قوانين العشيرة في شِعر المعلقات
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/8/2017
..................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/8/2017
..................
تُعْتَبَر العَشيرةُ (
القبيلةُ ) هي مركز التشريع في المجتمع الجاهلي ، ومَنْبع القِيَم الروحية
والمادية ، والحَكَم على أفكار الأفراد وسلوكهم الاجتماعي . وبالتالي ، فليس
غريباً أن تتكرس هذه الوَحدة الاجتماعية الأساسية ( العشيرة ) كنسقٍ شِعري وسياسي
واجتماعي .
وبما أن الشِّعرَ انعكاسٌ للواقع ، وثورةٌ على الواقع ، وصناعةٌ لواقعٍ
جديد ، كان من الطبيعي أن تَظْهر قيمة العشيرة في شِعر المعلَّقات . فبرزت سُلطةُ
العشيرة وهيمنتها على سلوك الأفراد وقُدرتها على عقاب الخارجين على قانون العشيرة
.
وعلى الجانب الآخر ، ظَهرت قضيةُ إنقاذ الأفراد للعشيرة ، وتضحيتهم بالغالي
والنفيس من أجل رَفْع شأنها بين العشائر، وصيانة شرفها ، وتقديمها في أجمل صُورة.
وهذه القِيَم مرتبطة بشكل وثيق بالدفاع عن العشيرة ، وحمايتها من كل الأخطار
والتحديات الداخلية والخارجية. وبالطبع ، فحمايةُ العشيرة لَيْست شِعاراً في
الهواء. إنها منظومة مُكوَّنة من القَوْل الصادق والفِعل التطبيقي على أرض الواقع
، يَحْملها فُرسان العشيرة الذين هُم العَيْن الساهرة على حماية العشيرة وأفرادها
وإنجازاتها ، وهُم السُّور العالي الذي يَرْدع الأعداءَ الطامعين ، ويَرُدُّهم
خائبين مكسورين .
وتتَّضح فِكرةُ تماسك العشيرة ، وترابطها الاجتماعي ، وبُروزها كمنظومة
مُوحَّدة خاضعة لكلمة واحدة ، فلا تناقض بين مُكوِّنات هَرم السُّلطة القَبَلية ،
فالتناسقُ الدقيقُ هو السِّمة التي تَصْبغ هذا الهرم من القاعدة حتى الرأس .
ولا يمكن تجاهل قِيمة الفخر بالآباء، والتمسكِ بتقاليدهم،والسَّيْر على
خطاهم، فهُم القادة المؤسِّسون لتراث القبيلة ، والصانعون لتاريخها. والافتخارُ
بهم هو افتخارٌ بالقَبيلة ومُنجَزاتها . كما لا يمكن تجاهل الصراع بين القبائل
الذي هو عنوان أساسي في المجتمع الجاهلي ، حيث الاحتكام لمنطق السيف ، وتكريس
الغزو والغزو المضاد.
1_ سُلطة العَشيرة :
تتجلى سُلطة العشيرة في قُدرتها على مُكافأةِ المحسِن ومُعاقبةِ المسيء .
ويمكن القول إن المنظومة السُّلطوية العشائرية هي منظومة الإمساك بالعصا والجَزَرة
، والسيطرة على المال والسيف . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
إلى أَنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها وَأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ
المُعَبَّدِ
إن السلوكَ المنحرِف
للشاعر قد سَبَّب له المتاعب ، وجعله غارقاً في الهموم والتحديات . وهذا السلوكُ
العبثي قد جَلب غَضَبَ العشيرة ونِقمتها . فكانَ من الطبيعي أن تتم مُعَاقَبة
الشاعر ، وذلك من أجل إعادته إلى الحظيرة العشائرية . وقد اختار رِجالُ العشيرة
أسلوب المقاطَعة والحصار وفرض العُزلة . وبالطبع ، فهذا إجراء ذو تأثير قوي في
النَّفْس البشرية لأنه يُشعِرها بأنها معزولة ومرفوضة ومنبوذة. وبالتالي ، فهناك
فرصة كبيرة لمراجعة الإنسان نَفْسه ، والعودة إلى حِضن العشيرة ( الأُم الكبيرة ). وهذا أمرٌ في غاية
الأهمية، ففي المجتمع القَبَلي البدائي القاسي ، من الصعب على المرء أن يتحرك بدون
عَشيرة تَحْميه ، وتسانده ، وتُوفِّر له الرعاية والأمن ، وتمنحه التاريخَ ،
وتُحيطه بمآثر الآباء والأجداد .
لقد تأثَّر الشاعرُ
بالعُزلة التي فَرَضَتْها عليه عشيرته ، فهو يَعترف_ بكل أسى _ أن عشيرته قد
تَحَامَتْهُ ( تَجَنَّبَتْهُ وَاعْتَزَلَتْهُ ) . ولا بد أن هذا القرار المصيري قد
اعتمده شيخُ العشيرة ، فصارَ قراراً جَماعياً ساري المفعول على الكبير والصغير ،
لأن العَشيرةَ بأكملها قد تَجنَّبت الشاعرَ ، وهذا الفِعلُ الجماعي لا يمكن أن
يتكرس بدون معرفة شيخ العشيرة ورِجالاتها الكِبار وجميع أفرادها . وبعبارة أخرى ،
إن طبقاتِ الهرم الاجتماعي كلها قد صَادقت على هذا القرار المصيري . فلم يأتِ
الأمرُ كَنزوة أو حركة عفوية أو فِعل جزئي. إنهُ فِعْلٌ جماعي لا يَمْلك أحدٌ أن
يخالفه.
يحسُّ الشاعرُ بألم
كبير، وحَسرةٍ عارمة . فعائلته الكبيرة ( العشيرة ) قد قاطعته، فصارَ وحيداً
معزولاً ، يُقاتِل نَفْسَه بِنَفْسه . كأنه غُصنٌ مقطوع من الشجرة ، أو عُضو فاسد
مبتور من الجِسم .
اسْتَوْلَت عليه مشاعرُ
الحزن والأسى ، وَوَصَلَ إلى الحضيض ، واستقر في مكانة دُونية تُشبِه مكانةَ
الحيوان ( البعير ) . لقد تَجنَّبته عشيرته كما يُتجنَّب البعير المعبَّد ( المطلي بالقَطِران ) ، وأَفْرَدَتْهُ (
عَزَلَتْهُ ) بسبب سلوكه المتهور ، وأفعاله الطائشة ، فهو مستمر في إضاعة المال،
والاشتغالِ بالشهوات واللذاتِ،وعدم تحمُّل المسؤولية.
صارَ الشاعرُ فَرْداً
معزولاً كالبعير ( الجَمَل ) الذي طُلِيَ بالقَطِران لِيُصبح ذليلاً خاضعاً
مستسلماً لمصيره ، وهذه غاية الامتهان . وبشكل عام ، إن البعير يُطلَى بالقطران
إذا أُصيب بالجرب ، وذلك كوسيلة علاج .
والحالةُ المزْرية التي
وَصَلَ إليها الشاعرُ بسبب سُوء أفعاله ، تعكس سَطْوةَ العشيرة وقُدرتها على
معاقبة الخارجين على قانونها، والمنحرفين عن النظام الاجتماعي القَبَلي. وما
إحساسُ الشاعرِ بأنه بعير مُعبَّد إلا مؤشر واضح على حُزنه، ويَأْسه ، واحتقاره
لنفْسه، والمرارة الكبيرة التي يَشعر بها .
2_ إنقاذ الأفراد للعشيرة :
كلُّ عَشيرة تنتظر من أبنائها أن يُقدِّموا
لها الدعم والمساندة ، وأن يُساهموا في حمايتها ، ورفع رايتها بين العشائر ،
وصناعة تاريخ مشرق لها . وهذه الحقيقةُ كانت واضحةً في أذهان الأفراد ، لذلك
أَخذوا على عاتقهم أن يَرْتقوا بعشائرهم ، ويَصونوها من كل الأخطار .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن
أبي سُلمى :
وَقَدْ قُلتما إن نُدرِك السِّلمَ واسعاً بمالٍ ومَعروفٍ مِن القَوْلِ نَسْلـمِ
القائلان هُما اثنان
من سادات العرب ( هَرِم بن سنان
والحارث بن عوف ) .
وهذان الرَّجلان أَخذا على عاتقهما وقف القتال الدموي بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان ، وقد ساهما بشكل فعَّال في حماية العشائر
من الفناء. وهنا يتجلى دورُ الأفراد المركزي في حماية العشيرة من كل المخاطر ،
وعلى رأسها القتل ( قتل الرجال ) . فإذا قُتل الرِّجالُ فقد انقرضت العشيرةُ ،
وزالت القبيلةُ من الوجود .
وهذان السِّيدان الكبيران قد قالا : إن أَدْرَكْنا السِّلمَ ( الصُّلحَ )
واسعاً بتقديم المال ونشر الخير ( المعروف ) سَلِمْنا من تفاني العشائر .
لقد سَيْطَرَ حُبُّ الخير على تفكير هذين الرَّجُلَيْن ، وقد كان بإمكانهما
أن يَبتعدا عن هاتَيْن القبيلتَيْن المتناحرتَيْن ، ولا يتدخَّلا في شؤونهما .
ولكنَّ النَّخْوةَ العربيةَ والسِّيادةَ القَبَليةَ والمكانةَ الاجتماعية،قادتهما
إلى اتخاذ موقف إيجابي فِعْلي لا شعاراتي.
إِن استطاعا إتمامَ الصُّلحِ والمصالَحةِ بين القبيلتين بتقديم
المال(الدِّيَات وغيرها)، ونشرِ ثقافة التسامح ، وبذلِ المعروف ، وتعميقِ القيم
الإيجابية ، فقد أَوْقَفا قَتْلَ الرجال، وحَفِظا العشائرَ من الموت والفناء
والنهاية الأليمة، وعندئذ يَعُمُّ السلامُ في المجتمع، وتتكرس قيمُ الأمن والأمان
.
وقد نجحا في هذا المسْعى بسبب النِّية الصادقة، ووجود برنامج تطبيقي ذِهني
تَمَّ تَنْزيله على أرض الواقع . وبالطبع ، فهذا الصُّلح لَيْس مجانياً . فالأمرُ
قد احتاجَ تنازلاتٍ حقيقية من طَرَفَي النِّزاع ( قَبيلة عَبْس وقَبيلة ذُبيان ) ، كما احتاجَ أموالاً هائلة لدفع
دِيَات القتلى الكثيرين ، وتسكينِ جِراح ذَويهم ، وإطفاء نار قلوبهم .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن
أبي ربيعة :
ولقدْ حَمَيْتُ الحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتي فُرُطٌ وِشاحي إذ غَدَوْتُ لجامُها
لقد حَمَى الشاعرُ
الحيَّ ( القبيلة ) بكل بسالة ، ودافع عن وجود عشيرته بكل قُوَّة . وقد كان
مستعداً للتضحية بالغالي والنفيس من أجل تاريخه وتاريخِ القبيلة .
يحرص الشاعرُ على إحاطة
نفْسه بهالة الفروسية والإقدام والتضحية في سبيل رِفعة القبيلةِ ومجدِ أبنائها.
فقد ذَكَرَ دَوْرَه المركزي في حماية قبيلته من كل الأخطار ، وأشادَ بهذا الدَّوْر
، ومدحَ نفْسَه بشكل واضح ، ورسمَ صورةً بطولية لتضحياته الهائلة من أجل حماية
القبيلة ( المنظومة الاجتماعية الأساسية ) .
ثم أَخْبَرَنَا عن
حقيقتَيْن تتعلقان بأجواء الحرب والقتال والفروسية . الحقيقة الأُولى : إن فَرَساً
سريعةً خفيفةً ( فُرُطاً ) تَحْمل شِكَّتَه ( سِلاحه ). والحقيقةُ الثانية : إن
لِجامَ الفَرَس هو وِشاح الشاعر .
وهاتان الصورتان تهدفان
إلى تقديم الشاعر كفارس مغوار ، وتصويره كنجم في عالَم الحروب والقتال. وهكذا تصبح
الصُّوَرُ الشِّعريةُ الحربيةُ وسيلةً إعلامية لصناعة نجومية الشاعر ، وتاريخِه
الشخصي ، وأمجادِ قبيلته . فكلُّ مجدٍ شخصي لا بد أن يتحوَّل _ في المجتمع العربي
القَبَلي _ إلى مجد للقبيلة بأسْرها ، والعكس صحيح .
والصورةُ الشِّعريةُ
الأُولى تشير إلى فروسية الشاعر وشِدَّةِ بأسه . فهو يَضَعُ سِلاحَه على فَرَس
سريعة، وذلك لكي يُقاتِل بكل كفاءة وسُرعة، وأيضاً لكي يَكون على أُهبة الاستعداد
لأي طارئ ، وفي أعلى درجاتِ الحِيطة والحَذَر . إنهُ المحارِبُ الأبدي الواثق
بنفْسه ، والجاهز في كل الأحوال . ففي احتدام القتال يَبْرز بكامل قُوَّته ،
يُقاتِل بشراسة وسُرعة . وفي حالة عدم القتال ، يَكون مستعداً وجاهزاً لكل
الاحتمالات لئلا يُباغِته الأعداء . وهكذا ، لا يَترك أيَّة فرصة للصُّدفة أو
المفاجأة ، فكلُّ الاحتمالاتِ تحت السيطرة .
والصورةُ الشِّعريةُ
الثانية تشير إلى صلابته الذهنية ، وقُوَّته البدنية ، فهو يُلقِي لِجامَ الفَرَس
على عاتقه فيكون بمثابة الوِشاح. وهو يتوشَّح باللجام ليكون على أُهبة الاستعداد ،
فإذا حدثَ أمرٌ ما ، ألجمَ الفَرَسَ وركبه بُسرعة دون إبطاء . وهكذا ، تتَّضح
فُروسيةُ الشاعر، فهو يَعتبر لِجامَ الفَرَس المصنوع من الحديد وكأنه وِشاح من
القُماش الناعم الذي يُغطِّي الوجهَ . إنهُ يتوشَّح بالحديد القاسي مثلما يتوشَّح
الناسُ بالقماش الناعم ، وهنا يَظْهر الفرقُ الجوهري بين الشاعر الفارس وغيره من
الناس ، فهو متفوِّق عليهم ، ولا يَقْدرون على الوصول إلى مكانته السامية في عالَم
الشجاعةِ والإقدامِ والحروبِ. كما أن قَوْلَه " إذ غَدَوْتُ " تدل على
انطلاقه في الصباح ، وهذا يدل على نشاطه ، وحيويته ، وتَمَتُّعه بروح المبادَرة .
3_ الدفاعُ عن أبناء العشيرة :
تُعْتَبَر نُصرة القريب
_ظالماً أو مظلوماً_ مِن أُسس المجتمع القَبَلي . إذ إن فلسفةَ العشيرة تقوم على
أساس تضافر الجهود الفردية ، وتعزيز منظومة الدفاع المشترك ، وذلك من أجل الوقوف
في وجه باقي العشائر كوَحدةٍ متماسكةٍ ، وقوةٍ رادعةٍ .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن
العبد :
وإنْ أُدْعَ للجُلَّى أَكُنْ مِن حُماتها وإنْ يَأْتِكَ الأعداءُ بالجَهْدِ أَجْهَدِ
يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ
اعتماده كناصرٍ للقبيلة ، وصانعٍ لأمجاد العشيرة ، ومُدافِعٍ عن أبنائها. وها هُوَ
يتعهد بالدفاع عن قريبه إذا تعرَّض لأي خطر أو أذى ، فالدفاعُ عن القريب دفاعٌ عن
الذات، والدفاعُ عن الذات دفاعٌ عن شرف العشيرة .
يقولُ : وإن دَعَوْتني
للجُلَّى ( الأمر العظيم ) أَكُن مِن حُماةِ حياتكَ وشَرفكَ .
يتعهد بِحماية حياة
قريبه ( ابن العشيرة )، ونُصرته ، وصَوْنِ عِرْضِه ، والوقوفِ ضد أعدائه بكل ما
أُوتيَ مِن قُوة . فالتعدي على أحد أفراد العشيرة ، هو تَعَدٍّ على العشيرة
بِرُمَّتها . وهذا الأمرُ لا مجال للتهاون فيه ، فأيُّ تهاون سَيُؤَدِّي _ حتماً _
تدمير اسم العشيرة ، وجعلها فريسةً سهلة لباقي العشائر ، وعندئذ سَيَطْمع بها
الجميع . فلا بد _ في السياسة الاجتماعية القَبَلية _ مِن توليد نظام رَدْع يُخيف
الآخرين،وذلك لكي تظل العشيرةُ مرهوبةَ الجانب، ومحافظةً على وَزْنها بين العشائر.
ويستمرُّ الشاعرُ في
توضيح موقفه من نُصرة قريبه والانتصارِ لعشيرته ، فيقول : وإن يَأتكَ الأعداءُ
لقتالكَ أَجهد في حمايتك ومقاومتهم غاية الجهد .
سَوْفَ يَبذل كلَّ ما
بوسْعه لحماية ابن العشيرة ، وقتالِ أعدائه ، والتصدي لهم بكل حَزم . سيتفانى في
صيانة شرف العشيرة ، وحفظِ عِرْضِ قريبه من كل أذى . إنهُ مستعد للقتال دفاعاً عن
رابطة الدم ، ومن أجل إعلاء راية العشيرة . وهكذا يُقدِّم الشاعرُ نفْسه كمواطن
صالح يتحلى بروح الانتماء للقبيلة ، والولاءِ للعشيرة.
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة
بن العبد :
وإن يَقذِفوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهم بِكأسِ حِياضِ الموتِ قَبْلَ
التَّهـددِ
يُبَرْهِن الشاعرُ على
وَلائه المطْلق لعشيرته ، ومساندته الكاملة لأبنائها ، ويضعُ كافةَ إمكانياته في
خِدمة أبناء العشيرة ، والدفاع عنهم ، وحراسة اسم العشيرة .
يُصرِّح بالفم الملآن
بأنه سَيُواجِه الأعداء ويقضي عليهم إذا تعرَّضوا لقريبه بالكلام السَّيئ . فيقول
: وإن أهانكَ الأعداءُ بالكلام الجارح ، وقَذَفوا عِرْضَكَ بالقَذْع ( الفُحْش ) ،
جَعَلْتُهم يَشْربون مِن حِياض الموت قبل تهديدهم .
إن أيَّةَ إساءة إلى
العشيرة أو أحد أبنائها ، لا يمكن تبريرها ، أو تجاهلها ، ولا بد من التصدي لها
بكل حَزْم . لذلك فقد كَشَّرَ الشاعرُ عن أنيابه ، وتوعَّد كُلَّ مَن تُسوِّل له
نَفْسُه الإساءة إلى قريبه بالهلاك الحتمي والنهايةِ الأليمة .
فإذا قامَ الأعداءُ
بالإساءة الكلامية إلى قريب الشاعر ( ابن العشيرة )، ولَطَّخوا عِرْضَه بالفُحش
والبذاءة ، فإن الشاعرَ سَيَسْقيهم كأسَ الموتِ المرَّةَ . سَيُورِدُهم حِياضَ
الموت فَيَشْربون مِنها رَغْمَ أُنوفهم . والحِياضُ جَمْعُ حَوْض . سَوْفَ يُبيد
الأعداءَ قبل أن يُهدِّدهم ، فلن يُضيِّع وَقْتَه في تهديدهم ، واختيارِ الألفاظ
القاسية لمهاجمتهم، وإخبارهم بأن الهلاك يَنْتظرهم، وإنما سَيَقْضي عليهم مباشرةً
بلا مُقدِّمات. وهذا يدل على غياب المنطق العقلاني بشكل كامل، ورفضِ لغة الحوار
بصورة تامة. فهناك خيار وحيد ، وهو الاحتكام إلى السيف ، ولا شيء غَيْره .
4_ فُرسان العشيرة :
كلُّ عشيرةٍ إنما تَقوم
على كاهل فُرسانها ، فهُم الذين يُدافعون عن وجودها ، ويَحْملون تاريخَها ،
ويَصنعون حاضرَها ومستقبلَها . وهؤلاء الصَّفْوةُ يَكونون محط الأنظار ، ويَكون
التعويلُ عليهم في كل المحافل بسبب إمكانياتهم الهائلة المتميِّزة .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن
أبي ربيعة :
هُمُ السُّعاةُ إذا العَشيرةُ أُفْظِعَتْ وهُمُ فَوَارِسُها وَهُم حُكَّامُهـا
هذه العَشيرةُ لَيْست
ورقةً في مَهَبِّ الريح، أو شيئاً مُهمَلاً بلا وزن . إنها منظومةٌ اجتماعية ذات
تاريخ عريق ، وحاضر مُشرِق . تمتلئ بالرجال الأشداء الذين يتحمَّلون المسؤوليةَ في
أصعب الظروف ، ويَكونون على قلبِ رَجلٍ واحدٍ في وقت الشِدَّة ، ولا يتهرَّبون من
التحديات المصيرية. إنهم السُّعاة الذي يَسْعَوْن إلى حماية العشيرة إذا أُصيبت
بأمرٍ فظيع ( أُفظِعت ) .
فإذا تعرَّضت العشيرةُ
لأي خطر ، أو أصابها أمرٌ عظيم سَعَى هؤلاء الرِّجالُ الأبطالُ إلى إزالته بكل
قُوَّتهم ، وسَخَّروا كلَّ قدراتهم لكشف المكروه عن عشيرتهم، وتفريجِ كُربتها ،
وإنقاذِ أبنائها . وهذا غير مستغرَب ، فهؤلاء الرِّجال هُم فرسان العشيرة (
فوارسها ) في المعارك، وهُم القادة الشُّجعان عند القِتال، كما أنهم الحُكَّامُ
أصحابُ الكلمةِ المسموعةِ في مواطن النِّزاع ، وهُم رؤوس القَوْم الذين يُفزَع
إليهم عند التخاصم .
والشاعرُ يَهدف _ مِن
وراء هذا المدح _ إلى تصوير أقاربه وعائلته الضَّيقة كسادةٍ للناس، وزعماء للعشيرة
. فهؤلاء الفُرسان الحُكَّام الذين يَحْملون تراثَ العشيرة بكل اقتدار ،
ويُدافِعون عنه بكل تفانٍ ، هُم أقارب الشاعر ، والدائرة الأُسرية المحيطة به .
وكأن الشاعرَ يقول إن عائلتي هي رأس العَشيرة .
5_ تماسك العشيرة :
إذا كانت العشيرةُ متماسكةً ، فلا يمكن
اختراقها مِن أيَّة جِهة . وإذا كانت الجبهةُ الداخليةُ مُحصَّنةً ، فإن تأثير
العدو الخارجي يَنعدم _ مهما بَلَغَت قُوَّته _ . ولا يمكن للمنظومة الاجتماعية أن
تَسْقط ، إلا إذا سَقَطت من الداخل . كما أن الإنسان لا يمكن أن ينهار ، إلا إذا
انهارت معنوياته ( الجبهة الداخلية ) . لذلك فإن تماسك العشيرة ، وتعاون أبنائها ،
والتحام قاعدة الهرم الاجتماعي مع الرأس، أمورٌ في غاية الأهمية ، لأنها تساهم
بشكل فعَّال في توحيد كلمة العشيرة ، وحفظِ وجودها ، وضمانِ تواجدها على الساحة. يقولُ
الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :
وهُم العَشيرةُ أن يُبَطِّئَ حَاسِدٌ أوْ أنْ يَميلَ مَعَ العَدُوِّ
لِئَامُها
استخدمَ الشاعرُ لفظَ " العشيرة "
لِيُشير إلى تماسك الأفراد في وجه التحديات المختلفة ، وأنهم وَحدةٌ اجتماعية
مترابطة ، وكلمةٌ واحدة . فهُم مُتوافِقون لا مكان للنِّزاع بينهم ، وهُم متعاونون
لا يَعْرفون الفُرقةَ والشِّقاقَ . إنهم عشيرةٌ متماسكةٌ حريصةٌ على التعاون لئلا
يُبَطِّئَ حاسدٌ بَعْضَهم عن نَصْرِ بَعْضٍ ، وكراهية أن يميل لئامُ العشيرة (
الطابور الخامس ) مع العدو .
إن تعاونَ أبناءِ العشيرة وتلاحمهم ضرورةٌ حتمية، ومصلحةٌ عليا . فهذا
التعاون يَقطع الطريقَ على الأعداء المتربِّصين بالعشيرة، ويُحاصرهم، ويمنعهم من
الانقضاض على العشيرة وتدميرها ، وبالتالي يَعْجزون عن تحقيق أهدافهم الخبيثة .
وإذا كانت العشيرةُ متماسكةً فلن يَقْدر الحُسَّادُ على تشتيت كلمة الأفراد
، وتثبيط بعضهم عن نَجْدةِ بعضٍ ، وبثِّ التقاعس والفُرقة بين الصفوف . وأيضاً ،
لن يَقْدر الخوَنةُ من أبناء العشيرة على مساندة العدو ضد أبناء جِلْدتهم،
فَوَحْدةُ العشيرةِ تشلُّ حركةَ الطابور الخامس، وعندئذٍ لا يستطيع لئامُ العشيرة
أن يَنصروا الأعداءَ على الأقاربِ . وهذا يَعكس الأهميةُ القُصوى لتماسك العشيرة ،
فالأمرُ ليس رفاهيةً أو تحصيلَ حاصلٍ . إنهُ أمرٌ مهم للغاية لأنه متعلق بالأمن
القَوْمي للعشيرة، وأيُّ تقصيرٍ في هذا المجال سيؤدي إلى عواقب وخيمة ذات تأثير
مُدمِّر على الكيان العشائري ، ووجودِه ، وحياةِ أبنائه .
6_ الافتخار بالآباء والسَّيْر على خُطاهم :
الآباءُ _ في المجتمع القَبَلي _ يُمثِّلون الركيزةَ الأساسية في التاريخ
العائلي ، فَهُم مَنْبعُ الشرعية الأُسرية، ومركزُ التُّراث، وحقيقةُ السُّلالة.
ولا يمكن تجاوزهم إطلاقاً.
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي
ربيعة :
مِن مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمامُهــا
تتَّضح قيمةُ الافتخار
بالآباء،
وتَبْرز أفعالهم السَّامية. وليس أمام الأبناء مِن خيار سوى السَّيْر على خطى
أسلافهم الذين شَقُّوا طريقَ المجد ، وصنعوا البطولاتِ .
إنهم مِن مَعْشَر ( قَوْم ) سَنَّ لهم آباؤهم اكتسابَ الفضائل ،
والمسارَعةَ إلى المجد، والتحلِّي بِعُلُوِّ الهِمَّة، واقتناصَ البطولاتِ،
والفوزَ بالمعالي. ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ (طريقة )، وإمام يُؤتم به فيها . وهذا أمرٌ
طبيعي ، فكلُّ قَوْمٍ لهم فلسفةٌ في الحياة، وطريقةٌ في فهم الوجود. ولكلِّ شيخٍ
طريقةٌ وأُسلوب. وأيضاً ، كُلُّ طريقةٍ تتطلب وجود إمام ( رأس ) يَسير الناسُ
وراءه ، ويَقتفون آثارَه ، ويَحْملون أفكارَه ، ويَنْشرونها في كل الأماكن . ولا
توجد فِكرةٌ تُولَد من العَدَم ، أو تأتي من الفراغ . فكلُّ فكرةٍ لها صاحبٌ ،
ولها مُؤيِّدون مؤمنون بها . وكما أنه لا يُوجد طفلٌ بلا أب ، فأيضاً لا توجد فِكرة بلا أب . ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
وَرِثْتُ مُهَلْهِلاً والخيرَ مِنه زُهَيْراً نِعْمَ ذُخرُ الذَّاخِرينا
يتجلى موضوعُ الافتخار بالآباء بصورةٍ واضحة ومُباشِرة . وكأن
الشِّعرَ قد تحوَّل _ في هذا السياق_ إلى إعلانٍ عشائري، أو خطابٍ للمديح، أو
شَجَرةِ نَسَب.
يقول الشاعرُ بكل فخر : وَرِثْتُ مَجْدَ مُهَلْهِل ، وحَملتُ رايته ، وصار
شرفُه شرفاً لي . وأيضاً ، وَرِثْتُ مَجْدَ الرَّجل الذي يتفوق على مُهَلْهِل ،
وهو خيرٌ مِنه ، وهو زُهَيْر . إنهُ رَجلٌ شريفٌ كريمٌ ، وكَنْزٌ ثمين ،
فَأَنْعِمْ بِه وَأَكْرِمْ . فمجدُه وشرفُه صارا مَضْرب المَثَل ، يُفْتَخَر بهما
في كل زمانٍ ومكان .
7_ السَّطْوة العشائرية :
إن المجتمعَ العربي القديم خاضعٌ للسُّلطة
القَبَلية ، ومحكومٌ بالسَّطْوةِ العشائرية . كما أن قيمَ المجد والنفوذ والقوة
تعتمد على حَجم العشيرة، ومكانتها بين العشائر .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
ونَشْربُ إن وَرَدْنا الماءَ صَفْواً وَيَشْربُ غَيْرُنا كَدِراً وَطِينـا
يَرسم الشاعرُ هالةً لامعةً حول عشيرته ،
ويَحرص على تصويرها كرأسٍ لباقي للعشائر . فهُم الذين يتقدَّمون الناسَ
ويَقُودونهم ، فيشربون الماءَ صافياً لأنهم أوَّل مَن يَشْرب ، أمَّا غَيْرهم
فيشرب الماءَ مُلوَّثاً بسبب كثرة الأيادي التي عَبَثت به .
والقضيةُ لَيْست قضيةَ " الماء والشُّرب "، فهذه الصورةُ
الشِّعرية رمزيةٌ وشديدةُ التكثيف، وهي تَرْمز إلى سيادة عشيرة الشاعر على باقي
العشائر . فهُم يأخذون مِن كُل شيء أحسن ما فيه ، ويَتركون لغيرهم الشوائبَ
والأوساخَ . مما يدل على أنهم السادة والقادة ، وغَيْرُهم أتباع لهم .
وهذا المعنى مهمٌ جِدَّاً في المجتمع القَبَلي المحكوم بِقِيَم السيادة
والبطولة والزعامة. فكلُّ شيخ قبيلة يَحرص على تصوير نفْسه كقائد للقبائل ، وزعيم
للعَرَب . وكلُّ قبيلة تُسمِّي نفْسها سَيِّدةً للقبائل . وهذا الصراعُ المحموم
على المستوى الفردي والجماعي يَعكس ثقافةَ السيادة والقيادة المتجذرة في العقل
العربي .
ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
إذا بَلَغَ الفِطامَ لنا
صَبِيٌّ تَخِرُّ لهُ الجبابِرُ
ساجِدينا
يَرسم الشاعرُ صورةً أسطوريةً لقوة عشيرته ، وتتجذر الهالةُ الجنونية
المحيطة بالقبيلة . لا مكان هنا للمنطق . لا وقت لصوت العقل . القوةُ أوَّلاً ،
والقوةُ أخيراً.
يقولُ : إذا بَلَغَ صِبياننا وقتَ الفِطام سَجدتْ لهم الجبابرة من القبائل
الأخرى .
لا شَكَّ أن هذه الصورة الممتلئة بالتحدي والفخر والسُّؤدد ، تكشف ماهيةَ
الصراع العشائري، وتُبرِز طبيعةَ البيئة العربية الصحراوية القاسية، حيث القبيلة
القوية تَسْحق القبيلةَ الضعيفة . وهؤلاء الصِّبيان _ الذين ليس لهم ناقة ولا جَمل
في الصراعات القَبَلية_ يتم إقحامهم في عالَم شديد الخطورة ، وغير متصالح مع نفْسه
. وبمجرَّد بلوغهم وقت الفِطام تتكرَّس زعامتهم وسِيادتهم على باقي القبائل ، حيث
يَسْجد لهم الجبابرةُ والفُرسانُ الأشداء والأشراف .
والشاعرُ يَرمي إلى إبراز مكانة عشيرته وسِيادتها على باقي القبائل . وإذا
كان الصِّبيان في عشيرة الشاعر قد بَسطوا نفوذَهم على جبابرة القبائل ، فما بالك
بالشجعان والرِّجال الأشداء في عشيرة الشاعر؟!.وما بالك بالصِّبيان عندما يَكْبرون
ويُصبِحون رِجالاً ؟!. لقد أثارَ الشاعرُ هذه الأفكار ضِمنياً، وأحاطَ عشيرته
بهالة القداسة والسِّيادة ، مُؤمناً بأن منطق القوة هو المنطق الوحيد في هذه
البيئة القاسية.
8_ الافتخار بالنَّسَب والحَسَب :
النَّسَب والحَسَب هما
الرِّئتان اللتان يتنفس من خلالهما الفردُ في البيئة الجاهلية . فهذا الفردُ لا
يَمْلك غير أسماء آبائه وتاريخهم وأمجادهم ، والتغني بها. وهكذا يصبح الماضي منجمَ
ذهب ، وإطاراً شرعياً للوجود ، وذاكرة للحياة بكل تفاصيلها .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن
العبد :
وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِــني إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الشَّريفِ
المُصَمَّدِ
إذا اجتمع الناسُ
للافتخار، وذِكر مناقب الآباء والقبائل ، وتعظيمِ البطولات العشائرية، وتكريسِ
الانتصارات القَبَلية، وتمجيدِ الأنساب والأحساب. فإن الشاعرَ سيتفوق عليهم جميعاً
، فهو ينتمي إلى ذِروة البيت الشريف المُصَمَّد ( المقصود ) .
إنهُ ينتمي إلى قِمَّة الشرف ، ويعيش في أعلى المجد ، وقد وَرِثَ
السُّؤددَ كَابِراً عن كَابِر . وهذه السُّلالةُ الذهبيةُ من الصعب أن تتكرر . لقد
أحاطَ الشاعرُ بالشرف من جميع الجهات ، وحازَ المجدَ من جميع أطرافه . وهذا
المكانةُ الساميةُ لم يصل إليها أحدٌ من
أبناءُ الحَي ، وهذا يعني أن الشاعر هو الأوفر حظاً في الحَسَب ، والأعلى
رُتبةً في عالَم الأنساب، فهو صاحبُ النَّسَب الشريف ، والحَسَب الكريم ،
والمنْزلة الرفيعة . ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
وَيَوْمَ حَبستُ النَّفْسَ عِندَ عِراكه حِفاظاً على عَوْراته والتَّهــدُّدِ
تتجلى فروسيةُ الشاعر ،
وتتَّضح مكانته العظيمة . فقد حَبَسَ نَفْسَه عن القتال ( العِراك ) والمناوَشاتِ
وتهدُّدِ الأقران، وذلك من أجل المحافظة على حَسَبه الكريم ، ونَسَبه الشريف .
والشاعرُ لم يَتْرك القتالَ احتراماً
للنَّفْس البشرية ، أو رحمةً بالبشر ، أو حقناً للدماء ، أو حِفاظاً على المنجزات
الإنسانية . وإنما تَرَكَ القتالَ حِفاظاً على نَسَبِه الكريم ، ودفاعاً عن شرفه
المقدَّس . إنهُ غير مَعْنيٍّ بخصمه ، ولا يُقيم وزناً لحياته أو مَوْته . فدماءُ
الخصوم لا معنى لها في قاموس الشاعر . المهم هو أن يُحافِظ الشاعرُ على طهارة
نَسَبه ، فلا يُجرَح بِقَوْلٍ أو فِعْلٍ ، وأن يُحافِظَ على قَداسةِ حَسَبه ، فلا
يُلوَّث ، ولا يتم التطاول عليه .