والحلفُ بالله
يَشتمل على هذه المعاني .
يقول امرؤ القيس :
فقالتْ يَمينَ اللهِ ما لكَ حِيـلةٌ وَما إنْ أرى عنكَ الغَوايةَ تَنْجلي
يَخبرنا الشاعرُ عن حبيبته ، فقد حاصرها من
كل الجهات ، ولم يترك لها منفذاً للتهرب أو الهرب ، ويَرفض أن يَتركها وشأنها .
وعندما أحسَّت الحبيبةُ أن دائرةَ الحِصار قَد أُطبقت عليها ، زالت القوى البشرية
المحدودة من قلبها وعقلها ، ورأتْ قوةَ خالق البشر، فاعتمدتْ على الحلف بالله في
هذا المأزق الخطير الذي وَقعت فيه. فهي في حالة اضطرار لا اختيار . والإنسانُ _
عادةً _ لا يَلجأ إلى الحلف إلا في المواقف الصعبة. وكأن الحلفَ في هذا الموضع
يَحمل نداء استغاثة ضمنياً، أو طلب مساعدة خفياً . والإنسانُ _ عندما تُغلَق في
وجهه كل الأبواب وتتساقط أمام عينيه الأسباب والمسبِّبات _ ، فإنه يفرُّ إلى خالق
الأسباب، ويُهرَع إلى بابه .
وها هِيَ تقول: أحلف بالله، ما لي حِيلة
لإبعادكَ عني ، ولا سبيل إلى دَفعكَ ، وليسَ لكَ حَل . وهنا يبرز ضعفُ الأنثى
وعجزها أمام شهوة الذَّكر الجامحة ، وإلحاحه الشديد . فالعاشقُ قد أَحكم قَبضته
على المرأة التي يُحبُّها، ولا يَسمح لها بالفرار أو الهروب من هذا المأزق . فقد
وَصلا إلى نقطة اللاعودة ، وهو يُريد استغلال هذا الموقف حتى آخر لحظة ، فقد لا
يتكرر ثانيةً . وإذا سَيطرت الشهوةُ على الأعضاء ، فإن صوتَ العقل يتلاشى ، وتصبح
الغريزةُ هي القوةَ الضاربة ، وصاحبةَ اليد الطولى .
إنها لم تجد حِيلةً ولا حَلاً لإصرار الشاعر
، ولا ترى في الأفق بارقةَ أمل . فهي مقتنعة أن الضلالة مسيطرة على الشاعر ، ولن
يُفلِت منها . وقد أَعْمته هذه الضلالة فلم يَعد يرى غيرَ لذة القرب من الحبيبة،
مهما كانت الأخطار المحدِقة مثل : انكشاف أمره أمام الناس ، أو التسبب بفضيحة لا
أول لها ولا آخر ، أو معرفة الأهل بالموضوع ، خصوصاً أهل الحبيبة .
وينبغي تذكُّر أن المجتمع الجاهلي هو مجتمع
قَبَلي مُغلَق لا مجتمع مُنفَتح متحرر . وهذا المجتمعُ المغلَق المحافِظ يَحرص على
قيم الشرف ، وصَوْن الأعراض . والجميعُ على استعداد لبذل دمائهم رخيصةً من أجل
حماية سُمعة القبيلة ، وحماية أعراض نسائها . وهذه القضيةُ لا مُساوَمة فيها ، ولا
مُساوَمة عليها . لذلك ما قامَ به الشاعرُ يُمثِّل مغامرةً خطيرةً. إنه يَلعب
بالنار، ومع هذا لم يكترث بهذه النار لأنه في جنَّة الحبيبة .
وقد قال الرواة : (( هذا أغنج بيت في
الشِّعر )) . وكأنهم يَستشعرون انكسارَ الحبيبة أمام حبيبها ، ويَعتبرون أن
كلامَها لا يَنبع من قلبها ، وإنما يَنطلق من وراء قلبها ، وأنها تتمنَّع وهي
راغبة . وبعبارة أخرى ، إنها تريد بقاءَ حبيبها معها ، ولكنها لا تَقدر على
التصريح بهذا ، لِمَا في الأمر من خطورة أكيدة. وكأنها تقول له بلسان المقال :
ابتعدْ عني ، أمَّا لسانُ حالها : اقتربْ مني . أي إنَّ قلبَها وعقلَها يَسيران في
مسارَيْن متوازيَيْن ولا يَلتقيان .
وبشكلٍ عام ، سيظل حَلْفُها بالله تعالى مؤشراً
واضحاً على صعوبة الموقف ، والمعاناةِ الشديدة التي تكابدها روحياً ( عاطفياً ) ،
ومادياً ( جسمانياً ) .
ونَنتقل من الحلف في المجال العاطفي الذي
يتعلق بمشاعر فردية ، إلى الحلف في المجال السياسي العسكري الذي يتعلق بحياة
الجماعة ، ومصائر الكثيرين .
يقول
زهير بن
أبي سُلمى :
ألا أَبْلِغِ الأحلافَ عني رسـالةً وَذُبيانَ هل أَقسَمتُم كلَّ مُقسَمِ
إنها رسالةٌ سياسية إصلاحية تمس حياةَ الفرد
والجماعة . فالشاعرُ هنا يَلعب دوراً هاماً في الفكر السياسي القَبَلي ، ويقدِّم
نَفْسَه كزعيم عشائري وداعية سلام ، يَجْمع ولا يُفرِّق ، أو وسيط دبلوماسي هَمُّه
تقريب وجهات النظر ، وجمع الأطراف على كلمة سَواء . وهذا جانبٌ مهم من جوانب شخصية
الشاعر ، فهو لا يَكتفي بترتيب الكلام ، وصناعة الصور الفنية الجَمالية . إنه
يُحوِّل شِعْرَه إلى نظرية في عِلم الاجتماع السياسي ، ويَجعل كلامه وثيقةَ صُلح
ومحبة بين القبائل المتناحرة .
وقد اندلعت حربٌ طاحنة بين قَبيلة عَبْس
وقبيلة ذُبيان . وقد نصَّب الشاعرُ نَفْسَه رَجلَ سلام وصُلح ، ووضع شِعْرَه في
سياق إنهاء الحرب ، وإشاعة السلام والوئام . وهذا يدل على بُعد نظره ، وكَوْنه
مثقَّفاً عُضوياً ، أي منخرطاً في قضايا مجتمعه ، وهموم أفراده وطموحاتهم .
يقول الشاعر : أَبلغ ذُبيان وحُلفاءها ،
وقُل لهم قد حَلفتم على إبرام الصُّلح كل حلف ، فاحذروا من الحنث باليمين.
فالشاعرُ يَدعوهم إلى حفظ اليمين. فهذه
قضيةٌ لا تحتمل التلاعب، ولا تَقبل التحايل . فالحنثُ باليمين يُعتبَر وصمة عار،
ويُشير إلى سوءِ الأخلاق ، وخبث السريرة ، وفساد الطباع ، ويدل على انهيار الشخصية
الإنسانية، وتلاشي القِيَم.
وبالإضافة إلى هذا، فاليمين متعلِّق بإبرام
الصُّلح ، وإنهاء حالة الحرب بين عَبْس وذُبيان . ويترتبُ على الحنث به عودة الحرب
، وإزهاق الأرواح ، وإتلاف الممتلكات . فلا بد من تذكيرهم باليمين ، وضرورة
الالتزام به . فالالتزام به طريقُ الخير والسلام والمصالحة القَبَلية ، أمَّا
الحنثُ به فهو طريق الشر والحرب والدمار الحتمي .
ويقول النابغة الذبياني :
حَلفتُ فلم أترك لنفسكَ رِيبةً وليس وراءَ الله للمرء مَطْلبُ
إن الشاعرَ يؤكد أنه قد حَلَفَ ، ولولا أن
الأمر جليل لما أَقدم على هذا الأمر . وقد أَقدم على الحلف لأنه يريد ألا يترك في
نَفْس المخاطَب شَكاً ولا رِيبة . وليس بعد اليمين بالله مجال لطلب غير ذلك من
الحجج ، فلا بد من تصديقه وعدم تكذيبه، وهذا ما يَطمح إليه الشاعرُ، وقد جاءَ
باليمين من الأجل الوصول إلى هذه الغاية ( تصديقه وتَنْزيه كلامه عن الكذب ) .
فاليمينُ بالله هو أعظمُ حُجَّة، وأكبر دليل. وإذا لم يُصدِّق المخاطَبُ هذا اليمينَ
، فلن يُصدِّق شيئاً ، وستنهشه الوساوسُ والشكوك .
3_ تعظيمُ الكعبة :
تعظيمُ الكعبة عقيدةٌ أساسية في الجاهلية .
فالكعبةُ هي بيتُ الله الذي طاف حَوْله الأنبياء والناس من بعدهم، وهي مركزُ
الوجود الدِّيني في الجزيرة العربية ، ومحط أنظار العرب من شتى القبائل ، ومَوْضع
حَجِّهم، وبيت أبيهم إبراهيم _ عليه الصلاة والسلام _ ، ومأوى أفئدتهم ، وحاضنة
أصنامهم. وقد كان عربُ الجاهلية لا يَبنون بنياناً مُربَّعاً تعظيماً للكعبة ،
وحِفظاً لمكانتها وتميُّزها . لذلك ،
فليس غريباً أن يُحلَف بها ، وأن تُذكَر في المعلَّقات . ولَوْلا مكانتها السامية
لما تم تعليق أشعارهم عليها .
يقول الشاعرُ زهير بن أبي سُلمى :
فأقسمتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حَوْلَه رِجالٌ بَنَوْهُ من قُرَيْشٍ
وَجُرْهُـمِ
لقد بدأ كلامَه بالقَسَم بالكعبة المشرَّفة،
ولَوْلا عَظَمتها لَمَا أقسمَ بها . ولا يكتفي بالقَسَم بها ، بل يُركِّز _ أيضاً
_ على قضية الطواف بها . وهو يشير إلى مَن طافَ حَوْلها ، وهُم رِجالٌ قاموا
ببنائها ، ويَنتمون إلى هاتَيْن القبيلتَيْن . جُرهم : وهي قبيلة قديمة تزوَّج
فيهم إسماعيل _ عليه الصلاة والسلام _، فَغَلبوا على الكعبة والْحَرم بعد وفاته ،
وضعف أمرُ أولاده ، ثم استولى عليها بعد جُرهم خُزاعة ، إلى أن عادت إلى قُرَيْش (
وهو اسم لولد النضر بن كنانة ) .
ولم يَكتفِ الشاعرُ بتعظيم الكعبة وإبراز
قُدسيتها ومكانتها الجليلة عن طريق القَسَم بها ، بل _ أيضاً _ يُبرِز الحالةَ
التاريخية المحيطة بالكعبة . وكأنه يُريد توضيح الأصول التاريخية للكعبة ، والقول
إن مقدَّسات العرب لها تاريخٌ ضارب جذوره في الأعماق ، وليست مقدَّسات سطحية جاءت
صُدفةً ، أو تم اختراعها دون سند حضاري أو تاريخي .
ونراه يُنوِّه بقُرَيْش وجُرهم ، ويُظهِر
دورهما التاريخي في بناء الكعبة ، والسيطرة عليها ، وبَسط النفوذ على الْحَرم .
وهُما قبيلتان عريقتان لهما وزنٌ مهم في حضارة الجزيرة العربية ، وتاريخهما جزءٌ
من تاريخ الكعبة. ولا يَخفى أن القبائل تَنظر إلى الكعبة باعتبارها المركز ،
وتَنظر إلى القبيلة التي تَغلب على الكعبة على أنها سَيِّدة القبائل بلا منازِع ،
والقبيلة الأولى المقدَّمة في كل المحافل . فالأمرُ لا يَقف عن الدلالة الدينية،
بل يحتوي_كذلك_ على دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية شديدة الأهمية ، ولا يمكن
تهميشها بأية حال من الأحوال .
ويقول الشاعرُ النابغة الذبياني :
فلا، لَعَمْرُ الذي مسَّحتُ كعبتَــه وما هُريق على الأنصاب من جسدِ
يَحلفُ الشاعرُ بربِّ الكعبة التي مَسَّحها
، أي طافَ بها ولَمَسَها . وهنا تَظهر إحدى الشعائر التعبدية ، وهي الطواف حَوْل
الكعبة ولَمْسها للتبرك بها . كما تَظهر إحدى الشعائر الوثنية التي كانت تُدنِّس
الكعبةَ المشرَّفة، وهي الذبحُ للأصنام ، وتقديم القرابين للآلهة . فالأنصابُ هي
حجارةٌ كانت تُنصَب في الجاهلية ، وتُذبَح عليها الذبائح ، فيسيل الدمُ على
الأنصاب . وهذه التفاصيل وضَّحها الشاعرُ من أجل إظهار عقيدته الإيمانية ( الإيمان
بالأصنام الآلهة والالتزام بكافة الطقوس التعبدية من ذبحٍ ، وتقديم قرابين ، ...
إلخ ) . فالشاعرُ ملتزم بدِين آبائه الموْروث بكل تفاصيله ، ولا يَحيد عنه . وهذه
القضيةُ _ بالنسبة إليه _ قضية مبدأ لا مساوَمة فيها .
وهذا الطقسُ الديني ( الذبح على الأنصاب )
شديد الأهمية في العقيدة الوثنية الجاهلية ، لأنه تجسيدٌ عملي لفكرة الولاء
للأصنام الآلهة ، والانتماء إلى دِين الآباء والأجداد . والأصنامُ هي الفلسفة
العَقَدية المركزية في دِين العرب قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية .